|
) قراءة من سيرة رجل1
عادل الحاج عبد العزيز
الحوار المتمدن-العدد: 1932 - 2007 / 5 / 31 - 10:02
المحور:
الادب والفن
(1)
زفرة )) رضا الاستراليين بحالِهم، وانعزالهم، وعدم تَقبُل بِلادهم للجديد والوافد insular ونفاق أهلها، وماديتهم Materialistic يجعل منها امة براغماتية Pragmatic تَنْزع لرؤية سطح الحقائق، بالطبع هذا التشبث بالسطح. يفسر لماذا نحن مخدوعون بهؤلاء المحتالين؟، الذين هم في الغالب يَحكُموننا ))
(باترك وايت، نوبل للآداب 1973 ) [1] كان النهار شديد الحرارة في مدينة سيدني تقترب درجة الحرارة بها من الأربعين، كُنتُ ساعتها اتخذ مقعدي بجوف قطار مُكيف. امسِك بيدي كتاباً (عادة وجدنا عليها اهلها) وجد طريقه اليَّ بمساعدة من صديق! فقد كان قادماً للتو من ماوراء البحار لاجئاً، يُضاف لنا. سبق ذلك؛كُنت قد توهمت ايامها اني لن اقرأ كتاباً جديد كتب باللغة العربية الى حين.. في وقتها، حتى نُحْسِنْ غيرها، فقد كنا من جيل قُصد تجهيلهُ.. فأكملنا تعليمنا بوطننا بتلك اللّغة فقط! حَرمنا المُتفقهون بها ان نأتي لهذه الأقاصي ونحن نَتشدق ببعضٍ من غيرها كابنائهم، فقصدناها حتى عوفينا. على اي حال، ما شدني لذلك الكتاب صاحبه؛ فهو ُيشكلُ بَعْضَ تَشبُثنا بذواتنا المُغتربة وان اختلفت الوجهة هذه المرة، كان كاتبه اديبنا العالميّ الطيب صالح؛ كانت قد مرت سنوات لم نترافق معه قراءةً فقد قرأنا روائعه ونحن لم نزل في المهد. شكل وعى اجيال واجيال من اقوامنا التي كانت ماتزال تحيا وتقرأ. كُنتْ على عَجلْ.. عبرتُ صفحاته من الغلافِ الى المقابلِ في ثوان. كان مايزال طازجاً فقد طُبع في نوفمبر 2004، السنة التي تخطيناها بشهرين وقتها. اسمه "المنسي"[2]: قادني القدر ام اتفقنا معاً على ان نتوقف بصفحاته تلك، لأني ببساطة كنت كمن هو ملتزم ببرنامجٍ "للتخسيس"، يريد ان يأكل لكنه يخاف السمنة.. وكنت اخاف الوقت.
بّين اناملي صفحة حملت كلمات اديبنا الأنيقة: [3]"وصلت الى سيدني ليلاً، وكانت من الجو مثل اغلب المدن، مساحات من الضوء تتسع وتضيق. هذه على هضبة، وهذه على واد، وهذه على ضفة ... (الى قوله :) شئ يبعث على الأسى. الأنسان هذا المخلوق القوي الضعيف الغني الفقير، يبذل جهداً يائساً ليؤكد ذاته وسط وحشة الكون. وذلكم احساس ظل يلح على شيخنا الجليل، ابى العلاء: عوى في ظلام الليل عاف لعله *** يجاب وأنى والديار عوافي صوافن خيل عند باب مملك *** جمعن وما ايامه بصوافي
اصابتني كلماته بانقباض، فهرعت لغيرها دون هُدى. الى ان وصلت لصفحات متأخرة من كتابه ذاك كانت عبارة عن مشهد سجالي رائع، يتشكل من: الطيب صالح نفسه و رفيقه في رحلته تلك الى كل من الهند واستراليا، "المنسي" و السفير الاسترالي الذي كان ثالثهما ويُدعى " ريتشارد" ليرسم الطيب صالح حواره الشيق: [4](( ساقنا الحديث الى الكاتب الاسترالي (باترك هوايت) و الرسام الأسترالي (سدني نولان) ومغنية الأوبرا الأسترالية (جون سندرلاند) والأستراليون لانهم بعيدون عن مراكز الحضارة ويعلمون ان الاوربيين خاصة، يعتبرونهم أجلافاً لافكر لهم ولا ثقافة ولا فن، يهمهم جداً ان يقدموا انفسهم الى العالم على انهم قوم متحضرون يحتفون بالفن والثقافة. لذلك فهم فخورون بالاستراليين الذين احرزوا شهرة واسعة في العالم. لذلك ايضاً فإن السفير قد سعد بأننا لم نكن جاهلين تماماً باستراليا )).
