أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - راندا شوقى الحمامصى - دين الله واحد -النظرة البهائية لمجتمع عالمى موحد















المزيد.....


دين الله واحد -النظرة البهائية لمجتمع عالمى موحد


راندا شوقى الحمامصى

الحوار المتمدن-العدد: 2140 - 2007 / 12 / 25 - 01:52
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


كانت الأديان السماوية عبر التاريخ العامل الأساسي في التنمية الروحية للبشر . وبالنسبة إلى معظم أهل الأرض كانت الكتب المقدسة لكلٍ من هذه النظم الدينية ، حسبما وصفها حضرة بهاء الله " مدينة الأحدية " وهي مصدر تلك المعرفة المحيطة بالوعي إحاطة كاملة ، والتي لها من القوة والسلطان ما يُمكِّنها من أن تُنعم على المخلصين " ببصرٍ جديد ، وسمعٍ بديع ، وقلب وفؤاد جديد "
فهناك تراث أدبي واسع أسهمت في إبداعه كل الثقافات الدينية فسجلت في صفحاته ما مرّت به أجيال متعاقبة من سالكي سبل العرفان من تجارب ، ناقلة إلينا ما شاهده هؤلاء من تجليات الرؤى الغيبية .
فمنذ آلاف السنين إلى وقتنا هذا كانت حياة أولئك الذين استجابوا للإشارات الإلهية مصدرًا للإلهام حقق إنجازات مذهلة في فنّي الموسيقى والمعمار وفنون أخرى ، وإذ بخيرات الروح تلك تعود دومًا حية لتسعد الملايين من إخوانهم في الإيمان ، وليس من قوة أخرى في الوجود استطاعت أن تبعث في النفوس مثل ما بعثته الأديان السماوية من مآثر البطولة ومناقب التضحية بالنفس والانضباط . أما على المستوى الاجتماعي فطالما تُرجمت المبادئ الأخلاقية التي جاء بها الدين إلى قواعد عامة أخذ بها العالم في سّن القوانين لتنظيم العلاقات الإنسانية والرفع من شأنها . وإذا ما نظرنا إلى الأديان الكبرى في نصابها الصحيح نجدها بمنزلة القوة الرئيسية التي تدفع بعجلة التقدم والرقي قُدمًا . وعكس هذا القول يكون بالتأكيد تجاهل لما يشهد به التاريخ .

