أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عفيف إسماعيل - حوار مع الشاعر المصري حسن بيومي















المزيد.....



حوار مع الشاعر المصري حسن بيومي


عفيف إسماعيل

الحوار المتمدن-العدد: 649 - 2003 / 11 / 11 - 02:57
المحور: مقابلات و حوارات
    


*المثقف هو كل من يهتم بهموم الوطن وقضاياه
* فالمطلوب الآن من المثقفين والفنانين أن يباعدوا المسافات بينهم وبين السلطات، وأن يقتربوا أكثر وأكثر من الناس فربما يتولد الفن الحقيقى، وتنطلق من هذه المعاناة شرارات الغد الأجمل.


* ولو عاش المثقفون بين الناس غير خائفين ومحتملين ما تجلبه لهم مواقفهم من متاعب، لعجزت السلطة عن الفتك بالأحرار والمناضلين،
* وأيضا ليس دور الشاعر هو التغنى ببرنامج الحزب، أى حزب، أو الدفاع عن الزعيم والقائد
* كثيرا ما كان يسألنى أمل دنقل:
 "أيهما في نظرك الأكثر شاعرية في مصر أحمد حجازى أم صلاح عبد الصبور؟" وأقول له مازحا "بل أنت!".
 أعتقد أنى لو رأيت مصطفى سيد أحمد  لتفجر في قلبى ينبوع الفن، وصارت كلماتى أشعارا، وأحزانى ألحانا.
* قصائد الشاعر السوداني أزهرى محمد علي ، جعلتنى في حالة صافية من النشوة، حيث صورها الشعرية التى تحتضن السماوى والأرضى.. المادى والروحى، وتتسلل إلى أعماق الروح السودانية حيث تستجلب من هناك كل ما هو تلقائى وطازج.. كل ما هو سحرى وعميق.. وتستقطر من كل هذا أبياتا تنضح بالنشوة والنقاء، وتدفع إلى الصعود نحو الآفاق العليا للإنسانية.
* صنع الله اختار أسلوبه الخاص جدا للتعبير عما يريد..

ذات نهار من خواتم العام 1986م كنت في زيارة الفنان المبدع مصطفي سيد أحمد فور وصولي أعطاني مجلة مفتوحة علي نص شعري وقال:
- أرجو أن تقرأ هذا النص
تناولت المجلة منه، ومضي هو إلي الغرفة الأخرى . نظرت إلي عنوان النص وجدت موسوماً بـ ( ثلاث ورقات من أشجار يحي) بخط عريض وأقصي يسار الصفحة أسم الشاعر حسن بيومي لم يلفت انتباهي الاسم لأنها المرة الأولي التي أجد بها نصاً للشاعر، قبل أن أقرأ النص عدت إلي غلاف المجلة فعرفت بأنها كتاب غير دوري باسم خطوة العدد الثالث وهو خاص عن القاص المصري الراحل يحي الطاهر عبد الله ويحتل منتصف الغلاف بورتريه له، وقد كنت أسم الأساطير عن يحي الطاهر عبد من الصديق الكاتب أيوب مصطفي وهو يحكي حكايات عنه علي لسان أصدقائه الطلاب السودانيين الدارسين بمصر.
    عدت إلي النص بمشاعر ضدية الحزن العميق عندما تحس بغياب مثل هذا الكاتب مبكراً،ونفوري التلقائي من النصوص الرثائية، قرأت جزءاً  النص ثم انصرفت منه
إلي الفهرس ، اخترت موضوعاً للأستاذ صلاح عيسي بعنوان (دقات جنائزية علي دفوف الستينات) استغرقني تماماً بملامحه البانورامية المتدفقة التي مازجت بين سردية قصصية وتأملات صحفية بينها فواصل تقنية لحرفية كاتب دؤوب يمازج بين الذكريات  والحاضر، والماضي والراهن في إتلاف بديع صرت أقرأ:
( مات الطاؤوس المشاغب، أمير الحكي ونديم الحي، المتقمص العظيم، المتلون كالطيف، المتعدد كريش الطاؤوس، الغماز، اللماز، الهجاء، الغضوب، المتشاجر مع ذباب وجهه،طفل البراري أبن الموت الذي عمل لدنياه دائما كأنه يموت غداً)
  عاد الأستاذ مصطفي سيد احمد وسألني هل أكملت قراءة النص؟
فأجبته بأنني لا أحب النصوص الرثاء عموماً، ومفتتح النص لم يكن جاذب بالنسبة لي وعادية ليس بها جديد نوعي تتكئ علي ما سبق من شعر وتقتات منه ويتجلي ذلك من عنونة النص التي تجتهد كثيراً فاقترفت أسمها من نصوص يحي المغرم بالثلاثيات مثل ( الثلاث ورقات، ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالا، الموت في ثلاث لوحات) وأكثرت من الأوصاف السالبة تجاه النص، فقال لي:
- أكمل النص وبعدها نتناقش، وجلس أمامي ينتظرني
بدأت القراءة بضجر بصوت مسموع ، فقد كنت أتلهف لكي أسمع بعض الأغنيات منه، أسجلها للمشروع التوثيقي الذي كنت بدأته معه قبل مدة قصيرة. وعندما وصلت إلي هذا الجزء من النص:

يراقصني عجاج البحر
ترعد داخلي الأمطار
يكلمي تراب الأرض
يشدد قلبي الأوتار
أغنيكم
أغني جذوة النار التي فيكم
والعن ذلك البرد المدثر  روحكم
برماد موتاكم

لا شعورياً وقفت وصرت أستعيد هذا المقطع مراراً إلي أن أكملت إلي خواتم النص، وأحسست بالعذوبة والانبهار ، فقلت للأستاذ مصطفي سيد أحمد :
من( يراقصني عجاج البحر) توجد شعرية ، فأدار جهاز تسجيل أنطلق منه صوته النبي الذي به علي كل مرارة الأزمان نستعين:

وأبني في عيون الشمس مملكتي
 تناديكم
نسوراً تعشق الترحال في الآفاق
تبغي الكون حرية
فأن شئتم
تعالوا الآن نرقص رقصة البدء
ونعلم أن نمد الكف نحو الشمس بالدفء
تعالوا أيها الجوعي
تعالوا أيها الفقراء

ضجت أعماقي بالنشوة والانبهار والذهول من جمال اللحن الذي أشعل طاقات المعني الكامنة ومددها إلي أقاصي الشموس البعيدة، قبل أن أفيق قال الأستاذ مصطفي سيد احمد:
- إن لم تكمل ما قراءت لا تقل رأياً
    وتعلمت في ذاك اليوم درساً في تربية الذائقة الشعرية لم لن أنساه في التقصي  للنص الشعري إلي خواتمه، المفاجأة العظمي بالنسبة لي عندما عدت له بعد أسبوع لنستكمل مشروع التوثيق كانت أ(غنية عجاج البحر ) المجتزأ من ( ثلاث ورقات من أشجار يحي) للشاعر المصري حسن بيومي ،مكتملة اللحن وتبدأ من مقطع يراقصني عجاج البحر.
   عندما حضرت إلي القاهرة بحث طويلاً عن الشاعر حسن بيومي الذي تحول نصه الشعري إلي أغنية أصبحت هي النشيد الشعبي المعبر عن كافة همومنا، وكنت أسأل علي طريقة السودانيين كل مهتم بالشعر وأجد الإجابة بالنفي، ونصحني الصديق مجدي النعيم المتبع للحركة الثقافية المصرية جيداً والمقيم بالقاهرة منذ سنوات طويلة بالسؤال عنه وسط أبناء جيله فتلك هي عاداتهم ، فتوجهت بالسؤال إلي أحد أبناء الجيل الذي يليه وهو الشاعر الصديق حلمي سالم فدلني كيف أجده،
       فوجدته متقد الحيوية مهموم بقضايا الوطن الصغير والكبير، بل أممي النزعة، ما زال قابض علي جمر تخل عنه الكثير من المبدعين التقدميين المصريين، وفي سبيل الدفاع عن الحرية والديمقراطية دفع الثمن غالية سنوات من عمرة في فترة الستينات  كان احد ضحايا التعسف الناصري فكان لي معه هذا الحوار التالي الذي استعاد أسئلة قديمة تتجدد:


 
 
 أنت ابن جيل الستينيات المميز ، حدثنا عن أهم ملامح جيلكم وهمومه الثقافية .

• في الحقيقة، أنا لحقت بمن سبقوني من مثقفي الأربعينيات، و بشكل عام , أنا ضد تحديد ووصف التيارات الثقافية بالمجايلة فهي بطبيعتها متداخلة ومتواصلة..
 في طفولتي كنت أحفظ القرآن والأشعار والأغاني, وأقرأ أحيانا عن الحرب العالمية الثانية في بعض الصحف التي كان يحضرها والدي, وعندما جئت إلى القاهرة لأواصل تعليمي في المرحلة الثانوية, لأنه لا تِوجد مدرسة ثانوية بالقرب من قريتنا, كانت حرب 1948 بين الصهيونية وبين مصر والعرب, فأنا ابن الريف وافد على المدينة دفعته ظروف ذاتية وموضوعية للتواصل مع جيل سابق له..
هذا الجيل ورث وشارك في نضال الشعب المصري ضد الاستعمار الإنجليزي ومن أجل الحرية والاستقلال.. كانت الساحة السياسية في نهاية هذه الفترة – أقصد الأربعينيات- تمور بالتيارات السياسية المتصارعة , من أقصى اليمين المتمثل في الإخوان المسلمين مرورا بالتيارات الوطنية مثل الوفد، والاشتراكية متمثلة في حزب مصر الفتاة وصولا إلى التنظيمات الشيوعية العديدة.
الحوارات السياسية كانت هي اللغة اليومية بين الفئات الشعبية المختلفة، وعندما ألغت حكومة الوفد الأخيرة في عام 1951 معاهدة 1936 استعرت حدة هذه الحوارات في الشارع المصري المتفجر, وفي صحافة تلك الأيام التي كانت تتصارع وتتحاور بحرية صاخبة وترفع الشعارات السياسية الراديكالية , في ذلك الوقت كانت هناك بدايات جديدة لأدب جديد في القصة والرواية والشعر, أدب يواكب نضال الفئات الشعبية ويحاول أن يعكس تطلعاتها نحو التحرر من الاستعمار والصهيونية ونحو بناء مجتمع أفضل. كان هناك وعي يتبلور تجاه العداء للإمبريالية الأمريكية التي تحاول أن ترث الإمبراطورية البريطانية التي بدأت تغيب عنها الشمس. وكان هناك ميل شعبي نحو الإعجاب بالاتحاد السوفيتي والتجربة الاشتراكية, التناقضات صارت في غاية الوضوح: فقراء وأغنياء, فلاحون وإقطاعيون, عمال ورأسماليون, خدم وباشوات, وطبقة وسطى مأزومة ومطحونة يبحث مثقفوها عن مخرج لهم, إما بالتحالف مع الفقراء أو بالجري وراء الأغنياء. في تلك الأيام وبعد أن ترددت عدة مرات على مركز الإخوان المسلمين، في آخرها قابلت عند عودتي من يحاورني ويدخل معي في نقاش طويل عن الإمبريالية والحروب والاستغلال الرأسمالي والصراع الطبقي والاشتراكية والعدالة والعمال والفلاحين وضرورة التحرر من الاستعمار, وكان ليلا طويلا سرنا فيه على أقدامنا ساعات وساعات وأخيرا أعطاني هذا الصديق بعض المنشورات وحدد لي موعدا للقاء. فتح لي هذا الحوار وذاك اللقاء كوة في الجدران التي تحاصرني وتضغط على وجودي, باختصار كان كثير من مثقفي هذا الجيل يضغط عليهم الهم العام وكانوا دائمي البحث عن الانتماء لقضايا الوطن والشعب, كانت مظاهرات الطلاب والتلاميذ والعمال تكاد تكون يومية في شوارع القاهرة وفي كثير من المدن, والجميع يبحثون عن طريق وعن أسلوب جديد للحياة, وعن آفاق أخرى غير تلك التي عاشها الشعب فيما بعد ثورة 1919.
 صرت أقرأ بنهم أكثر كل ما يقع تحت يدي, دائم البحث عن الكتب في المكتبات, عند الأصدقاء وفوق أسوار حديقة الأزبكية, حيث الكتب القديمة التي لعبت دورا أساسيا في تثقيف هذا الجيل, والنهم للقراءة والشغف بالمعرفة كانا محور حياتي, فقد حفظت القرآن كله وأنا في السابعة, ونلت جائزة عشرة جنيهات في منتصف الأربعينيات وجودت تلاوته وقرأت الكثير من الكتب وحفظت الكثير من الأشعار الصوفية, حيث كان لي عم يهتم بهذه القصائد لأنه ينتسب إلى إحدى الطرق الصوفية, وكان أميا, يأتي لي بالقصائد لأقرأها له فيحفظها بل وينشدها. وطوال المرحلة الابتدائية كنت طفلا تركبه العفاريت كما يقولون, عيناي تلتقطان كل ما حولى , في القرية, في المدرسة, في الشارع بل كنت مشاكسا أيضا, أتحاور مع من هم أكبر مني وأجادلهم فينبهرون, وكان كل هم والدي في الحياة أن يصنع مني إنسانا متعلما، فقد كان أزهريا تمرد على الأزهر وهو في العشرين من عمره عقب ثورة 1919 وآثر العمل بالتجارة, والتأمل في الحياة, لكنه حشد كل طاقاته ليجعل مني "إنسانا متعلما".
عندما جئت إلى المدينة كنت محتشدا بقدر هائل من الثقافة السلفية قرآنا ودينا ولغة وشعرا وأمثالا وحكما, بل وحواديت وأساطير, وهذا هيأ لي بسهولة مكانة وسط زملائي في المرحلة الوسطى من التعليم, بل وأتاح لي فرصا أوسع في التعامل مع الفئات الأخرى في مجتمع المدينة, حيث كنت واثقا من نفسي جسورا, بل وكما قلت سابقا مشاكسا. ومثل كثير من أبناء هذا الجيل اشتركت في المظاهرات, وحلمت بالثورة على النظام الملكي, وعلى الإنجليز والباشوات.
 في الصخب الشعبي الهادر بعد إلغاء معاهدة 1936 وجدت نفسي منضما لإحدى المنظمات الشيوعية, وأصبح المطروح علينا.. هل نتوجه كفدائيين لقتال الإنجليز في القناة كي نحرر الوطن من الاستعمار؟ " هذه معركة وهمية على من أشعلوها القيام بمتطلباتها, فلا ينبغي أن نسمح باستشهاد أشرف أبناء الشعب من المناضلين في معركة غير متكافئة", واحتدمت الأفكار واشتعل الصراع بين المنظمات الشيوعية المختلفة, وكان لي أساتذة في المدرسة شيوعيون يحبونني ويشجعونني ويمدونني بالكثير من الكتب, بل ويتعاملون معي بندية, في ذلك الوقت كتبت الشعر, شعرا رومنتيكيا ثوريا.... ولكن سرعان ما انتهى هذا السيناريو بحريق القاهرة في يناير 1952, وسادت الأحكام العرفية وتم إقالة الوفد, وجاءت حكومات السراي والأقلية تتوالى الواحدة بعد الأخرى.
كان حريق القاهرة هذا – من وجهة نظري- تجسيدا للنار المضطرمة في نفوس الشعب المصري, وتعبيرا عن أحلامه الثورية المقهورة التي لم يتحدد لها الطريق بعد لأن قيادات التيارات الوطنية والشيوعية برغم كل التضحيات كانت بعيدة عن الارتباط بالجماهير, صار حريق القاهرة هذا هو الكابوس الذي جثم على صدور القوى الفاعلة في الشعب, وهيأ المسرح بعد شهور قليلة للانقلاب العسكري في 23 يوليو, وبذا تم إجهاض الحلم بالثورة الشعبية التي راودت الشعب على مدار السنوات الماضية وكنت أنا مع من سبقوني واحدا ممن ساروا خلف راياتها وتغنوا بها ولو كنت في آخر الطابور. هذه هي بداية التشكل مع الجيل الذي لحقت به, وتلك هي الملامح الأساسية لهذا التشكيل , ومن هنا ومع انقلاب يوليو 1952 بدأت الهموم, وبدأ الثقافي لدي يقوم بالدور الأهم, فكان اهتمامي بالفن والقراءة والبحث والتأمل والمشاركة الجماهيرية في الجماعات الثقافية والنوادي الأدبية.

