أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - كاظم حبيب - لتتسع جادة الحوار الديمقراطي ... ليتسع صدر الإنسان لسماع الرأي الآخر.. أين ألتقي وأين أختلف مع الأستاذ الدكتور سيَّار الجميل ؟ الحلقة الأولى















المزيد.....



لتتسع جادة الحوار الديمقراطي ... ليتسع صدر الإنسان لسماع الرأي الآخر.. أين ألتقي وأين أختلف مع الأستاذ الدكتور سيَّار الجميل ؟ الحلقة الأولى


كاظم حبيب
(Kadhim Habib)


الحوار المتمدن-العدد: 2166 - 2008 / 1 / 20 - 11:32
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


المدخل : حوارات تساهم في بلورة المواقف
ابتداءً أجد مناسباً أن أشير إلى أن من يتابع الحوار الجاري بين الصديق الأستاذ الدكتور سيّار الجميل وبيني (كاظم حبيب) حتى الآن , سيجد فيه , كما أرى , ما يفترض أن يكون عليه الحوار العلمي والديمقراطي الحضاري والمفتوح الذي يتميز بعدة سمات جوهرية , منها :
1. احترام الرأي والرأي الآخر والابتعاد عن الإساءة بأي شكل كان عبر النقاش الجاري للأفكار والمواقف والأشخاص.
2. الصراحة والشفافية في طرح وجهات النظر مع اختلاف واضح في المنهجين المستخدمين من قبل الباحثين وفوارق واضحة ومهمة في عدد من المواقف.
3. امتلاك المتحاورين فسحة واسعة وضرورية من حرية التعبير عن الرأي والرأي الآخر بغض النظر عن احتمال تنامي نقاط الاتفاق أو استمرار بعض نقاط الاختلاف.
4. رغبة مفتوحة واستعداد لتبادل الرأي وخوض الحوار باعتباره جادة عريضة ذات اتجاهين أو حتى أكثر وليست باتجاه واحد.
5. ومع استمرار الحوار سيبدو صواب الابتعاد عن الشعور بالرضا عن النفس أو الشعور بامتلاك الحقيقة أو امتلاك الحق في امتلاك الحقيقة أو طرح بعض الأحكام المطلقة , إذ يفترض أن يبقى كل شيء خاضع للنقاش , وهو الأمر الإيجابي في أي حوار بين المثقفين , كما أن الحوار يجري بدون أحكام مسبقة متبادلة.
هكذا حوار يشكل فائدة متبادلة للمتحاورين أولاً , وفائدة للقارئة والقارئ ثانياً , ويساعد على فهم مواقف المتحاورين ويمهد الطريق لتقريب وجهات النظر أو توضيح الرؤية والموقف ثالثاً , كما أنه يساهم في تكريس طريقة مغايرة للصراع الفكري الذي تعوّد المجتمع عليه طويلاً , طريقة في التفكير ترفض إهانة الآخر والإساءة إليه بأي حال , إذ أن الإساءة لا تعبر عن قوة بل عن ضعف في الفكر والموقف والشخصية والقدرة على إقناع الآخر برأيه , رغم الاعتقاد الجازم عند المسيء بأنه قد مسح الأرض بخصمه , ولكنه في حقيقة الأمر مسح الأرض بنفسه وليس بغيره. كما أنها تفتح الطريق لحوارات فكرية وسياسية وتاريخية ذات أهمية كبيرة لمجتمعنا العراقي. والحوار ليس هدفاً بحد ذاته بل وسيلة لزيادة المعرفة والتفاهم.
ولا شك في أن النقاش الذي بدأ عفوياً يتخذ الآن وبصورة تدريجية أسلوباً أكثر ملموسية ومنهجية بحيث لا تتداخل القضايا أو تتكرر , وبالتالي تسهل النقاش بين المتحاورين وتساعد قراء العربية الكرام على تتبع أفضل للمناقشات.
للتو انتهى الصديق العزيز لأستاذ الدكتور سيّار الجميل من سلسلة حلاقته التسع الجديدة والمهمة التي بدأت في 13/12/2007 وانتهت في 16/1/2008. وكان فيها جاداً وحيوياً ومتوسعاً , وكذلك في ما أبدى من ملاحظات مهمة حول ملاحظاتي عن الأفكار والمعطيات التي طرحها في حلقاته الأربع السابقة أو في ما ضمن حلقاته من أفكار جديدة ومهمة للحوار , أو ما طرح من أسئلة كثيرة تستوجب الإجابة عنها. كما أنه أجاب , من وجهة نظره , عن بعض تلك الأسئلة التي يمكن الاتفاق مع بعضها والاختلاف مع البعض الآخر منها. وكلها تكشف عن جوانب مهمة من حياة مجتمعنا وواقعنا الاقتصادي المنصرم وما يعانيه ويواجهه هذا المجتمع في المرحلة الراهنة. أنا واثق بأن هذا الحوار سيتسع وستطرح الكثير من الأفكار المهمة وربما الجديدة التي آمل أن تثير شهية ورغبة أخوات وأخوة آخرين يشاركون تدريجاً في حوارات ثنائية أو أكثر مماثلة وفي مختلف مجالات المعارف. إنها عملية معرفية مهمة وجادة نأمل أن تتواصل وتغتني وتتطور.