فهل لنا أن نتساءل إذًا : لماذا لا يقوم هذا التراث موفور الثراء بدور رئيسي في يومنا هذا فيوقظ في النفوس من جديد توخي الحياة الروحية ؟
إلا أنه لابد من الإشارة إلا أنَّ هناك محاولات هامشية صادقة لإعادة صوغ تلك التعاليم التي قامت عليها الأديان كل على حدة . وذلك أملا في جذب الناس إلى الدين من جديد . ولكن يبقى جلُّ هذه المحاولات للبحث عن معنى يحدِّدها متشعب الجوانب انفرادي المنحى ، مشوشًا غير متماسك في طبيعته . فالكتب السماوية المقدسة لم يعتورها أيُّ تغيير، ولم تفقد المبادئ الأخلاقية التي احتوتها أيًا من صدقيّتها ، فما من امرئٍ يتوجه إلى السماء مخلصًا في السؤال إلا ويكتشف – إن ثابر وألح ّ– جوابًا عن سؤاله ، في " سفر المزامير " أو في صفحات " اليوبينشاد " (كتابات مقدسة عن الهندوس ) . وما من أحدٍ تجلى له بعض تباشير الحقيقة المتخطية حدود العالم المادي إلا تأثر تأثرًا بالغًا بكلمات يسوع المسيح : أو بوذا حين يتحدث كل منهما عن هذه الحقيقة حديثًا وديًا حميمًا . ففي نبوءات القرآن الكريم والرؤى الموحى بها عن يوم الدين تأكيد قاطع لمن يقرأها إن الهدف الإلهي عُمدَتُهُ إقامة العدل والإنصاف . أضف إلى ذلك إن حياة الأبطال والقديسين في ما يميزها من خصائص لا تتضمّن اليوم من المعاني والدلائل أقل مما كانت توحي به أثناء حياة هؤلاء في ما مضى من قرون . ومن ثمّ فإن أشد جوانب الأزمة الحضارية الراهنة إيلامًا لمعظم المتدينين هو عجزها عن توجيه مساعي البحث عن الحقيقة الروحية بالثقة المطلوبة وقيادتها إلى دروب الدين المألوفة . والمشكلة طبعًا ذات وجهين . فالنفس الناطقة لا تشغل فقط مجرَّد حيز خاص بها فقط ،بل هي تُسهم أيضًا إسهامًا فاعلاً في نشاطات النظام الاجتماعي . ورغم أن الحقائق التي وصلتنا عن طريق الأديان العظيمة لم ينتهِ أجلها بعد وهي لا تزال صالحة إلى اليوم ، غير أن الخبرات اليومية الفردية في القرن الحادي والعشرين بعيدة كل البُعد ، بصورة لا يمكن تخيُّلها ، عن تلك التي عرفها الفرد ، أكان رجلاً أو امرأة ، في أيٍ من تلك العصور التي شهدت ظهور الهداية الإلهية . فانتهاج الطريقة الديموقراطية في اتخاذ القرار غيَّر طبيعة العلاقة القائمة بين الفرد والسلطة الخاضع لها أيًا كان تغييرًا أساسيًا. وهكذا أخذت المرأة تسعى بكل إصرار ، وهي تزداد ثقةّ ونجاحاً ، في المطالبة عن وجه حق بمساواتها بالرجل في كل الحقوق . ويجب ألا ننسى أن الثورات في العلوم والتقنية لا تحدث تغييرات في ما يسهم به المجتمع فحسب ، بل تُحدث تغييرات في مفهوم المجتمع ، وفي مفهوم الوجود نفسه أيضًا . فانتشار التعليم انتشارًا عمّ العالم بأسره ، إضافة إلى فورة عارمة في مجالات جديدة من الخلق والإبداع ، قد مهَّد السبيل لإيجاد مفاهيم ثاقبة للأمور تحثُّ على حرية التنقل والتحرك في المجتمع واندماج عناصره ، وتخلق تبعًا لذلك فرصًا أمام المواطن للاستفادة منها كل الاستفادة حسبما يُقرّه القانون . فالأبحاث العلمية في مجال الحجيرات غير المُشخّصة ، والطاقة النووية ، وتشخيص الهوية الجنسية للفرد ، وما يكشفه علم البيئة من اضطراب في نظام العالم البيئوي ، وأخيرًا استهلاك الثروة – كلُّ هذه المسائل على أقل تقدير ، تثير قضايا اجتماعية لم يسبق لها مثيل . وهذه التغييرات وغيرها من التحولات التي لا حصر لها والتي أثّرت في كل وجهٍ من وجوه الحياة الإنسانية ، قد جلبت معها عالمًا جديدًا تتعدد فيه الخيارات أمام المجتمع وأفراده كل يوم . إنما الأمر الذي لم يطرأ عليه أي تغيير هو أنه لا مفرَّ من فعل الاختيار خيرًا كان أم شرًا . وهنا بالذات تتمحور أهمية الطبيعة الروحية للأزمة الراهنة . لأن معظم الخيارات التي علينا اتخاذها ليست مجرد قرارات يمكن إجراؤها عمليًا بل هي قرارت ذات صِبغة أخلاقية أيضًا . وبناءً عليه كان فقدان الإيمان بالأديان التقليدية إلى حدٍ كبير نتيجة حتمية للفشل الذي أصاب البحث فيها عن سُبُلٍ جديدة تهدي الناس حتى يتمكنوا من العيش بتوافق مع متطلبات العصر الحديث بكل ثقة اطمئنان .
أما ثاني الموانع أمام عودة النظم الدينية المتوارثة لإرواء غليل الإنسانية الروحي ، فهو نتيجة مظاهر العولمة والمساعي القائمة لخلق عالم موّحد ، سبق أن ذكرناها .
ففي كل جزء من أجزاء الكرة الأرضية يجد أولئك الذين نشأوا في بيئتهم الدينية الخاصة أنهم قد فُرض عليهم التعايش جنبًا إلى جنب مع غيرهم من الذين يدينون بعقائد وشعائر تبدو لأول وهلة منافية لما يدينون به على شأنٍ لا مجال إلى بحثه . ومن الممكن أن تثير مثل هذه الاختلافات، وهذا غالبًا ما يحدث، مواقف دفاعية مضادة ، مضافة إلى مظاهر نِقمة متأججة وصراع مفتوح . بَيْدَ أنه في كثير من الحالات تفضي هذه الأوضاع إلى إعادة النظر من جديد بالعقائد الموروثة ، وتشجيع الجهود المبذولة على اكتشاف المبادئ والمُثُل المشتركة . ومما لا شك فيه أن الدعم الذي تتمتع به النشاطات المختلفة " لحركة تآلف الآديان " يُعزى بقدرٍٍ كبير إلى مثل هذه الجهود المبذولة . وبوجود مثل هذه الاتجاهات لابد من طرح التساؤلات عن تلك العقائد الدينية التي تُحرِّم المعاشرة والتفاهم بين أتباع دين وآخر .
والسؤال الذي يطرح نفسه هو : فإذا كان من الناس من يخالفك العقيدة أصلاً ولكنه على خُلق وفضيلة مشهودين ، فلما الظن أن عقيدتك أنت هي الأفضل والأسمى ؟ وبدل هذا السؤال قد يُطرح سؤال آخر : إذا كانت الأديان السماوية الكبرى تمتلك قيمًا وفضائل أساسية معينة تشترك في الدعوة إليها ، ألا تُشكّل الولاءات المذهبية والطائفية إذًا خطرًا قد يفاقم دعم الحواجز غير المرغوب فيها بين الفرد وجيرانه ؟
وأما اليوم فقليل هم الذين لديهم معرفة موضوعية نوعًا ما بهذه الأمور، ومن المحتمل أن يساورهم الوهم إذًا بأن أيًا من النظم الدينية القديمة القائمة مستتبة الأركان يمكنه أن يقوم بدور المرجع النهائي لهداية البشر في القضايا المتعلقة بالحياة العصرية ، حتى لو كان ذلك في ظروف لا يحتمل حدوثها مثل اتحاد المذاهب المختلفة مع تلك الأديان تحقيقًا لهذا الغرض . فكلُّ دين من الأديان التي يعتبرها العالم أديانًا مستقلة قد سُبكَ في قالب من صنع تاريخه والمصادر الموثوق بها من كتبه المقدسة . ولأنه ليس في مقدور أي دين من هذه الأديان أن يعيد صوغ نظامه العقائدي مستمدًا شرعيته مما أنزله مؤسس ذلك الدين من صدق الآيات ، كذلك ليس في مقدوره أن يجيب بصورة وافية عمّا يُطرح من تساؤلات كثيرة تُثار حول عملية الارتقاء والتدرج في المجالين الاجتماعي والفكري . وبرغم أن هذا الوضع باعث على الأسى والألم لدى كثير من الناس ، فإنه لا يعدو أن يكون مَعلمًا آخر من المعالم المتأصلة في سياق التطور والارتقاء . وأية محاولات ضاغطة لإحداث أي تغيير معاكس لهذا الوضع سوف تكون نتيجته الوحيدة أن يفقد الدين مزيدًا من سلطانه ونفوذه في النفوس ، وأن تتفاقم الصراعات بين فِرق الدين وشِيَعِه .

