أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عادل الحاج عبد العزيز - ذهنيَّة التَّخوين - لإبداع المهجر السوداني المعاصر















المزيد.....

ذهنيَّة التَّخوين - لإبداع المهجر السوداني المعاصر


عادل الحاج عبد العزيز

الحوار المتمدن-العدد: 2094 - 2007 / 11 / 9 - 09:57
المحور: الادب والفن
    


(( افضل ان يبقى رأسي فارغاً على ان يكون ممتلئاً بأفكار المدينة لام. وافضل ان اسمى مخرباً على ان احتفي بعمرانها القائم))
( أدونيس، الكتاب) [1]
حُمَّاة الذَات الوطنيَّة
تجتهد منذ امد طويل كثير من الأقلام السودانيَّة التي تدعي انها تُعنى برصد كل انتاج ابداعي يُنتج خارج السودان (اي خارج كنف الدولة الأمويّة به)، فتكون وظيفة تلك الأقلام تخوِّين ذلك الكتاب او الفلم او اللوحة ..الخ. و تتعمد الإيحاء للقارئ المُستهدف بذلك الخطاب بإمتلاكها المعرفة التي تفي بمساجلة تلك الاطروحة الإبداعية المهاجرة ومحاكمتها؛ بل انها كانت راصدة ومدققة لبواعث تلك (الحملة) المسعورة والتي حسب خطابهم تستهدف الذّات الوطنيَّة من قبل دوائر الإستكبار واعوانهم (أيّ: المبدعون السودانيون)، ليتم في وسط هذا الهُتاف، تناسي العمل الإبداعي كقيمة في حد ذاته؛ لتكون المواجهة مباشرة مع نوايا تلكم الأعمال، التي حسب روايتهم تتربص بتاريخ السودان الدوائر لتعبث به. وهذه المواجهة في الغالب ترتكن بكل طمأنينة لإجترار نظريَّة المؤامرة والتي تم استهلاكها بواسطة حمَلَة اقلام التَّجميل للمشروع الحضاري منذ البيان الأول للإنقلاب في الثلاثين من يونيو 1989.
ما جدد امتعاضنا هذه المرة، ان التسيس و الإتجار الذي تزاوله دون انقطاع بعض الأقلام؛ لتتستر وراء اجنداتها المخبأة في ثنايا خطاباتها التخوَّينة تلك. اضحت بمثابة جدار سميك عازل بين اي محاولة لمجادلة الحقيقة الإنسانية المجردة وتجريد المعرفة من القداسات الموروثة، في محاولة منهم للحيلولة بينها وبين شعوب الداخل السودانيّ المقموعة بواسطة الخطاب الآحادي المعروف، نقول شعوبنا هنا لان واقع التهجير والشتات الذي طال اعداد مهولة من ابناء الشعب السوداني. وهو امر يجب ادراكه الآن، والتعامل معه كواقع جديد سيفرض نفسه لا محالة في كل مفاصل الحياة السودانيَّة إنْ استدامت هي على طبيعتها ( دون مزيد من الإنفجارات ) ، اذاً هناك شعب بأكمله خارج الحدود المعروف كنتورياً عن تلك الأنحاء من العالم في علم الجغرافيا (السودان)، وهي شعوب تحلق الآن في كلِّ فجّ. وجاء ذلك كنتاج طبيعي لسلوكيات محاولة الإستحواذ الكامل على الحقيقة الإنسانيَّة ولمصادرة المعرفة، والإصرار على توجيهها انى ما شاء اصحاب الأجندة السياسيَّة (الإسلامويَّة في السودان).
هذه الجماعات الفارة بفكرها ومظالمها، من الطبيعي لها جداً الآن؛ بعد ان استقر بها المقام في اوطان بديلة لم يكن لها خيار آخر سوى ارتضائها بديلاً للوطن الذي سُلب منها، واستلِّبتْ هي فيه من قدرتها على الشعور بداخله بتساوي المواطنة، هي ستبدأ في انتاج معارفها الخاصة نتاج تجربة (فرارها) هجراتها تلك، و ستبتدر كذلك في اعمَّال المقارنة والمقاربة، بل وابتدارها عملية الإندماج البطئ والتبادل الإنساني لحمولات ذاكرتها وخبرتها عن وطنها الأم؛ في مُقابل معارف الأوطان البديلة التي دُفعت دفعاً لتحط بها. ولا يخلو ذلك بالطبع من مُمانعات هنا وهناك (نموذج: حالة اللاجئ السوداني في استراليا).
