جهاد علاونه
الحوار المتمدن-العدد: 2074 - 2007 / 10 / 20 - 12:53
المحور:
الادب والفن
كان يوما صاخبا بالنسبة لنا جميعا وقد تحركت مشاعر أهل قريتنا جميعا في ليلة القدر التي توفي بها الدكتور علاء والمعروف عند فقراء قريتنا بإسم طبيب الفقراء , يصحو مبكرا جدا ليصلي الفجر مع والده الشيخ الكبير في بعض الأحيان وأحيانا يصلي لوحده , وهو طبيب مهذب جدا ومثقف جدا وعلى درجة عالية من الأخلاق النفيسة والنادرة فهو يحترم كبار السن وصغار السن وهو لا يردّ مريضا يأتي عيادته سواء أكان مستعصيا مرضه أو لا يحمل في جيبه نقودا والمهم عنده هو الرسالة الإنسانية التي يؤديها من خلال مهنته الإنسانية كطبيب يحترم مهنته.
والدكتور علاء صديق للجميع للعامل وللمهندس وللكبير وللصغير , وقد ذرف عليه أهل قريتنا ومدينتنا دموعهم يوم وفاته, وتوقفت كثير من نساء البلدة عن إعداد الطعام وخصوصا الإفطار في شهر رمضان يوم وفاته , وبعض النساء إعتذرت ممن دعتهم لتناول الإفطار عن عدم رغبتهن بإعداد لوازم الدعوة وإعتذرت كثير من العائلات عن تقديم وجبات الإفطار لمن كان بنيتهم إطعامهم في منزلهم وألغوا دعوات كانت موجهة لشقيقاته ولعماتهم ولأرحامهم جميعا, وتوقفت حركة الناس في بلدتا لأكثر من ست ساعات تخللها كثير من الصمت على وفاة الدكتور علاء ووقف الأطفال وهم محتارون من تصرف أمهاتهم بتلك الليلة وكذلك من تصرف الآباء معهم فقد إعتذر أيضا الآباء من أبنائهم ولم يصحبوهم بعد الإفطار إلى أماكن التنزه الإستهلاكية ولم يشتروا في تلك الليلة ملابس للعيد .
ولا أظن أن الدكتور علاء في بلدتنا علما وطنيا أو رمزا من رموزه ولكنه رمزا شعبيا للمتعبين ورمزا دينيا للذين أحيوا معه ليلة القدر في المسجد المطل على منزلنا والمتوسط أوسط حارتنا , وبما أنه أنها إعتكافه في الساعة السابعة صباحا فلهذه الأسباب إستقل أ و قام بإستئجارسيارة نقل لتقله لمنزل أبيه الذي يبعد عن منزله مسافة بعض الكيلو مترات ومن هناك ركب سيارة أبيه الخاصة وقام بإيصال زوجته لمقر عملها مسافة ربع ساعة من الزمن وعاد للسوق وتسوق بعض الحاجيات المنزلية كأي رجل يقوم بواجبه كأب لأبنه وكأي رجل يقوم بواجبه لزوجته ولأمه وأبيه الشيخ الكبير .
وعاد للمنزل ثم ذهب لأحضار زوجته من دوامها في إحدى المراكز الطبية وترك مفتاح سيارة أبيه في المنزل غير أن أمه الحنون على ولدها أحست أن إبنها الدكتو ر علاء متعب ومجهد من السهر أثناء ليلة القدر فحلفت عليه يمينا أن يأخذ سيارة الشيخ الكبير , وكعادته لم يغضب أمه وركب سيارة أبيه الشيخ الكبير وفي منتصف الطريق شاهده كثير من أهل البلدة وهو يقود سيارته بهدوء غير أن الذين خلفه شاهدوا السيارة تنعطف به يمينا وشمالا حتى خرجت عن الطريق المعبدة وإبتعدت عن خط سيرها لليمين وإرتطمت بكومة تراب وقلبت على بوزها الأمامي وقلبت به وحين وصلوه كان نزيف الدم قد غطى الكرسي الذي يجلس عليه وأخرجوه من السيارة وقد فارق الحياة .
وأهل بلدتنا أناس طيبون وهم لا يجهدون أنفسهم في تحليل أسباب الحادث ويكفيهم بعد نظرهم من أن الله قدر ذلك وما شاء فعل وبكى رجال كبار في السن عليه في الشوارع والأزقات الضيقة وحين شاهدتُ دماءه على بنطال أخي الذي أخرجه من السيارة كدت أن أفقد صوابي وكدت أن أشتم منه روائح عطرة غير أن عدم ميلي لمثل تلك الترهات جعلتني أكذّب حدس أنفي أما زوجتي فقد إحمّرت عيناها من البكاء وأما أمي فقد بكت عليه بصوت مسموع وإعتذرت شقيقتي عن دعوتها لنا للإفطار في منزلها وشاهدت رجالا كنت أظنهم قساة القلوب يبكون عليه محبة له وأحيانا شفقة دينية, وحسده كثير من رواد المساجد على اليوم والساعة التي مات بها: صائما وقائما وقانتا لربه, ولم يستطع غير الأطفال أن يكفكفوا دموعهم أما كبار السن فقد بكوا وأسمعونا بكاأهم .
