أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد جمعة - كأي شاهد قبر














المزيد.....

كأي شاهد قبر


خالد جمعة
شاعر ـ كاتب للأطفال

(Khaled Juma)


الحوار المتمدن-العدد: 1881 - 2007 / 4 / 10 - 03:06
المحور: الادب والفن
    


ثلاثون عاما وهو مغروس كأي شاهد قبر، يحرثُ البقعةَ ذاتها، يعرف الأشجار واحدة واحدة، يحفظ ـ حتى في الظلام ـ جميع القبور، من يرقد في كل واحد منها، لون الشاهد وشكله وما كتب عليه، الزوارَ ومكاناتهم ومواعيدهم، حتى تلك القبور التي لا شواهد تدل على أصحابها، يعرفها معرفةً علميةً بحتة، دون أية عاطفة، كلهم هنا يشبهون شيئاً واحداً حتى وإن اختلف الأمر فيما يتعلق بالشاهد ونوع الرخام.
سيدةٌ بقوامٍ هوليوديٍّ تضع وردةً على قبرٍ ما، يتفحّصُ الجسدَ الفذَّ ويفكّرُ أن الموت ربما يخشى أن يأخذ صاحبةَ جسدٍ مثل هذا لأنه لا يحتمل أنوثةً من هذا النوع، لذا فإنه ـ عادةً ـ يتركها إلى أن تترهل فيأخذها كما شاء كي لا تجعله اقل قسوةً مما هو عليه.
منذ عشرين عاما ـ عشر سنوات بعد بدء عمله ـ قرّرَ أن يفرز مساحةً خاصةً لهؤلاء الذين يقتلهم الرصاص العدو، هؤلاء مختلفون، إنهم يذهبون إلى الموت قبل أن يأتي إليهم، في معظمهم لا يصلون عمر الموت الافتراضي ـ إذا كان للموت عمر افتراضي ـ يأتون محمّلين بأحلامٍ مبتورةٍ وأجزاء كثيرةٍ لم تعد تطيق البقاء في أجسادهم، وأحياناً يأتي الجزء دون الجسد، ولكن حتى هؤلاء لم يكونوا يعنون له شيئاً أكثرَ من أن كل واحدٍ منهم له قصته مع الموت، الباقون ليس لهم قصص، يموتون وينتهي الأمر.
ذلك اليوم ـ الذي قرر فيه أن يفعل شيئا آخر ـ كان بمحض الصدفة كثير الميتين، وكأنهم على موعد ليجعلوه يتراجع عن قراره، أفواجٌ من الزائرين والميتين معاً، أحدهم متبوعٌ بخمسٍ وعشرين عربةً محشوةً بخلقٍ كثيرين، آخر برجل وامرأة فقط، ثالث بفخامةٍ ملكيّةٍ، والمساحةُ المحفورةُ للجميع هي ذاتها.
تذكّرَ على نحوٍ فجائيٍّ أنه لم يخرج إلى الشارعِ منذ أن دخل إلى المقبرةِ قبل ثلاثين عاماً، غرفته الصغيرة ـ كانت بلا امرأة حتى تلك اللحظة ـ وحمامه ومطبخه الملصقان عنوةً جوارها، كانا عالمه إلى جانب المساحة الهائلة التي عهد بها إليه ليتصرف فيها كما يشاء، لم يخلُ سريره في هذا الزمن الممتد من أرملةٍ بحاجةٍ إلى مواساةٍ بعد فقدانها فحلها، أو أخرى لم تجد فضاءً أوسع من هذا لتبثه هياجها، الطعام كان يأتيه دون تخطيط، لا يعلم حتى كم مضى من الزمن لم يذهب فيه إلى المصرف كي يأخذ راتبه، لم يكن بحاجةٍ إلى المال.
ارتدى ملابسه، خرج إلى الشارعِ، لم يكن يعلم أي تغيير حدث بعد انعطافةٍ واحدة، أذهلته الشوارع والبنايات والعربات والمارة، فجأةً أكل الصخب صمت وهدوء الأعوام الثلاثين، كان عليه أن يسأل مئةَ شخصٍ كي يهتدي إلى مكان المصرف ـ الذي تغيّرَ بالتأكيد خلال هذه المدة ـ وهناك أيضاً أذهله المبلغ الذي تجمّع في حسابه، وكأنه لم يسحب فلساً واحدا طوال هذه الأعوام.
المدينةُ أربكته، هناك يسيطر هو على المكان كأحد أصابعه، وهنا يضيع كنملةٍ في كومة قمح، هناك يرتب أشجاره وحتى أحلامه، وهنا لا شجر من الأساس، هناك القبور بالنظام الذي أعده لها، وهنا لا نظام يحكم الأشياء، ربما كان هناك نظام من نوع جديد، لكنه لا يشبهه بأي حال ولا يعرفُ مفرداته ـ إن كانت له مفردات ـ..