 المثقف والسلطة؟

• المشكلة هى في تحديد من هو المثقف! هل هو كل روائى أو قاص أو شاعر؟ هل هو كل مترجم أو ناقد أدبى أو كاتب؟ هل هو كل باحث في أى مجال من مجالات المعرفة الإنسانية التى صارت اليوم متشعبة ومتخصصة لأبعد الحدود؟ هل هو كل أستاذ في أى كلية من كليات الجامعات المختلفة؟ هل العالم مثقف؟ وهل الموسيقار أو الفنان التشكيلى مثقف؟
هناك من يعتبر أن كل هؤلاء مثقفون، ولكن هناك تعريفا أكثر تحديدا للمثقف.. وهو اعتبار أن المثقف هو كل من يهتم بهموم الوطن وقضاياه ويتنازل جزئيا عن الاهتمام بمصالحه الشخصية وذاته المتضخمة من بين كل هؤلاء أو حتى لو لم يكن من بينهم، إنه يمكن أن يكون من المهنيين أو العمال أو الفلاحين أو أى شريحة من شرائح المجتمع الطبقى، وبذا يصبح المثقف حالة خاصة.
وهذا النوع من المثقفين في ظل مجتمعنا الحالى صار قليل العدد لأن تشكل هذا النوع من المثقفين، في العالم الثالث أو العالم النامى أو النائم، يستلزم شروطا ليست متحققة في هذا العالم النامى. هذه الشروط هى الحياة الديمقراطية الكاملة وتحقيق الحرية في المجتمع بكافة أشكالها وخلق حوارات حية بين كافة فصائله تسعى إلى أن تتشكل في جماعات مستقلة أو جمعيات ثقافية أو تيارات متحاورة أو متصارعة داخل النقابات والجمعيات المختلفة وأخيرا في أحزاب سياسية.
ومن هنا يصبح المثقف منتميا فاعلا متحاورا، يتبنى كل ما يقوله من أفكار وما تعبر عنه جماعته، ويتنامى وعيه بذاته وبمجتمعه وبعالمه. أما "المثقف" الذى يحفظ كتبا ويردد أفكارا ويرطن بلغات مختلفة وأكليشيهات محفوظة وجمل مبتورة، ويتكلم مع زميله بتعال، ويحدث قطيعة مع مجتمعه ، وشيئا فشيئا تتضخم ذاته وتصبح هى محور اهتمامه، منفصلا بها عن الواقع الاجتماعى؛ فمصالحه الشخصية هى هدفه، ومن هنا يقترب مما يحقق له أهدافه ويتحسس طريقه نحو ما يلبى له مطالبه (التى لا تنتهى بالطبع)، وبذا يبدأ "متبرعا" بالدفاع عن "لا شىء"، ومتحمسا لأفكار لا يؤمن بها، ومدعيا مواقف لا يقوم بها، ومهاجما لأفكار ربما آمن بها ذات يوم، لكى يبدو أمام الجميع حاملا للبراءة من أى شبهة للمواقف والأفكار المناهضة للسلطة والتى حتما تؤدى به إلى "الطريق الخطأ".
وهذا المثقف هو ضحية المجتمعات الديكتاتورية والانقلابات العسكرية التى علمت الناس الصمت والسير بجوار الحائط، بل السير داخل الحائط نفسه، لذا فهو من هؤلاء الذين يستمرئون الخوف ويبغون السلامة ويتشممون الطريق إلى المنافع المادية التى تحققها لهم السلطة "مؤقتا"، ولكنه يبغى استدامة هذه المنافع، فيتنازل أكثر وهو يتشمم ما ينبغى أن يقول، فيتعرى ككلب أجرب ولكنه يرتدى ويركب أحسن الموديلات ويأكل أشهى المأكولات. وكلما ازداد وجهه لمعانا وسمنة ازداد بريق عينيه انطفاء وتقيح جوفه، فلا يبقى له إلا المزيد من التنازلات لأنه فقد القدرة على السير في الطريق الأخر، وخاصة أن هناك من يتنافسون معه، وربما يقدمون للسلطة أفضل مما يقدمه؛ ومن هنا كان أيضا السقوط الأخلاقى والانحطاط المهنى ، بل وأحيانا البوليسية وكتابة التقارير في الأصدقاء والزملاء، والله أعلم!
لقد صار هذا النوع من المثقفين أكاذيب تتدحرج على أرض الواقع ككرات الثلج، كلما تقدمت تراكم الثلج عليها وازداد حجمها. ولكن القمة ليست في حاجة إلى كل هذه الأكاذيب أو الكرات الثلجية، أو هذا النوع من المثقفين، ولهذا لا تتحقق أحلام الكثيرين منهم، فيسقطون فى هوة الاكتئاب والتشوش والابتذال...
إن المثقف، بطبيعة تكوينه، انتهازى حامل للأفكار وطارح للأسئلة ومجيب على التساؤلات، لأنه يحمل في "حقيبته" الكثير من المعرفة والإلمام بالنظريات والإحاطة بما أنجزته الإنسانية في المجالات المختلفة على مدار التاريخ كله سواء كان حضارة أو ثقافة، ولذا فهو يستطيع أن يقول وأن يبرر وأن يبرهن، فهو يملك المعرفة، لكن المعرفة لا توجد في فراغ أو خارج الزمن أو الناس – المعرفة طبقية وهى بطبيعتها صراعية، تحتمل أكثر من وجهة نظر وتحتمل الخطأ و الصواب وتتطلب التطوير الدائم. ومن هنا كانت ضرورة وجود المثقف المنتمى، أما المثقف اللامنتمى واللاملتزم والذى سبق الكلام عنه، فهو قادر على أن يبرهن على صدق أى شىء وأن يحول الأكاذيب إلى حقائق (من وجهة نظره) وأن يقدم خدماته لكل زبون على حسب احتياجاته، فهو هنا بائع، شعاره هو الشعار الرأسمالى الفج "الزبون دائما على حق". ومن هنا كانت بهلوانية هؤلاء المثقفين وزيفهم وخواؤهم... هؤلاء هم مثقفو السلطة الساعون إليها والراضية عنهم.
ولكن يبقى الشق الآخر من السؤال... ما هو موقف المثقف الحقيقى من السلطة؟
المثقف الحقيقى ليس بهلوانا وليس بائعا في متجر... الثقافة اختيار، والمثقف الحقيقى هو من يختار الموقف أو المواقف، فالمجتمع به فقراء وأغنياء، سادة وعبيد، ظلمة ومظلومون، قاهر ومقهور، غالب ومغلوب...
أنت مع من؟ أنت ضد من؟ أنت مع ماذا وضد ماذا؟
من هنا كان الاختيار، والاختيار صعب: فمن يختار الجانب المغلوب والمقهور والمظلوم والفقير عليه أن يدفع الثمن.. عليه أن يسدد كل الحسابات المطلوبة للسلطة، والسلطة دائما هى سلطة الأقوى، والفقراء والمهمشون في العالم مازالوا هم الأضعف. فالسلطة لها سلطان، وهى تريد النظام والهدوء وراحة البال، لكى يتمكن السادة من استغلال العبيد، ويُحسن القاهر تضليل المقهور، ويجيد الظالم فن قيادة المظلوم، وأخيرا لكى يغنى الأغنياء أغانيهم والفقراء يرددون، لكى يدوم الحال ويروق البال.
المثقف الحقيقى أيضا له اختياره ليس مع السلطة، مهما كانت هذه السلطة، إنه مع الإنسان ، مع تلك النفحة الإلهية المتجسدة على الأرض، مع حق هذا الإنسان في العدل، في الحرية، في السكن الملائم، في الطعام المناسب... ضد الجوع والفقر والتهميش والتعذيب والذل والتضليل، مع أرقى درجات المعرفة للناس جميعا، مع تطوير الحياة لتتسع للجميع رجالا ونساء، شيوخا وصبيانا...
الحياة موقف أو مواقف، وحياة الإنسان فوق الأرض، بطبيعتها، محدودة. ولو عاش المثقفون بين الناس غير خائفين ومحتملين ما تجلبه لهم مواقفهم من متاعب، لعجزت السلطة عن الفتك بالأحرار والمناضلين، ولصار الإنسان أبدع وأروع مما هو عليه الآن، ساعتها سيمتلك ذاته ومصيره ويناضل ضد كل ما هو قبيح فيه وفى الواقع، ويسعى إلى كل ما هو جميل ورائع.
وإذا كان للسلطة "سلطان"، فإن للمثقف الحر أيضا سلطانا... وقديما قالها الحلاج، ورددها من بعده إبراهيم بن أدهم، وهم يعايرونه بملابسه المهلهلة وطعامه الفقير وهو القادر أن يملك الكثير والكثير لو وقف على باب السلطان... ماذا قال الحلاج؟ "إننى في سعادة لو عرفها السلاطين لقاتلونى عليها بحد السيف". نعم، فإن المثقف الذى يملك إرادته ووعيه ويحدد مواقفه، ويتبرأ من أن يكون مهلِّلا للسلطة أو مطبِّلا للقاهرين، أو مزيفا أحلام الفقراء للسلطان، ومبررا له القتل والاستبداد، هذا المثقف هو أيضا الذى  يمتلك السعادة التى لا يعرفها أبدا هؤلاء "المحشوون بالقش والغبار" كما يقول الشاعر ت. س. إليوت... إنه يمتلك ذاته، يشعر بكينونته، لأنه حدد مكانه ووهب نفسه لاختياره رغم كل الإغراءات... صحيح أن هذا صعب في ظل المجتمعات التى نحيا فيها، وفى ظل الثقافات الاستهلاكية الرأسمالية الطاغية على المجتمع، وفى ظل تزييف الوعى الإنسانى وتحويل البشر إلى سلع، وفى ظل الحراك الاجتماعى الذى يسمح للبعض من أبناء الوطن الفقراء أن يصبحوا مالكين وأغنياء بطرق ملتوية وأساليب غير واضحة، وكل ما لديهم من أفكار وتساؤلات هو كم يساوى هذا المثقف وما مقدار ما يمتلك من نقود أو يحوز من ممتلكات.
وكم هو اختيار صعب وقاس جدا! ولكن متى كان يسير التاريخ، بل الحياة نفسها، دون تضحيات ودون آلام، بل وأحيانا كثيرة، دون دماء...
ومن هنا كان على المثقف، في نظرى، أن يكون بعيدا عن السلطان، أى سلطان، فاتحا عينه على مثالب السلطة وعيوبها ليكشف زيفها لكل من يستحقون في نظره أن يعرفوا الحقيقة.
الثقافة الحقيقية تكره سلطان السلطة، ومأساتنا الحقيقية طوال التاريخ العربى أن ثقافتنا سلطوية، وأن السلطة هى التى تشكل وجدان مثقفيها وتحولهم إلى بهلوانات يتقافزون على درجات سُلَّمها كى يحتل الأبرع منهم الموقع الأكثر قدرة على التضليل والتزييف والتبرير والتلفيق بل وأحيانا التهجيص (!) ليؤمموا شعوبهم لصاحب السلطة والسلطان.
ومن هنا فأنا أدعو وبشكل ملح، وأحرص قدر الإمكان، في أى فعل ثقافى أقوم به أن أكون مستقلا عن السلطة... في المجلات التى شاركت فيها، في كتبى التى قمت بترجمتها أو بتأليفها...أحيانا يقوم رجال السلطة بمحاولة اقتناص المتمردين، وذلك بطبع بعض كتبه أو نشر مقالاته في صحفهم. وهنا، على هذا المتمرد المستقل أن يعى جيدا أن هذا لن يدوم إلا لفترة تراهن عليها رجالات السلطة، أن يستسلم المتمرد لهذا الوضع وأن يسير في الركب بعد أن تعود على عطاياها. ولذا فإن المثقفين إذا شاءوا أن يلعبوا دورا فاعلا في مجتمعاتهم عليهم أن يتعلموا أولا الاستقلال عن السلطة والسلطان والسلطنة والتسلط والسُّطَل... إننى هنا لا أدعو لمقاطعة وزارة الثقافة، فهى تمول من دم الشعب، ولكن من الممكن التعامل معها... فقط بوعى وبقدرة على الاختيار، لأنها هى أيضا في حاجة إلى أن تبرئ نفسها أحيانا تجاه المثقفين الحقيقيين!

