أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - ابراهيم ازروال - الإشكالية الدينية في خطاب الحداثيين المغاربة-( نموذج الجابري والعروي )















المزيد.....



الإشكالية الدينية في خطاب الحداثيين المغاربة-( نموذج الجابري والعروي )


ابراهيم ازروال

الحوار المتمدن-العدد: 2073 - 2007 / 10 / 19 - 11:29
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
    


مثل غيره من المجتمعات التقليدية، عرف المغرب طيلة القرن العشرين هيمنة الخطاب الديني على الأذهان وعلى مدبري المؤسسات السياسية والاجتماعية وموجهي الخطاب الثقافي العمومي. لقد احتلت الفكرية المالكية / الأشعرية واجهة المؤسسات الفكرية والثقافية الرسمية والشعبية، وارتكزت المؤسسة السياسية الرسمية، على مرجعية دينية صريحة وعلى مشروعية قدسانية موصولة بالتقاليد التاريخية وبالمنظومة السياسية الشرعية السنية.
وليس الخطاب الديني، خطابا فئويا يخص فئة دون فئة ، أو طبقة اجتماعية دون طبقة اجتماعية كما تزعم بعض التحليلات الاختزالية وبعض المقاربات المتسرعة لبنى ووظائف المقدس في مجتمع تراثي تاريخي مثل المجتمع المغربي ، لم يؤسس بعد تقاليده الدهرانية ولا فكريته الناسوتية ولا دنيويته النسقية المستندة إلى نظام معرفي ابستمولوجي منفصل عن أسس ومقولات الانطولوجيا الإسلامية التقليدية .
حين نتأمل الإنتاجات النظرية للمفكرين المغاربة الحداثيين نخرج بالاستخلاصات والنتائج التالية:
1- قلة الدراسات النظرية المخصصة للإشكالية الدينية في المجتمع المغربي وفي الفضاءات الثقافية المحكومة بالمقدس الإسلامي عموما،
2- ميل الدراسات المنجزة إلى معالجة القضايا والظواهر الفرعية والابتعاد عن القضايا الجوهرية،
3- حصر الأنظار في معالجة الإشكالية التراثية والابتعاد عن التناول النقدي لأسس وثوابت الإيمانية الإسلامية والمنظومة العقدية / الفقهية الإسلامية،
4- المنافحة الضمنية في الغالب عن الإيمانية الإسلامية والتشغيب المضمر على الإيمانية المسيحية /اليهودية،
5- عدم الالتزام بقواعد المنهج التاريخي وبتاريخية الظاهرة الدينية والإيمانية الإسلامية في مقاربة ثوابت الأنبيائية والإيمانية الإسلامية.
فالواقع أن المثقف الحداثي المغربي، التزم في الغالب بالتقديس العمومي للرموز والظواهر والعلامات الدينية، ولم ينصرف إلى تفكيك بنى المقدس الإسلامي و الكشف عن تاريخيتها وحدودها وسياقاتها ومساقاتها التارخية والنصية وعن مجافاتها الظاهرة لقواعد التعقيل ومقتضيات الفكرالحديث ، المستقل عن الاعتبارات الإيمانية والإيديولوجية إجمالا . وترجع هذه المسايرة في اعتقادنا إلى ما يلي :
1- استنكاف الكثير من المثقفين المغاربة عن البحوث القاعدية ذات الانتساب النقدي الجذري والميل إلى الدراسات الفرعية الإيديولوجية القابلة للاستثمار في حروب المواقع الرمزية في المشهد الثقافي أو السياسي،
2- قلة التمرس بالدراسات الإبستمولوجية وبالقطاعات العلمية المرتبطة بالظاهرة الدينية ونخص بالذكر: تاريخ الأديان المقارن والأنثروبولوجيا الدينية والسوسيولوجا الدينية و علم النفس التاريخي ....الخ .