لذلك عاجلاً ام آجلاً سيبدأ تأثيرها يبدو للعيان داخل وطنها الذي انتزعت منه؛ وفي اوطانها البديلة تلك، ولا سيما وقد توفرت لها بيئة من الحرية، وهي القيمة التي تسمو على سواها في تحفيز مسكوني الإبداع من الشعوب السودانية المهاجرة، اذ هي قيمة مهدرة بامتياز في وطنهم الأم بسبب ممارسات اصحاب الأجندات المؤدلجة لقمع مخالفي اجنداتهم.
ومن المفيد منذ البدأ الإشارة لأهمية استصحاب، وطأة التاريخ على كل المشهد ونحن ندلف لتناول الموضوع هنا. وان كانت محاولتنا هنا لا تُعد بمثابة الجينيالوجيا اي النمذجة typologie
يبدو اننا قد ورثنا حساسية مفرطة كسودانيين عند تناولنا بالفحص والتمحيض لذواتنا التأريخية. ويمكن استلهام ذلك بمراجعة الكتابات التي تناولت ذلك التأريخ، ويمكن فهم ذلك عبر التفكر في تخلقات التكوين الوطني السوداني. وبالتالي حاول كثير من الدارسين تقسيم هذه الذات التأريخية ارتكاناً للثلاث حقب الأخيرة منها: نموذج الدولة المهدية (المشروع المهدوي 1899-1899 ) ، ونموذج الدولة المُستعَمرة انجليزياً (مشروع السودان الأنجليزي 1899-1954 ) ، ونموذج الدولة الوطنية ( المشروع الوطني السوداني 1956 - ....).
السودان في مخيلة الآخر (المتآمر)
تصر هذه الأقلام على تذكيرنا بكتابات تنتمي لفترة ما بعد الكلونيالية وهي مدارس اشتهرت عن بعض الكتابات في كل من انجلترا وفرنسا، فهي مدارس ذرائعية/ تبريرية تحاول ان تبرر للذَّات الإستعمارية الغربية تفوّقها الحضاري وانها ما كان لها القيام بسلوكها الإستعماري ذاك لولا فساد تُراث المجموعات المحلية بالبلدان المستعمرة؛ بالإضافة لترويجها لنظرية تفشي كثير من المعاصي المدنية (الحضارية) بتلك المُستعمرات، وهذا نهج مفهوم تصدى له بالشرح والتحليل المعرفيّ مفكرين كبار منهم المفكر الأمريكي العربي ادورد سعيد.
ومن جهة آخرى يتعين الإشارة الى ان تلَّك الأقلام التخوينة المُشار لها آنفاً (الاسلاموية)، لا تخلو من الغرض الايديلوجي هي نفسها و تُضمر في خطاباتها ندّية تبشيرية (دينية) تفسر بها كل فعل يطال تصوير الفظاعات والإنتهاكات التي ترتكبها مشاريعها السياسية (المشروع الحضاري السوداني)، وهي التي تدعي الوصايا الأخلاقية لحماية الذات الوطنية من التشويَّه، فمن اليسير عليها توصيفها لكل ابداع مخالف على انه تآمر كنسي غربي على مشروعها الديني الموازي له قطعاً، لذلك تستدل بتسرع وتهور جلييّن، بكتب على شاكلة ( كتاب الفاتيكان، الكتاب الأسود للسودان، الكتاب المنسوب لجوزيف اوهو، ووليم دينق حول مشكلة الجنوب)[2].
هذه الكتابات التخوينيَّة ذات المضامين الغير منزوعة من الحمولة الأيدلوجية لأصحابها، هي وسيلة التناول السائدة في الغالب عند تناولها للكتب التي تعنى بالشأن السوداني في الغرب وخاصة في الفترة الراهنة. آبان فترة الحروب المتَّنقلة الآن داخل الوطن الأم هناك (1955-2005 جنوب السودان، دارفور 2004 ).
