أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد رحيم - حواف الإيدز، أو؛ خالد في الصحراء















المزيد.....


حواف الإيدز، أو؛ خالد في الصحراء


سعد محمد رحيم

الحوار المتمدن-العدد: 2263 - 2008 / 4 / 26 - 05:44
المحور: الادب والفن
    


ـ 1 ـ
كأن ما جرى لا يمت إلى الواقع والمعقول بصلة، لعله لم يكن واقعاً.. أنفتح شرخ مفاجئ، وجذبته الهوّة.. لم يستغرق الأمر إلاّ ثواني معدودة، فوجد نفسه في زمن آخر.. في القرون الوسطى ربما.
خان عتيق، في جهة ما من الصحراء، وبشر يرتدون على جلودهم شديدة السمرة، وبعضها بلون الأبنوس اللامع، ملابس بيض غريبة.
الألوان، هاهنا، قليلة.. محتقنة، غبراء.. وحده الأفق، وهو يحتضن الغروب الأرجواني يمنح إحساساً بالحياة.. لكنه إحساس موحش، ناء وكئيب.

ـ 2 ـ
أكثر ما أثار انتباه خالد في هذه الزاوية المهملة من العالم هو شعارات التحذير المكتوبة على أوراق المقوى بخط رديء، والموقعة بعناوين مؤسسات راسخة؛
{ احذروا الإيدز }.
عشرات الأوراق، وقد ألصقت على جدران الخان من الخارج، ومن الداخل.. تساءل خالد؛ وهل للمؤسسات الراسخة وجود هنا، أيضاً؟.
{ احذروا الإيدز }.
وخيل لخالد أن لا أحد، هاهنا، يعنيه الأمر.. ولن يقرأ هذا الشعار أحد، سوى عابري السبيل من أمثاله.

ـ 3 ـ
أي قدر قاس جعل من هذه البلدة الأرض اليباب؟ ثم لماذا اختار هؤلاء هذا المكان؟.. سأل خالد نفسه.. فباستثناء بضع شجيرات صحراوية، غير مثمرة ربما، لم تكن هناك أشجار باسقة أو حدائق.. أما البيوت فكانت بلون التراب، هلامية، بلا ملامح. وليس لدى من يسكنون هنا سوى أن يبيعوا الماء واللبن والتمر والفاكهة المجففة للمسافرين الذاهبين إلى المجهول، وأن يقضوا بقية وقتهم الطويل في القعود بصمت، أو المضاجعة.. المضاجعة التي هي متعتهم الوحيدة في هذا الصقع المنسي.

ـ 4 ـ
كانوا يدخلون جذلين.. أسنانهم العاجية ترجّع صدى صليل الشهوة في الدم.. أسنانهم المكشرة عن ابتسامة فرح طارئ ـ مرتقب.. ويخرجون، وشفاههم الغليظة مزمومة، وفي عيونهم متاهة الصحراء، وانكسارها اليائس.