تسمَّرَتْ عينايّ بِتلك الصفحة لحين، ثم نَزلت بعدها من قطاري... لم اكن قبلها اعرف عن تلك الأسماء الاسترالية الفنية شئ. وهو ما نَظُنُ انه ليس بمنْقَصة، ولكن الفضول للمَعْرِفة قد يُضاهي الهوس احياناً. ما عرفناه بعدها ان ذلك الرجل Patrick White هو الاسترالي الوحيد الذي حاز على جائزة نوبل للآداب الى الآن. وان كان قد مات في عام 1990 الاّ ان اعماله الأدبية الخالدة ظلت معلماً مُهم من معالم الحياة الثقافية باستراليا. وان للرجل اعمال عظيمة كثيرة جديرة بان تُقرأ، فركبنا بذلك قِطار جديد لنتعرف الى ادبه. الاّ ان المأزق Dilemma الذي جابهناه ونُحن نحاول ان نكتب عنه.. هو ان اي محاولة لكتابة سيّر لرجال بقاماتهم الأدبية السامقة تلك (مضافٌ اليه الطيب صالح)، ليس من المهام التي يتصدى لها من خفت اوزان معرفتهم مِثلنا. بل هي تتطلب من اوتيّ الحيطة والاحتراز بان لا يقع في المحظور، كأن يُغفل حقٌ لأحد هو اهل له مثلاً. الشئ الآخر ان معرفتنا المتواضعة، و علمنا بأن كتابة السيرة لَهي علمٌ قائم بذاته له مختصوه.
كما ان ذاكرتنا الشعبية السودانية مليئة بالمرويات والسير والشُرّاح كان منهم المرحوم طيب الذكر الطيب محمد الطيب. مما يجعل من محاولتنا تقديم قراءة من سيرة رجل في وزنه (أي وايت) ما هو الاّ اقترابٌ من تهلكة. لا ندعي معرفة بأعمال الرجل (وايت) اكثر من غيرنا، الاّ ان ما اتاحته لنا مشاغل الحياة من زمن جَعلنا نقرأ من اعماله روايتين فقط هما The Eye of the Storm و Memoir of Many in One ، فقد كان يمتلك كاتبنا اكثر من 12 رواية و عدد كبير من المسرحيات و مجموعة للقصص القصيرة. ونعترف ان ما جعل قراءة بعض اعماله عصية علينا احياناً، هو ان (وايت) White كما يصِفه النقاد الاستراليين يتميز بآذان تلتقط العامية بشكل جيد Colloquial جعلت منه كقاص ملكاً للحوار بامتياز. كما انه كان دائماً ما يحاول ان يمسك بخيوط الحياة الإنسانية بغزارتها Profuse وتعقيداتها وتعارضاتها وتشويشها. ما اود التنويه اليه ان الطريقة التي كُتب بها اسمه (اي وايت White ) في كتاب "المنسي" كانت تُكتبه بواسطة حرف الهاء عوضاً عن الواو، مما جعلنا نستوثق ان الطريق التي رسمنا بها اسمه ايضاً صحيحة بالرجوع الى كتاب الثقافة والإمبريالية لادورد سعيد [5]، والذي ترجمه عنه د. كمال ابو ديب. فقد رسم اسمه مُستخدماً حرف الواو. ولجأنا لذلك لعلمنا ان اديبنا الكبير(الطيب صالح) يثق في الكتاب وصاحبه، فقد اشار اليه ذات مرة في احدى مقالاته (في كتاب مختارات الطيب صالح، الجزء التاسع، خواطر الترحال) و هو مقال بِعنوان " رجل من الغرب .. حضارة من الشرق " يقول فيه: اديبنا الطيب صالح " وكما يُبيّن العالم العربي الأمريكي النابغة بروفسور إدورد سعيد في كتابه الثقافة والأمبريالية... الى نهاية النص.. ويبدو انني نسيت انه من البَداهة القول انه اسم "اعجمي" .. فاطلت.
وقد قُمت بذكر اخبار حياة كاتبنا Patrick White في ثلاث جهات متفرقة، هي ( جِهة الحَربْ، جهة المَسْرح، جهة السِياسة). جهة الحرب وصدق فيها قول زهير: وما الحرب الاّ ما عملتم وذقتم *** وما هو عنها بالحديث المرجم متى تبعثوها تبعثوها ذميمة *** وتضر اذا ضريتموها فتضرم فتتج لكم غلمان أسأم كلهم *** كأحمد عاد ثم ترضع فتفطم
صوتُ الحرب يمكن سماعهُ في معظم اعماله الأدبية، فقد كان هو نفسه يَعملُ كجندي مُخابرات في سِلاح الطيران الملكيّ RAF خلال الحربْ العالميّة الثانية. كان من مهامه: ان يُفتِش جيوب اعدائه الميتين بحثاً عن خرائط او رسائل، مذكرات، او اي قصاصة تحتوي معلومة يمكن ان يجدها بحوزة الطيارين الألمان، والجنود الإيطاليين، تلك الجُثث المُصفرة كانت تذوب كالذبدة في الرمال، وفي كتل الملح، وكانت الجثث تأخذها مياه البحر عندما تسوء حالتِها. وكانت من مهام باترك (وايت) الأُخرى مراقبة الرَسائِل التي يَكتُبها الطيارين لذويهم. الا انه لاحقاً بات لا يطيق لَعِب ذلك الدور. وهوحينها كاتِبٌ شاب تم زجه في أسوء تَجربة انسانية، كان الموت امام حاجبيه (كما يقول الفرنجة) في كل لحظة. بل هو يَقوم بالتلصُص على خُصوصيات واتصالاتِ حتى رفاقه.