كاد أن يقتلَ أكثر من مرةٍ تحت عجلاتِ عربة طائرة، ولأولِ مرةٍ يخطرُ له أنه سيكون يوما في مكانٍ له حارسٌ يشبهه ويحفظُ قبره، خطر له الموتُ كفكرةٍ مرعبةٍ وخاوية، لا وضوحَ فيها ولا تفاصيل، مجردُ جسدٍ يلقى في حفرةٍ لمصيرٍ لا يستطيعُ أعتى الفلاسفة أن يقول كلمةً واحدة يقينيةً عنه.
كان الحلُّ بسيطاً بعد ساعات من تسكعه على الأرصفة، أن يعودَ إلى عالمه ويغلقَ الباب مرةً أخرى في وجه هذه التداعيات التي لا لزومَ لها، فجأةً اكتشفَ أنه لا يعرفُ الطريق إلى هناك..
حينَ غادر، كان يفكّر في البلدة التي كانت عليها المدينة، شارعان ومجموعةٌ من الأزقة، تقف على طرف المقبرة فتراها كلها، كان يظن أن الشجر يحجبها عن عينيه، ولكن الشجر في الحقيقة كان يحجبُ أكثر من مجرّد شارعين، كان يحجب زمنا يتحوّلُ بعيداً عنه، لذا فهو لم يفكّر أن العودةَ ستكون مشكلةً، وأيةُ مشكلة...
من بعيد، لمح العربةَ التي اعتادها طويلاً، تتبعُها عربات أخرى، هذا يعني شيئاً واحداً، أنهم ذاهبونَ إلى هناك، لم يشعر بمثلِ هذا الابتهاجِ في حياته كلها، ضحك للفكرة، ابتهاج من رؤية عربة تحملُ ميتاً، تبعهم، كانوا بطيئين في تقدمهم كعادة الجنازات، لذا استطاعَ أن يواكبهم، رأى سور المقبرةِ من بعيد فأخذ يجري كمجنون، دخل وارتمى جوار أول قبرٍ صادفه، شعر بارتياحِ طفلٍ وجد أمه التي فقدها في السوق.
انتهت المراسمُ، عادَ وحيداً كما كل مرة، ولكن هذه المرة لم تكن كذلك، فجأةً اكتشفَ كم هي ضيقةٌ تلك المساحات التي كانت شاسعةً في الصباح، القبورُ بدت كئيبةً وقد كانت لا تعني له شيئاً، الأشجار متجهمة، ذاكرته لم تعد تحمل أي تفاصيل تخصُّ أي قبر من هذه القبور، أخذ يجري في الاتجاهات الأربعة، يحدّق في الشواهد التي اختفت الأسماءُ من فوقها، لم يكن قبل ذلك بحاجةٍ إلى الأسماء، أخذت المقبرةُ تضيقُ، وهو يهربُ من الجدران التي تطبقُ عليه بإصرارٍ عجيب.. البابُ هو الوحيدُ الذي ظلّ بعيداً كحُلم، أخذ يلهث محاولا الوصول إلى الباب، الليلُ والقبور تركضُ باتجاهه مع الجدران، القبورُ أصبحت أشباحاً، أصبح الموتُ فجأةً مرعباً..
في الصباح، كانت هناك جنازةٌ أخرى، ولم يثر دهشةَ الكثيرين أن يجدوا رجلاً قارب الستين، يحتضنُ شاهدَ قبرٍ بقوةٍ غريبة، وفي عينيه نظرة رعبٍ ظاهرة رغمَ موته الذي لم يفعل شيئاً غير إضافة شاهدٍ جديد سيبدو عما قريب كأي شاهدٍ آخر.



#خالد_جمعة (هاشتاغ)       Khaled_Juma#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- سميح القاسم.. الشاعر المؤرخ و-متنبي- فلسطين
- -أنخاب الأصائل-.. إطلالة على المبنى وإيماءة إلى المعنى
- -الأشرار 2- مغامرات من الأرض إلى الفضاء تمنح عائلتك لحظات ما ...
- محمد حلمي الريشة وتشكيل الجغرافيا الشعرية في عمل جديد متناغم ...
- شاهد رد فعل هيلاري كلينتون على إقالة الكوميدي جيمي كيميل
- موسم أصيلة الثقافي 46 . برنامج حافل بالسياسة والأدب والفنون ...
- إندبندنت: غزة تلاحق إسرائيل في ساحات الرياضة والثقافة العالم ...
- إندبندنت: غزة تلاحق إسرائيل في ساحات الرياضة والثقافة العالم ...
- مسرح الحرية.. حين يتجسد النزوح في أعمال فنية
- مسرح الحرية.. حين يتجسد النزوح في أعمال فنية


المزيد.....

- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد جمعة - كأي شاهد قبر