سأحاول في الحلقات القادمة أن أناقش القضايا التي طرحها الزميل العزيز وأجيب عن تلك الأسئلة التي وردت فيها , وأنا واثق من سعة صدره لما يمكن أن نختلف بشأنه , علماً بأن من واجبنا المشترك أن نجيب عن تلك الأسئلة وننقب في المصادر والكتب عند الحاجة لندقق ونتوثق مما نكتبه إلى قارئات وقراء من مختلف المستويات والفئات الاجتماعية , فهي تمس الإنسان في العراق , ولكنها تمس الإنسان في مواقع أخرى من الدول العربية أيضاً وقراء العربية عموماً , وخاصة تلك القضايا التي تمس بهذا القدر أو ذاك تجارب دول أخرى ستبقى مفيدة لنا جميعاً بغض النظر عن بعدها أو قربها من واقع حياتنا , فكل تجارب البشرية هي ملك لكل منا , وهي ملك الجميع , مع فارق في المكان والزمان , وبمعنى آخر مع فارق يمس مدى الاستفادة منها في ما نحن فيه , فليست هناك تجربة مماثلة لأخرى , فكل منها لها سماتها وخصائصها , وخاصة تلك التي تخص شعوب ودول أوروبا من جهة , وتلك التي تخص شعوب ودول الشرق الأوسط أو شعوب الدول العربية أو العراق بمكوناته القومية العديدة من جهة أخرى.
سوف أتناول القضايا المطروحة للنقاش كافة والواردة في الحلقات الجديدة للصديق الفاضل الأستاذ سيّار الجميل وابدأ بالمنهج بسبب كونه يرتبط بالطريقة التي يفكر بها الإنسان للوصول على المعرفة.

حول المنهج
المادة التي قدمها الزميل الفاضل الأستاذ سيّار الجميل في حلقاته الجديدة مهمة وتفسح في المجال لحوار علمي وعقلاني لأنها تطرح الكثير من الأسئلة التي تستفز الإنسان بالمعنى الإيجابي للكلمة وتدفع به للتفكير والتمعن في ما يريد الصديق أن يوصله للقراء الكرام. ليست هناك بالضرورة إجابات جاهزة لما يطرح من أسئلة , ولكنها تشجع على إعمال الفكر والتحري عن إجابات دقيقة ومناسبة تسهم في إغناء النقاش من جهة , وتحاول إبراز العوامل التي استند إليها في اتخاذ مواقفي الفكرية والسياسية والثقافية من جهة ثانية , إضافة إلى بذل الجهد لإقناع القارئات والقراء والزميل الكريم بصواب الطريقة التي أفكر بها وعن مدى أهميتها وسلامة الاهتداء بها في تحليل الواقع الاجتماعي العراقي مثلاً.
أخصص هذه الحلقة لمناقشة موضوع المنهج والنظرية والعوامل التي دعتني إلى تبني المنهج المادي الديالكتيكي باعتباره طريقة في التفكير ومنهجاً في التحليل. لا شك في إن أسلوب الحوار الذي يمارسه الصديق العزيز شيق ونشط ويعبر عن سعة في المعرفة ولكن يجد المتتبع له , كما أرى , ثغرات معينة وبعض الأحكام المطلقة التي تستوجب التمعن وإعادة النظر من جانب الأستاذ الجميل. لقد انتقد المنهج المادي الجدلي , ولكنه لم يقدم اسماً للمنهج الذي يمارسه , أو أسماء للمناهج التي يمارسها في البحث والتحليل والاستنتاج. ومع ذلك سأحاول مناقشة اعتراضاته حول المنهج المادي الجدلي "غير القابل للتجديد" , كما يقول الأخ الفاضل الجميل.
فتَحتَ عنوان فرعي وقطعي ومطلق "منهج غير قابل للتجديد" يقول الأستاذ الجميل بالنص ما يلي:
" ... أسألك يا صديقي العزيز حول المنهج الماركسي .. هل باستطاعته اليوم أن يقوم بتحليل الواقع القائم كما تقول ؟ وهل باستطاعته العمل على تغييره كما تقول ؟ وإذا كان ينظر إلى الماضي ، فهل باستطاعته النظر إلى الحاضر والمستقبل كما تقول ؟ أي واقع قائم باستطاعة الماركسية تغييره اليوم؟".
أقول للصديق العزيز الجميل نعم , نعم بإمكان المنهج المادي الجدلي أن يساعدني ويساعدك ويساعد من يهتدي به في الدراسة والتحليل , في فهم الماضي والحاضر , وأن يمنحنا , باعتباره أداة للدراسة والتحليل , إمكانية استشراف المستقبل وإمكانية التعرف على سبل واتجاهات التغيير , ولكن ليس باستطاعة المنهج ذاته أن يغير الواقع ؟ إن من يغير الواقع هو الإنسان , هو المجتمع ذاته , هي إرادة الناس حين تعي الواقع وتعي حركة وفعل قوانين التطور الاجتماعي وتعي حركة وفعل القوانين الاقتصادية الموضوعية , عندها تستطيع أن تتحرك وتعمل للتغيير من خلال تعاملها الواعي والمسئول مع تلك القوانين وعلى وفق رؤية علمية ونضالية لتحقيق التغيير المنشود في المجتمع. وهي كما نعرف عملية معقدة وطويلة وتستوجب جهوداً استثنائية من جانب الفرد والمجتمع. في الموضوعة رقم 11 من موضوعات كارل ماركس حول فلسفة فويرباخ يقول : "إن الفلاسفة لم يفعلوا غير أن فسروا العالم بأشكال مختلفة , ولكن المهمة تتقوم في تغييره" .ومهمة تغيير المجتمع ترتبط بالنشاط الإنساني الذي يعي العالم ويعي القوانين الفاعلة فيه ويعي مهماته ووجهة التغيير.