ـ 5 ـ
يدخلون غرف الخان ويخرجون منها..
سأل خالد رجلاً عجوزاً كان يجلس إلى جانبه في الفناء عمّا يحدث حقاً.
ابتسم الرجل فبانت خرائب أسنانه.
ـ أتريد؟.
ـ ماذا؟.
ـ أية واحدة.. عليك أن تؤشر فقط وتدفع.
ـ والإيدز؟.
ضحك الرجل.. لم يكن ضحكاً اعتيادياً.. كان شيئاً كالنقيق.
ـ الإيدز؟ أتصدق هذا الهراء؟. منذ آلاف السنين وأجدادنا يفعلون هذا الشيء، ولم يكن هناك إيدز.. قل لي بالله عليك، من أين يكون قد جاء هذا الإيدز؟.
لم يشأ خالد أن يناقشه، غير أن الرجل ألح.
ـ أتريد؟.
قال خالد وهو يحدق في:
{ احذروا الإيدز } .
ـ لا.. لا أريد.
فقام الرجل وغادر.
ـ6ـ
ها هو خالد جالس يترصد شكل الإثم في القتامة المضيئة.. في الحلقات الصفر المنهالة، والوالجة جوف العالم الملوث.. المتدفقة من الأصل المعتم المرعب القصي.. من لانهائية الزمان الخارقة للجسد.. الجسد الحاضر على السراط دوماً، والمهدد بأن يُقذف إلى الهاوية المحرقة.
أتراه يختفي ( هذا الإيدز ) في ما وراء طاحونة الرغبة؟ أم هو شيء يهبط من عل ليدخل من الفراغات المدنسة.. من الفروج التي لم يحفظوها لأنهم غير قادرين على ذلك؟.. أهو الشر يفتك بالناس، وهل هو ينتشر لأن التضحية في تجنبه باهظة ولا معقولة؟. أهو أمر يتجاوز ممكنات الجسد، ويتصل بالكينونة الخفية للإنسان؟ للإنسان الذي يواجه معضلات الوجود بما لا يكفي قطعاً من الوسائل. أو يعبر الطريق الطويل بقليل من الزاد.
وهو، ما هو ؟ ما هو؟. لماذا يلوح مثل شيء مقدس يعرفونه متسربلاً في غلالة غامضة ويخشونه، ويحملون ضده بعضاً من ازدراء خفي أيضاً كأنه موجود وغير موجود في الوقت عينه؟.
هذا ما دار في خَلد خالد، في تلك الساعة، على ما يُظن. أو يُفترض أن يكون كذلك؟. من يدري؟.
ـ 7 ـ
للحظة، دب في دخيلة خالد إحساس بالأسى.. بلا اكتراث سار ، كما لو أن صِلاته كلها انقطعت بالعالم.. إنه الآن في هذا الملكوت الضائع، العقيم، المعطل وحده ـ وللمرة الأولى في حياته يتذوق المرارة الصافية المسكرة للوحدة، فلا يهم الآن إن تأخرت الشاحنة أسبوعا أو شهراً أو سنين.. ولا يهم الآن إن سقط الثلج أو المطر، أو هبت العاصفة، أو ضرب الأرض الزلزال.. ولا يهم الآن، الإيدز.. بيد أنه في ذروة تجلي هذه اللحظة ما كان يشتهي امرأة.. أية امرأة.. كان خالد مكتفياً بذاته إلى حد مريع، وكان يعرف أن هذه لحظة منقضية مهما حاول الإمساك بها واحتوائها. وما كان يريد سوى أن يغور في الصمت ولا يتكلم. وحين جاء العجوز ثانية، قام ليبتعد.
ـ هوه.. أنت؟.
وقف خالد.. صاح العجوز:
ـ ثمة واحدة جديدة لم تمس..
قال خالد ساخراً:
ـ وهذه مشكلة أيضاً.. أخشى أن أصيبها أنا بالإيدز.
أطلق العجوز ضحكة النقيق، بينما مضى خالد إلى غرفته.

ـ 8ـ
ستصر أمه على أن يحمل معه البطانية ـ بطانية ثخينة كاكية هي من مخلفات الحرب.. سيطويها ويقنع نفسه بأنها متشربة برائحتها.. رائحة الأم.
سيعبر ببطانيته القديمة وسط دهشة انضباطية سيطرات التفتيش من بلدته/ السعدية وحتى الحدود الأردنية.. وسيشك، بسبب البطانية أيضاً، باتزان قواه العقلية، الضابط المسؤول في طريبيل.. وسيركب البحر من ميناء العقبة وحتى السودان، ولسوف يرفض أن يقذف ببطانيته في البحر الأحمر بناءً على اقتراح أحد أصدقائه العابرين.

ـ 9 ـ
في ليلته الأولى، وكان ثمة في الخان مصريون وسوريون ولبنانيون وسودانيون، وغيرهم فكر خالد بالإيدز.. بذلك الشيء المبهم العدائي، المحجوب، المتربص الذي لا يفصح عن كنهه بوضوح.. إنه موجود وغير موجود.. لا كالخرافة.. لا كالجن، بل كاحتمال من احتمالات اختراع الموت، كما العواصف.. كما متاه الصحراء.. كما الطلقات الطائشة في الحروب..
تدثر خالد ببطانية أمه.. تسلل إليه ذلك الدفء العبق.. الدفء البعيد.. تهيـــأ له أنه ماض ـ وقد أغمض عينيه ـ في تعاريج حلم غابر، ينتظر امرأة وراء دالية كثيفة الأشجار.. في غبش رائق، مستسلماً لرنين الأجراس ينبث من أعماق نهر ديالى.. كان يتفرس في الأمواج اللاعبة، والانتظار يشحنه بقلق عذب.. ما كان يومها يهجس بالإيدز..
لم يكن قد سمع به قط.