إن الحيرة التي يواجهها العالم الإنساني هى حيرة مصطنعة ومن صنع أيدينا ، فالنظام العالمي – إن جاز لنا أن نسميه بهذا الاسم - والذي يواصل البهائيون فيه اليوم جهودهم كي يشاطرهم إخوانهم من البشر رسالة حضرة بهاء الله ، نظام حوله من المفاهيم الخاطئة للطبيعة الإنسانية ومسألة الارتقاء والتطور الاجتماعي على السواء . ما تمكنه من تعطيل الجهود الصادقة المبذولة لإصلاح العالم الإنساني وتحسين أوضاعه .
وتنطبق هذه الحال إجمالاً على الفوضى المحيطة بكل وجه من الوجوه المتعلقة بموضوع الدين ، وكي يتسنى للبهائيين تلبية المطالب الروحية لأقرانهم في الإنسانية تلبية وافية ، عليهم أن يفهموا القضايا المتعلقة بهذه المطالب فهمًا عميقًا . وهذا الموقف الذي يتحدى البهائيين لمجابهته يتطلب مجهودًا إبداعيًا يمكن تقديره حق التقدير إذا أخذوا بتلك النصيحة التي لعلها أكثر النصائح التي تُردد بإلحاح وتتكرر في الكتابات المقدسة لدينهم فتذكرهم بأن " يتأملوا " في الأمور و " يتمعنوا " في إبداء الرأي و " يتبصروا " في مختلف الشئون .