3- هيمنة فكر التسوية والتوافق ، والمراهنة على استمالة المؤسسة الدينية الأرثوذكسية وذلك عبر تقديم التنازلات الفكرية والابتعاد عن الأشكلة والنقد الجذري للمسلمات القاعدية للفكر والإيمان ،
4- الإفراط في تقدير دور الايدولوجيا والخطاب السياسي في مجتمع تقليدي قائم على أرضيات عقدية قدسانية لم تكن قط مدار المنازعة ولا البحث النقدي الموضوعي ولا الدراسة التاريخية – الأنثروبولوجية المقارنة ،
5- التحصن بالمواقع الإيمانية والتراثية في مواجهة الفكر الكولونيالي والاستشراقي ، والعجز عن تدبر الانجازات الإبستمولوجية والمنهجية للفكر الإستشراقي والغربي عموما ،
6- استمرار الشعور واللاشعور الدينيين في التحكم في موجهات الرؤية لدى الكثير من العلمانيين المغاربة،
7- ضعف التقاليد الفكرية بالمغرب الإسلامي عموما وغلبة الفكرية السلفية النقلية عليها منذ قرون.
لقد راهن المثقفون الحداثيون المغاربة، على مفاهيم ومتصورات ومقولات الفكرية والإيديولوجية الماركسية المطعمة بأفكار وأراء قومية عربية، لتحقيق النقلة الثقافية والفكرية في المشهد الثقافي المغربي، ولرفد سيرورة التحديث والعصرنة بركائز ودعائم فكرية حديثة في الستينات والسبعينات على التعيين. إلا أن الخطاب المغربي اليساري، اصطدم بجدار الخطاب التقليدي المتجذر في الفضاء السوسيو- ثقافي بالمغرب . وإزاء هذا الإكراه ، انغمس الكثيرون في تناول الإشكالية التراثية ، وفي التنقيب في التراث الفكري العربي – الإسلامي عن منافذ ومسالك واضاءات لمواجهة العتمات الخطابية المقتبسة من حقول تراثية مجافية للمعاصرة ولمقتضيات الفكر العلمي .
لقد انشغل بعض المفكرين المغاربة بتحليل الخطاب الأشعري ( "الخطاب الأشعري " سعيد بنسعيد العلوي ) وبتفكيك الخطاب الفلسفي السياسي التراثي ( كتاب" الفلسفة السياسية عند الفارابي " لعبد السلام بنعبد العالي ) وبتحليل ثوابت وأركان الخطاب السياسي الإسلامي التقليدي ("العقل السياسي العربي" للجابري وكتاب مفهوم " الدولة " لعبد الله العروي وكتاب" في تشريح أصول الاستبداد" لكمال عبد اللطيف ) وفي تقديم تفكيك شمولي للعقل العربي – الإسلامي (" تكوين العقل العربي" و"بنية العقل العربي" و"العقل الأخلاقي العربي" للجابري وكتاب" مفهوم العقل" لعبد الله العروي ) .
لقد انخرط المثقفون المغاربة الحداثيون في تناول الإشكالية التراثية ، استجابة وتفاعلا مع معطيات و اعتبارات معرفية وتاريخية يمكن إجمالها فيما يلي :
1- التثبت عمليا من قوة حضور الايدولوجيا والمعتقدية الدينية في ثنايا الاجتماع المغربي والمغاربي ، وسقوط النظرات الماركسوية والوضعانية الاختزالية عن الظاهرة الدينية عموما وعن الظاهرة الإسلامية والقرآنية خصوصا ،
2- ضحالة المقاربات الجديدة وعدم استيفائها لشرائط النجاعة والنفاذية ، أي عجز الرؤية الإيدولوجية عن تدبر الصفة التركيبية للاجتماع المغربي وتدبر آليات الربط بين الحقول الاجتماعية وكيفية استمرارية هيمنة المقدس على ثنايا الجسد الاجتماعي المغربي رغم كل التحولات التحديثية وسيروات العصرنة المنطلقة منذ بداية الحماية الفرنسية على اقل تقدير ،
3- تماسك الخطاب التقليدي وتمتعه بمواقع مريحة في المؤسسات الرسمية وفي ثنايا الواقع الاجتماعي المغربي،
4- صعود قوى تراثية تسلفية قادرة على التجييش وتحويل الخطاب الدعوي إلى أداة سياسية إيديولوجية للممانعة ومحاربة التحديث والحداثة ونفي انجازات العصر الحديث رمة ( انظر " رسالة الطوفان " لعبد السلام ياسين ) ،
5- ضعف الأطر الاجتماعية للمعرفة الحداثية بالمغرب ، وعدم تمكن الحداثيين المغاربة من اختراق المشهد السياسي و الاجتماعي المغربي ، الغارق قي المقدس الصوفي أو في الممارسة التعبدية والسياسية السلفية أو في التمثلات والتخييلات اللاعقلانية عموما .