فيما تتحاشى هذه الكتابات المتحيَّزة لأجنداتها الحارسة للذات الوطنيَّة تلك، ان تعترف ولو لمرة بأن الفظاعات والمظالم والترويع. هي افعال تحكي عن نفسها بكل جلاء وتحملها معها كذكريات اجيال من تلك الشعوب المهَّجرة او (الفارة) لمن شَّاء ان يدَّعي ذلك. وربما هي تخرج للعلن وبشكل اكثر جرأة الآن بعد ان تم اعادة توطينها كونياً، يساعدها على ذلك، الفتح المعلوماتيّ الذي ازال حواجز المعرفة الكونية، لتصبح عملية حرق قرية او احتشاد مجموعة من المسلحين يمكن متابعتها وفضحها لكل سكان العالم المنتشرين بين القطبين.
اذاً الإكتفاء بتجريم الطرف الآخر (الغربي) فقط دون اي وخز للضمير الإنساني الوطني، ودون اعتراف ان هناك انتهاكات بالفعل وقعت وان ضحاياها هم من الشعوب التي لم تستطع (الفرار) الهجرة لتسكن وطن بديل، لهو عمل يُجافي الحكمة وان لم يكن الأخلاق، ولا يحتاج لبذل كبير جهد و اراقة سيل من الاحبار لاثبات خطله، ويُعد ذلك ان تم مناطحة للحقائق الشاخصة والتي ما عاد يحجبها عن اعين (المتربصين)، تذويق للخطاب واخراج الحشود.
وما يُحمد لعهد الإنفضاح الكونيَّ هذا انه اضحى يَفضح الجميع دون استثناء، وخير شاهد على ذلك حادثة خطف الأطفال (الدارفوريين)، معبئين في تلك الطائرة في جنح الظلام الدامس الذي خلَّفته الحرب اللّعينة، ليتم بيعهم بواسطة نخاسَّة الشعوب في اسواق عاصمة النور باريس.
إلاّ ان هذه الأقلام نفسها لا تقوى او هي لا توّد الأعتراف بأن ذهنيتها المعبأة بشكل كثيف، ترفض منذ البداية كل (آخر) وان كان محلي، هو خارج فضاء يقينها الديني والأخلاقي، ولا تقبل فكرة بسيطة مفادها انه ليس كل ما يُُنتج خارج فضاء ما تسمح به تشريعاتها الأخلاقية والمعرفية لهو بالضرورة خائن ومتآمر او في احسن الأحوال هو احدى الأدوات من معاول نبش الذات الوطنيّة وفضح عورتها، وذلك وفق تصوَّرهم لها بالطبع.
يمكن ان نؤكد دون هتاف هنا ان هذا الغرب او الآخر ان ارادوا، والذي تتصدى له اقلامهم من (ماركة دبابين) لا يمكن لصاحب بصيرة، وضعه في سلَّة واحدة مهما اوتىَّ من قدرة على التلفيق.
ففي هذا الغرب (الذات الوطنيَّة) به تتم لها عمليات فحص ونبش لكل اجهزتها الفكريَّة والمعرفيَّة، ويتم نقدها وتجريمها بل وعرضها عاريةً تماماً امام القارئ والدارس بمعاهدها وكليَّاتها، وكلَّ ذلك في مجابهة شُجاعة، للمُقاومات المتشكلة داخل المجتمع الغربي وفي ثنايا سياقاته وفضاءاته الخاصة به، والتي بها البعض ممن يدَّعون الشمول والكمال والحتمية بلا شك.
اذاً هؤلاء السطحيون والوسواسون لا يزالون وسيظلون يمثلون جزء كبير من واقعنا الفكري والثقافي السودانويَّ، وستظل اقلامهم (المدبَّبة) تطأ اطراف كل من ينال من ثوابتهم المزعومة؛ لذلك الواقع لدينا يتطلب مبادرات ابداعية تتسم بالشجاعة والعمق، لإزاحة الذهنية الجاثمة والمُتسلطة، والتي تدَّعى الوصاية على كل اشكال الإبداع والمعرفة؛ فيما تعزّز تلك الذهنية شرعيتها، بترويع واجتثاث كل مبادرة لا تتوافق والسائد لديها منذ (نموذج الدولة المهدويَّة).