 جدلية العلاقة بين الثقافى والسياسى؟

• في الكلام عن دور المثقف تكلمنا كثيرا عن الثقافة والثقافى والمثقفين، وطرحنا تساؤلات عن ماهية المثقف ودوره سواء كان سلطويا أم شعبيا. ومن هنا تبرز أهمية الثقافة ودورها وعلاقتها بالسياسة. الثقافة كما قلنا هى المعرفة، والمعرفة تعنى الوعى بالواقع والفعل فيه والتفاعل معه. والمعرفة أيضا لا حدود لها، فهى كالبحار والمحيطات تبدأ بنقطة وتمتد لمساحات وأحجام هائلة، بل وتصعد إلى السماء حيث الأمطار والعواصف، وحيث حركة الأرض والكون ودورة الفلك. المعرفة هى محاولة الإحاطة بكل ما أنجزته البشرية على امتداد الزمان وفوق كل مكان، وهى بطبيعتها معقدة لأنها تضم معارف مختلفة وثقافات لأماكن متباينة وأزمنة متوالية عبر التاريخ، وفى جانب منها تعبر عن طبقات مختلفة ومصالح متضاربة وتناقضات أحيانا دموية، ومن هنا يأتى دورها السياسى، فالثقافة ليست للمتعة الشخصية والاستهلاك الذاتى...
الثقافة في جانبها الفنى، سواء كانت شعرا أو رواية أو قصا أو فنا تشكيليا أو سينما أو مسرح أو حتى موسيقى، هى محاولة للتعبير عن الذات التى هى بالطبع لا تحيا في الفراغ.. الذوات تعيش موضوعيا في أماكن محددة وفى أزمنة معينة معروفة بين جماعات لها احتياجات متحققة بشكل كامل أو جزئى أو غير متحققة على الإطلاق...
 مطالب الأفراد والجماعات غير محدودة ومتجددة مع تجدد الواقع وتتطلب جهدا لتحقيقها ونظما لإشباعها، أى تتطلب أساليب عمل وعلاقات عمل تضمن لها الحياة والحرية والعمل والإنتاج... باختصار، هنا الفنان، أى فنان، هو نتاج لكل هذه الشروط، وهو أيضا معبر عنها وعن معاناة من يعيشونها، وعن معاناته هو شخصيا ورؤيته لواقع هذه الشروط ووقعها على المجتمع والأفراد باللغة أو الموسيقى أو الشعر... الخ.
ومادام الأمر كذلك فالسياسة ستصبح، شئنا أم أبينا، جزءا من المضمون الفنى بتشكلاته المختلفة، سواء كان الفنان ملتزما أم  غير ملتزم، واعيا أم غير واع، لأنه باختياره لموضوعه الفنى قد اختار موقفا وحاول التعبير عنه كما أوضحنا سابقا.. ربما كان الأمر أكثر تعقيدا بما يحاول كل فنان أن يستخدمه من أشكال وحيل فنية للوصول إلى التعبير بشكل أكثر جمالا، من وجهة نظره، عما ينتمى إليه.
أما الثقافة في مجالات وحقول المعرفة الأخرى كالفلسفة والسياسة والاقتصاد وعلم النفس والتاريخ والعلوم الاجتماعية... الخ، فهى تتماس مباشرة، بدرجة أو بأخرى، مع السياسة سواء كانت بأشكال واضحة أو بأشكال ترتدى الأقنعة برغم أنها تدعى الحيادية... إن هذا النوع من المعرفة يقدم ثقافة "سياسية". ومن هنا نستطيع أن نقول إن الثقافة لها علاقة قوية جدا بالسياسة، فالثقافة، بصورة أو بأخرى، هى انعكاس لسياسة معينة.
السياسة ليست شيئا مشينا للمثقف كما يدعى بعض المثقفين المهزومين أو مثقفو السلطة، وهم يمارسون السياسة خدمة للسلطان، لكنهم دائما يلوكون عبارة " الثقافة ثقافة والسياسة شىء آخر".
لكن السياسة لها جانبان: جانب نظرى فنى ثقافى وجانب عملى حزبى نقابى جماهيرى... الخ. قد يلتقى الجانبان في واحد، وقد لا يلتقيان ويظل كل مثقف ممارسا لأحد الجانبين، ولا عيب في ذلك... فقط على السياسى أن يبحث دائما وأبدا عن الثقافى لكى يتمكن من القيام بدور أكثر فعالية في الواقع.
أما الثقافة بجانبيها الفكرى والفنى فهى، بدرجة أو بأخرى، تعبير سياسى عن معارف وعلاقات إنسانية، وليس معنى ذلك أن الثقافة هى السياسة أو السياسة هى الثقافة، فلكل منهما استقلاليتها ولكل منهما ارتباطها بالأخرى.
وهنا لا بد من كلمة هامة: إن نصيب مجتمعنا من الثقافة الإنسانية ضئيل للغاية لأن نظم التعليم والمعرفة والإعلام تعمل على خدمة مؤسسات ماضوية الفكر والرؤية، وتدعى أن الماضى كان أجمل أيام التاريخ، وذلك لأنها أعجز من أن تقوم بعملية شحن وعى الجماهير بالمعرفة الحقة والثقافة الحرة خشية أن تتسلح هذه الجماهير بالوعى فتزلزل هذه المؤسسات القائمة على الفساد والرشوة والنفاق والتزوير.. هذا مرتبط، كما قلنا سابقا، بعجز "سلاطيننا" المتواتر عن القيام بأى دور نهضوى أو تنويرى أو علمانى، ناهيك عن القيام بأى دور ثورى، فالسلاطين أو السلطة تجد راحتها في بؤس الوعى لدى أبناء الوطن وفى فقر رؤاهم وتزييفها كى يظلوا "سائرين نياما" طيبين لا يعون ما حولهم ولا يدرون... فالسلاطين يعرفون أنه حيث تسود الثقافة الحرة تنشط السياسة الحرة، وهم لا يريدون لا هذا و لا ذاك.. فنمو الوعى يؤدى إلى أن يعرف المواطن ويكشف نظامه المؤسس على الفساد بما يشمله من استغلال ورشوة ولصوصية وبلطجة وتزوير في الإرادات والانتخابات وإفساد متعمد لكافة المؤسسات وإهدار للطاقات والحريات الإنسانية وانتقاص دائم من حقوق المواطنين في تعليم جيد وسكن رخيص وأجر كاف وطعام صحى ودواء للمريض وثقافة حرة وإعلام بعيد عن التزييف، ولذا كانت مهمة الدولة في بلداننا هى الاهتمام بالثقافة البديلة.. الثقافة القائمة على تزييف وعى المواطن وتهميشه وتشظيه، بل واغترابه عن وطنه وطبقته ونفسه.. ثقافة تقوم على البهرجة والزواق والتلميع، على المؤتمرات والمهرجانات والكرنفالات .. ثقافة سياحية مهمتها عرض الوطن للبيع بالدولار، بأرضه وناسه وتاريخه وحضارته كى يزداد اللصوص ثراء ويزداد الفقراء فقرا!

 الشاعر والالتزام السياسى؟

• السياسة ليست عارا، على الفنان أن يتجنبه... نعم، هى كلمة سيئة السمعة في مجتمعاتنا، حيث لا يرى الفرد منها غير شرورها وغير قبحها، أو نفعيتها وربحيتها لمن يمارسونها من الحكام والسلاطين وأمرائهم وأنجالهم وأتباعهم.
لكن السياسة، كما سبق القول، هى جانب من جوانب الثقافة، فهى التى تحدد للناس كيف يحيون، وترسم لهم أساليب المعيشة وسبل النجاة أو الهلاك في المجتمع.. فهى التعليم والصحة والزواج والمسكن والطعام والرقص والغناء، بل هى المسجد والكنيسة أيضا... أى أنها باختصار هى متطلبات الروح والجسد.. هذا هو سلطان السياسة على الفرد وعلى الجماعة، سواء أدركوا ذلك أم جهلوه، وسواء رضوا أم كرهوا.. ومن هنا لا مهرب لأى ذات واعية مثقفة من الوعى العام بالسياسة وتأثر الفن والثقافة بها.
والشاعر قديما كان صوت الجماعة وضميرها ومنشد أحلامها وأوجاعها، أفراحها وأحزانها، وكان التلقى والاستجابة عبر الوسيط اللغوى المنتج من هذه الجماعة عبر صيرورتها التاريخية... لكنه الآن، في المجتمع الرأسمالى، أصبح فردا، ذاتا متشيئة مغتربة، توهمه ثقافة العولمة المهيمنة، أو الثقافة العميلة، أن خلاصه يكمن في الجسد /الجنس، أو الروح/ الصوفية المنغلقة أو الانطوائية، والتعبير عن هذا بلغة خاصة مصمتة عارية من أى وشائج اجتماعية ومنبتة الصلة بالواقع الجمعى وبآمال الوطن وآلامه ومعاركه وأحلامه التى صارت هذه الثقافة "العولمية" تعمل على تهميشها بل وتحطيمها، وتسخر منها مدعية أن التاريخ وصل إلى نهايته بالرأسمالية والإمبريالية الأمريكية، وأنه لا طريق إلا الخضوع لقوانين الزيف الرأسمالى، ولا أمل في التغيير بالثورة، ما دامت كل الثورات من أجل الإنسان قد فشلت وتحولت إلى نظم معادية له، قاهرة لوجدانه، سواء كانت هذه الثورات اشتراكية أم وطنية أم قومية... هكذا تنزع كل المقولات من سياقاتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بقصد، ودون أى تحليل واع للظروف التى أنتجتها... أى استخدام نواتج التاريخ لهدم التاريخ!
وللأسف فإن الكثير من شعرائنا في مصر، وفى المجلات العربية والنفطية، وقعوا فريسة لهذه المفاهيم، وصارت قصائدهم ألغازا لا يقوى على حلها أو فهمها أعتى المثقفين، أو نمنمات لفظية أو أرابيسكات لغوية تقوم بدور تلطيخ الصفحات البيضاء بالحبر الأسود وإصابة المتلقى بالعجز وفقدان الثقة...
هل هذا هو دور الشاعر؟
بالقطع لا، وأيضا ليس دور الشاعر هو التغنى ببرنامج الحزب، أى حزب، أو الدفاع عن الزعيم والقائد، أو النقد السياسى المباشر لتصرفات السلطة اليومية والمناداة بالتغيير... الخ.. هذه الأكلشيهات التى دشنتها ثقافات السلطات التى ادعت الثورية ذات يوم، ثم إذا بنا نكتشف أنها خانت الثورة والثقافة والإنسان، زاعمة أن هذا هو الالتزام في الفن وأنه هو التعبير الثورى عن الجماهير. لكن الأمر كان عكس ذلك تماما... "فالفن" الذى تبنى هذه الشعارات كان مصيره مزابل التاريخ، لأنه في الحقيقة لعب دورا معاديا للثورة وللإنسان، حيث إنه قام بدور تزييف الوعى، شأنه شأن الثقافة العولمية الآن، وشأن أى ثقافة رجعية أخرى في التاريخ الإنسانى، ولم يبق للإنسانية إلا الفن الجيد.
الشعر، بل وكافة الأشكال الفنية الأخرى، هى تعبير عن حياة وعن وطن وبشر وعن آمال وآلام وأحلام وعذابات يعيشها الوطن ويعيشها البشر في حياة متغيرة دوما، وفى إطار ظروف متناقضة ومتصارعة وإرادات متشابكة وذوات واعية أو مغيبة.. بشر عبر عمليات تاريخية متواصلة، نتاج لظروف جيدة أو رديئة، لثقافات منغلقة أو منفتحة، لأسر متفاوتة في درجات الوعى والثقافة والتربية نتيجة لأوضاع طبقية/مجتمعية لا إرادة لهم فيها.
فالشاعر أو الفنان لابد أن يحيط معرفيا بكل هذه المستويات، وأن يلملم شذرات الواقع ويتفحصها ويتأمل أبعادها، ويشارك بروحه الملتهبة بالتمرد وبالرغبة في التغيير إلى الأفضل وإلى الأجمل والأكمل، وأن يسهم بأمانيه المستقلة بالسعى الدائم نحو الصعود بالنسبى إلى المطلق، أى نحو اكتمال الحرية والتخلص من الضرورة ونحو الرقى الإنسانى المتخلص من الأورام الذاتية التى سكنته لظروف موروثة عبر التاريخ الإنسانى، نحو الوصول إلى الاكتمال الروحى للإنسان المغترب والمتشيئ في عالم زائف وقبيح. على الشاعر أن يمد بصره في كل الآفاق، وأن يتحسس طريقه الفنى عبر الآلام والمذابح اليومية التى يعانى منها البشر، وأن يلتحم بجماعته ليعى ذاته، لا أن يغرق جماعته في مستنقعات الذات، وأن يعبر عن هذا كله بأدواته الفنية التى يجيدها وبلغته التى هى إبداع الجماعة عبر التاريخ والآن وفى المستقبل.
هذا هو الالتزام الحقيقى في الفن، وفى الشعر خاصة، وهذا هو الفن الحقيقى.. فالفن الجيد هو، قبل كل شىء، إبداع من الإنسان عن الإنسان من أجل الإنسان.

