أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد جمعة - الأعمى














المزيد.....

الأعمى


خالد جمعة
شاعر ـ كاتب للأطفال

(Khaled Juma)


الحوار المتمدن-العدد: 2318 - 2008 / 6 / 20 - 09:16
المحور: الادب والفن
    



المرأةُ تبدأُ في اقتفاء شريانٍ من ركبتي صاعدةً حتى ملتقى حاجبيَّ، تغرزُ شيئاً هناك يفقدني وعيي، أرتطمُ بتاريخٍ مشروخٍ قبلَ أن أسقط، أتحسّسُ الحلمَ، أشياءٌ كثيرةٌ تقفُ طابوراً غير منتظم، لا أتمكنُ من تعريفها، يسقطُ حجرٌ على مشطِ قدمي فأصحو، أبدأُ بما يسمونهُ الرؤية، يا إلهي، بعد كل هذا العمر عليَّ أن أبدأَ بالتعلُّمِ من جديد.
للأعمى لغةٌ خاصة، مفرداتٌ خاصة، ومفرداتٌ ملغاةٌ من لغة العميانِ لا يمكن أن تحضرَ بمجرّد حضور قدرة الإبصار لديهم، اللونُ مثلاً، الليلُ، النهارُ، الضوء، العتمة، وملايين الأشياء التي نحاول ـ نحنُ العميان ـ أن نحدد لها مفهوماً كي نستريحَ من عتمةِ الجهلِ البصريِّ الذي كنا نعيشه.
أول شيءٍ وقعَ بصري عليه بعد صحوي الفجائي كان سطحاً لامعاً لم أعرف كنهه، في داخله كان شخص يبحلقُ فيّ مثل مجنون، وبعد جهدٍ ووقتٍ طويل عرفتُ أن هذا هو المرآةْ وهو مفردُ مرايا، وللكلمةِ سحرها، كنتُ أتخيلُ المرآةَ نقطةً من سائلٍ على حجرْ، تفرغُ أحمالها من البشر على مهلٍ كعينٍ ثالثة، ولم يكن يعنيني الأمرُ كثيراً إن كان تفسيري صائباً أو خاطئاً، فنحنُ العميان لا نقفُ كثيراً عند هذه الأشياء.
المرارةُ، أن عليَّ أن أعيدَ صياغةَ حياتي من جديد، فالجميعُ كانوا يبادرونني بالتحيةِ حين أمرُّ على اعتبارِ أنني لا أراهم، لكنني الآن مطالبٌ بالمبادرة، وعليّ أن أستأذنَ قبل دخولي البيوت، وأشياء من هذا القبيل.
لم أعد أسبح في تلك العوالم اللانهائية، أصبحَ اليومُ مقسّماً برتابةٍ أشدّْ، كانت عوالمي مائيةً وحجريّةً بمجملها، جميلها وقبيحها من خلقي وحدي، كنتُ أخلقُ وأقتلُ كيفما وقتما أينما أشاء، ففي العمى تخلقُ عالمك، وفي الإبصار يجبركَ العالمُ على تحديد فكرتك عن الأشياء، كنتُ أتصور ما لا حصرَ له من احتمالاتِ الوجوه التي من ماءٍ حين يتحدث إليَّ أحد، والآنَ عليَّ الإلتزام بشكل واحدٍ لكلِّ وجه، عليَّ مشاهدة ما تبثه التلفزيونات من مجازر يومية، كنتُ اتخيل الموتَ والقتلَ والإنتحارَ والشنقَ والدهسَ والاغتيالَ والموتَ مرضاً كلها عبارة عن ماءٍ عكرٍ يسيلُ في ماءٍ صافٍ، الآنَ أصبح لكلّ موتٍ شكلاً عليّ تخزينه في هذه الذاكرةِ المرهقة.
الحياةُ أصبحت لا تطاقُ، أصبحتُ مثلَ مخزنٍ فتّشَتْهُ الشرطةُ بحثاً عن قصاصةِ ورق، كل شيءٍ تداخلَ ولم يعد شيء في مكانه، الأمكنةُ أساساً بالنسبةِ للأعمى وهم، وهي حقيقةٌ مصطنعةٌ لدى المبصرين، فالمكان يأخذ سمته حسب إحساس شاغله وليس العكس، وربما ينطبق هذا على الطبيعة كذلك، الأشياء تخلقُ وهمها الخاص بوجود نقيضها، ونؤمن بشيءٍ ثم لا نلبث أن نؤمن بنقيضه التام رغم خجلنا أحياناً من إعلان ذلك الإيمان على الملأ " الملأُ وهمٌ كذلك ".
فكرتُ كثيراً في اللجوءِ إلى وسيلةٍ أستعيدُ بها سلامي مع روحي ومع العالم كأن أفقأَ عينيَّ عائداً إلى العمى من جديد، لكن ذلك لم يكن ممكناً، إذ كيفَ سأمحو ما حُفرَ في ذاكرتي، فالزمن أحدث في الذاكرةِ مناطقَ لا تزولُ إلا حين نزولُ نحنُ، ومن يدري إذا ما كانت الذاكرة تزولُ بعد زوالنا.
المضحِكُ، هو لقائي مع أصدقائي القدامى، حين طلبوا مني تقريب الأشياء إلى عقولهم على اعتبارِ أنني أعمى سابق، لكن ما ظهر منهم أكّد لي أننا العميان ـ حين كنتُ واحداً منهم ـ لا نرى الخيالات ذاتها، ولا نتصورُ الأشياء بنفس الطريقة، بل أن كل واحدٍ يخلق عالمه كما تسعفه قريحته الفارغة من الألوان، لذا لم تعد لقاءاتي بهم تزيدُ عن احتساءِ الشايِ في مقهى صغير معظمُ روّادِهِ من هم على شاكلتهم الحالية وشاكلتي القديمة.
أحاولُ أن أفهمَ العالمَ من جديد، أن أتعرفَ على زوجتي وأولادي من جديد، وأتعرفَ على نفسي كذلك، كم هو صعبٌ أن تبدأَ حياتَكَ بعدَ أن تتخطى الأربعين، إن ذلك يشبهُ خسارتكَ لرأسِ مالٍ كبيرٍ دفعةً واحدة ومحاولة البدء من الصفر، لا، إنه لا يشبه ذلك، إنه لا يشبه شيئاً على الإطلاق.
كلُّ واحدٍ فينا أعمى بطريقته الخاصة، العمى ليس فيزيائياً دائماً، العمى حالة، وحالةٌ اختياريةٌ أحياناً، كي يفلت من يدخل الحالة من موقفٍ لا يحاسب عليه سوى المبصرين.
حالةُ العمى التي دخلتُ فيها بعد أن ارتدَّ إليَّ البصرُ أصبحت أكثر إيغالاً في التيه، هذه الحالة تلاحقني، فقد دخلتها مرغماً بعد أن أصبح الناسُ يلجأون إلى العميان الحقيقيين كي يقرأوا على قبورِ موتاهم أو في البيوت، الناسُ يعتقدون أن قدرةَ الأعمى على توصيل الكلامِ إلى اللهِ أعلى من قدرةِ المبصر، لذا فقد كسدت تجارتي، وضاع رأس مالي الذي كنتُ أعيشُ من ورائه، صحيحٌ أن ولديَّ يعملان ولا يدعاني أشعرُ بالحاجةِ إلى شيء، لكن شعوري حين كنتُ آكلُ من صوتي وأدعيتي مختلف كالفرق بين الأرضِ والسماء.
كنتُ محاصراً بسؤالٍ يطلُّ من عينيّْ زوجتي كلما نظرتُ إليهما، لماذا فتّحتَ؟ وأنا لا أجيدُ أيّ عملٍ كمبصر، لذا كان عليَّ أن أتعلم كيف أكون مبصراً، فإبصارُ المرءِ كما عماه، حالةٌ أيضاً، وأنا الوحيدُ ربما في هذا العالم الذي أعيشُ الحالتينِ ـ مرغماً ـ.
طول مدة عماي جعلَ جسدي وحركاتي يتخذان شكلاً معيناً أصبح من المستحيلِ تغييره، هذا الشكل يتعلقُ بتكوينِ عضلاتِ الجسمِ وعظامه ـ الوجه تحديداً ـ، باختصار أصبحتُ مبصراً في جسدٍ كلُّ إيحاءاته تدلُّ على شخصٍ أعمى.