لقد انخرط بعض المثقفين الحداثيين المغاربة في مقاربة الإشكالية التراثية، تفاعلا مع واقع مجتمعي تراثي تقليدي غير متجاوب مع المقولات المركزية للفكر الحداثي ( العقلانية و العلمانية والمنهج التجريبي والموضوعية والتاريخية و الشكية واللايقين ...الخ ) ، ومع واقع الاستجابة المشرقية للتحدي السلفي المشتد خصوصا بعد هزيمة 1967.
فقد تأكد بعض المنظرين اليساريين المشارقة من صعوبة ترسيخ المفاهيم والتصورات النظرية للفكر العلمي الحديث في أوساط اجتماعية ، لم تنجز بعد ثورتها العلمية ولم تقطع مع التراثانية والقدسانية ومع كل المتصورات التراثية المخالفة لمبادئ وأسس ومقتضيات الفكر العلمي الحديث . والحقيقة أنهم لم ينصرفوا إلى تأمل إخفاق التجربة شبه الليبرالية وتأسيسس سوسيولوجيا للفشل الحداثي في الفضاءات الثقافية المحكومة بالواقعة القرآنية والإسلامية . لا جدال في أن المفكرين" الليبراليين" المشارقة ، حاولوا تأسيس قواعد للبحث العلمي ، وترسيخ مفاهيم ومقولات البحث العلمي التاريخي في الأوساط الفكرية والثقافية الإسلامية ( انظر المقدمات النظرية لكتاب " في الشعر الجاهلي " لطه حسين ) ، إلا أنها اصطدمت بمعوقات اجتماعية وابستيمية ، قادت الكثير من أقطابها إلى مواقع تراثية دفاعية أو إلى مواقع إيمانية دغمائية( أشير هنا إلى كتاب " محمد " لمحمد حسين هيكل ) . فالانتقال من " في الشعر الجاهلي " و " مستقبل الثقافة في مصر " إلى " مرآة الإسلام " و " على هامش السيرة " ،انتقال يكشف عن استعصاءات جوهرية وعن اختلال جوهري في متصورات واداءات الفكر العلماني في وسط ثقافي تقليدي محتاز على مؤسسات دفاعية متماسكة وعلى تجربة تاريخية في المناظرة وفي احتواء الفكر الهرطوقي و النظر التعقيلي و التعليلي ( أحيل هنا إلى مصائر الاعتزال بدءا من حكم المتوكل العباسي).
ولئن انتقد المفكرون اليساريون الأداء الفكري للمفكرين الليبراليين( أشير هنا إلى نقد محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس لطه حسين ) ، فإنهم ارتدوا مثلهم إلى مواقع تراثية ، وسعوا إلى تبيئة المفاهيم والمقولات الحديثة تراثيا . وهكذا اشتد الإقبال على عقد المماثلات والمقايسات والتبيئات التراثية للمفاهيم والمتصورات الحديثة والحداثية ؛ فقد ظن الكثير من العلمانيين في الشرق الأوسط أن لا تجذير للمفاهيم والمقولات الحديثة في التربة الفكرية والفضاء الثقافي التراثي ، إلا بربطها بالمعارف والمفاهيم والمناهج التراثية ، ومراعاة المقتضيات الرمزية للوسط الثقافي الاجتماعي العربي/الكردي/الإيراني/التركي – الإسلامي الميال إلى استعادة تمامية التقليد الإسلامي خصوصا بعد الرضة الحزيرانية وقيام الثورة الإيرانية .