هذه المبادرات المبدعة المعَّول عليها لا يمكنها ان تتكاثر ما لم تتوفر لها فضاءات رحبة من الحرية الفكرية والحرية السياسيَّة وحرية ابداء الرأي؛ وهي القيَّم المفتقدة بإلحاح، ولم تلتفت إليها ابداً معادلة الشراكة الماثلة الآن بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية كنتاج لإتفاق (نيفاشا) الثنائي؛ وبشكل اكثر وضوح في غمار تشاكسهما الأخير؛ حول اقتسام السُّلطات والثَّروات والتنازع حول الأراضي والحدود والثَّمرات.
المِهْجَر مفهوم تكتنفه الكآبة والسَديم
يحيط بكلمة (مهجر) الكثير من الغموض والإلتباس، وتفسيرنا لذلك هو قابليتها ككلمة لامكان ادخال كثير من الاشتقاقات عليها. وإن كان ذلك الجانب التوليدي والتوظيفي لها، يمكن حسمه بالعودة للقواميس اللّغوية. فهي اذاً "مكان او موضع الهجرة". ولكن الدلالات التي تعنينا هنا تتجاوز تلك الجزئية؛ لتجدنا نقرِّر المفاضلة بين كلمة مهجر تارة ومنفى في مواضع آخر. الاّ ان كليهما تفُيدان فعل الترحال اوالإنتقال اوالهجرة، وما اشتهر به كل ذلك من عظيم الأثر في الآداب العالمية المعاصرة .
هذا النزوح والإرتحال الطوعيّ منه او القسري قد طال كثير من الشعوب والجماعات، وفي الغالب لعاملين مهمين احدهما سياسي والآخر منهما اقتصادي.
لذلك يُجمع كثير من الدارسين بالطبيعة المركبة للـ (النفيّ/المهجر)، اذ هو فعل ابتعاد واغتراب دُفع الإنسان إليه او اجبر على تلبُّسه. وبلا ادنى شك هنا، ان الفرز المفاهيمي يجب ان يطال وعينا لفعل الإغتراب الذي هو ارادي، في مقابل الفعل الآخر (النفي/ التهجير) فهو قسري قد لا يمكن العاشق من العودة لوطنه الأم ان اراد لذلك سبيلا.
حالة النفيّ في زماننا المعاصر هذا تجسدها بكل جلاء، تجربة المهجر والشتات الفلسطينية؛ ليكتسب مفهوم المهجر/ المنفى دلالته اللّغوية السالبة سلفاً، لتصبح لدى اصحاب القراءات الجاهزة والمعبأة ايدلوجياً ضده اكثر سلبية (الجماعات الإسلامويَّة في الداخل السودانيّ الراهن).
ففي خضم هذه الفوضى المفاهيمية البادية اعلاه، يصبح التساؤل الذي كان قد عبر عنه عنوان لكتاب واحد من ضحايا هذا التهجير والنفيّ السوداني: الأستاذ المرحوم الخاتم عدلان؛ يكتسب التساؤل في ذلك العنوان اهمية بالغة هنا اذ يتساءل " ما هو المنفى ... وما هو الوطن؟"[3]
ليرتقي ذلك التساؤل من واقع انه عنوان لمجموعة مقالات ومعارف، كتبها صاحبها الذي اضطرته ظروف الإضطهاد السياسي، وذهنية الإستحواذ والإلغاء، لتحمله ليستقر ويقطن هوامش تلك المجتمعات التي حطَّ بها، ولكنها تَرَكتْ له في هامشها ذاك مساحة من الحرية و كريم العيش مكنته على الأقل من اجترار ذكريات وعذابات تكبَّدها وفي داخل الوطن الأم. اذاً هو تساؤل فادح، يفتح كلَّ الجراحات ويجدَّدها في آن معاً.