وهنا لا بد لي أن ألاحظ خلطاً واضحاً , وغير متعمد بطبيعة الحال , من جانب الزميل الجميل بين المنهج المادي وبين النظرية الماركسية والتي سأسعى إلى توضيحها في هذه الحلقة من الحوار , إذ كثيراً ما يعتقد بأنهما شيء واحد. فالمنهج المادي الجدلي شيء , الذي ساهم ماركس بتطويره في ضوء ما وصل إليه قبل ذاك فريدريك هیگل (Georg Wilhelm Friedrich Hegel) بعد أن عزز جدلية الأخير بالمادية بدلاً عن مثالية هیگل أي شدها إلى الواقع الموضوعي , والمقولات النظرية , إذ أن ما أطلق عليها بالنظرية الماركسية مجازاً شيء آخر , إذ ـنها ليست سوى نتاج استخدام كارل ماركس للمنهج المادي الجدلي والمادي التاريخي في دراسة الرأسمالية الأوروبية , إضافة إلى ما اكتشفه من خلال هذا المنهج من قوانين الديالكتيك الثلاثة الأساسية التي تحكم التطور الاجتماعي , وهي :
1. قانون وحدة وصراع الأضداد ؛ 2. قانون الانتقال من التراكمات الكمية إلى التحولات النوعية ؛ و3. قانون نفي النفي , إضافة إلى جملة من القوانين الاقتصادي الموضوعية.
وقلت هنا مجازاً لسبب مهم وأساسي , إذ حين سؤل ماركس عن النظرية الماركسية في حياته قال "كل ما أعرفه هو أنني لست ماركسيا". ويمكنني أن أؤكد بأن سبب مثل هذا الجواب يستند إلى حقيقة أن ماركس كان يدرك أن الكثير من تلك المقولات التي اكتشفها وصاغها تصلح للمرحلة التي كان هو فيها وأنها يمكن أن لا تصلح لمرحلة لاحقة , أي أنه كان يدرك تماماً بأن النظرية أو المقولات النظرية في أغلب جوانبها متغيرة مع تغير الواقع القائم وليست جامدة وثابتة مقولاتها بأي حال أو أن بعضها يشيخ ولم يعد نافعاً لمرحلة جديدة أو لزمان ومكان آخرين. ومن هنا يكون التعبير والالتصاق بالمنهج وليس بالنظرية من حيث المبدأ. وحين أقول بأني ماركسي مجازاً , فأعني كوني مادي يالكتيكي (جدلي) في طريقة تفكيري.
في أوائل التسعينات من القرن الماضي نشرت مجلة الثقافة الجديدة العراقية حواراً أجراه معي رئيس تحريرها حينذاك الأستاذ عادل حبة , حول مواضيع شتى ومنها حول المنهج. ثم نشرت مقالاً في العام 1995 في مجلة الطريق اللبنانية حول الحركة الشيوعية في الدول العربية وتطرقت فيه إلى موضوع المنهج الماركسي والنظرية الماركسية , كما أجرى معي الأستاذ كامل عبد الله شياع مقابلة طويلة حول موضوعات مماثلة كالماركسية والرأسمالية والاشتراكية والمنهج .. وقد نشرت على حلقتين في مجلة الطريق , وكلها جرت في العقد الأخير من القرن العشرين. والمنهج موضوع حيوي ويستحق مواصلة الحوار حوله. وفي ذلك المقال الذي نشر في حلقتين وكذلك الحوارات الأخرى قلت بما لا يقبل الشك بأن المنهج المادي الجدلي والتاريخي منهج علمي لدراسة المجتمع وتحليله , ولكن هذا لا يلغي المناهج الأخرى ولا يمتلك من يتبناه الحق بالادعاء بأنه يمارس المنهج الصائب الوحيد , أو القول بأن من يمارسه لا يرتكب الخطأ , أو أن لا يوجد احتمال الخطأ في بنية هذا المنهج ذاته , فالحياة والتقدم العلمي والتقني والاكتشافات والاختراعات الجديدة كلها تسهم باستمرار في إغناء وتعديل وتطوير هذا المنهج وتساهم في تطوير البحث الاجتماعي والنفسي وفي المشكلات المختلفة. وربما يحتاج الباحث إلى استخدام أكثر من منهج واحد حين يعالج مشكلات مختلفة للوصول إلى نتائج علمية مدققة. كما أشرت بأن من واجب الباحث أن يستخدم مختلف المناهج التطبيقية حين تكون هناك حاجة لمثل هذه المناهج للوصول إلى نتائج مهمة في البحث. وفي الكثير من العلوم الطبيعية والاجتماعية يمكن استخدام مناهج مناسبة مختلفة للوصول إلى النتائج التي تنسجم مع طبيعة الموضوع , في ما إذا كان البحث يمس الطبيعة ووجود الإنسان فيها أم الإنسان باعتباره فرداً , أم الوجود الاجتماعي للإنسان , ثم العلاقات المتبادلة بين هذه المكونات في ما بينها. ولا شك في أن من يتبنى منهجاً , يتحمل مسئولية كبيرة في معرفة هذا المنهج وفي فهم واستيعاب قواعد وآليات وأسس ومجالات استخدامه , كما أنه سيكون المسئول عن الخطأ الذي يرتكبه عند استخدامه , سواء أكان الخطأ في المنهج أم في استخدامه , إذ لا بد من تحديد طبيعة الخطأ. السؤال المنطقي الذي يفترض الإجابة عنه هو: ما هو المنهج ؟ وماذا يراد منه؟ وهل المنهج المادي قد فات أوانه , أم أن هناك خلطاً بين المنهج والنظرية الماركسية ؟ أليست النظرية الماركسية هي نتاج ممارسة المذهب في التحليل الاقتصادي والاجتماعي والوصول إلى صياغة المقولات النظرية التي يمكن أن تتغير مع التغيرات الحاصلة في هذا المجتمع أو ذاك؟
المادية , كما يعرف صديقي الفاضل , تعني الواقع الموضوعي القائم أو الوجود الاجتماعي , أما الجدلية فتعني ببساطة رؤية وتتبع ما يجري في هذا الواقع الاجتماعي من عمليات ومن متناقضات. وهو عين الأسلوب المادي الذي مارسه الزميل الأستاذ الجميل حين شخص الخصائص التي يتميز بها المجتمع والاقتصاد في العراق , ولكنه توقف عند هذا الحد , في حين يفترض تشخيص سبل تغيير هذا الواقع. إذ يبقى السؤال ما هو دور الجدل المادي في تحليل هذا الواقع ورؤية التناقضات التي تنهش فيه و سواء أكانت تلك التناقضات طبقية أم فئوية أم دينية أم طائفية أم عشائرية أم غير ذلك , ثم استناداً إلى ذلك التحليل محاولة تشخيص التغيرات المحتملة في خضم كل تلك التعقيدات التي يعيشها العراق مثلاً وسبل العمل لتحقيق ذلك.