وهكذا ، انخرط الكثير من المثقفين العلمانيين في الشرق الأوسط ، في تناول الإشكاليات التراثية ، وفي مقاربة المواضيع التاريخية انطلاقا من مفاهيم مستلة من منظومة فكرية حديثة . وانحصرت البحوث الأساسية المنجزة غالبا في نقد التراث الفلسفي ( اذكر هنا " النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية " لحسين مروة و " من التراث إلى الثورة " للطيب تزيني و " نظرية الحركة الجوهرية عند الشيرازي " لهادي العلوي .... الخ ) . فلمواجهة الهبة التراثية والأصولية الصاعدة على ايقاع التهوس بالإيمانيات والغيبيات والتراثيات ، اختار هؤلاء ، نقل المنازلة إلى المتون التراثية .فانبرى البعض للمنافحة عن الفكر الاعتزالي ( من العقيدة إلى الثورة لحسن حنفي ) أو الفكر التراثي المادي ("مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط" للطيب تزيني ) أو الفكر الصوفي (" مدارات صوفية" لهادي العلوي ) .
من المؤكد أن المفكرين الحداثيين المغاربة ، انخرطوا في الدراسات التراثية ، استجابة لتحديات الواقع السوسيو- ثقافي المغربي ، ولصعوبة استزراع فكرية حداثية مناقضة جوهريا للمفاهيم المركزية لرؤية العالم الإسلامية ، ولارتباط هذه الأنتلجانسيا الثقافية بتحولات وتقلبات المشهد الثقافي في الشرق الأوسط .
لقد تميز المفكر المغربي الحداثي ، بالتردد والتلفيق والاحتراز المبالغ فيه في تعامله الاضطراري في الغالب مع الإشكالية الدينية . فهو يؤمن في الغالب بالقيم الكونية الحداثية وبالمفاهيم الرئيسية المكونة لرؤية العالم الحديثة؛ إلا أنه عاجز نفسيا ومنهجيا وعلميا عن الانقطاع عن المخيال الإيماني وعن الذاكرة التراثية وعن الدلالات المخيالية المؤسسة للوجدان والوعي المغربيين. ولذلك فهو كثيرا ما يتخلى عن تشككيته العقلية وعن منهاجيته العلمية وعن صرامة الأدوات الإجرائية والآليات التفكيكية في تعامله مع المواد المرتبطة بثوابت الكيان العربي – الإسلامي، ويميل إلى التوفيق والتلفيق والمزج بين المتناقضات.
فالجابري لا يرى الحداثة والتحديث خارج تطوير وتأويل المعارف التراثية ويراهن على تدشين عصر تدوين جديد ليشكل بديلا لعصر التدوين القديم. وقد كرس المجلدات الأربعة من مؤلفه ( نقد العقل العربي ) لنقد العقل النظري والعملي، والتفكير في العقل نقديا باعتباره جهازا للتفكير وموجها للرؤية ومتحكما في أصول التدليل والاعتبار ومقاربة الإشكاليات الأنطلوجية والميتافيزيقية والإبستمولوجية الجوهرية المتعلقة بعقل مخصوص سماه العقل العربي . والملاحظ في جهود الجابري، هو السكوت الظاهر عن تناول جوهريات الإسلام العقدية والتشريعية والروحية تناولا علميا علمانيا مستقلا عن المسوغات المعيارية للمجال التداولي العربي- الإسلامي . فمن مفارقات ناقد العقل العربي ، أنه يداور المنهج الإبستمولوجي مبدئيا ويرفض تطبيقه عمليا على الأسس التكوينية للإيمانية الإسلامية . والأنكى انه ، يتبنى الكثير من اليقينيات الإيمانية ، بدون تمحيص علمي أو ابستمولوجي ، ويرفض أي نقد تاريخي للإسلام .
( يمكن أن نمارس النقد اللاهوتي من خلال القدماء، يعني أن نستعيد – بشكل أو بآخر – الحوار الذي دار في تاريخنا الثقافي ما بين المتكلمين ، بعضهم مع بعض ، وما بينهم وبين الفلاسفة ، ونوظف هذا الحوار في قضايا عصرنا لإزالة بعض الضباب عن بعض القضايا وجعلها محل حوار .أما أن نقوم هكذا بهتك حرماتنا ، فلا يمكن . )
(- الدكتور محمد عابد الجابري – التراث والحداثة – دراسات ومناقشات – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء- الطبعة الأولى – سبتمبر 1991- ص. 260) .