من الشائع في الأحاديث العادية بين الناس أنّ المقصود بالدين هو المجموعة الكبيرة من الفِرق والشيع والمذاهب الموجودة حاليًا . وليس من المستغرب أن يثير مثل هذا التعريف الاحتجاج فوارًا فى أوساط أخرى تعتبر أن المقصود بالدين هو واحد أو آخر من النظم العقائدية الكبرى المستقلة التي عرفها التاريخ ، والتي ساهمت في رسم معالم حضارات إنسانية باكملها ، وكانت مصدر إلهامها . بيد أن هذا الرأي بدوره يجد صعوبة في الرد على سؤال لابد من طرحه وهو أين يجد المرء مكان هذه الأديان التاريخية في العالم المعاصر ؟ ويكون السؤال بالدقة : أين الدين اليهودي أو الدين البوذي أو الدين المسيحي أو الدين الإسلامي أو غيرها من النظم الدينية ، إذ من الواضح أنه لا يمكن التعرف إليها من خلال تلك الهيئات والتنظيمات التي تتعارض وتلك الأديان تعارضًا لا سبيل إلى إزالته ولكنها تدّعي التحدث رسميًا بأسمائها ؟ ولا تنتهي المشكلة عند هذا الحد . إذ إن الرأي الآخر ردًا على السؤال سيكون حتمًا بان المقصود بالدين ببساطة هو النهج الذي يتبناه الإنسان في الحياة ، إضافة إلى شعوره بعلاقة تربطه بتلك الحقيقة التي تتجاوز حدود الوجود المادي . وفي هذا الإطار من التفكير يصبح الدين صفة تميز شخصية الفرد ودافعًا لا يخضع لمؤثرات أي تنظيم ، أو يغدو تجربة من التجارب سهلة المنال وعامة الانتشار . ولكن الأغلبية من أصحاب الأفكار الدينية سوف ينظرون إلى مثل هذا الموقف على أنه موقف يخلو من تلك السلطة بالذات التي تفرض الانضباط على النفس ، وينفي وجود أي نفوذ لتوحيد الصفوف وهو الأمر الذي يعطي الدين معناه . وقد يذهب بعض معارضي هذا الموقف إلى الزعم بأن المقصود بالدين عكس ذلك ، إذ هو حسب قولهم يعني منهجًا للحياة يتبناه أُناس من أمثالهم هم ، يتِّبعون أسلوبًا دينيًا صارمًا بما يحتويه من شعائر دينية وطقوس يومية وتعفف وإنكار للذات ، يميزهم عن سائر أفراد المجتمع . فإن هذه المفاهيم المختلفة مشتركة أيضًا ، إذا نظرنا إلى المدى الذي تحاول فيه احتواء ظاهرة متعارف عليها ، ظاهرة لا سبيل للإنسان إلى نيلها إطلاقًا ، ولكنها تصبح تدريجيًا حبيسة حدود مفاهيم من وضع الإنسان ، أكانت هذه المفاهيم تنظيمية أم لاهوتية ، أم تجريبية ، أم شعائرية .
إن تعاليم حضرة بهاء الله تمر عبر هذه الآراء المتناقضة مختصرة الطريق فتأتي بصياغات جديدة لكثير من الحقائق التي كانت ، جوهر الوحي الإلهي ظاهرًا أم باطنًا. ورغم أنه لا سبيل لأي إنسان أن يحيط إحاطة كاملة بما يقصده حضرة بهاء الله ، فإنه يوضح لنا أنّ أي محاولة لتحديد الحقيقة الإلهية أو الإشارة إليها في الكتب اللاهوتية والفقهية أو في العقائد المذهبية إنما هي من قبيل خداع النفس: { ومن الواضح لدى أولي العلم والأفئدة المنيرة ، أنّ غيب الهوية وذات الأحدية كان مقدسًا عن البروز والظهور ، والصعود والنزول والدخول والخروج ، ومتعاليًا عن وصف كل واصف وإدراك كل مدرك }
فالواسطة التي أبدعها خالق كل شيء ليتفاعل مع خلقه في أطوار التقدم والنمو هو ظهور أصحاب النبوة الذين بهم تظهر صفات الحقيقة الإلهية المُنزهة عن الإدراك: { ولما كانت أبواب عرفان ذات الأزل مسدودة على وجه الممكنات لهذا باقتضاء رحمته الواسعة.... قد أظهر بين الخلق جواهر قدس نورانية من عوالم الروح الروحاني على هياكل العز الإنساني ، كي تحكي عن ذات الأزلية وساذج القدمية . }