المنهج لا يرتبط بزمان أو مكان , ولكن المنهج يغتني بما يتحقق من منجزات في مجالات العلوم والتقنيات والمعارف بشكل عام التي تساهم في توفير أدوات جديدة للبحث والتدقيق بحيث يساعد على تحسين القدرة على قراءة عينية للواقع العيني , كما عبر عن ذلك لينين. ولكن استخدام المنهج هو الذي يرتبط أو يقترن بزمان ومكان معينين. وما ينشأ عن ذلك التحليل العيني للواقع الموضوعي من استنتاجات هو ما يطلق عليه بالمقولات النظرية. وحين استخدم كارل ماركس وفريدريك انجلز هذا المنهج توصلا إلى اكتشاف قوانين التطور الاجتماعي المعروفة , كما اكتشفا الكثير من القوانين الاقتصادية الموضوعية التي تحكم تطور الرأسمالية , وهي قوانين عامة , ولكن فعلها يكون خاصاً وفق واقع ذلك المجتمع ومستوى تطوه والعلاقات السائدة فيه. ولهذا يفترض أن يقال بوضوح بأن النظرية متغيرة , ولكن المنهج هو الأداة لعملية التنظير , ولكن هذا التنظير كما يقول ماركس ذاته بصواب , كما أرى , في أحد عشر موضوعة كان قد وضعها لمناقشة فلسفة فويرباخ والتي أصبحت فيما بعد الأساس لكتابه المشترك مع فريدريك انجلز الموسوم "نقد الفلسفة الألمانية" المتمثلة حينذاك بالفيلسوف المادي الانثروبولوجي الألماني لودفيگ فويرباخ حيث جاء في الموضوعة رقم 6 ما يلي: "إن معرفة ما إذا كان التفكير الإنساني له حقيقة واقعية ليست مطلقاً قضية نظرية، إنما هي قضية عملية، ففي النشاط العملي ينبغي على الإنسان أن يثبت الحقيقة، أي واقعية وقوة تفكيره ووجود هذا التفكير في عالمنا هذا. والنقاش حول واقعية أو عدم واقعية التفكير المنعزل عن النشاط العملي إنما هو قضية كلامية بحتة".
لو عدنا إلى النظرية فيمكنني أن أدعي ما يلي:
المقولات النظرية التي صاغها كارل ماركس تتوزع على ثلاثة أجزاء :
* مقولات جاءت صياغتها على شكل قوانين موضوعية مثل قوانين التطور الاجتماعي والقوانين الاقتصادية الموضوعية والتي تم اكتشاف فعلها وحركتها من خلال استخدامه للمنهج المادي الديالكتيكي والتاريخي في البحث , وهي لم تكن اختراعاً , وهي فاعلة ما دامت عوامل وجودها قائمة ولكن يتباين فعلها في الزمان والمكان.
* مقولات نظرية شاخت وفات أوانها ولم تعد قابلة للتطبيق , إذ كانت صحيحة في حينها.
مقولات لم تكن صحيحة أصلاً حتى في حينها مثل دكتاتورية البروليتاريا على سبيل المثال لا الحصر.
وبالتالي فالنظرية ليست شيئاً مقدساً ولا يمكن أن يكون الموقف منها تقديسها بأي حال , كما حصل ولعقود طويلة ولا زال البعض الكثير يقدسها حتى الآن وكأنها كتاب مقدس , بل رؤية واقعية لما هو صائب حتى الآن فيها , أو ما هو قد شاخ ولم يعد مناسباً لعصرنا وأن هناك إمكانية لاكتشاف وصياغة مقولات أخرى من خلال دراسة الواقع الموضوعي , من خلال حركة الأفراد والمجتمع في كل بلد من البلدان.
تشير يا صديقي العزيز إلى أنه من غير الممكن بأي حال أن تكون النظرية صائبة وكل تلك الدول قد سارت على ذلك الطريق الذي قاد إلى انهيارها أو عشرات الأحزاب الشيوعية التي سارت على ذات الطريق. يبدو لي في هذا الصدد أن يؤخذ بنظر الاعتبار الملاحظات التالية:
1. أكرر مرة أخرى أن ليس كل ما قاله ماركس أو انجلز يفترض أن يكون صائباً أو مقدساً فهما من البشر , وكل إنسان , معرض للخطأ والصواب. ولكنهما مارسا منهجاً في التفكير يساعد كثيراً على عدم ارتكاب الكثير من الأخطاء بالمقارنة مع مناهج أخرى , ليس هناك شيئاً كاملاً , بل كل شيء في حالة حركة وتطور واغتناء.
2. لم ادعِ أن ليس هناك خللاً ببعض المقولات النظرية أو النظرية , بل قلت أن المنهج هو الذي يتوصل إلى صياغة المقولات النظرية والنظرية بشكل عام , والمنهج يوفر للباحث أسلوباً أو طريقة جديدة في التفكير ويساعده على صياغة المقولات النظرية أو الخروج باستنتاجات تمس الوضع القائم. ولكن تلك الصياغات النظرية والاستنتاجات تعتمد على وعي الباحث وقدراته على رؤية الواقع العيني وصواب استخدامه للمنهج.