حين تتأمل هذا المخرج ، نستخلص ما يلي :
1- رفض الجابري للنقد اللاهوتي و لتعريض المسلمات الإيمانية الإسلامية للفحص النقدي والتاريخي الصريح على غرار ما أنجزه المفكرون العلمانيون الغربيون من أمثال سبينوزا وفيورباخ ونيتشه وفولتير وديدرو ورينان.....الخ ،
2- المطالبة باستعادة الحجاج البياني الكلامي والإشكالية الكلامية أو الكلامية – الفلسفية في زمان الانقطاع عن مفاهيم ومنهجيات العقل الحجاجي الكلامي وعن الأرسطية ،
3- رفض تاريخية الحجاج الكلامي / الفلسفي الإسلامي والاعتقاد بإعادة تحيين المقولات والإشكاليات الكلامية في ظرفية ابستيمية و ابستمولوجية متميزة ،
4- عجز ناقد العربي وصاحب المنهج الإبستمولوجي عن الانفصال عن المخيال الجمعي وعن أطياف وهوامات وأخيولات الأمة العربية – الإسلامية .
لقد امتلك الجابري جرأة كبرى في تفكيك المنظومة الفلسفية لأبي علي ابن سينا ( نحن والتراث ) والمنظومة الصوفية لأبي حامد الغزالي (تكوين العقل العربي والتراث والحداثة ) وفي تفكيك أصول ومكونات الفكر الصوفي ( تكوين العقل العربي وبنية العقل العربي والعقل الأخلاقي العربي ) وفي نقد الفكر الشيعي ( العقل السياسي العربي ) ؛ إلا أن نقده بقي محصورا في الجزئيات ، وغير قادر على النفاذ إلى عمق الإشكالية التراثية الكامن في الجوهر العقدي .
فمن مفارقات الجابري انه يعتبر الخطاب القرآني خطابا عقلانيا ؛ فيما يكشف أي تدبر بسيط للقصص القرآني ، على انغماس هذا الخطاب في مقامات عرفانية وفي فضاءات تخييلية بعيدة كليا عن المعاني المعطاة للعقل والتعقيل والمعاقلة في أوان المثاقفة العربية الإسلامية مع التراث العقلاني الاستدلالي الأرسطي .
والأكثر من هذا ، انه رفض النقد التاريخي للمصادر الإسلامية ، علما أن إمكانية نقد العربي – الإسلامي مشروطة بنقد المصادر المعتمدة وتعريضها للفحص النقدي التاريخي الفيلولوجي والإبستمولوجي . والأنكى أن الجابري برفضه نقد المصادر الإسلامية، يتراجع حتى عن القراءات النقدية المنجزة حول القرآن والحديث والسيرة، و يبتعد نظريا و عمليا عن روح العقلانية وعن المقتضى الأنطولوجي للحداثة . يعتقد الجابري أن إقرار التحديث في الفضاء الثقافي الإسلامي ممكن ، شريطة احترام مقتضيات الفكرية الإسلامية . ولذلك فهو يستبعد القطائع المعرفية ، ومعالجة الإشكاليات الجذرية للعقل الإسلامي بمناهج تفكيكية وبرؤى معرفية منفصلة عن التمثلات الاهتيامية للفكر الديني الإسلامي . كما يذهب إلى خوض معارك التراث بالاصطفاف إلى جانب القدرية والمعتزلة والفلاسفة ( ابن رشد وابن طفيل وابن باجة ) ضد الأشاعرة والحنابلة والصوفية ( الغزالي وابن عربي ) والفلاسفة العرفانيين ( الفارابي وابن سينا والغزالي ) .وبناء على هذا الاعتبار، فانه يراهن على النقدية الرشدية ، لتجديد المنهاج والنظر الفكري في حقول الفقه والكلام والفلسفة والسياسية والأخلاق . إلا أن الرشدية القائمة حسب الجابري على إصلاح ثلاثي : ديني وفلسفي وعلمي ، مضادة للنقد اللاهوتي من حيث المبدأ ورافضة للنظر في النصوص خارج مقررات السلف وهي تسليمية حصرا، وقئلة بحصر التأويل في طائفة محدودة ( أصحاب البرهان ) . والحقيقة أن ابن رشد يعتقد أن النص القرآني ، نص بين وواضح و"عقلاني " ويكفي التسليم بمنطوقاته لتحقيق مقاصده الجوهرية وهي مخالفة لتأويلات المتكلمين . ( وكل هذه الطوائف ( يقصد الأشعرية والمعتزلة والباطنية والحشوية ) قد اعتقدت في الله اعتقادات مختلفة ، وصرفت كثيرا من ألفاظ الشرع عن ظاهرها إلى تأويلات نزلوها على تلك الاعتقادات ، وزعموا أنها الشريعة الأولى التي قصد بالحمل عليها جميع الناس ، و أن من زاغ عنها فهو إما كافر و إما مبتدع . و إذا تؤملت جميعها وتؤمل مقصد الشرع ظهر أن جلها أقاويل محدثة و تأويلات مبتدعة . )