إن تجرأ أحدٌ فى الحكم على رُسُل الله ممجدًا أحدهم على الآخر ، سيكون ذلك بمنزلة استسلام لذلك الوهم المضلل بأن صاحب الديمومة المحيط بكل شيءٍ خاضع لنزعات البشر وأهوائهم الطارئة في ما يفضلونه . وبهذا الصدد يُعبِّر حضرة بهاء الله بصريح البيان قائلاً : { إن من المعلوم والمحقق ... أنّ جميع الأنبياء هم هياكل أمر الله ، الذين ظهروا في أقمصةٍ مختلفة ، وإذا ما نظرت إليهم بنظرٍ لطيف لتراهم جميعًا ساكنين في رضوان واحد ، وطائرين في هواء واحد ، وجالسين على بساطٍ واحد ، وناطقين بكلامٍ واحد ، وآمرين بأمرٍ واحد . }

وبعد كل هذا سيكون من الغرور أيضًا أن يظن أحد أن في الإمكان – أو أن هناك حاجة إلى – تحديد طبيعة هذه النفوس الفريدة في قالب نظريات مستقاة من تجارب العالم المادي . ومن ثمّ يشرح حضرة بهاء الله ما تعنيه عبارة " معرفة الله " مبينًا أن هذه المعرفة هي معرفة مظاهر مشيئته وصفاته ، وهنا تتصل الروح اتصالًا وثيقًا بالخالق المُنزّه عن الوصف والإدراك ، ويعود حضرة بهاء الله ليصف المظاهر الإلهية مؤكدًا : { وأشهد أن بجمالك ظهر جمال المعبود ، وبوجهك لاح وجه المقصود . }
فإذا تيسر لنا أن نفهم الدين حسب هذا الاعتبارتستيقظ في النفس الإنسانية إمكانات لا يمكن تصورها . فبقدر ما يتمكن الفرد من معرفة كيف يستفيد من نِعم الظهور الإلهي التي أغدقها الله على العصر الذي يعيش فيه ذلك الفرد ، تغتني طبيعته على نحوٍ تصاعدي بما يُسبغ عليها من صفات العالم الإلهي ، وحسبما تفضل حضرة بهاء الله : { حتى يتعلم الناس جميعًا في ظل شمس الحقيقة ، ويفوزوا بذلك المقام الذي استودعه الله في حقيقة ذواتهم ...... } وبما أن هدف الإنسانية هو السعي الدائم " لإصلاح العالم " وخلق مدنيّة دائمة النمو والتطور، فالقوى الخارقة التي يمتلكها الدين ليس أقلها قدرته على تحرير نفوس مؤمنيه من قيود الزمان نفسه ، وباستطاعته أن يبعث فيهم روح البذل ، فيقدموا التضحيات لتخدم أجيالاً متعاقبة من المؤمنين قرونًا متتالية في المستقبل . والحق يقال إن الروح خالدة ، ولهذا السبب أنها إذا استيقظت فإنها سوف تدرك جوهر حقيقتها ، فيمنحها ذلك قوة وقدرة ليس في هذا العالم فحسب ، بل عبر تلك العوالم الغيبية الأخرى بصورة أكثر مباشرة ، وذلك بهدف دفع عجلة التطور والتقدم والرقي . ويؤكد لنا حضرة بهاء في ذلك فيتفضل قائلاً :
{ إن ما تشرق به تلك الأرواح هو سبب ترقي العالم وعلو شأن الأمم ... فالأشياء كلها لها أسبابها ودوافعها ، والسبب الأعظم في تحريك العالم هو هذه الأرواح المجرَّدة .... }