 أنت أحد ضحايا فترة التعسف الناصرى واعتقلت لسنوات طويلة... حدثنا عن أحلامك الثقافية في فترة الناصرية وعن المشروع الذى افترس أكثر المدافعين عنه.

• انقلاب يوليو 1952بالنسبة لى كان زلزالا... لأننى كنت قد بدأت التعرف على طريقى الحقيقى فى الارتباط بالناس في المدرسة، في القرية، في القهاوى، في الجمعيات الأهلية، بل وفى المنظمات الثورية. وكنت، تحديدا، قد أصبحت ممتلكا لرؤية.. رؤية قد تكون حالمة، ولكنها مشتعلة بالحماس والتمرد والرغبة في التواصل بل والذوبان مع الناس، والجنون بالمعرفة ومحاولة التسلح بها إلى أبعد الحدود. وكان الانقلاب والموقف العسكرى القمعى من تحرك العمال في كفر الدوار، وبدأ الصراع بين فصائل اليسار... هل هذا انقلاب وطنى أم عميل..؟
الكلام صار بحساب، والمواقف ترددت، وحالة انتظار طويلة تفشت بين المثقفين.. وانفجرت الأوضاع في مارس 1954، وظهر الوجه الكريه للديكتاتورية القائمة على تزييف وعى الجماهير وسحب الأرض من تحت كل القوى الوطنية الديمقراطية والاشتراكية والشيوعية والإسلامية، وكان رحيلى إلى الفلاحين متأثرا بالأفكار المادية العلمية التى آمنت بها.
انقلاب يوليو لم يأت بأى شىء جديد، كل شعاراته كانت مرفوعة في الأربعينيات: تحقيق الجلاء، تحديد الملكية الزراعية، تأميم قناة السويس، معاداة الأحلاف العسكرية، إقامة صناعة وطنية، الدفاع عن الطبقات الكادحة، زيادة أجور العمال، تخفيض ساعات العمل، التأمينات الاجتماعية والصحية... كل هذه الشعارات كانت مطالب جماهيرية قامت من أجلها المظاهرات، وسجن من أجلها المئات، وتاريخ هذه الفترة في الصحافة المصرية خير شاهد على ذلك.
جاء عبد الناصر ورفع هذه الشعارات بعد أن أفرغها من مضمونها الشعبى والجماهيرى والنضالى.. قدمها كمنحة من الآلهة للجماهير الغفيرة المنتظرة حول المعبد، بعد أن حرَّم على هذه الجماهير أن تستشعر، ولو لحظة، أن هذه المطالب وتلك الشعارات هى نتاج تفاعل الأجداد والآباء والأبناء مع الواقع، وأنها كتبت بدماء الأحرار من مناضلى هذا الشعب هى وغيرها من الشعارات المرفوعة، وبدأت السجون تفتح أبوابها لاستقبال الإخوان المسلمين والشيوعيين والطليعة الوفدية... الخ. فيجب ألا يكون هناك صوت ولا حركة إلا صوت الزعيم الذى ضمن للفقراء، في المدينة، بعض المساكن وحدا أدنى للأجور، وكمم الأفواه، فصار كل واحد يقول للآخر: لا تتكلم في السياسة وإلا ستذهب وراء الشمس، وبذا ضمن "تأميم" المدينة لصالح الانقلاب. أما الريف، فقد أجج الصراع والكراهية بين حلفاء الأمس من الفلاحين الفقراء والمالكين الصغار للأرض الزراعية، وبذا ضمن "تأميم" الريف المصرى أيضا لصالح الانقلاب... وصارت شعارات الأمة العربية والقومية العربية بديلا لمشروع أيزنهاور لملأ الفراغ فى الشرق الأوسط (!)
وكانت الوحدة الفورية مع سوريا، رغم كل المعارضين لها والمتحفظين على شروطها الفورية، بل إنه اعتبر هؤلاء المعارضين" خونة ومارقين ومضللين للشعب وعملاء"، ثم كانت قمة العداء والحرب ضد الشيوعية من يناير 1959 إلى نوفمبر 1964!
وبعد أن استوى على العرش ومكن لنفسه وتمكن من الناس، بعد أن تم تفريغهم وتزييف وعيهم وإعادة صناعة عقولهم، كان من الضرورى أن يملأ هذه الفراغات، وأن يحشو الأدمغة بشىء آخر. بعد هزيمة مشروع الوحدة مع سوريا، كان التوجه نحو صناعة الانقلابات المؤيدة في العالم العربى، فكان انقلاب اليمن، وبعد الهزيمة النكراء أمام إسرائيل، كانت انقلابات السودان وليبيا، بل والانقلابات في أفريقيا.. انقلابات عسكرية ديكتاتورية سارت على نهج انقلاب يوليو في سياسة قمع الجماهير وتضليلها وتدجينها ومحاولة سحبها من الأرضية التى تقف عليها القوى الوطنية والديمقراطية والشيوعية، لتقف في الساحات هاتفة لجلاديها ومردِّدة الشعارات عن بطولات الزعماء الذين صنعتهم الصدف أو الظروف التاريخية أو الصراع بين القطبين العالميين... ورفعت الجماهير يديها مستسلمة لأقدارها الزائفة... هل كانت قوى الإمبريالية تحلم بشىء أكثر من هذا؟   
كنت في ذلك الوقت أتممت تعليمى في 1958، وكنت من 1954أعمل مدرسا في المدارس الابتدائية بالريف، وهذا كان اختيارا منى للعمل وسط الفلاحين، وهناك ظللت أعمل لمدة خمس سنوات بين الفلاحين في عدد من القرى المحيطة بقريتنا، وتكونت حركة عامة واسعة بين الفلاحين وأبنائهم، وهناك توجهوا للقبض على في مارس 1959، وهربت فترة طويلة، واعتقلت بعدها على ذمة قضية من 1961 إلى نوفمبر 1964. الأحداث كثيرة، ولا يمكن الإحاطة بها هنا في هذا المجال الضيق... كنت في ذلك الوقت أيضا أكتب الشعر وأنشره في مجلة الرسالة الجديدة والآداب البيروتية.
حقيقة، أنا لم أكن ضمن المدافعين عن مشروع عبد الناصر أبدا... بعد حل الحزب الشيوعى فى مارس 1965، حاولت أن أقوم بدور ديمقراطى وسط الفلاحين في قرانا، حيث كان هناك كثير من الزملاء والمناضلين، وحققنا بعض الانتصارات، وكانت الملاحقات والمتابعات. بعد هزيمة 1967، تمكنت من إسقاط أحد الضباط "الأحرار" في الانتخابات، وكان يزعم أنه يجلس على قرى المركز بمؤخرته وكأنها كرسى مريح. وصرت عضوا في المؤتمر القومى للاتحاد الاشتراكى بعد معركة طويلة ومضنية من رفع العزل السياسى، ثم عضوية الاتحاد الاشتراكى، ثم سحب هذه العضوية عندما علموا بنيتى في الترشيح، ثم منحى العضوية تحت ضغط جماهيرى عال، ثم القيام بتزوير الانتخابات ضدنا كتقدميين، ولكننا تمكننا من خلال الجماهير إثبات هذا التزوير بالنيابة العامة، وأعيدت الانتخابات مرة أخرى، فحقق التقدميون نجاحهم الباهر فيها.
وكانت صيحتى في جلسة افتتاح المؤتمر في 23 يوليو 1968، عندما بدأ الأعضاء في ترديد الهتاف لعبد الناصر... "قفوا حدادا على أرواح  شهدائنا في سيناء وفلسطين أيها الراقصون هنا... إن أرواح شهدائنا تبصق في وجوهكم...." (الأهرام.. 24 يوليو 1968).
 أما أن عبد الناصر بمشروعه قد افترس أكثر المدافعين عنه – وهم هنا مسئولون عن خيباتهم – ففى الحقيقة مشروع عبد الناصر لم يفترس المدافعين عنه فقط، بل أصاب أبناء الوطن كله بالعار والهزيمة والبحث عن التبريرات الكاذبة، بل وافترس، أول ما افترس، روح هذا الشعب، وأصاب كل شعوب المنطقة بخيبة الأمل واللاجدوى، ومازلنا ندفع الثمن غاليا حتى اليوم، وبعد وفاته بما يقرب من 35 عاما، وسندفع أكثر ثمن خيبات هذا المشروع وهزائمه التى تجسدت قبل كل شىء في افتراس روح الشعب وحقه في النضال الديمقراطى الحر من أجل حياة حرة كريمة. كل هذا من أجل أن يقوم بتأسيس مجتمع مصرى لا مبال ولا منتم، يعيش الهزيمة ويلوك الثقافة السلفية المرة التى اتسعت سيطرتها على أيدى هذا المشروع، بما يسمى بتطوير الأزهر، وصارت هذه الثقافة – التى حارب عبد الناصر جناحها السياسى المتطلع للسلطة والمتمثل في الإخوان المسلمين- بديلا لكل النضالات الديمقراطية الوليدة التى بدأت بثورة 1919، وكان من الممكن أن تتطور إلى ما هو أفضل بمجتمعنا، ولكنها فوجئت بقاطعى الطريق وبلصوص الثورات... إننا وبعد أكثر من خمسين عاما من مشروع عبد الناصر من الممكن أن يقوم الأمريكان والصهاينة باحتلالنا بحجة أنهم يريدون أن يعلمونا الديمقراطية (!) بعد أن عرفنا الديمقراطية وعايشناها وناضلنا من أجلها ما يقرب من قرن منذ إرهاصات حركة عرابى مرورا بثورة 1919 حتى انقلاب يوليو 1952.

 هل لديك تجربة الكتابة في الزنزانة؟
• نعم... مادمت تعيش بالكتابة وبالفن فسوف تكتب في أى مكان وجدت فيه، حتى لو كان هذا المكان هو المشنقة، فالكتابة والقراءة هى صورة الوجود الحقيقى للإنسان. والزنزانة مكان جيد للكتابة بالنسبة للمناضل خاصة إذا كان حظه أن تكون زنزانة انفرادية، وأنا، لظروف صحية، اخترت أن أعيش في زنزانة انفرادية معظم سنوات السجن.
كتبت عشرات القصائد لم ينشر منها إلا القليل فيما بعد، وضاع منها الكثير في عمليات التفتيش اليومية التى كانت تجرى في السجن. كتبت أيضا ملحمة شعرية أو، كما سميتها، "رواية شعرية" كان عنوانها "قباب ومداخن" وهى تطول لأكثر من ثلاثة آلاف بيت يتحول فيها البطل أو الراوية أو المنشد من فتى ريفى محمل بثقل الثقافة الماضوية/السلفية والتراث المتخلف إلى مناضل من أجل التغيير، وذلك من خلال لوحات شعرية تربو على الثلاثين...
تحمس لهذا العمل الفنان المخرج كمال يس في منتصف الستينات، وأراد أن يخرجها، وقام ببعض بروفات القراءة فعلا، ولكن الرقابة والتنظيم الطليعى رفضا ذلك، كما قال لى.
كان هذا العمل، بعد أن كتبنا منه عددا من النسخ، يقرأ في الزنازين وفى الندوات التى تقام في المناسبات المختلفة داخل السجن.. وكثير من الزملاء كانوا يرددون لوحات من صورها الشعرية وأبياتها وأحداثها، فالبطل في هذا العمل هو الواقع بكل ما فيه من حركة ومن تناقضات ومن أحلام وأوهام وصراع بين الأفكار والأشعار.