ـ 10 ـ
آلاف الأميال تفصل الآن خالداً عن تضاريس حلمه القديم.. عن نسائه اللواتي ابتكرهن بعبثه ولعبه، وبالخمر، وبثرثرات آخر الليل، ثم ضاع في ضباب نزواتهن ليجد نفسه أخيراً مقذوفاً في صحراء مصيره، يتهدده الإيدز والعواصف والتيه والمجهول.


ـ 11 ـ
أمضى خالد ليلته الأولى ـ كما سيمضي لياليه الثلاث أو الأربع التالية، في غرفة صغيرة مع أربعة مصريين، تحدثوا عن الإيدز والعاهرات والفقر والموت جنوب الصحراء الأفريقية.
قال أحدهم أنه لولا الإيدز اللعين هذا لكانوا الآن يعيشون ليلة عسل وحلاوة وهز يا وز.
قال آخر؛ يا اخوانا، هذا الخوف من الإيدز وتهويل الأمر فيه مبالغة كبيرة، ولكن يجب الاحتــراس.
قال الثالث؛ أنا سأضاجع المرأة التي تهوّش عقلي حتى لو عرفت أنها مصابة.
علّق الثاني؛ يعني فلسفة حضرتك أن مضاجعة معتبرة تساوي حياتك كلها.
والتفت إلى خالد:
ـ ماذا يقول الأخ العراقي؟.
قال خالد:
ـ أليس العالم كله مصاب بالإيدز.
سأل الأول:
ـ ازاي يعني؟.
قال الثاني:
ـ أنا حفهمك يا فهيم.. دي فلسفة.. حضرته يعني أن العالم فقد قوة الحياة والإرادة واستسلم.. كلامي صح؟.
قال خالد:
ـ نعم، هو شيء قريب من هذا.
سأل الثالث:
ـ ومن المسؤول عن ذلك؟.
قال خالد:
ـليست قرود إفريقيا المسكينة قطعاً.
ضحكوا.. قال الأول:
ـ دول بتاع البنتاغون، ولاّ إيه؟.
وامتد النقاش وفاض، واختنقت الغرفة بالدخان. وكان الرابع ساكتاً، يقرأ في مجلد ضخم، ويرمقهم بين الحين والحين وهو يمسّد لحيته.. وأخيراً، لمّا تعرج الحديث ثانية إلى حكايات النساء والمضاجعة، خرج عن صمته، وقال:
ـ اتقوا الله.
قال الثاني:
ـ أيوه.. تكلم أخيراً الوكيل بتاع عزرائيل.
فانفجروا بالضحك.. لم يأبه الرجل الملتحي، وتركهم حتى سكتوا فقال:
ـ بتعرفوا الحقيقة وتعموا عنها.. الإيدز ده لعنة من رب العالمين على الفاسدين والفاسقين من أمثالكم. طبعاً الكلام ده يخصكم انتو التلاته بس.. مش أخينا العراقي.
قال الثالث:
ـ اسكت أنت يا عم وخليك في كتبك.
أراد خالد أن يغير مجرى الحديث فسأل:
ـ لماذا تذهبون إلى ليبيا من هذا الطريق؟.
ضحكوا.. قال الأول:
ـ آه، هذه حكاية أخرى، وإذا عُرف السبب بطل العجب.

ـ 12 ـ
خرج خالد إلى الظلمة، وريح الصحراء.. مشى على الرمــــل المتململ وقد أحس أن كل شــيء أمامــه مفتــــوح له .. كانت الغواية همساً رفيقاً يستدرجه، غير أن الوحشة راحت تكبر في أعطافه.. وحشة لاذعة كما لو أنه لن يلتقي بأشيائه الحميمة ثانية، فراحت دموعه تنحدر.. دموعه التي سيتركها للظلمة والصمت.
كان من الممكن أن يوغل أعمق وأعمق لولا عواء حيوان برّي بعيد أعاده إلى صوابه فقفل راجعاً إلى غرفته.
كان الثلاثة قد ناموا، وكان الرابع ما يزال، على ضوء الشمعة الشحيح يقرأ في مجلّده السميك.