والمُفارقة التي في حوجة للتفكر بها، فبعد كل ذلك.. إن الأدب والكتابة كانتا في انتظاره. فقد كان اثناء فترات ضجره وإنتظاره لسانحتهِ التي ستأتيه لاحقاً (نوبل). كان اثناء تلك الفترة المضطربة من حياته يُحاول ان يبقى على قيد القراءة، فكان يقرأ الكتاب المُقّدس من الغلافِ الى الغلاف، مضاف لها كل اعمال شارلز ديكنز الروائية. ان (وايت) White يصفُ بِنفسه هوْل الَمشاهِد التي رآها ايام الحرب فقال:" عندما فاضت الدماء، وتقيحت الجروح، ونحن كرجال لسِلاح الطيران يتم ارسالنا الى اسفل حيث خطوط النار والجثث للجنود ملقية في حفرٍ كبيرة بِكل انحاء اوربا وقتها" ففي تلكم الأثناء كانت تأتيه صورة شارلز ديكنز نابضة امامه، مُمتلئ بالحياة والتي يؤمن انها يجب ان تستمر. بالرغم من كل القوى المدمرة بها، والتي يعتقد ان ديكنز نفسه ادرك شرورها.
كان Goya هو واحداً من الأدباء المفضلين لديه كذلك، والذين سجل اخبارهم في مجموعة قصصية اسماها كارثة الحرب The Disaster of War، والتي سجل بها كل المشاهد والأحداث التي كان شاهداً عليها. أما اول رواياته فهي كانت ايضاً ذات صلة بجهة اهتمامه بفترة الحرب تلك في كتاباته، فأول رواية له بعد الحرب مباشرة كانت هي The Aunt’s Story صدرت في عام 1948، وهي عبارة عن رسم مُفصّل للإضطراب في اوربا عشية الحرب The eve of war كما انه في روايته تِلك قد استوحى شخصية بطل روايته المُصاب بجنون العظمة، من شخصية هتلر Hittler فكان مصدر الهام له، فقد ورد لخيال كاتبنا (وايت) White عندما توقف بصحراء مصر في ذلك الوقت .
فيما بعد وخلال سنته التي عُيّن فيها بفلسطين، انهمك (وايت)White بتعلم بعض الدروس في اللّغة العبرية القديمة، والتي ساعدته فيما بعد في رسم شخصيته التي سماها Himmelfarb وهي للاجئ يهودي متدين، كان ُيعد لدى اليهود بمثابة الحبر (حاخام) Rabbi والذي بدوره كان قد صُلب في نهايةِ روايته Riders in The Chariot. ما اتفق حوله كثير من النُقاد ان روايتيه الاثنين ما قبل الحرب Happy Valley و The living and the dead
قد كانتا عبارة عن تصوير سينمائي رفيع لمآسي تلك الفترة وآلامها، الا ان اعماله في الفترة التي تلتها، فقد تجاوزت كثيراً من تعرُّجات تلك الفترة والتي دائماً ما كان (وايت) White يَصطلح على تسميتها ، "بحرب هتلر".
ونواصل.. عادل الحاج عبد العزيز
الهوامش [1] http://nobelprize.org/nobel_prizes/literature/laureates/1973/ [2] Salih, El Tayeb, 2004, “ Selections Mansi ‘On his on way-A Remarkable Being’ Published by Riad El Rayyes – Books S.A. R. L Beirut, Lebanon. [3] المصدر السابق [4] المصدر السابق [5] سعيد، ادوارد، 1998، الثقافة والامبريالية، دار الآداب ، بيروت لبنان.
#عادل_الحاج_عبد_العزيز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة من سيرة رجل يهجو اهله ( 2 )
-
مُقرَنْ العَنِتْ .. مُلتقى النظاميّن الأميركي و السوداني
المزيد.....
-
جرأة محفوفة بالمخاطر.. شهادات علنية لضحايا اعتداء جنسي تتحدى
...
-
الفرانكو- جزائري يخرج عن صمته ويعلق بشأن -فضيحة حوريات-
-
نافذة جديدة على العالم.. مهرجان للفيلم الأوروبي في العاصمة ا
...
-
شون بين يتحدث في مراكش عن قناعاته وتجربته في السينما
-
تكريم مؤثر للفنانة المغربية الراحلة نعيمة المشرقي في مهرجان
...
-
بوتين يتذكر مناسبة مع شرودر ويعلق على رجل أعمال ألماني سأله
...
-
على طريقة أفلام الأكشن.. فرار 9 سجناء من مركز اعتقال في نيس
...
-
-الجائزة الكبرى للشعر الأجنبي- في فرنسا لنجوان درويش
-
الخنجر.. فيلم من إنتاج RT يعرض في مسقط
-
ملف -القندورة والملحفة- الجزائري بقائمة اليونسكو للتراث غير
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|