 الذكرى العشرون لرحيل الشاعر أمل دنقل؟

• بعد مرور عشرين عاما على رحيل أمل الشاعر، رأى المجلس الأعلى للثقافة أن يقيم احتفالية لهذا الفنان العظيم من 18-21 مايو 2003، واستحضر لها العديد من المتحدثين من مصر ومن خارجها. هل كان الدافع إلى هذه الاحتفالية هو الاحتفال بهذا الفنان من قبل المؤسسة الرسمية ومحاولة وضع صورته على جدران متحفها الرسمى كيلا يقال بأن المؤسسة/السلطة لا تعطى هذا الفنان حقه من التكريم والاحتفاء، وهو الذى كان دائما معارضا لها، متمردا عليها، كاشفا لجبروتها وهزائمها وانكساراتها، فلم تستطع أبدا أن تستوعبه وتضعه على حجرها أو توظفه لخدمتها؟
والسلطة دائما تحب أن ترى الاتساق والتجانس والانسجام والتلاؤم والتكيف في المجتمع ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا وفنيا... الخ. وهذا التجانس غير موجود في الواقع، لذا فهى تكره أن ترى أقطابا للتناقضات أو الصراعات، فالمفروض أنها قادرة على استيعاب هذا المجتمع والتعبير عنه.. هذا من وجهة نظرها طبعا.
وبعد خصام دام أكثر من أربعين عاما مع أمل دنقل الفنان، منها عشرون عاما قضاها مبدعا وعشرون عاما في الرحيل، فاجأتنا مؤسسة السلطة بالاحتفاء بشاعرنا أمل دنقل وكأنها استكثرت على الجماعة أن يكون لها شاعرها المستقل والمعبر عنها، أن يكون لها هذا الشاعر الفارس... "من قال لا في وجه من قالوا نعم"... هذا الشاعر الصارخ في البرية، المتأمل في الخراب، المفكر في فساد بنية أنظمتنا، الرائى الملتهب العينين، الخاسر دائما، والغريب وسط أشكال التخلف والقمع والاستسلام... هذا المتمرد الأبدى الرافض أن يكون شاعرا بسيطا يوزع كالأرغفة والحلوى والكوكاكولا على الجماهير كشعراء المناسبات والبلاط.
تعرفت على هذا الشاعر "المسلوخ حيا" بعد خروجى من السجن، وبعد قليل صرنا أصدقاء بكل معنى الكلمة، نتقابل كثيرا ويأتى لزيارتى في شقتى المتواضعة لنمكث أياما.. فأمل لم يعرف الاستقرار في شقة خاصة، دائم الترحال والسفر من مكان إلى آخر، كثير التردد على الحانات وعلى القهاوى والبانسيونات، والسير في الشوارع ليلا حتى الصباح، غير راغب في أن يكون له بيت أو أسرة أو وظيفة، فهو لا يملك إلا فنه وعليه أن يحميه من كل من يبغى تدنيسه.. وفعلا أمل لم يعرف الاستقرار إلا بعد المرض اللعين وبعد أن عرف الاستقرار في المستشفيات.

 بينك وبين أمل دنقل كثير من الود والصداقة.. حدثنا عن "أمل" الإنسان والشاعر خارج النص.

• ما يمكن أن يقال عن أمل كثير وكثير، فصداقتنا استمرت منذ منتصف الستينيات. كان أمل إنسانا بسيطا في ملبسه لأبعد الحدود، فلم أره مرتديا بدلة كاملة أبدا طوال هذه الفترة: القميص والبنطلون، والبلوفر في الشتاء، ربما يأخذ البنطلون من أحد الأصدقاء أو قميصه أو بلوفره ولا يشعر بأى حرج من ذلك.. المهم أن يكون صديقا حقيقيا له.. مشكلة الأكل والطعام لم تؤرقه إطلاقا، فقد كان يعيش أحيانا على الكفاف طالما ليس في جيبه نقود.
كان شديد الثقة بنفسه يشعر بتعاطف إنسانى شامل لحاجات الناس البسيطة وحقهم في الحياة الملائمة ولكنه كان عديم الثقة في كثير من المثقفين... مرة قال لى تعليقا على هؤلاء القصاصين – يقصد جيل الستينيات – إنهم يحدثون ضجيجا هائلا وليس لهم من طحين..
يكتب القصيدة مرات ومرات ويعود إليها وينقحها ويقرأها للمقربين إليه ويسمع النقد ويتناقش وربما يصر حينها على رأيه، ولكن، وبعد فترة، تجده قد أجرى تعديلات في القصيدة كان يعارضها قبل ذلك، ويقر بفضل من اقترح عليه هذه التعديلات. كان يقرأ كل ما تقع عليه عيناه ويحفظ كثيرا من الشعر والأساطير والحكايا... وكان ينأى بنفسه أن يدخل في المعارك الصغيرة بينه وبين زملائه وأصدقائه.. ولا يحب أن يدخل في شىء يشغله عن القصيدة التى يفكر فيها.. ورغم قلة إنتاج أمل، إلا أنه كان يفكر في اليوم الواحد بعشرات القصائد.. يهم بالكتابة ويمزق الأوراق.. يقرأ ويدندن ويحفظ ثم يقول " إنى أردد نغمة سبق أن كتبها الشاعر فلان"...
كنا نتبادل المودة والفرح كثيرا، وكان يقول لى "أجمل ما فيك هو قدرتك على الانفصال عن السلطة وعدم سعيك، بل ورفضك، لكل محاولاتها لاحتوائك، رغم ما تعيشه من ظروف قاسية... أنت إنسان جميل، محب للبشر... ما رأيتك أبدا مجالسا للكومسيونجية والسماسرة"، وكثيرا ما كان يسألنى "أيهما في نظرك الأكثر شاعرية في مصر أحمد حجازى أم صلاح عبد الصبور؟" وأقول له مازحا "بل أنت!".
في منزلنا لم نكن نتوقف عن الجدال والحوار والمناقشات والحكايا وقراءة الأشعار والسخرية من بؤس حياتنا أحيانا وقلة مواردنا.. فكنت أقول له يكفى ما لدينا من أحلام وما نملكه من أمنيات.. فيضحك ويقول "سنتعشى الليلة بكيلو من الأمنيات وبأربعة أحلام!"
ومازال في الحقبة الكثير ولكن هذا ما أستطيع أن أقوله الآن عن أمل.

 ذات العلاقة الحميمة كانت تجمعك مع القاص الراحل "يحيى الطاهر عبد الله"...

• كان يحيى الطاهر عبد الله الوجه الآخر لأمل، وكان بينهما الكثير من الحب والزمالة بل والنقار... نفس الحدة ونفس التمرد والاعتداد بالنفس والثقة الزائدة عن الحد إلى درجة أن يسميها البعض غرورا.
لكن يحيى كان كثير الهرج، بينما أمل كان كثير الصمت، وكانت تجمعنا أحيانا أماكن اللقاء المختلفة أو شقتى المتواضعة...
تزوج يحيى مبكرا بداية السبعينيات، لكن حياته الصاخبة وتمرده وعدم قدرته على الانضباط زرعت أشواكا جديدة في حياته الأسرية، وكان يترك البيت بالأسابيع مترددا على الحانات والأصدقاء والندوات الثقافية ودور الصحف يقرأ قصصه على المحررين... كان يحكى القصة أحيانا ثم يقدمها مكتوبة للمحرر، وهو لا يكف عن التعليق والمناوشة... كان حكاء عظيما تتلبسه روح متمردة، ورغم قسوتها الظاهرة إلا أنها كانت تتمتع بشفافية إنسانية طاغية.
يحيى كان دائم الحلم بالثورة ودائم النقد لحاملى شعاراتها... فهو يريدهم دائما مثله صعاليك متمردين، جوابى آفاق، حالمين، وهم كان منهم أساتذة جامعات وأطباء ومهندسون ومثقفون كبار كيوسف إدريس مثلا، تستوجب عليهم ظروفهم الاجتماعية حياة غير حياته.
إننى من المؤمنين بأن افتقادنا يحيى الطاهر كان حدثا مريرا للغاية، فبرحيله فقدنا قاصا كان من الممكن أن يلعب دورا هاما في التعبير عن خيالات شعبنا وأحلامه ورؤاه.. لكن ليس باليد حيلة، فهو كما يقال "لم يكن ابن عيشة".

 "ثلاث ورقات من أشجار يحيى" نصك الشعرى في رثاء يحيى الطاهر عبد الله الذى اجتزأ منه مبدعنا مصطفى سيد أحمد ما أسماه بأغنية "عجاج البحر"... هل لديك نصوص سابقة لهذا النص تم تلحينها؟ وصف لنا انفعالك عندما علمت بأن هناك فنانا سودانيا لحن أحد نصوصك؟؟

• نعم... في عام 1968 غنى لى الفنان الموسيقار أحمد الشابورى أغنية عن جيفارا، وقدمت أكثر من مرة في الإذاعة، وكان وقتها مازال يدرس في معهد الموسيقى العربية. ولكن هذا الفنان، لظروف صحية، توقف عن الغناء، واكتفى بتدريس الموسيقى في معهد الموسيقى العربية، ورحل وهو في منتصف الخمسينيات من عمره.
وأيضا الفنان "عبد العظيم عويضة" وكان مازال شابا صغيرا، كتبت له أغنية قام بأدائها في مهرجان احتفالى بجيفارا في كوبا سنة 1969. وأيضا عبد العظيم لم يحترف الغناء، لكنه صار قائدا لفرقة موسيقية كبرى. وللأسف، فإن هاتين الأغنيتين ليستا لدى الآن، وافتقدتهما ضمن ما افتقدت من أشياء كثيرة في معترك الحياة.
أما عن أغنية "عجاج البحر" المجتزأة من قصيدة "ثلاث ورقات من أشجار يحيى" والتى قام بتلحينها الفنان السودانى المبدع مصطفى سيد أحمد، فلم أسمع عنها إلا في نهاية العام الماضى، عندما اتصل بى الشاعر السودانى عفيف إسماعيل، وأعطانى موعدا لمقابلته، وحكى لى من شأن هذه الأغنية، وقدم لى مشكورا أفلام فيديو عن الاحتفال بالفنان مصطفى سيد أحمد الذى كنت أود أن أراه وأعايشه وأكتب له، وأكتب عنه أيضا... مثل هذا الفنان المبدع يجعل قلوب الشعراء الموجوعة تفيض بالحنين للكتابة وللتعبير... أعتقد أنى لو رأيت مصطفى لتفجر في قلبى ينبوع الفن، وصارت كلماتى أشعارا، وأحزانى ألحانا. ولكن ما يسعدنى الآن هو الحركة الواسعة بين الإخوة السودانيين للاهتمام بهذا الفنان العظيم الذى رحل عنا سريعا هو أيضا، كشاعرنا أمل دنقل وقصاصنا يحيى الطاهر لسوء حظنا... يرحل عنا بأسرع ما يمكن أجمل الناس وأصدقهم وأحقهم بالحياة، وكأن حياتنا لا تروق لهم.
أجمل ما في هذه المفاجأة التى جاءتنى عن طريق الشاعر عفيف إسماعيل أنها عرفتنى بكوكبة من الفنانين السودانيين الشبان الذين ربما يسيرون على نفس الطريق الذى سار عليه مصطفى... فليكن لسوداننا الشقيق ألف فنان مثل مصطفى سيد أحمد ويمتد العمر بهم عطاء وحبا لشعبهم حتى يروا أحلامه تزدهر وأشجاره التى طالما ارتوت بالدماء قد آن لها أن تثمر...

 في ديوانك "مذكرات شاهد عيان" لديك نص معنون ب"حكاية رجل أسود" هو أنشودة إنسانية عذبة مجمل مضمونها ضد التفرقة العنصرية ومن أجل الحرية، وتفضح بعمق الأكاذيب الأمريكية عن الحرية، يمكن أن يقرأ هذا النص كأنه كتب بعد مارس 2003... متى كتبت هذا النص؟

• هذا النص مر على كتابته حوالى أربعين عاما، فقد تمت كتابته في صيف 1963 في زنزانة رقم 40 في سجن القناطر الخيرية، وكنت وقتها مسجونا بهذا السجن على ذمة القضية الجارى النظر فيها في المحكمة... وهى تحكى عن مناضل زنجى حقيقى مات مقتولا وكان الخبر منشورا في صحف تلك الأيام. وقرأت ما كتب عنه وانفعلت به، ومن خلال معايشتى لهذا المناضل وحياته كانت هذه القصيدة التى أحبها أناس كثيرون وكتب عنها المرحوم عبد الرحمن الخميسى مقالا مطولا في عام 1968 بعد أن تم نشرها في إحدى المجلات. وأنا فعلا أشعر بأن هذه القصيدة من أحب أعمالى لدى، فقد كانت هى وقصيدة "أوراق منسية في مذكرات أبى ذر الغفارى" سببا في حصولى على الجائزة الثانية للشعر في مؤتمر الزقازيق للأدباء الشبان المنعقد في ديسمبر 1969.

 هل الشاعر هو زرقاء اليمامة بشكل أو بآخر؟

• أعتقد أننى في الإجابات السابقة قد أجبت على هذا السؤال بشكل أو بآخر حين تكلمت عن الشاعر والالتزام السياسى.

 في نص "الرحيل وراء جنيات الماء" في ديوانك الموسوم بنفس العنوان نلاحظ اهتماما بسيمولوجيا الصفحة، وهناك بعض النصوص التشكيلية تشكل جزءا بنائيا من معمار النص... متى صدر هذا الديوان؟ وكيف كانت استجابة المتلقى لهذا النص بالتحديد؟

• صدر هذا الديوان في عام 1978، وهذه القصيدة كتبت في عام 1977 بعد انتفاضة يناير في ذات العام، وهذه القصيدة هى تعبير عن تجربتى الحياتية والنضالية وعن الهزائم والخيبات والانتصارات إن كانت هناك انتصارات... قصيدة عن الحلم الذى يولد رغم العتمة، وعن الواقع المتردى والضنين الذى لا يقوى على مواكبة الأحلام...
الديوان استقبل بشكل جيد، وأقيمت له ندوات كثيرة في حينه في أتيليه القاهرة، وقصر ثقافة حدائق القبة، وقصر السينما بجاردن سيتى... الخ. وتم قراءة القصيدة في أكثر من محفل، واستقبلت استقبالا أرضانى، برغم أن البعض أشار إلى أننى صرت معاديا للاتحاد السوفيتى في حينها، لأن القصيدة بها نقد موجع لما آل إليه الوضع هناك، ونقد للواقع النضالى المصرى أيضا بشكل غير مباشر، فها هى ثورة الحلم وما آلت إليه:

قد وثنوها في الرخام
     وفى الكلام
   وفى الأغانى.
حنطوها.. جثة ربطوا يديها
علقوها..  راية نجثو إليها
جملة ثورية
 فقدت دبيب النبض
حين رأت بأعينهم
 توابيت التناقض تحضن الحلم الذى
 دكت رؤاه الليل
فانهدت نواصيه العتيدة
ذات يوم..
في جبال الهم
 وانفرطت خطاه...