ـ 13 ـ
بين القداسة والدنس ينبض الليل، وتولد، لوهلة، الرعشة المبهمة.. الرعشة الملوثة، علامة الحياة .. تولد في العصب القصي الذي يخص الروح.. ففي افتراض متأخر يدهم خالداً تهويم امرأة أبنوسية يسكنها بين جنحيه وهو قائم، يتقد عند الحافة الناتئة للإيدز..
هذا ما طيّر النوم من عينيه لساعات.

ـ 14 ـ
غادر خالد غرفته بحقيبة ملابسه.. غادر بيت أمه ببطانية كاكية.. غادر بلدته بحلم مجدور.. أما وهو على حافة الصحراء العجيبة هذه فقد اكتشف أنه غادر نفسه أيضاً ـ طفولته اللاهية وصباه البهيج ـ غادرها منذ زمن بعيد.

ـ 15 ـ
عرف خالد أن اسم المصري الأول فريد، والثاني إسماعيل شحاتة، والثالث حنفي، والرابع محمد مرزوق.. وعندما جاءت الشاحنة المنتظرة أخيراً، كانت صداقته قد تعمقت بالأربعة.

ـ 16 ـ
أقبلت الشاحنة بعد بضعة أيام تحمل صناديق وبشراً من كل صنف.. سأل خالد في ما إذا كانت الشاحنة ستحمل هؤلاء كلهم في حوضها.. من جاءوا ، ومن هم ينتظرون في الخان.. قال له السائق البدين؛
ـ هات ضعف هذا العدد وسأعبر بهم جهنم الحمراء.
أفهمه السائق أن شاحنته قرينة سفينة سيدنا نوح عليه السلام، من تخلّف عنها سيغرق لا محالـة.
قال خالد:
ـ وإن غرقنا في الصحراء؟.
قال الرجل بتهكم مرح؛
ـ الله غالب.
أقبلت في هذه اللحظة، امرأة بأنوثة متفجرة صيّاحة تضحك.. اقتادها السائق الذي بدا أنه يعرفها جيداً إلى واحدة من غرف الخان الكثيرة، وقبل أن يرد الباب نظر إلى خالد وأطلق كلمة لم يميزها خالد، لكنه حدس أنها كلمة بذيئة.

ـ 17 ـ
ها هنا، ما كان ثمة شيء يمكن أن يغري خالداً بالعودة، وكان يعرف أنه لن يعود إلى هذا المكان مرة أخرى أبداً.. وعلى الرغم من ذلك تملكه حزن صاف، وهو يصعد الشاحنة مع حقيبته وبطانية أمه.. ها هنا مكان ، إذا ما مر به امرؤ، في أي يوم، فإنه لن ينساه، فهو مكان لا يشبه أي مكان آخر في العالم.
تركت الشاحنة البلدة، والخان وغانيات القرون الخالية لتخوض في ملابسات الصحراء.
سكن الرمل تحت لهاث الضوء الفاتر، وتحشرجت الشمس قبل أن تغوص كرة صماء خلف حد الرؤية، وسرعان ما جثم ليل الأبدية، وحلقت زنابير البرد.. كانوا عشرين رجلاً، أو ربما ثلاثين.. من يدري؟. سلموا مصائرهم لنزق سائق جشع، ولكف عفريت التيه، ومضوا في اللغو؛
ـ كثيراً ما تاهت الشاحنات، أو تعطلت.
ـ وجدوا هياكل عظمية.
ـ هناك قطاع طرق أيضاً.
خالد، الناجي من حربين طاحنتين، وعشرات المصائد يجد الآن نفسه وجهاً لوجه أمام قدر معتم وثقيل.. قدر الصحراء.
في فجاج الطنين واللغط وهدير السيارة تدثر خالد بالبطانية، وفكر؛ كم كانت أمي على حق.. وتولته إغفاءة رقيقة.

ـ 18 ـ
فتح خالد عينيه على أثر أنين وحشي، وفحيح مكتوم.. كانا أمامه.. تملكه رعب أسود.. فتح فاه لينطق غير أنه وجد رأسه خاوياً ، فلم ينبس. وما كان متأكداً من أن هناك يقظان آخر غيره يشهد الآن هذا الهول.
تنبه أقربهم للعينين المذعورتين اللتين تراقبانه فلاح في وجهه ، كما تهيأ لخالد، تعبير حيوان بري في قفص . وظل صامتاً سوى ذلك الأنين الخارج من بين شفاهه الغليظة المغلقة.
أما الآخر الذي كان خالد يرى رأسه بقعة أشد سواداً من هذا الليل، وهو يتحرك بإيقاع صارم، فقد قال من بين أسنانه، وهو يحدق في وجه خالد بثقة:
ـ الإيدز.. أكذوبة الإيدز لا تصدقها.. يريدون ـ أولئك الأجانب ـ سلبنا آخر حقوقنا.