لعله من البديهي ان ندعو لصنع انطلوجيا سودانوية بالمهجر والمنفى السوداني المعاصر، على الاقل منذ لحظة تدويننا لتراثنا المروي في المنفى؛ وهي التجارب التي كانت قد انتجت اعمال بقامة موسم الهجرة الى الشمال، ورصد دقيق بواسطة ذات منفية يمثلها "مصطفى سعيد"؛ وهو يرصد للبيئة المحيطة له في الفضاء الغربي (الآخر) آنذاك. وما انتجته لاحقاً ابداعات سودانية مهاجرة اكثر حداثة ومعاصرة، ترصد الفضاء المحيط بها وتجربتها مع ذلك (الآخر) (نموذج: ليلى ابو العلا، جمال محجوب)[4]، لتقوم الذهنية التخوينة المشار اليها آنفاً بإجراء قراءاتها التعسُّفية لتلك الأعمال مثل "رحلة الكُجور النهريَّة "" Navigation of Rainmaker الصادرة في طبعتها الفرنسية عام 1996 للروائي السوداني جمال محجوب.[5]
ليكون خلاصة قراءتها لتلك الرواية بأنها: " رواية تحتوي على غير قليل من التنميط والإسقاط والتصورات "الخواجية" عن السودان واهله؛ وبأنه محض (ادب حناكيش).[6]
وليكن فيصلنا هنا لمقارعة تلك الأقلام التي تدمن الازدراء بالآخر المغاير(وان كان سودانوي)؛ هو رأي المفكَّر ادوارد سعيد، اذ يصف فيه المنفى بأنه " من اكثر المصائراثارة للحزن"، ومن البداهة استنتاج ان فعل الكتابة داخله لا يمكن ان يتصف بـ (الحنكشة) او التَّرف ، بل ان ادوارد سعيد يذهب الى اكثر من ذلك حينما قال: " يعيش المنفيّ في حالة توسط فهو غير متوائم مع مكان اقامته الجديد وليس بإستطاعته في الوقت نفسه ان يَتخلص من مكانه القديم، فهو إذاً واقع في اسر انصّاف التورطات وحالات الإنفصال والبعد، شاعراً بالحنين المرضي والعاطفة المفرطة من جهة، وبقدرته ان يكون مقلداً ماهراً (لأبناء المكان الجديد) وان يكون منبوذاً سرياً من جهة اخرى" (سعيد، تمثلات المثقف، ص36)[7]
ومن القراءات العجولة لإبداع المهجر السوداني المعاصر من قبل تلك الأقلام، والتي سنعرض لها هنا؛ هذا الكتاب الذي صدر في العام 2005 بامريكا يحكي قصة ثلاثة من الأطفال السودانيين والذين اشتهروا بـ Lost boy وقد تم تجميع هذه القصص لهؤلاء الفتية الثلاث في كتاب مُهر باسمائهم يحمل عنوان "يصبون علينا ناراً من السماء" The poured fire us from sky ، لم تخيب القراءات الراصدة لذلك العمل من قبل حماة الذّات الوطنيَّة الظن بها، اذ هي لم تتناول العمل كعمل ابداعي بشكل مجرد؛ وانما بتسرعها المعهود عنها كالت له كل انواع التُّهم والتخوين، بل انكرت صحة نسبة تلك القصص لهؤلاء الأطفال؛ لتكون خلاصتها عنه مجرد استصدار لفتوى دينية، في مواجهة عمل ابداعي وفني؛ ليختتم صاحب تلك القراءة (الفتوى) حديثه بقوله: (الله اعلم) ليؤكد بذلك صحة ما ذهبنا اليه.[8]
كما ان هذا المهجر السوداني المعاصر(سنوات التسعينيات من القرن المنصرم، الى الآن)، يتخذ ابعاد جديدة هذه المرة، قد تكون مفارقة تماماً لطبيعة وواقع الإغتراب الذي الذي عُرفتْ به الطبقة الوسطى المتعلمة آبان سبعينيات القرن الماضي وإغتراباتها للدول النفطية، وإن كانت هي تجارب نحتت بصماتها في التركيب المجتمعي السوداني سلباً وإجاباً قطعاً؛ فقد اجاد في تشريح ادوار تلك الفئة المتعلمة (الأفندية) من المغتربين السودانيين الأديب والشاعر الأستاذ كمال الجزولي في احدى مقالاته الراتبة (الرزنامة، كانْ حاجة بون)، اذ تناول فيه الكيفية التي استخدمتها الذائقة السودانية ذات الفطرة السليمة (للداخل السودانويّ) في تعاملها و ورصدها لتلك الظاهرة؛ في واحدة من اهم مصادر التدوين التأريخي الإجتماعي (السودانويّ) لديها على الأطلاق؛ وهي الأغنية الشعبية الخفيفة التي تُعرف في السودان "بأغاني البنات" المغتربين ازيكم..ان شا لله طيبين في حيكم.. "سجِّل لى عرباتك .. وسجل لى شركاتك .. ما إنت العسل ذاتك"! و"تجارة ليها أساس .. ما بيعرف الإفلاس"! و"شوفو كان رايق .. للـ (فى ـ إكس ـ آر) سايق .. لفت الخلايق"! و"ليلى علوى وجواجة .. كتحتنى بعجاجا .. زاد وجدى سواقا"! و"بالضرا ان شا الله راجل مرا"!