ومن ثمَّ فإن الإيمان دافع قوي لا تخمد جذوته بالنسبة للإنسانية التي وصفها أحد مفكري العصر الحديث من ذوي الشأن بأنها " إنسانية تعي في ذاتها معنى التطور والرقي . " فإذا ما سُدَّ الطريق أمام الإنسان ليُعبِّر تعبيرًا طبيعيًا عن إيمانه فإن ذلك سيدفعه إلى ابتداع صوامع للعبادة تُلبي لديه دافع الإيمان واليقين إلى حدٍ ما ، وقد تكون هذه الصوامع إما وضيعة أو غير لائقة ، والدليل القاطع المؤسف على ذلك تؤكده لنا أحداث القرن العشرين ، فالإيمان دافع لا يمكن أن يُحرم منه الإنسان .
ويمكننا القول باختصار إنه خلال تتابع الظهورات الإلهية ، فإن المصدر النابع منه نظام المعرفة الذي ندعوه الدين يقيم الدليل على صدقية ذلك النظام وخلوّه من المتناقضات التي تفرضها الطموحات الطائفية والمذهبية . فكل مظهر إلهي إنما يؤدي وظيفته وهو يتمتع بسلطته واستقلاله ولا يخضع لأي حكم أو اختبار . ودور كل مظهر من المظاهر الإلهية يُمثِّل مرحلة من مراحل الظهورات اللامتناهية لتلك الحقيقة الواحدة التي لا رديف لها . وبما أنّ الهدف من تتابع المظاهر الإلهية حثّ البشر والإهابة بهم لإدراك ما يتمتعون به من قدرات ويتولَّون من مسئوليات بصفتهم أوصياء مؤمتَمنين على الكون ، فإن تتابع المظاهر الإلهية لا يعني مجرد تكرار لما سبق ، بل تحرك إلى الأمام نحو مزيد من التطور والتقدم ، ولن يتم تقدير هذا التتابع تقديرًا كاملاً إلا إذا نُظر إليه من خلال هذا السياق .

ففي هذه المرحلة المبكرة من تاريخ دينهم لا يمكن للبهائيين الزعم بأي شكلٍ من الأشكال أنهم أدركوا الحقيقة الكامنة في الظهور الإلهي الذي يقوم عليه دينهم إلا إدراكاً جد ضئيل لا أكثر . فبالإشارة إلى تطور الأمر الكريم وتقدمه مثلاً يذكر ولي أمر الله شوقي أفندي ما يلي : { إن كل ما يمكننا أن نُقدِم عليه هو محاولة بذل قصارى الجهد لنفوز بلمحة خاطفة لتباشير ذلك الفجر الموعود الذي سوف يبدد عند تمام الوقت الظلام الذي أحاط البشرية بأسرها . }
وبغض النظر عما تبعثه هذه الحقيقة من شعورٍ بالتواضع ، فإنها تُذكِّرنا دومًا بأن حضرة بهاء الله لم يأت إلى الوجود بدين جديد ليقوم إلى جانب تلك النظم الطائفية والمذهبية مختلفة الأنواع والقائمة في ذلك الوقت ، بل جاء ليصوغ مفهوم الدين صوغًا جديدًا معتبرًا إياه الحافز الأساسي لتنمية الوعي الإنساني .
وبما أن الجنس البشري بكل تنوعاته جنس واحد ، فإن الواسطة التي يُنمّي الله بها ما يتميز به الجنس البشري من خصائص العقل والقلب ، هي أيضًا واحدة . ومن تجود به هذه الواسطة من أبطال إنما يُمثِّلون أبطال كل مرحلة من مراحل الكفاح الإنساني وقدِّيسيها ؛ وكل إنجاز يتم تحقيقه يُمثِّل إنجازات كل تلك المراحل . ولقد كان هذا هو الأُنموذج الذي مثَّله حضرة عبد البهاء في حياته ونشاطاته وهو النموذج الذي يتمثل اليوم في الجامعة البهائية التي أصبحت وريثة تراث البشرية الروحي وهو تراث في متناول أيدي سائر سكان الأرض دون أي تمييز . إن الدليل تلو الدليل المتكرر دوريًا على أن الله موجود ، معناه إذًا أن الله سبحانه وتعالى ، ومنذ غابر الزمان ، يعود إلى إظهار نفسه باستمرار. أو بمعنى أوسع ، طبقًا لما يوضحه حضرة بهاء الله فإن الظهورات الإلهية ليست سوى مشاهد الملحمة العظيمة للتاريخ الديني للجنس البشري تنفيذًا لبنود " الميثاق ". والميثاق هو الوعد الإلهي المتين الذي قطعه خالق الوجود كله وأكد فيه للبشر أن الهداية الإلهية الضرورية لنموهم الروحي والأخلاقي لن تتوقف ، ودعاهم أيضًا إلى استيعاب هذه القِيم والمُُثل والتعبير عنها بالعمل . وللمرء مطلق الحرية في أن ينكر الدور المتميز لهذا الرسول الإلهي أو ذاك ، وإذان كان هذا هو قصده يمكنه أن يعتمد في ذلك على التفاسير المبنية على النظرية القائلة إن للتاريخ منطقًا خاصًا خاضعًا لقوانين طبيعية وله أطوار كلُ منها قائم بذاته . ولكن مثل هذه التكهنات لاتساعد على توضيح ما تم من نمو الفكر الإنساني وتطوره ، وما حدث من تغييرات في العلاقات البشرية ذات ضرورة ماسة بالنسبة لمسيرة التطور والارتقاء الاجتماعي . لقد شهدت فترات نادرة من الزمان لدرجة يمكن عدّها على أصابع اليد ، ظهور المظاهر الإلهية ، فقد كان كل واحد من هذه المظاهر واضحًا كل الوضوح في ما يختص بالتعاليم التي جاء بها ومدى سلطتها ونفوذها ، وقام كل واحد منه أيضًا بالتأثير في تقدم الحضارة ورُقيّها بصورة لا مثيل لها ولا يمكن مقارنتها بأي ظاهرة أخرى من من ظواهرالتاريخ ، ويشرح حضرة بهاء الله ذلك فيتفضل قائلاً : { لاحظوا أنه حين ظهور المظهر الكلي ، وقبل أن يكشف ذات القِدم عن نفسه وينطق بالكلمة الآمرة ، كان الله عليمًا بكل شيء ولا من يعلم ، وكان الله خالق الوجود كله دون ان يكون هناك من مخلوق . }
للتعليق راسلنى على:
[email protected]