3. هناك فارق كبير مع الأسف الشديد بين من يكون في السلطة ومن يكون خارجها. فلو قرأت لينين قبل الثورة وقرأته بعدها لوجدت فارقاً كبيراً بين الفترتين في غير صالح التحليل الموضوعي , إذ دخلت عليه الرغبات والإرادات الذاتية بدلاً من التحليل العيني للواقع العيني , كما قاله لينين بالذات, بل أنه ابتعد عن اعتماد المادية الجدلية في تحليله للواقع الموضوعي حينذاك. ولنأخذ قضية أخرى من العراق. لو عدت إلى تحليلات الحزب الشيوعي العراقي قبل ثورة تموز 1958 , سواء أكان في فترة فهد كسكرتير عام للحزب , أم في فترة سلام عادل السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب , لوجدت فارقاً واضحاً مع الفترة بعد ثورة تموز بكل تعقيداتها , وبالتالي فقد نشأت رغبة وإرادة ذاتية في التحليل والاستنتاج في الفترة الثانية بالمقارنة مع فترة ما قبل تموز , رغم أن الحزب الشيوعي لم يكن في السلطة بعد تموز , ولكنه امتلك ولفترة قصيرة حرية حركة وتأثير واسعين على الشارع العراقي. من الصحيح أن نقول بأن المنهج لم يستخدم بصورة علمية وموضوعية أو عقلانية بعد الثورة , في حين مورس بصواب قبل ذاك بشأن القضايا الداخلية. يمكنك أن تجد ذلك بوضوح كبير في كتابات فهد الخاصة بالقضية الوطنية أو إذا قرأت التقرير الذي أعده سلام عادل للكونفرنس الحزبي الثاني في العام 1956 وبشأن جميع القضايا المطروحة للنقاش حينذاك.
4. من المفيد أن أشير هنا إلى رأيي , ولا أتحدث عن أراء أي شخص آخر , بأن لينين , ومن ثم من بعده ستالين على نحو خاص ومجمل الحزب الشيوعي السوفييتي , قد عمد إلى عدة مسائل سلبية بشكل خاص , وهي:
أ‌. روسنة النظرية الماركسية وإخضاع المنهج , وخاصة المادية التاريخية , للرغبات الذاتية ومصالح الحكم السوفييتي وتصدير هذه النظرية الروسية إلى العالم عبر الأحزاب الشيوعية على شكل نظرية عالمية.
ب‌. إدخال الإيمانية على النظرية وكأنها شيء مقدس لا يمكن المساس بها ومن يتحرك بغير ذلك فهو تحريفي ومشوه ومرتد .. الخ من النعوت السيئة التي مورست عقوداً كثيرة منعت القدرة على التفكير والتطوير والإغناء , كما يفعل البعض من المهووسين والسلفيين من الماركسيين , مع احترامي لهوسهم وسلفيتهم المدمرة!
ت‌. السيطرة على الحركة الشيوعية (الأممية الثالثة) من جانب الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي منذ اليوم الأول لنشوئها وتأمين علاقتها الوثيقة , وفيها الكثير من التبعية , لمركز الحركة الذي اعتبر الكومنترن حتى العام 1942 ومن ثم الحزب الشيوعي في موسكو بعد حلها.
ث‌. اتهام كل اختلاف أو خلاف في التحليل والاستنتاج والمواقف والسياسة إزاء تحليلات وسياسات ومواقف الحزب الشيوعي السوفييتي ودولته بالتحريفية والارتداد والخروج عن الماركسية , وكل شخص أو حزب شيوعي بالتحريفي والمرتد والخائن للماركسية , أي مصادرة الماركسية من مدرسة واحدة هي المدرسة اللينينية. حتى أن لينين اتهم روزا لوكسمبورغ بـ "السياسية العاهرة" (كذا) حين اختلفت مع لينين بشأن الثورة , وحين اختلفت مع لينين والحزب الشيوعي السوفييتي بشأن مجالس السوفييت وما يراد منها في أن تكون أداة للتصفيق للقادة السوفييت وإعلان ولائها لهم ولقراراتهم , أو حول ما سمي في حينها بـ "الديمقراطية البروليتارية: كنقيض للديمقراطية البرجوازية. وتجد ذلك بوضوح في كتابات لينين , أو في الكراس المهم الذي كتبته روزا لوكسمبورغ عن ثورة أكتوبر وهي في السجن وقبل إعدامها بفترة قصيرة جداً.
يقول الزميل الجميل تحت فقرة مناقشة في المضمون: "1. من قال العيب في المنهج الماركسي؟". ولكن ماذا يعني يا صديقي العزيز حين تقول أن المنهج غير قابل للتجديد أولاً , وماذا يعني حين يعتبر المنهج مساوياً للنظرية ثانياً. في النظرية , إذا ما أخذت الآن , ولكن وفق ما وضعت في حينها أي في زمن ماركس , بعض العيوب الجدية وبعضها الآخر شاخ وفات أوانه دون أدنى ريب ولا يصلح لهذا اليوم , ولكن هذا لا يمس منهج التحليل المادي الجدلي. أتفق مع الزميل العزيز إلى أن استخدام المنهج كان إرادياً ووحيد الجانب , وكان هذا العيب الكبير في الاستخدام ملموساً في المدرسة السوفييتية وفي الأحزاب التي سارت على ذات المدرسة بشكل عام , ولكن ليس كلها وليس باستمرار. أود أن أؤكد لك بأن غياب التنوير الديني في منطقة الشرق الأوسط عموماً وفي العراق والدول العربية خصوصاً يساعد على تحويل النظريات غير الدينية لدى الأشخاص إلى دين جديد وإلى إيمان بها , والإيمان غير القناعة والوعي بها وبمختلف جوانبها.