ـ 19 ـ
حين استيقظ خالد أخيراً ما كان موقناً مما رآه في ذلك الهزيع الهارب من ليل المتاه.. هل كان يحلم، أم أنه كان إزاء واقعة دامغة؟. نقّل عينيه بين الوجوه، ولم يستطع أن يميز أياً من الرجلين ، وقال في سره: إن الأمر سيكون في هذه الحالة سواء.
توقفت الشاحنة، ونزل السائق وهو يلعن.
ـ تعطلت.
فكر خالد أنه سيحدّث أصدقاءه، في ما بعد ، إذا ما نجا، عن تلك النظرات الجامدة.. نظرات الرجال العشرين، أو الثلاثين.. نظراتهم الخرساء المعلقة بالحافة البعيدة، المعتمة للموت.
هبطوا من الشاحنة، بينما الشمس تحرق الرمل تحت أقدامهم.. فتح السائق غطاء المحرك، ودس رأسه هناك.
ـ 20 ـ
بالضحك واجه خالد لا أبالية الصحراء، وبرودها وسخريتها.. هكذا، على حين غرة، كسر حاجز الرعب بالضحك.. لم يكن ضحكاً مجنوناً، ولم يكن مفتعلاً.. كان صادقاً وصميمياً، وخارجاً من القلب، ومتحدياً وباتراً وحاسماً ترك في نفوس بعضهم الاشمئزاز والغضب، وفي نفوس بعضهم الآخر الخوف، وأعطى لبعض ثالث القوة والثقة.. وأخذت عدوى الضحك تسري من شخص إلى شخص فطفقوا جميعاً يضحكون، حتى إذا استرخت أجسادهم، وأحسوا بالفراغ، وهذه المرة في دخائلهم، سأل خالد صديقه المصري إسماعيل شحاتة هامساً؛ في ما إذا كان قد لاحظ أمراً غريباً حدث في الليلة الفائتة.
قال إسماعيل، كما لو أنه كان في انتظار هذا السؤال:
ـ لا يا عم .. لا غرابة ولا هم يحزنون.. دي حاجة طبيعية.. قصدي أن الطبيعة تعبر عن ميولها العميقة بطرق مختلفة.. حتقول الشاذة.. أقول لك، المسائل دي احنا البشر حددناها ووصفناها بالشاذة.. يعني الحاجات دي تخص عالم ما وراء الحضارة.. فهمت ولاّ أعيد .
ضحك خالد بخفوت، والتعب باد على وجهه، وقال مقلداً اللهجة المصرية:
ـ ابن الإيه... كل حاجة واضحة.
وراح المحرك يدور مرة أخرى.