#راندا_شوقى_الحمامصى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفارق بين الحق و الباطل
- هوّ ربنا خلقنا ليه؟؟؟؟؟؟؟-هدف الله من خلق الخلق
- نحو إقتصاد عالمى أفضل من خلال الرؤى البهائية
- الكلمات المكنونة
- لوح أصل كل الخير
- مكانة المرأة ومساواتها بالرجل
- هذا بلاغ للعالمين -يوم الله
- المراتب السبعة للسالكين إلى الوطن الالهي من المسكن الترابي
- الوديان السبعة-رحلة الروح من عالم الوجود إلى عوالم القرب لله ...
- وثيقة ازدهار الجنس البشرى-الجزء الرابع والأخير (4)
- البهائيون من يكونون
- ازدهار الجنس البشرى-الجزءالثالث(3)
- تاريخ الأديان
- وثيقة ازدهار الجنس البشرى -المقال الثانى
- رسالة إلى قادة الأديان فى العالم
- ازدهار الجنس البشرى-الجزء الأول
- رقيّ العصر الحاضر
- يوم جديد وحضارة جديدة ونهار لا يعقبه ليل
- يوم جديد ونور شديد وحضارة جديدة ونهار لا يعقبه ليل
- عالم واحد والبشر سكانه


المزيد.....




- مشاهد مستفزة من اقتحام مئات المستوطنين اليهود للمسجد الأقصى ...
- تحقيق: -فرنسا لا تريدنا-.. فرنسيون مسلمون يختارون الرحيل!
- الفصح اليهودي.. جنود احتياط ونازحون ينضمون لقوائم المحتاجين ...
- مستوطنون يقتحمون مدنا بالضفة في عيد الفصح اليهودي بحماية الج ...
- حكومة نتنياهو تطلب تمديدا جديدا لمهلة تجنيد اليهود المتشددين ...
- قطر.. استمرار ضجة تصريحات عيسى النصر عن اليهود و-قتل الأنبيا ...
- العجل الذهبي و-سفر الخروج- من الصهيونية.. هل تكتب نعومي كلاي ...
- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - راندا شوقى الحمامصى - دين الله واحد -النظرة البهائية لمجتمع عالمى موحد