ماذا كانت حصيلة ذلك؟ كانت , وبكل صراحة ووضوح , تعني ما يلي:
1. التحكم بوجهة عمل تلك الأحزاب وعلاقاتها وتحالفاتها بشكل واضح , وإلا فهي أحزاب خائنة ومنحرفة عن الماركسية , ولم يكن سهلاً التفرد عنها ليس بالنسبة للأحزاب حسب , بل ولقادتها أو الأعضاء فيها. لقد نشأ عن ذلك أشكال من العلاقة الاستبدادية الفعلية من جانب الحزب الشيوعي السوفييتي إزاء الأحزاب الشيوعية الأخرى من الناحية الفكرية والسياسية بشكل خاص واحتكار الماركسية , استبداد المدرسة النظرية السوفييتية وفهمها وتفسيرها للماركسية. ليس عيباً أن نعترف بذلك , بل العيب السكوت عنه ومواصلته بطريقة أخرى , رغم غياب الاتحاد السوفييتي والحزب الشيوعي السوفييتي , وما تبقى هو الحزب الشيوعي الروسي. وهذه الطريقة في العلاقة انعكست على الممارسة الفعلية في داخل كل حزب أيضاً.
2. تقليص حقيقي للقدرة الذاتية لدى الأحزاب الشيوعية الأخرى على المبادرة والإبداع في الجانب النظري وفي البحث العلمي والتحليل والاستنتاج , لقد خُلقت اتكالية شديدة وإيمان بأن ما يقوله السوفييت هو الصحيح وأن التعلم منهم ونقل تجربتهم يعني النصر , في ما عدا من كان قادراً على فرض استقلاليته عن المركز في جملة من الأمور , ومنهم قبل ذاك بليخانوف أو بعد ذاك گرامشي أو فيما بعد وبقدر ما توغلياتي أو تيتو أو الحزب الشيوعي الأسباني..الخ..
3. جعل الأحزاب تعمل على الدفاع عن السياسة السوفييتية وكأنها المهمة المركزية , أي اختزلت الأممية في هذا الجانب ولسنوات طويلة.
4. القناعة الإيمانية بأن الحزب الشيوعي السوفييتي هو المرجعية في الحركة الشيوعية , وهو الحكم في القضايا الخلافية داخل كل حزب أو بين الأحزاب الشيوعية. وقد برز هذا بشكل صارخ في الحزب الشيوعي السوري حين حصل خلاف شديد بين خالد بكداش ومن يؤيده , ويوسف فيصل ومن يؤيده , بحيث تدخل السوفييت ليعطوا رأيهم في ذلك. وقد وجد الكثير من الشيوعيين في حينها خطل هذا الأسلوب وخطره في آن , إذ من غير المعقول أن تكون هناك مرجعية في هذا الجانب , كأي حركة دينية سلفية.
ومع ذلك ظهرت حركات فكرية وسياسية رفضت ذلك وسعت إلى تغيير أوضاعها , سواء من كان منهم في السلطة في الدول الاشتراكية , أم من كان خارج السلطة. ولكنها عانت من عزلة ومحاربة السوفييت والأحزاب التي تؤيد الحزب الشيوعي السوفييتي.
أقول مرة أخرى , كما تقول , ثمة نظرية وتطبيقات وقد تجاوزتها نظريات أخرى. هذا صحيح , ولكن الحديث لا يمس النظرية بل يمس المنهج , إذ أن النظريات متغيرة بتغير الواقع والوقائع. ثم من قال بأن المادية الجدلية يفترض فيها أن لا تأخذ بالعوامل النفسية والتاريخية والتراث وغير ذلك بنظر الاعتبار حين يدرس الباحث ويحلل الواقع العيني. الاعتماد في التحليل على الاقتصاد لا يعني بأي حال نسيان الجوانب الأخرى في العملية كلها , كالجانب السياسي والتاريخي والنفسي والتراث الثقافي ...الخ عند تحليل الواقع الاجتماعي أو أي قضية من القضايا. لا شك أن المبالغة بالجانب الاقتصادي دون الأخذ بالاعتبار الجوانب الأخرى يوقع المحلل أو أي حزب سياسي في مطبات كثيرة , وهذا ما حصل فعلاً. ولكن التحليل العلمي والموضوعي المادي الجدلي لا بد له أن يأخذ كل ذلك بنظر الاعتبار , وأن يأخذ ما توصلت إليه المناهج الأخرى من تحديث وتجديد واستنتاجات وأساليب وأدوات بحث وتحليل جديدة.
صديقي العزيز , جاء في الحلقة الثانية من مقالك النص التالي: "ويبقى الصديق الدكتور كاظم حبيب مصّرا على رأيه الذي لا بد من احترامه احتراما للمبادئ التي يحملها ، فالرجل مخلص للمبادئ التي آمن بها ".