• أما عن واقع النضال المصرى، فالقصيدة تقول:

ونعيش نبذر في الحقول ثمار ما نجنى
 فيأكلها تراب الأرض..
يعطى مرة وردة..
ويخرج تارة شوكا
 يجرحنا وننزف
 ونجابه الموت
العيب فينا؟
أم في البذور
أم في تراب الأرض
 أم في الريح عاتية تولول والصقيع
 أم في مياه الرى لا تأتى بموعدها
 وفى الآفات
 تفتك بالنبات الغض، تلتهم الغصون؟
 ونظل ننزف،
نحرث الأرض التى داست
 على أنفاسها عجلات من مروا
 من الهكسوس
 والأتراك
 حتى شُلَّة التجار
 في سوق المدينة..
يعرضون اليوم نهديها
وهم يتحسسون الفخذ
 والردفين في شبق المرابى
 واشتهاء المال للربح الوفير...

 لعل من أصعب القرارات توقف الشاعر عن كتابة الشعر، ولقد توصلت لهذا القرار ونفذته. ما هى الدوافع والأسباب التى جعلتك تأخذ مثل هذا القرار الصعب؟

• بعد صدور ديوانى "الرحيل وراء جنيات الماء" في عام 1978 على نفقتى ونفقة الأصدقاء، وكنا أيامها ندعو إلى أن ينتزع الناس الحق في إصدار مطبوعاتهم بأنفسهم في مواجهة جبروت السلطة وسلطانها.. كان لدى روايتى الشعرية الطويلة وملحمة شعرية عن الثورة الفلسطينية كان اسمها "يافا وعين الشمس" أذيعت في إذاعة فلسطين القاهرية في عام 1966 وكثير من القصائد التى لم تنشر.
وانتشرت صحف النفط وتواترت الإصدارات وغرقت القاهرة في سيل من المجلات الثقافية والصحف النفطية ورفعت شعارات الكتابة السوداء وما بعد الحداثة وشعر الجسد وموت الشاعر النبى، وفقدان الشعر لأى وظيفة اجتماعية، وارتبط هذا بكامب ديفيد وبالهزائم المتوالية للحركة الديمقراطية وتفشى، بل وسيادة، الفكر الدينى والثقافة والأعراف الوهابية ورحيل الكثير من الشعراء والمثقفين إلى بلاد النفط والعمل بها كى يستطيعوا موازنة حياتهم ومواءمتها مع المتغيرات المستجدة في الاستهلاك الترفى والتمتع بخيرات الحياة المادية، وصار القابض على مبدأ مثل القابض على جمرة، بل صار في الواقع غرابا أبيض... كتبت أنا قصيدة طويلة عن كل هذا، وأخذت منى وقتا طويلا وجهدا هائلا وإنهاكا بدنيا لا حد له، قلت فيها الكثير وفتحت فيها قاموس الكلمات الفواحش التى تتلاءم مع هذا الواقع العفن وتعبر عن تشوهه ولا إنسانيته بل وإجرامه في حق مستقبل هذا الوطن والمواطنين، وقرأت هذه القصيدة على بعض الأصدقاء، أعجب بها البعض كثيرا ولكنه أعلن أنه لا يمكن أن ترى النور، وضايقت البعض الآخر... نجتزئ منها بعض الأبيات:
في بلادى:
اختلط الحابل بالنابل
وأصبح القواد قائد!
والفرق ليس بالكثير
فأول الاثنين "قاف"
لكننا نخاف..
أن يصبح المظلوم
 فاهم...

 **
باعوا المسيح في بلادى.. ألف مرة
لم يقبضوا فضة
وإنما ذهب

 **
هل يصبح نظم الشِّعر كنظم الشَّعر
نستبدله بالباروكات
وننظِّفه بأحسن أنواع الشامبوهات
ونجمِّله عند الأمهر من كل الكوافيرات
ونصففه طبقا للإعلانات
هل يصبح وجه الشِّعر هو الشِّعرة؟!
يا بلدا موكوسا حتى في شعرائه
نبدأ فرسانا.. ونغنى للشعب وللثورة
ونرى قرن الثور الهائج يقترب من الأحشاء
فنغنى للسلطان..
ونقفز فوق سلالمه كقرود مهرة
.....................
.....................

وتمضى القصيدة على هذا النحو بعشرات المقاطع ومئات الأبيات، ووقعها يستنهض الهمم تارة باللوم وتارة بالإدانة... الخ. قبرت هذه القصيدة وعشت شهورا في غاية التوتر، ووجدتنى أفكر في عمل معجم لغوى في علم الصرف أنفقت فيه أنا وآخرون أكثر من أربع سنوات، ثم بدأت أثناءها في ترجمة بعض الكتب عن التاريخ المصرى في أحقابه المختلفة لبعض المستشرقين. ومن حين لآخر أكتب وأفرِّق، أو أكتب وأحفظ القصائد في الأدراج.. وأنا مازلت أحمل روح الشاعر وأحلم أن أكتب شعرا جيدا، ولكن الهزائم تتوالى على أوطاننا والنكبات تنحرنا، وأنا لست من الذين تشغلهم ذواتهم كثيرا، ويريدون تحقيقها بالشهرة، أو يرون سعادتهم في جمع المال، ولكنى لا أطلب سوى الستر وأن أعيش في زمرة المهمشين الفقراء، وأن أقوى على مواجهة كل ما هو قبيح وفاسد في هذا الوطن...
ومن هنا يتضح أنه لم يكن هناك قرار بالتوقف عن كتابة الشعر، وإنما كانت هناك صيرورة لأحداث أدت إلى هذا الصمت الذى أتمنى ألا يطول أكثر من هذا، وهو صمت مرتبط بظروف موضوعية في الواقع الاجتماعى والثقافى، فالمطلوب الآن من المثقفين والفنانين أن يباعدوا المسافات بينهم وبين السلطات، وأن يقتربوا أكثر وأكثر من الناس فربما يتولد الفن الحقيقى، وتنطلق من هذه المعاناة شرارات الغد الأجمل.

 المشهد الشعري العربى؟

• لاشك أن هناك تبدلات هامة حدثت في الواقع في السنوات الثلاثين الماضية ، المجتمع ثنائي القطبية صار أحادي الهيمنة والجبروت.. وذا طموح إمبريالى فاق كل حدود ما عرفه التاريخ من إمبراطوريات...
هذا الطموح الأمريكي ساعد وساند العوامل التي أدت إلى الهزائم المتوالية في العالم العربي المصحوبة بالتدفقات الدولارية النفطية .. وبتغيير في البنيات الشكلية فيما يسمى بالدول البترولية، إذاعات وتلفزيونات وصحف ومجلات ومدارس وجامعات ومدن وطائرات وبنوك ودولارات وسيارات، وتغيرات بل وطفرات في مستويات الحياة المعيشية لسكان هذه الشياخات والإمارات.
وظل الإنسان الذى يسكن هذه الممالك والإمارات هو الإنسان البدوي, ذو الوجدان  الضيق والآفاق المحدودة, برغم أفخم الموضات وأحدث الموديلات, لأنه لم يمارس حياته بشكل فاعل وحي كي تتحقق له كل هذه الخيرات المادية. إنسان وجد الثمار تتساقط في حجره دون دور مؤثر في عملية الإنتاج (حتى مريم هزت جذع النخلة كي تأكل بلحا!), دون فاعلية في الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي تلعب دورا في صياغة وجدان جديد له أكثر رحابة وأعظم اتساعا في الآفاق .. فهو قد ظل مكبَّلا بالقيود والقبيلة, وانتقل بسرعة الصاروخ إلى الدكتاتورية والبطريركية, والثقافة السلفية واللاعقلانية, بل والعادات التي كانت سائدة قبل ظهور الإسلام وبعده. كل هذا حدث له دون وعي تاريخي خاص ببلده أو بثقافته أو طبقته (فمؤسسات هذه المجتمعات كلها مؤسسات شكلية)، بينما قانون الإفقار أيضا مازال سائدا وساريا في هذه المجتمعات ولكن من ذا الذي يستطيع أن يتكلم عن الظلم, فهناك الربع الخالي حيث يتم قذف المناضلين من جوف الطائرات في كثبان من الرمال لتغور أجسادهم إلى الأبد, وهناك أيضا الأقبية والأنفاق والزنازين تحت الأرض التي ربما تكون القبور أرحب منها وأمتع!!
هذا هو الوضع في الخليج العربي بل والجزيرة العربية مركوبا من أعلاه بدكتاتورية عسكرية قومية عراقية مارست أبشع ألوان القهر الفاشي والنازي, وهذه البلاد بفوائضها البترولية قد اجتذبت الكثير من بقية البلدان العربية من سوريا ولبنان ومصر والأردن، بل وحتى من بلاد المغرب العربى لكى يقوموا بالعمل هناك ويؤسسوا بنيات لهذه المجتمعات.. فكان نصيب الفارين إلى هناك أن فقدوا ثقافتهم، بل وأرواحهم، وصاروا نفطيين سلفيين محشوين بالهزيمة ومنسحقين كمثقفين.. وهنا نستطيع أن نقول، عندما نتكلم عن المشهد الشعرى، إن هذه هى الأرضية الاجتماعية والثقافية والنفسية بل واللغوية لهذا المشهد.. لأننا بدون هذا الفهم الثقافى السوسيولوجى لا يمكن أن ندرك المتغيرات في الساحة الشعرية.. فمن ناحية الشكل، صار ضروريا أن يكون لكل دولة من هذه الدويلات شعراؤها الذين تتباهى بهم بين الدول الأخرى، كى يملأوا لها الجرائد والتليفزيونات كتابة وصياحا.. لا أحد  يحاول أن يفهم.. والقليل القليل يقرأون، ولكن المهم أن هناك ما يسمى شعرا، ومن يسمون شعراء. إنهم يكتبون شعرا غير منتم إلى وطن أو إلى ثقافات تاريخية واضحة أو إلى بنية اجتماعية محددة أو إلى ذوات فاعلة في واقعها.. واعية بدورها.. مستشرفة مستقبلا حرا لمواطنين أحرار.. باحثة عن صدى يتجاوب مع أشواقها.. لكنها ذوات مهمَّشة.. متشيئة.. مغتربة.. تجد تحققها في الاستهلاك الترفى الباذخ وفى العولمية المهيمنة.. شعر معلق فقط بخيط اللغة المغتربة وبخيط الوجود الفيزيقى، ومن هنا كثر الكلام عن لغة الشعر، وشعر اللغة، واللغة الشعرية، والشعر اللغوى، وقصيدة الجسد، والقصيدة الزخرفية.. إلى آخر هذه الألاعيب النقدية.
وليس هنا مجال لذكر الأسماء ولا لذكر نماذج من هذه الأشعار لأن ذلك يحتاج إلى صفحات وصفحات، المهم أن الساحة تموج بمشاهد شعرية.. أعتقد أن التمايز أو التمييز بينها يعد ضربا من الخيال المستحيل، لأنها فقدت روح التعبير عن آمال وأحلام مشتركة في واقع محدد..
وهنا سادت كلمات مثل الحداثة وما بعد الحداثة تبريرا للقصيدة المنفصلة عن الموقف وعن الرغبة في التوصيل والتواصل مع القارئ، بل وصلت إلى حد التفاخر بالنص الشعرى المغلق...
كل هذا تلقفته المؤتمرات المحلية والعالمية المدعية بأنها تؤسس لثقافة إنسانية عالمية أو "عولمية"، وقدمت لهؤلاء الجوائز، وطبعت وترجمت الدواوين، وكل ذات بنفسها معجبة (!) وهى لا تدرى كما يقال أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن هذه المؤتمرات والكرنفالات هى امتدادات عبر المحيطات لثقافة تضمن مواصلة استعباد الإنسان واستغلاله وقهره واستلاب مثقفيه وفنانيه واحتوائهم بعيدا عن الفن ذى الذائقة البشرية..
باختصار، المشهد كئيب، فقد توارى شعراء كثيرون وانكشفت أدوار شعراء آخرين كان لهم صيت وشهرة عظيمة في الحداثة منذ الستينيات، واختلطت الخيوط، وأصبحت الخريطة الشعرية العربية وكأنها الجب الذى ابتلع يوسف ذات يوم... فمن ذا الذى يستطيع بدلوه أن ينتشل يوسف من الجب مرة أخرى؟