ـ 21 ـ
والشاحنة تهدهدهم، وهي تقعقع تحت ملايين النجوم، سأل خالد، إسماعيل شحاتة:
ـ لماذا الجميع صامتون؟.
ـ ربما لأنهم خائفون.
ـ مم؟.
ـ بالله عليك يا خالد.
ـ أنت الآخر تفضل الصمت.
ـ هذا الليل يشعرني كم أنا ضئيل.
ـ لو كان معنا قليل من الويسكي.
ـ أششش .. سيطعنك مرزوق بخنجره لو سمعك.
ـ أيحمل معه خنجراً؟.
ـ هو شيء أكبر من الخنجر.
ـ لا؟!!.
تباطأت الشاحنة، ثم توقفت.. سمعوا رغاء جمال.. مدوا أعناقهم.. كان بضعة رجال ملثمين على جمالهم بملابس دكناء فضفاضة يحملون بنادق، أحاطوا بالشاحنة.. نزل السائق والرجل الذي يجلس إلى جانبه، ودار حديث مغمغم، لم يفهم خالد منه شيئاً، فهمس بتهكم؛
ـ هل سيذبحوننا؟.
قال إسماعيل:
ـ لو تسكت أنت.
التفت السائق إليهم، وأفهمهم أن الرجال بحاجة إلى تبغ وعلب ثقاب وشموع وسكر.. سأل خالد بصوت خافت:
ـ هل هم قطاع طرق؟.
ـ يا زول .. هؤلاء أصدقاء.
أخرج خالد علبتي سجائر من حقيبته، مع علبتي ثقاب كبيرة وناولها للسائق، وقال:
ـ الأصدقاء يستأهلون، ولكن لا شمع لدي ولا سكر.
تشجع الآخرون، وخلال دقائق جمع السائق علب سجائر وثقاب، وعدداً من الشموع، وأخرج هو لفافة كبيرة، مغلفة، وناولها لأحد الملثمين، ويبدو أنه كان شيخهم، والذي رفع يديه لتحيتهم، وربما قال شيئاً، فرفع من في السيارة أيديهم.
صاح خالد بينما السيارة تبتعد.
ـ انتظرونا غداً.. في هذا المكان نفسه.
قال حنفي وهو يضحك:
ـ يا ابن اللئيمة، لماذا لم تذهب معهم؟.
قال خالد:
ـ لو كنت أملك جملاً ولثاماً وخيمة أرتديها.
هز شيخ سوداني رأسه وراح يضحك، وانزلقت السيارة على الطريق الرملي غير المعلّم، واختفى الملثمون مع جمالهم في ليل الصحراء.

ـ 22 ـ
همهمة غامضة، أولى، هرّبتها الصحراء.. همهمة سرية تناهت إليهم.
كان ذلك في اليوم الرابع لرحلتهم العجائبية.. أداروا عيوناً قلقة، وقد فهم كل واحد منهم أن أمراً ما، غير سار، على وشك الحصول.
اجتاحهم صفير عات، ولطمتهم الرمال.. رمال كأنها طريدة وحوش ضارية. ومعها تخلخل كل شيء، ودمدمت الطبول. كانت طبولاً تدوي في الرأس.. في الفراغات التي باتت تتسع، حيث تدب الفيروسات وتطيح بالمزيد من القلاع.
مثل هذا الرمل لا يسعك إلا القعود والاستســـلام له، فقد يستمر ألف سنة، كما تهيأ لخالد الذي انفصل عنه كائن، هو توأمه، ووقف على مبعدة يراقبه.. هو الملتم على نفسه، والمحتمي ببطانية أمه التي هي بلون الصحراء.
وبدا الموت قريباً جداً.. قريباً إلى حد أن خالداً أسف لأنه لم يمض مع نساء الأبنوس ساعة تهتك أخيرة، يواجه نفسه فيها عارياً، وقد تحرر تماماً من كل شيء.
وفكر؛ لا شك أنها كانت فرصة الحرية الأخيرة وقد تلاشت في ذلك الخان الحلمي. وخطر له أن ذلك الخان ما كان قط.. كان وهماً ربما.. مشهداً خاطفاً في حلم عابر.
هكذا استيقظت مردة الصحراء.. أقبلت في سحابات سود، حانقة، من الرمل، أو جبالاً تتحرك وتدفن كل ما في طريقها.
ولساعات طويلة لبث خالد مع العشرين أو الثلاثين الآخرين.. يخفون رؤوسهم بين أذرعهم مثل قنافذ خائفة.. واستحوذ على خالد إحساس طاغ بأنه وحيد.. لا قوة في الوجود يمكن أن تنجده سوى المصادفة.. المصادفة ذاتها التي أيقظت المردة يمكنها أن تنيمهم أيضاً حتى تصل الشاحنة إلى تلك الواحة الجنوبية من ليبيا.
ـ هناك ستطمئن من أنك وصلت.
ـ لم تبق من المسافة أكثر من يومين، أو ثلاثة.
ـ بل هي أربعة.