دعني أقول بكل صراحة وبلا إبهام بأن الإصرار هو أسلوب غير علمي ويجب أن يكون بعيداً عن عمل المثقفين ولا يعبر عن وعي ضروري , والإصرار حالة تقترن بالإيمان الديني , الذي لا يعتمد العقل بل العاطفة ويشترط القبول بالمقولات الدينية دون مناقشة. وكلاهما غريب عني. أنا لست مصراً ولا مؤمناً بمبادئ محددة, أنا اعتمد المنهج المادي الجدلي في التفكير والعمل , في البحث والتحليل قدر استيعابي لهذا المنهج , أنا مقتنع بصواب هذا المنهج الذي يساعدني في إعمال ما في قحف رأسي من مخ قادر على التفكير والتحليل. لا شك بأني كنت مؤمناً بالماركسية والشيوعية حين كنت شاباً يافعاً , وحين انتميت إلى الحزب الشيوعي العراقي في العام 1952 , باعتباره حزباً وطنياً وأُممياً مناضلاً في سبيل الخلاص من الاستعمار ومن أجل الحرية والديمقراطية والوحدة العربية وفي سبيل حقوق القوميات الأخرى , ومن أجل إلغاء استغلال الإنسان لأخيه الإنسان ومن أجل التقدم والمساواة وحقوق المرأة وحريتها وتحت شعار "وطن حر وشعب سعيد" ... الخ وهذا هو الحليب الذي رضعته , وحين كنت أتلقى ذلك عفوياً ومن أرض واقع العراق في العهد الملكي وكانت الأهداف الوطنية صحيحة, ولكني لم أعد مؤمناً بالنظرية , بل أنا مقتنع قناعة علمية بالمنهج المادي الجدلي الرافض للمنهج المثالي والذي أثمر الكثير من المقولات الماركسية النظرية السليمة والتي كما قلت بعضها غير القليل قد شاخ , والقناعة العلمية تحمل باستمرار الشك في ما تتوصل إليه لا لأنه خطأ بالضرورة بل لأن احتمال الخطأ وارد أولاً , ولأن الكثير من الأمور تتغير ويفترض أن تتغير , ولا بد من تغيير القناعات أيضاً. المعايير والقيم والمبادئ تتغير بتغير الزمان والمكان لأنها قناعات , لأنها ليست إيماناً دينياً جامداً لا يتغير بتغير الزمان والمكان , وعلينا أخذ ذلك بنظر الاعتبار. يشكل الدين والطائفة عقيدة وإيماناً غير عقلي لا يستطيع القس مثلاً أن يشرح علمياً وعقلياً كيف يمكن أن يحيا المسيح ويعود للحياة , كما أن شيخ الدين الشيعي لا يستطيع أن يبرهن علمياً وعقلياً كيف يمكن أن يختفي المهدي قروناً ثم يُنتظر عودته ثانية , بل يعتمد هنا على الإيمان والعقيدة ولا يسمح بمناقشة ذلك عقلياً , بل هنا يكون الإصرار عليها إلى حد الاستعداد لقتل من ينكر ذلك في الإسلام , ولكن في المسيحية يحق للناس أن يقولوا المسيح لن يعود وهو تصور غير علمي وغير عقلي ولا يقتلوا حالياً , ولكن من قال منهم ذلك قتل في القرون الوسطى. وهذا فرق كبير بين المسيحية في المرحلة الراهنة وبين الإسلام من جهة , وهو فرق جذري بين القناعة المبنية على البحث والاستقصاء والعلم وبين العقيدة المبنية على الإيمان الديني والطائفي من جهة أخرى.
من هنا أقول إن النظريات تتغير بتغير الزمان والمكان , كما يتغير ويتباين فعل القوانين الموضوعية بسبب التباين في الزمان والمكان , رغم أنها من حيث المبدأ واحدة.
حين ادرس الواقع العراقي فأنا بحاجة إلى منهج , ومنهجي هو المنهج المادي الجدلي , ولكني أحتاج إلى فهم منهج ماكس فيبر في دراساته الاجتماعية , وأحتاج إلى فهم منهج سيگموند فرويد والنظريات النفسية والجنسية التي جاء بها أو التي جاءت من بعده في التحليل النفسي والجنسي , وأحتاج إلى جملة من الأفكار والنظريات الأخرى عدا المناهج التي لا يلغيها المنهج المادي الجدلي ويقترب من بعضها في مجالات معينة , بل يعتمد على تطورها واغتناء أدواتها أيضاً. المنهج المادي يختلف تماماً عن المنهج المثالي من حيث المنطلق الأساسي ليس في العلاقة بين الواقع والوعي وأياً منهما يسبق الثاني حسب , بل وفي الكثير من المسائل الأخرى التي نجد ما نشاء عنها في البحث والدراسات القيمة بهذا الصدد. ولكن لا يمكن التقليل من أهمية العلاقة الجدلية بين الواقع الموضوعي والوعي , مع عدم نسيان قدرة الوعي في التأثير على الواقع والتفاعل بينهما. إن وعي الواقع ليس مجرد انعكاس لذلك الواقع بل يفترض القيام بتحليله أو تفكيكه وفهم العوامل الفاعلة فيه والمؤثرة عليه والمتشابكة معه , ثم إعادة تركيبه , وهي عملية معقدة وليست سهلة وتحتاج إلى فكر متفتح وذهن نشط قادر على التجريد , رغم أن البحوث الاجتماعية أقرب إلى الواقع الاجتماعي الموضوعي , إلى ذهن الإنسان بالمقارنة مع القدرة التجريدية التي تحتاجها العلوم الصرفة كالرياضيات على سبيل المثال لا الحصر.