 المشهد الشعرى المصرى؟

• تحت سماء ما يسمى بالثقافة العربية، لا يمكننا أن نفصل بشكل حاد بين المشهدين الشعريين في مصر وفى البلاد العربية... فهناك الكثير من التشابهات، فكثير من شعرائنا من الستينيات والسبعينيات قد رحل ذات يوم إلى بلاد النفط، والقليل إلى بلاد الغرب، والكثير من هؤلاء الشعراء بحث عن المجلات النفطية، إما ليعمل فيها أو لينشر فيها قصائده... والبعض توقف عن كتابة الشعر، إلا القليلين أمثال أحمد حجازى ومحمد أبو سنة ورفعت سلام وأمجد ريان وأحمد عنتر وأحمد سويلم، وغيرهم، ولكن الخريطة ما زالت تحمل تيارات مختلفة...
فهناك التيار الذى بدأ مسرفا في الحداثة والشكلية في السبعينيات مثل حسن طلب وحلمى سالم وغيرهما.. ذلك التيار الذى اشتبك مع قصيدة الستينيات وهاجم شعراءها نراه اليوم يوشِّى قصائده ببعض الشعارات الاجتماعية والآهات والآلام التى تعانى منها الجماهير، بعد أن هاجموا في بداية تكونهم أمل دنقل" والشعراء الملتزمين".. وأيضا هناك محمد عفيفى مطر يواصل مسيرته مهتما باللغة وموسيقيتها ومعبرا عن روح الثقافة العربية ذات المضمون القومى، بعد أن عاش في عراق صدام حسين أكثر من عشرة أعوام.. وأيضا محمد سليمان وقصائده ذات الأوجاع المصرية الخاصة والتفرد برؤية ذاتية يحاول أن يعبر بها عن همومه الاجتماعية.
هناك قصيدة النثر وشعراؤها الذين صاروا – ما شاء الله- كُثرا، ودواوينهم تملأ أرصفة القاهرة، وهم يتراوحون ما بين الصوفية والشبقية الجسدية بل والإيروتيكية، والقليلون منهم يعانى آلام مجتمعه ويتصدى للتعبير عنها.. ولكن هناك في الأقاليم من الشعراء من يكتبون قصيدة حديثة، ربما نثرية أو تفعيلية أو مختلطة، وهى أكثر غنى بالواقع وأشد احتضانا لآلامه وآماله...
الخريطة مرتبكة وضبابية، ولكن هناك إرهاصات شعرية جديدة تتخلق وتبحث لها عن منافذ، والمهم ألا تقع تحت طائلة سلطان الثقافة الرسمية ومجلاتها وأدواتها الإعلامية، وأن تشق طريقها نحو مجلاتها المستقلة... وأنا أثق أن هذا التيار سيتسع ويزداد تدفقا كلما اتسعت حركة الجماهير الديمقراطية، وكلما انتزعت فئات شعبنا حقها في التعبير والنشر وإصدار الصحف والمجلات بل وتكوين الأحزاب الجماهيرية الحقة.. مرة أخرى الثقافة والفن والسياسة...

 كنت مشاركا في مؤتمر المثقفين العرب الذى عقد بالقاهرة في شهر يوليو 2003... حدثنا عن أهم القضايا التى ناقشها المؤتمر والتوصيات التى توصل إليها هذا المؤتمر الذى تم فى فترة حرجة من تاريخ الأمة العربية...

• هذا المؤتمر الذى عقد من 18-23 يوليو 2003، شأن كافة المؤتمرات الأخرى التى تنعقد في بلادنا، تم انعقاده تحت لواء المجلس الأعلى للثقافة.. أى أن السلطة تدعو المثقفين المصريين والعرب للاحتشاد تحت راياتها، لتظهر للعدو الإمبريالى أنها قادرة على احتواء مثقفيها... سلطة مأزومة سياسيا وجماهيريا، ومحاصرة ثقافيا، ومطلوب محاسبتها ومراقبتها إمبرياليا... ولذا كان من الهام أن تستدعى كتائب الاحتياط من المثقفين الرسميين المصريين ومن بعض المثقفين العرب، وتحشدهم للصراخ.. لا ضد التوحش الإمبريالى والأمريكى في العراق، ولا ضد الهمجية الصهيونية ذات الدروع والقبضات الأمريكية، ولا ضد التخاذل والمهانة التى تواجهنا كل يوم من حكامنا العرب، ولكن من أجل وأد أى ميلاد لحركة مستقلة من المثقفين المصريين...
كان على السلطة أن تمتص غضب المثقفين الذى جاوز الحد، فقد صار مطروحا عليهم ضرورة مواجهة هذا العجز السلطوى والتوجه إلى القيام بعمل مؤتمر ثقافى شعبى مستقل يتم فيه طرح كافة الأفكار والقضايا الوطنية والمصيرية التى تربض على صدر شعبنا المصرى وتكبل خطاه وتهدر طاقاته وتسلبه الإرادة...
هنا سارعت السلطة الثقافية بتحديد موعد للمؤتمر وتمت الدعوة له، وكان أهم محور في هذا المؤتمر هو محور "تجديد الخطاب الدينى"، وتم طرح الموضوع في مائدة مستديرة أولا برئاسة السيد وزير الأوقاف، أى المسئول عن الخطاب الدينى، وأجريت الحوارات في حدود 10 دقائق لكل متحدث، علما بأن موضوعا مثل هذا في حاجة إلى ساعات وساعات... فكنا مثل الديوك في الحظيرة.. كل ينتظر دوره ويحسب دقائق المتحدث السابق، ويحاول أن يختصر ما يود أن يقول... وقيل كلام كثير... ولكن أهم ما قيل سؤال حائر طرحه أحد الزملاء "نحن الآن نسدد النقد للمؤسسة الدينية، فهل نستطيع أن نقوم بتوجيه نفس النقد لمؤسسة الرئاسة؟"
والسؤال الآخر "لماذا لآن بالتحديد نطرح قضية تجديد الخطاب الدينى في مؤتمر رسمى؟ هل للتنسيق والانسجام مع الأطروحات الأمريكية؟"
وطرح البعض أن الخطاب الدينى، بشكله الحالى، هو خطاب سلطوى ولا يخدم أساسا إلا السلطة، التى هى ضالعة بالتنسيق والتخطيط والتوظيف لهذا الخطاب، لأن هذا الخطاب، بتوجهاته الآنية، نوع من تزييف الوعى وإلهاء المواطنين بقضايا غير مطروحة على أجندة العمل الوطنى الثقافى، وأن السلطة لا تبغى مواجهة هذا التزييف ولا تريد تغيير هذا الخطاب... وما معنى تجديد الخطاب الدينى؟ هل يعنى استبداله بتعبيرات جديدة وكلمات معاصرة؟ أم المطلوب هو العلمانية والديمقراطية وفصل الدين عن الدولة؟ ولماذا كل هذا النفاق واللف والدوران حول تعبيرات ذات بريق لا معنى له؟ لماذا لا تطرح السلطة رؤيتها بالضبط؟ هل هى مع تسييس الدين أم تديين السياسة أم مع فصل الدين عن السياسة؟ ليس علينا في مثل هذه الظروف والمعركة محتدمة أن نتعامل بنفس الشعارات القديمة وأن نقاتل بنفس الأسلحة "الخردة" التى طالما أهدرنا بها معاركنا التاريخية، وخرجنا من كل المعارك خاسرين... كان هذا رأى بعض من المثقفين المستقلين، ولكننا لم نر له أى صدى في بيان المؤتمر الذى صدر في كلمات فضفاضة ومطاطة تستجيب لأى معنى وأى تفسير وأى تأويل.. أما عن القرارات، فلم تكن هناك قرارات ولا يحزنون، فليس هناك داع لأى مواجهة مع أى خصم، فوأد المواجهة أرحم وأسلم من حث الناس على النضال والتصدى والمواجهة...

 وماذا عن بيان الستة؟

• عندما تمت الدعوة لما يسمى بمؤتمر المثقفين، وعشية انعقاده، فوجئنا ببيان قصير للغاية موقع عليه من ستة من المثقفين، ينشر في الصحافة المصرية. كان من بين الموقعين: د. عبد العظيم أنيس والروائى محمد البساطى وأخرون يستنكرون انعقاد هذا المؤتمر بهذا الشكل الهزيل والرسمى، وكأنه تلبية لتوجيهات خارجية، والمطلوب هو دعوة كل المثقفين المصريين، بشتى انتماءاتهم، ليناقشوا قضايا وطنهم والأخطار التى تحيق به... وللأسف كان توجيه هذا البيان متأخرا للغاية.. كان من المفروض أن يصدر بيان الستة هذا داعيا كل المثقفين المصريين للتوقيع عليه مبرزا أهمية وضرورة عقد مؤتمر مستقل لهم طارحا عليهم أجندة عمل ثقافية مختلفة، وداعيا لاحتشادهم في مواجهة هذا المؤتمر "الرسمى" الذى سوف يعقد باسمهم، ليتحقق ما قاله السيد وزير الثقافة فيما بعد: "لقد استطاعت وزارة الثقافة أن تدخل المثقفين إلى حظيرتها"... ولكن هذا لم يتم، فكان بيان الستة وكأنه إعلان فقط عن مقاطعة هؤلاء الستة لهذا المؤتمر، ولكنى أنا شخصيا حضرت وشاركت بالحوار وقلت وجهة نظرى، والتى كانت مشاركة لوجهات نظر بعض الحاضرين، ولكن لم يتم، من قريب أو من بعيد، الإشارة إليها... فلجنة الصياغة الحصيفة (!) والمدربة تدريبا جيدا على مثل هذه البيانات، أصدرت بيانها لكى يعبر عن نوايا الذين دَعوا إلى هذا المؤتمر في بيان "متوازن" ومحكوم ولا يثير المشاكل مع أى خصوم... فالعواصف قوية، والانحناء أمامها هو الموصل إلى طريق السلامة!

 تداعيات احتلال العراق وأثرها على الثقافة العربية؟

• الثقافة، كما قلنا، هى وجه من وجوه التعبير عن الواقع.. وبالتالى، فإن احتلال العراق على يد القوات الأمريكية وبعض ذيولها الساعين إلى لملمة بعض فتات الكعكة من التدفقات البترولية العراقية هو حدث من أخطر حوادث المرحلة المسماة بهيمنة العولمة، وأنا أفضل تسميتها بمرحلة محاولة افتراس العالم على يد القطب الأمريكى الأوحد.
هذا الاحتلال كشف لنا سوءات وعورات من يحكمون العرب من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب ومدى العجز والخيانة والعمالة والتردى في مستنقعات الإفلاس السياسى... وكشف لشعوب المنطقة ما كان خفيا عليها، بل إنه، ولأول مرة، جعل الكثير من أبناء الشعوب العربية يوقن بأن هؤلاء الحكام لا يمكن أن يكونوا ممثلين لشعوبهم أو لمصالحها، ولكنهم فقط مجرد جنرالات أو مشايخ أو أمراء يأتمرون بأمر أسيادهم، وينفذون لهم إرادتهم، والجميع يشعر أن المسألة ليست العراق.. ولكن في الجعبة الأمريكية مخططات لالتهام الجميع، وهذا الوضع، بالقطع، سوف ينعكس على الثقافة في كافة الأقطار العربية.. سوف تظهر أفكار جديدة وتيارات ثقافية جديدة وجماعات فنية وأدبية جديدة، وسوف تشعر الثقافات العربية بأنها في مفترق الطرق.. إما المقاومة، وإما الفناء.. ولذا فإنى أعتقد أننا سنرى مواقف جديدة من المثقفين ونداءات وشعارات جديدة.. بل سوف نرى تأثير هذا على الجماهير في الشوارع، مهما كانت القيود، ومهما استكبر القهر.. والسلطات تعرف ذلك جيدا وتعمل هيئات أركانها على إفشال هذا النهوض الشعبى بكافة السبل...
احتلال العراق، واحتدام الصراع الصهيونى-الفلسطينى البالغ الحدة، والتحرش بسوريا، والضغط على السودان، وابتزاز السعودية ودول الخليج ماليا، ومناوشة إيران، و"التلقيح" على مصر، والهجوم على الإسلام والعرب، ليس بهدف التطوير، كما تزعم أمريكا، ولكن بهدف التدمير... إنهم يريدون إبادتنا، فجانب هام من الثقافة الأمريكية يقوم طوال تاريخها على العنف والإبادة وتحطيم الآخر، كما أبادوا الهنود الحمر...
هم يزعمون أننا كائنات تعيش خارج التاريخ والحضارة.. فإما إخضاعنا الكامل لمخططاتهم التى تسعى إلى هلاكنا بالتدريج، وإما العمل على هلاكنا فورا، والآن، من أجل أن يفوزوا بما يريدون، فكما يقول كيسنجر: "ليس هناك – يقصد بلاد العرب – إلا البترول والرمال.. البترول لنا... والرمال لهم".
هل هذا كله لا يستدعى أن تواجهه ثقافة أخرى؟! ثقافة تسعى إلى أن تكتشف أرقى أشكال النضال ضد هذا التوجه الأمريكى، وأن تعمل على حشد كافة الإمكانيات من أجل هزيمة هذا المشروع الأمريكى المعادى لحقنا في الوجود، والدفاع عن حضارتنا وتطويرها، وقيمنا وتنويرها وتاريخنا وقدرتنا على دفعه إلى الأمام نحو مجتمعات تسعى إلى الحرية والتقدم، وتعمل بكل جهدها من أجل تطوير الإنتاج واللحاق بكل المنجزات الإنسانية تكنولوجيا، وثقافيا وحضاريا... هذا أو الطوفان!