وصولاً لاكثرها معاصرة وحداثة من اغانهن المعاصرة (المعاصرة لإنتكاسات صاحبت المشروع الحضاري) " راجل المرا حلو..حلا!!"
ليجعلنا نُشْهِر هذا التساؤل: اما آن الآوان لأصحاب تلك الفتاوى التي تتدعى النقد الأدبى؟، ان يدركوا ان عبقرية المجتمع السوداني قادرة على انتاج ادوات رصدها وتمحيضها الملائمة والخاصة بها لإبداع ابنائها، انى ما حلقوا، كل ذلك خارج تسلُّط ذهنِّيات و مؤسسات التخوَّين والتكفير الأخلاقي (للآخر) المحلي، والآخرالأكثر تنائي (الغرب).
عادل الحاج عبد العزيز
هوامش:ــــــــــــــــــــــــــ
[1] أدونيس، 1998، الكتاب، أمس المكان الآن "مخطوطة تنسب الى المتنبي يحققها وينشرها ادونيس" ، دار الساقي ، بيروت، لبنان.
[2] أ.د.حسن مكي محمد احمد ، مقالة بصحيفة الرأي العام (السودانية) 21 اكتوبر 2007 بعنوان: "ادراك السودان في المخيلة الغربية، استعراض لروايات صادرة حديثاً عن الشأن السوداني في الغرب".
[3] عدلان، الخاتم، 2006، "مقالات مختارة": ما هو المنفى وما هو الوطن؟ ، صادر عن مركز الخاتم عدلان للإستنارة، الخرطوم السودان.
[4] المصدر السابق، مقابلة صحفية للاستاذ الخاتم عدلان مع الروائية السودانية ليلى ابو العلى، ص 269 .
[5] مقالة للدكتور خالد محمد فرح، بعنوان: في سوسيولوجيا الإبداع السوداني المعاصر، ليلى أبو العلا وجمال محجوب نموذجاً، سودانايل الاكترونية، دون تاريخ.
[6] المصدر السابق.
[7] فخري صالح، دراسة بعنوان: ادب المنفى، بمجلة الكلمة عدد 10 اكتوبر 2007.
[8] مصدر سابق.
[9] كمال الجزولي، كان حاجة بون، الحوار المتمدن العدد1903 بتاريخ 2/5/ 2007.



#عادل_الحاج_عبد_العزيز (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عيدٌ جنوبيّ الباسفيك
- إن جاز لكلماتي ان ترثيك يا محمد
- لا عليكِ -اشْراقة-- إنه التجني
- في ظِل الحرب: العلاقات الاسترالية مع السودان - من غُردون إلى ...
- التلفيقيون الجدد - سؤال الأخلاق والسياسة في السودان
- النًخبة وادمان الحفر
- التُرابي يَضع المرايا أمام الجميع[1]
- التُرابي يَضع المرايا أمام الجميع[2]
- التُرابي يَضع المرايا أمام الجميع[3]
- محاولة لفضّ الإشتباك
- ) قراءة من سيرة رجل1
- قراءة من سيرة رجل يهجو اهله ( 2 )
- مُقرَنْ العَنِتْ .. مُلتقى النظاميّن الأميركي و السوداني


المزيد.....




- فنان إيطالي يتعرّض للطعن في إحدى كنائس كاربي
- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عادل الحاج عبد العزيز - ذهنيَّة التَّخوين - لإبداع المهجر السوداني المعاصر