الصراع الفلسفي بين المادية والمثالية قد تحول , كما يقول الصديق الدكتور فالح عبد الجبار بصواب , إلى صراع سياسي وإلى احتراب في القرن العشرين بين الماركسية واللبرالية , إذ اتخذا برنامجين وأسلوبين مختلفين إزاء العملية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفارق بينهما تجلى لفترة قصيرة وبصورة نسبية بين الدول الاشتراكية والدول الرأسمالية , وفي الوقت الذي واصلت اللبرالية سيرها وفق النهج الذي اختطته في مجال الاقتصاد وآليات السوق والمنافسة والاستغلال والحرية الفردية , عجز الذين تبنوا واحتكروا الماركسية لهم وحدهم ليس عن تطوير وإغناء الفكر الماركسي لأسباب موضوعية وذاتية حسب , بل وإلى تحميلها عبء التوحش السلوكي المناهض للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان , كما ظهر في فترة لينين القصيرة ولكنها وضعت الأساس للفترة اللاحقة , وبشكل أخص في فترة ستالين وسلوكه العدواني إزاء الآخر والرأي الآخر وفي الدول الأخرى حيث ظهرت تجارب مماثلة وصورة طبق الأصل تقريباً لما كان يجري في الاتحاد السوفييتي , مما أدى إلى سقوط تلك النظم التي تبنت الماركسية وعجزت عن استخدام المنهج المادي الجدلي والمادي التاريخي بل أساءت إليهما. ودخلت حركة اليسار عموماً , ومنها حركة اليسار العراقية , في أزمة فعلية. وإذا ما أرادت النهوض من كبوتها , عليها أن تدرك التحولات الجارية في العالم كله وفي المنطقة والعراق , وأن تبتعد عن المقولات التي فات أوانها وبرهنت الحياة على خطأها , وضرورة الانطلاق من الواقع الاجتماعي , من واقع حياة الناس , من أجل الدراسة والتحليل واستخلاص المهمات , وهي بذلك تقترب , شاءت ذلك أم أبت , من اللبرالية في بعض جوانب النشاط الاقتصادي والسياسي , وهي ناشئة عن وعي الواقع والتعامل الواعي معه ومع طبيعة المهمات التي تطرحها هذه الفترة المعقدة من تاريخ العراق أو المنطقة عموماً , وليس ركضاً وراء الرغبات الذاتية أو تخلياً عن الأهداف التي تسعى إليها الحركات اليسارية على تنوعها الكبير وأطيافها الكثيرة. الاقتراب الذي يتحدث عنه الزميل فالح عبد الجبار بين الماركسية واللبرالية لا يعني القبول بالمثالية من الناحية الفلسفية أولاً , فهما فلسفتان مختلفتان تماماً , ولا يعني المساومة بينهما على حساب المجتمع , ولا يعني القبول بالهيمنة والاحتلال والاستغلال البشع الذي تمارسه الشركات المتعددة الجنسية أو الخضوع لسياساتها أو لسياسات العولمة للدول الرأسمالية المتقدمة التي تمارسها إزاء شعوب البلدان النامية , ومنها العراق , بل يفترض شيئاً آخر سأتطرق إليه في الحلقات القادمة. ولكن يعني باختصار أن قوى اليسار يفترض فيها أن تأخذ طبيعة المرحلة التي يمر بها المجتمع ووعي التناقضات والصراعات الجارية فيه , ومن ثم المهمات التي يفترض إنجازها , وهي في كل الأحوال ليست مهمات اشتراكية , بل مهمات ترتبط بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني وفرض قوانين تحترم كرامة الإنسان وعيشه الإنساني وتخفف من عبء الاستغلال الذي تتعرض له الجماعات المنتجة والمستخرجة للنفط ... الخ.
انتهت الحلقة الأولى وسأوافيكم وأوافي الصديق العزيز الأستاذ الجميل بالحلقة الثانية التي سأناقش فيها ما جاء في الحلقة الأولى من حلقات الزميل الجميل من أفكار مهمة ومثيرة للنقاش الحيوي الموضوعي والبناء .
18/1/2008 كاظم حبيب





#كاظم_حبيب (هاشتاغ)       Kadhim_Habib#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل من حراك سياسي إيجابي في العراق؟
- تحية إكبار وتقدير للكاتبة والشاعرة بلقيس حميد حسن في دفاعها ...
- بعض الدول النفطية العربية تهيمن على أجهزة الإعلام العربية
- نحو تطبيق إنساني وعقلاني لقانون المساءلة والعدالة
- بين نقد الوعي النقدي والتجريح الشخصي
- ملف خاص في الذكرى العشرينية لمجازر الأنفال وحلبچة ضد الإنسان ...
- ماذا تمخض عن اجتماع قيادتي الحزبين , الحزب الديمقراطي الكردس ...
- ماذا تمخض عن اجتماع قيادتي الحزبين , الحزب الديمقراطي الكردس ...
- حصاد عام مضى وآمال بعام بدأ لتوه!
- العراق وعام جديد , فهل من أمل قريب بالأمن والاستقرار والسلام ...
- موضوعات للمناقشة : هل من صراعات فعلية حول مستقبل العراق الدي ...
- هل لمهزلة العلم البعثي الدموي من نهاية؟
- تركيا والمسألة الكردية والعدوان على العراق!
- متابعة لأحداث سياسية ملتهبة تثير قلق العالم
- هل من مخاطر للتحالف الإيراني – السوري على شعوب المنطقة؟
- المنجزات والواقع العراقي المعاش!
- هل بين القوى الإسلامية السياسية المتطرفة فاشيون؟
- أحذروا النوم على إكليل الغار في بغداد .. ! 2-2
- رسالة ثانية مفتوحة إلى السيد مقتدى الصدر
- أحذروا النوم على إكليل الغار في بغداد .. !1-2


المزيد.....




- أطلقوا 41 رصاصة.. كاميرا ترصد سيدة تنجو من الموت في غرفتها أ ...
- إسرائيل.. اعتراض -هدف مشبوه- أطلق من جنوب لبنان (صور + فيدي ...
- ستوكهولم تعترف بتجنيد سفارة كييف المرتزقة في السويد
- إسرائيل -تتخذ خطوات فعلية- لشن عملية عسكرية برية في رفح رغم ...
- الثقب الأسود الهائل في درب التبانة مزنّر بمجالات مغناطيسية ق ...
- فرنسا ـ تبني قرار يندد بـ -القمع الدامي والقاتل- لجزائريين ب ...
- الجمعية الوطنية الفرنسية تتبنى قرارا يندد بـ -القمع الدامي و ...
- -نيويورك تايمز-: واشنطن أخفت عن روسيا معلومات عن هجوم -كروكو ...
- الجيش الإسرائيلي: القضاء على 200 مسلح في منطقة مستشفى الشفاء ...
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 680 عسكريا أوكرانيا وإسقاط 11 ...


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - كاظم حبيب - لتتسع جادة الحوار الديمقراطي ... ليتسع صدر الإنسان لسماع الرأي الآخر.. أين ألتقي وأين أختلف مع الأستاذ الدكتور سيَّار الجميل ؟ الحلقة الأولى