 كنت ضيف شرف ليلة منتدى شموس الثقافى السودانى للشاعر السودانى الكبير "أزهرى محمد على" في إبريل 2003، وقد لا حظنا انفعالك العالى بقراءات أزهرى برغم أنه يكتب بالعامية السودانية؟

• حقا.. كانت ليلة رائعة.. استمعت فيها إلى أغانى الفنان العظيم مصطفى سيد أحمد، واستمتعت بها، وانبهرت حقا بالروح السودانية الألوفة وبالتدفق العاطفى للشباب السودانى والروح الجماعية لأناس يحبون فنانيهم ويحتفون بهم.
وكانت مفاجأة بالنسبة لى أن أتعرف على الشاعر السودانى الكبير أزهرى محمد على، وأن أستمع إلى أحاديثه عن مصطفى سيد أحمد وإلى الحوارات التى كانت تدور بينهما. الأكثر روعة بين كل هذا كان هو ما ألقاه علينا أزهرى من أشعار جذبت روحى إلى جو الشعر، وشيئا فشيئا، شعرت بأنى في حالة صوفية أصعد فيها درجات الترقى الروحى والشفافية.. حتى أنى كنت وأنا أسمع أزهرى أكاد أشعر بأنى أشاركه في كتابة هذه القصائد، ذات الأفق الإنسانى الرحب، والشهد المصفى الذى يسرى مذاقه في العروق قبل أن تضعه في فمك.. قصائد أزهرى جعلتنى في حالة صافية من النشوة، حيث صورها الشعرية التى تحتضن السماوى والأرضى.. المادى والروحى، وتتسلل إلى أعماق الروح السودانية حيث تستجلب من هناك كل ما هو تلقائى وطازج.. كل ما هو سحرى وعميق.. وتستقطر من كل هذا أبياتا تنضح بالنشوة والنقاء، وتدفع إلى الصعود نحو الآفاق العليا للإنسانية.
وبرغم معرفتى المتواضعة بأزهرى، فقد شعرت بأنن كنت أعرفه من أزمان وأزمان.. إنسان جميل، متواضع، محب للناس، عظيم الاعتزاز بذاته وشعره وجماعته الإنسانية.
وبرغم أن لغة الشاعر هى العامية السودانية، فإن بعض المفردات اللغوية المجهولة بالنسبة لى كانت سرعان ما تستمد دلالاتها من الصور الشعرية المتتالية ومن السياق العام للقصيدة..
شكرا لهذا الشاعر العظيم، الذى ربطتنى به في ساعات علاقة إنسانية تتنامى داخلى كل يوم، بل وأشعر أحيانا بالشوق إلى رؤياه وإلى الاستماع إليه شعرا وقولا. وشكرا لمنتدى شموس والقائمين عليه على إتاحة هذه الفرصة لنا للتعرف على هذا الشاعر.

 حراس النوايا وفقهاء الظلام يطلقون سهامهم على الشاعر المصرى أحمد الشهاوى؟

• ومتى كف هؤلاء الفقهاء عن إطلاق سهامهم على كل من يخرج عن الخط؟ إنها مهمتهم طوال التاريخ الإسلامى والعربى .. دعك من بعض الشخصيات الدينية التى لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة أو اليدين على الأكثر، تلك التى حافظت على نفسها دون التردى في هذا المستنقع.. إن هؤلاء الفقهاء يطلقون سهامهم على بعضهم البعض، ويمارسون أحط أشكال الانتهازية الدينية، رغبة في الوصول إلى درجة أعلى في سلم الكهنوت الإسلامى الذين يدّعون دائما بأن الإسلام برىء منه..
قد يكون الإسلام برىء منه، ولكن هؤلاء الفقهاء يجددونه ويطورونه في كل عصر بما يلائمه، وهم يمارسون أحط أشكال الكهنوت، ضد كل ما يتعلق بحرية الرأى والعقيدة.. إنها مهمتهم التاريخية، وهى ليست، في نظرى، مهمة منفصلة عن توجهات السلطة في مجتمعاتنا.. إنها تتم تحت سمعها وبصرها، وهى تحاول أن تصنع لنفسها هامشا منفصلا عنهم، لكى تظهر أمام الناس بأنها الأعقل والأكثر حكمة، ومن ناحية أخرى، إشعار الناس بأن هذه السلطة أرحم بكثير من هؤلاء الفقهاء... فالويل لنا كل الويل لو صار هؤلاء حكاما، ولذا يجب علينا أن نتمسك بهذه السلطة خوفا من هؤلاء الفقهاء (!) السلطات الديكتاتورية وفقهاء الظلام وجهان لعملة واحدة وهى القهر... السلطات الديكتاتورية هى سلطات عاجزة تاريخيا عن مواجهة الواقع والعمل على تطويره ثقافيا وعلميا وحضاريا وبناء مؤسسات ديمقراطية حرة تدفع بالمواطنين إلى المشاركة في عملية تطوير حياتها وأنسنة مجتمعها... وفقهاء الظلام يقدمون خطابا دينيا يعمل على التخديم على هذه الأفكار وإعادة إنتاج القهر... فالمشكلة ليست في السهام التى تطلق على أحمد الشهاوى أو على غيره من الشعراء والروائيين والمثقفين... فإن لم يكن هذا الشاعر، فسيكون ذاك، وإن لم يكن هذا المثقف فذاك المثقف، فالقضية هى تحجيم هؤلاء الفقهاء قانونيا وديمقراطيا، وإلا فسوف نواجه – كما واجهنا على مدار التاريخ – كل يوم سهاما مطلقة على كل مثقف في أى مجال من مجالات الثقافة والمعرفة... وأنا بشخصى المتواضع أقف مع أى إنسان تطلق عليه هذه السهام، لاعنا من يطلقها ومن يؤيدها، مطالبا بكل الحرية لكل المثقفين... وكفانا خرابات ينعق فيها هذا البوم...

 ما هى مشاريعك الثقافية القادمة؟

• في ظل الظروف التى نعيشها في هذا الوطن والتى اتضحت أكثر من خلال هذا الحوار في إجاباته المتتالية على أسئلتك، أعتقد أنه من الصعب على واحد مثلى أن يضع خطة متكاملة لحياته أو لمستقبله... فهناك أشياء كثيرة لا تمتلكها أنت وتقع خارج إرادتك: الإمكانات المادية، عملية نشر الأعمال المنتجة، الظروف الصحية، القضايا الوطنية العامة، وقضايا المثقفين والثقافة في الآونة الحالية التى نعيشها... نحن مواجهون بأقسى درجات الحصار الإمبريالى والتردى السلطوى.. وعليك كمثقف أن تكون مشاركا داعيا إلى ضرورة المواجهة والاحتشاد في وجه هذه الهجمة "الأمريصهيونية"...
وبالرغم من كل هذا، فعلينا أن نبذل أقصى جهدنا من أجل أن ننتج ثقافة أو فنا... إننى آمل أن أنتهى من "العجم التعليمى العربى" الذى أنجزت منه مراحل كبيرة في السنوات الماضية، وأن أقوم بترجمة بعض الكتابات التى أقدر أهميتها للقارئ المصرى في التاريخ أو الثقافة أو قضايا التحديث والتطوير بشكل عام... كل الأمل في أن أعود بحرارة إلى كتابة الشعر وأن أحاول التعبير مع غيرى عن هذه المرحلة الخطيرة في تاريخ وطننا.. وأن أساهم – بقدر استطاعتى – مع الآخرين، على أن نقوم بدور المثقف الحقيقى المنتمى إلى آفاق أوسع للحرية.. وآمال أجمل لكل الناس.. في ظل ظروف عالمية ومحلية في غاية القسوة.

 في أثناء إجراء هذا الحوار... كان انعقاد مؤتمر "الرواية والمدينة" في القاهرة بالمجلس الأعلى للثقافة... وفى ختامه تم منح جائزة هذا العام للروائى صنع الله إبراهيم... ما رأيك فيما قام به صنع الله إبراهيم من رفض لهذه الجائزة في نهاية كلمته التى ألقاها في المؤتمر؟

• مساء يوم الأربعاء الثانى والعشرين من شهر أكتوبر، وهو اليوم الذى كان ختام مؤتمر "الرواية والمدينة" المنعقد في القاهرة تحت رعاية وزارة الثقافة المصرية والمجلس الأعلى للثقافة من 18-22 أكتوبر، والذى اختارت لجنة محكميه منح جائزة هذا العام للروائى المصرى صنع الله إبراهيم...
مساء هذا اليوم، سمعت وأنا في منزلى نبأ رفض صنع الله الجائزة... لم أصدق، وتراوحت مشاعرى ما بين البهجة والتريث.. ما بين الأمل واليأس.. فقد علمتنا الظروف التى نعيشها أن الفرح ما زال في بلادنا يبحث عن مكان له... وقمت بإجراء اتصالات مع أصدقاء، فتأكدت من صدق الخبر، وعرفت أنه قرأ بيانا، وقدم فيه حيثيات رفضه لهذه الجائزة، وبدأت متابعة الحدث في الصحافة وعلى الإنترنت وفى القنوات الفضائية، وقرأت وتأكدت.. عندئذ انتابتنى حالة من النشوى جعلت الدموع تطفر من عينى وأنا أصرخ: آه أيها الوطن.. ما زال بين أبنائك من لم تقو عليه كل شياطين الغواية...
وأنا أعرف صنع الله... فقد زاملته في السجن فترة قصيرة، وأعرفه فنانا منذ قرأت له "تلك الرائحة" بعد خروجه من السجن مباشرة، ثم تابعت قراءة أعماله المتميزة عن كافة الأعمال الروائية الأخرى برؤيتها وبأدواتها... فهو الفنان المهموم بآلام المواطن البسيط وأحلامه، وهو الساعى دائما إلى أن يحاول بالفن الإحاطة بالواقع مع التعبير عنه فنيا بلغة تكاد تكون خاصة به... وهو بذلك يصبح متسقا مع تاريخه ونضاله الذى دفع ثمنه من سنوات الصبا، وظل مخلصا له ما يقرب من أربعين عاما.. حياة وإبداعا.. بساطة في الملبس وزهدا يصل إلى حد التنسك.. وتواضعا إنسانيا متحفزا في وجه من يعتدى على كينونته تجسد في البعد عن المؤسسات الرسمية وعن كل متطلباتها، ويصل إلى حد الانزواء في وظائف متواضعة في دور نشر مستقلة.. إنسان مازال يحمل حلما يتعذب ويتقوّى به...
إن من يقرأ بيان صنع الله ويرى كيف تعامل مع المسئولين عن هذا المؤتمر "الوزير والأمين العام والموظفين" ثم أعضاء لجنة التحكيم، ثم طريقته في كتابة وقراءة البيان، يدرك أن صنع الله تعامل مع هذا الموقف بشكل إبداعى أيضا.. ظل يفكر لثلاثة أيام – كما يقول – لم ينم فيها لحظة، في كيفية عمل سيناريو ناجح للقيام بالتعبير عما ينوى عمله... فلو كان صنع الله رفض الجائزة منذ أبلغوه بفوزه بها تليفونيا، لكانت كل ألاعيب السلطة في الخداع والتزييف قد نالت منه.. "إنه لم يفز بالجائزة.. إنه يتوهم".. ومن الممكن أن يتهم بالجنون.. وكما يقول البعض كان بإمكانه أن يعقد مؤتمرا صحفيا يعلن فيه رفضه لهذه الجائزة.. لو فعل ذلك لما ذهب إليه أحد من الصحفيين، بل كانت قوات الأمن هى التى ستذهب إليه!
صنع الله اختار أسلوبه الخاص جدا للتعبير عما يريد.. هو يريد أن يقرأ بيانا يعرى فيه وجه النظام، يكشف فيه عما وصل إليه حال مجتمعه من فساد، وأن يقرن كل هذا برفضه للجائزة، لأنه لو قبلها بعد قراءة هذا البيان لصار أضحوكة.. لقد ألقى صنع الله حجرا في المستنقع الراكد.. فتحرك سطح هذا المستنقع.. ولكن السؤال الهام: هل سيكون لهذا الحدث صدى في الدوائر الثقافية والجماعات الأدبية والفنية؟ صدى يهز القلوب التى تحجرت من كثرة ما عانت، ويوقظ الإرادات النائمة في الصدور، ويزيح ركام التبلد والتواطؤ، ويدفع بالمثقفين إلى مجالات الفعل والمواجهة؟



#عفيف_إسماعيل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سلالة
- مؤجز أنباء عام 2000م
- طقوس ميلاد الأبدية
- طقوس ميلاد الأبدية
- بلا وعود
- حوار الشاعر الفلسطيني الكبير مريد البرغوثي
- شادي في أوان البكاء
- صياد ونمل وأشجار وضفادع
- حوار مع المبدع /د. طارق الطيب
- آثـــــار
- مُدَّعي
- أضداد
- ريبة نموذجية
- السفاح المكتئب
- سطوة التكرار
- ضجر
- خطه شابه جداً
- سجن
- دكتاتوريات
- خيوط النول القديم إلى روح المناضل النقابي المصري مصطفى عبد ا ...


المزيد.....




- سلمان رشدي لـCNN: المهاجم لم يقرأ -آيات شيطانية-.. وكان كافي ...
- مصر: قتل واعتداء جنسي على رضيعة سودانية -جريمة عابرة للجنسي ...
- بهذه السيارة الكهربائية تريد فولكس فاغن كسب الشباب الصيني!
- النرويج بصدد الاعتراف بدولة فلسطين
- نجمة داوود الحمراء تجدد نداءها للتبرع بالدم
- الخارجية الروسية تنفي نيتها وقف إصدار الوثائق للروس في الخار ...
- ماكرون: قواعد اللعبة تغيرت وأوروبا قد تموت
- بالفيديو.. غارة إسرائيلية تستهدف منزلا في بلدة عيتا الشعب جن ...
- روسيا تختبر غواصة صاروخية جديدة
- أطعمة تضر المفاصل


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عفيف إسماعيل - حوار مع الشاعر المصري حسن بيومي