#خالد_جمعة (هاشتاغ)       Khaled_Juma#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكابوس
- إلا قليلا
- كما تتغير الخيول
- عن سيجارة في منفضة
- فراغ في الخارطة.. فراغ على الخارطة
- الدول والشعوب والطوائف والديانات والمذاهب في التاريخ الفلسطي ...
- الدول والشعوب والمذاهب والديانات والطوائف في التاريخ الفلسطي ...
- يؤلِّفُ أُفُقاً ويُضِيْؤُهُ
- كأي شاهد قبر


المزيد.....




- الفيلم السعودي -الزرفة-.. الكوميديا التي غادرت جوهرها
- لحظة الانفجار ومقتل شخص خلال حفل محمد رمضان والفنان المصري ي ...
- بعد اتهامات نائب برلماني للفنان التونسي بالتطبيع.. فتحي بن ع ...
- صحف عالمية: إنزال المساعدات جوا مسرحية هزلية وماذا تبقّى من ...
- محللون إسرائيليون: فشلنا بمعركة الرواية وتسونامي قد يجرفنا
- فيديو يوثق اعتداء على فنان سوري.. قصوا شعره وكتبوا على وجهه ...
- فيديو.. تفاصيل -انفجار- حفلة الفنان محمد رمضان
- جواسيس ولغة.. كيف تعيد إسرائيل بناء -الثقافة المخابراتية-؟
- -كأنه فيلم خيال علمي-: ولادة طفل من جنين مجمد منذ 30 عاماً
- قمر عبد الرحمن لـ -منتدى البيادر للشعر والأدب-: حرب الوجود ا ...


المزيد.....

- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد جمعة - الأعمى