وأما زوجته فقد أسرت لأبيه من أنها حين نظرت له وهو في ثياب الكفن لم ترى الشيب الذي يعلو {اسه وجانب رأسه وبالرغم من أن الدكتور علاء شاب صغير برغم ذلك كان الشيب يغطي راسه ولحيته وأقسمت أو كادت أن تقسم زوجته من أنها لم تر شيبا في رأسه يوم نظرت لجنازته التي تمددت أمامها باكية محنية ظهرها الذي كاد أن يتقوس عليه حزنا وبكاءا ومرارة صبرٍ ولوعة فراقْ...
ولأول مر ة في حياتي منذ أكثر من عشر سنين بصفتي علمانيا أدخل مسجدا لأصلي عليه صلاة الجنازة حبا له وإحتراما لمشاعر الذين أحبوه طبيبا وإنسانا محبا للناس ولنفسه وللجيران .
أما والدته المسكينة فإنها ألقت باللوم على نفسها لأنها أجبرته على أخذ سيارة أبيه الشيخ الكبير وأما بالنسبة للشيخ فإنه أسلم وجهه لله ولقضاءه وقدره وإعتبر أن الموت حاصل مهما كانت الأسباب .
والناس تموت كل يوم وأحيانا تموت لأسباب تافهة جدا وأحيانا تموت الناس لأسباب مقنعة ومن الناس من إعتبر موته إرادة من الله الذي أحب لقاء عبده علاء كما كان علاء قبل وفاته بيومين وأكثر يتحدث عن الموت بليلة القدر وكان يتمنى أن يموت بها ومن الناس أيضا من وصفه يوم فاته من أنه شهيد ومن الناس من قال أنه حلم به ومن الجيران من شاهد شابا في حلمه يبكي وعيونه زرقاء كعيون علاء أما جيران أبيه فإنهم قالوا أن أباه كان قلقا جدا عشية وفاته بيومين دون أن يعرفوا سبب قلقه ولا حتى والده الشيخ كان يعلم سبب قلقه .
ولم يبقى إنسان شاهده يوم الخامس والعشرين من رمضان إلاّ وقال عنه كل طيب حتى أنه قام قبل وفاته بيومين بالتكثير من إخراج الصدقات وأوصى والده بشراء حذاء لولده .
مشاعر أهل قريتنا ودودة ومتسامحة مع بعضها البعض وسامح والده بالدين الذي لعلاء على الناس وتكفل بتسديد الديون التي على علاء طمعا منه بأن تصل تلك الديون لروحه صدقة جارية .
وفي العراق يعتبر اليوم أن الذي يموت كما مات علاء أمرا طبيعيا وعاديا لا يستحق حمل المشاعر والأقلام لأن الموت في العراق بشع جدا بإسلوب طرحه للأحياء على الأرض .
حتى ! الذين لم يشاهدوا الدكتور علاء في حياتهم حزنوا عليه حزنا شديدا وبدلوا برامجهم في العيد ولم توزع الناس الحلوى ولم يسلم أحد على الآخر بكلمة كل عام وأنتم بخير !!
ولأول مرة ترفض زوجتي أن تعد لنا كعكة العيد ...ولأول مرة ترفض الناس أن تسلم على نفسها بتحية كل عام وأنتم بخير !
وكذلك تعطلت الحركة التجارية وأقفلت الناس محلاتها التجارية وعاد الناس من أعمالهم قبل أن ينهوها وقطع كثير من الناس أجازاتهم لحضور الدفن ومراسم العزاء وتعطلت حركة سير حافلات النقل لساعتين وتنشطت حافلات خاصة لتذهب للمستشفى الذي وصل إليه ميتا وعادوا به لمنزل أبيه في قريتنا ولأول مرة أحتار من تلك الجنازة وكأنها جنازة ولي من أولياء الله في القرون الوسطى وتناقلت الناس صورا له عبر أجهزة الموبايلات ...وفعلا رغبت الناس عن تناول طعام الإفطار وزهدت في المأكل والملبس والمشرب وزهدت أيضا في ليلة العيد وتقشف الجميع في ذلك اليوم الحزين يوم مات الدكتور علاء ولم يأت العيد ...
#جهاد_علاونه (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