ـ 23 ـ
المردة تعوي بجنون.. عواء وجنون عابثان، لا جدوى منهما.. وأيقن خالد كم هي الطبيعة حيادية ولا أبالية ومتهكمة.
وشيئاً فشيئاً استحوذت العتمة.. عتمة مقبضة تخرقها بين الفينة والفينة أشرطة شاحبة من الضوء توحي بأن النهار ما يزال.. ومن خلل جموح الريح تسمّع خالد لبسملة البشر هؤلاء وحوقلتهم وأدعيتهم، وربما بكاء بعضهم كذلك .. وصار بمقدوره أن يدرك البؤس الإنساني بلا جدواه، وبلا معناه، العميقين.
ما يجري حولهم ، وضدهم ، وعلى الرغم منهم هائل وصارم ومعذب ولاإنساني .. إنه شيء لا يلامس جلودهم فقط ، بل ينخر دخائلهم ، ويخلّف فيها حالة من الإذعان الذليل .. من اللا مقاومة .. إنه يفتك بنقاط التصدي فيهم ، ويصعد بلا هوادة ، ويجعل ما هو حي نضر ذابلاً ومريضاً ، ويتركهم خاوين، ومهيئين تماماً للنشور.
إنه إيدز يبغي الروح.. إيدز يداهم الوجود الصميم للإنسان.. جاعلاً إياه هامشاً ضالاً في القفر، وثرثرة فارغة تتبدد أبداً.
وعجب خالد كيف أن الصحراء المديدة الهائجة تُقلص الأحلام إلى انزواء في غرفته/ في بلدته، مع صديق يحتسي معه الشاي ويثرثر.

ـ 24ـ
رويداً رويداً هبط ذلك السكون الفاتر وتوامضت النجوم.. حشود من نجوم قديمة، لا تهتم.. كانت النجوم هي الأخرى غير مهتمة..
في رأس خالد كان صداع خفيف.. في عينيه كانت حرقة واخزة.. وفي فمه كان الطين.
كانوا واقفين جميعاً، في هذه الساعة، وعلى وجوههم بقع صدفية من الملح، وخطوط سود غائرة ، ونظراتهم فارغة كما المومياءات.
وتساءل خالد: ماذا يمكن أن يكون الآن دائراً في رأس كل واحد منهم؟.

ـ 25ـ
جال ذهن خالد بين حيل الذاكرة وممرات النسيان.. فكر؛ "أمامهم جنتهم الموعودة، واحة اعتباطية في متاهة الصحراء. وخلفهم تواريخ عائمة مملوءة بالثغرات".
جاءه اسماعيل شحاتة وهو يضحك وعانقه.. قال؛ بقي أقل من نصف الطريق.
قال خالد؛ أنت تجعلني أبكي.
مشى إسماعيل شحاتة باتجاه أصدقائه، ويمم خالد وجهه شطر الصحراء الممتدة الساكنة وقد غمره إحساس جياش بالشفقة.
2002



#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ماريو بارغاس يوسا في؛ ( رسائل إلى روائي شاب )
- شبح ماركس
- أخلاقيات الحوار
- حواف الإيدز؛ أو خالد في الصحراء
- الإعلام القاتل
- ضد ماركس
- كلام في الحب
- هنتنغتون وفوكوياما ومسار التاريخ
- المثقف ومعادلة السلطة المعرفة
- فقدان حس الحاضر
- موضوعة -السأم- في الأدب الروائي
- أفواه الزمن؛ هذا الكتاب الساحر
- شتائم ملوّنة
- مشكلاتنا ومشكلاتهم
- إيان مكيوان في -أمستردام-
- قصة قصيرة: ضاحية التيه
- هناك مع الوردة حلم زنزانة
- السرد وميثاق التخييل
- ماركس الناقد
- غوايات القراءة: -أن تحسب حصاد السنين بعدد الكتب التي قرأت-


المزيد.....




- روحي فتوح: منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطي ...
- طرد السفير ووزير الثقافة الإيطالي من معرض تونس الدولي للكتاب ...
- الفيلم اليمني -المرهقون- يفوز بالجائزة الخاصة لمهرجان مالمو ...
- الغاوون,قصيدة عامية مصرية بعنوان (بُكى البنفسج) الشاعرة روض ...
- الغاوون,قصيدة عارفة للشاعر:علاء شعبان الخطيب تغنيها الفنانة( ...
- شغال مجاني.. رابط موقع ايجي بست EgyBest الأصلي 2024 لتحميل و ...
- في وداعها الأخير
- ماريو فارغاس يوسا وفردوسهُ الإيروسيُّ المفقود
- عوالم -جامع الفنا- في -إحدى عشرة حكاية من مراكش- للمغربي أني ...
- شعراء أرادوا أن يغيروا العالم


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد رحيم - حواف الإيدز، أو؛ خالد في الصحراء