(- ابن رشد – الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة – مع مدخل ومقدمة تحليلية وشروح للجابري – مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى – 1998- ص . 100)
فابن رشد يصدر على مسلمات غير ناهضة في نقده للمتكلمين ؛ إذ إنه ينطلق من شفافية النص ومن شفافية الاستدلال القرآني ؛ والحال أن الطابع التركيبي التناصي للنص القرآني ، يحد من الشفافية المدعاة ، كما أن تطور الدلالة اللغوية للألفاظ القرآنية وغياب قاموس تاريخي للغة العربية يحول دون مسايرة ابن رشد في تصوراته عن ألفاظ الشرع وفي منطقه السلفي عموما وفي أقواله عن قانون التأويل .
فابن رشد الفيلسوف المحقق للإصلاح ينتهي إلى تقديس ظواهر النصوص ، ومنع الفكر والنظر على الجمهور ، وحصر التأويل في طائفة محدودة الفاعلية الاجتماعية والسياسية هي طائفة" العلماء ". والحقيقة أن التأمل في المآل المعرفي والسياسي لهذا المنظور الرشدي ، يقنعنا بانطوائه على المخاطر التالية :
1- التسليم غير المبرهن عليه بمفاهيم غير مسلمة في البرهان العقلي ( لا" البرهان" البياني) : الشريعة ومقصد الشارع وألفاظ الشرع والشريعة الأولى .... الخ ،
2- التسليم بظواهر النصوص وهو إقرار بعجز العقلانية على تناول النصوص بمنأى عن مقرراتها ،
3- إنكار ديمقراطية المعرفة وحصر التأويل أي العلم البرهاني في طائفة محدودة الوقع و السلطة وغير منزهة عن المطبات المعرفية أصلا ،
4- تمرير مفاهيم ومتصورات حجاجية بيانية فقهية باسم البرهان .
وبناء على هذه النتائج فإننا نستغرب تثمين الجابري للإصلاح العقدي عند ابن رشد ، علما أن مضمون التحليل الرشدي منافي لمفاهيم حداثية جوهرية مثل : ديمقراطية المعرفة والتنوير والمواطنة والموضوعية وتاريخية المعرفية .
( وهكذا يكتشف ابن رشد أن " ظواهر النصوص " أقرب إلى العلم من تأويلات المتكلمين ، التي يعتبرها أصحابها الحقيقة النهائية التي يكفر كل من يخرج عليها ، مع ما يترتب من الحكم بالكفر من نتائج دينية وسياسية واجتماعية . )
( - محمد عابد الجابري – ابن رشد سيرة وفكر – دراسة ونصوص - مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى – 1998- ص 129)
فالجابري يطالب بممارسة النقد اللاهوتي من خلال التراث الكلامي والفلسفي ؛ إلا انه يتماهى مع الرشدية القائمة أصلا على النظر السلفي النافي للنظر التعقلي للمسلمات الإيمانية والمضامين النصية النقلية .فجوهر الدعوى الرشدي كامن في التسليم بسلطة النص القرآني وبسلطة النص الأرسطي والمنافحة عن اتفاق مقاصد النصيين الجوهرية رغم اختلاف الآليات التدليلية والوسائط التعبيرية بين الخطاب القرآني والأرسطي .
لقد انفق الجابري وقتا كبيرا في تفكيك العقل النظري والعملي العربي الإسلامي ، ودافع عن التحديث المتدرج المتأصل في التربة التراثية ؛ وسعى إلى عقلنة اختلاف التأويلات والتفاسير بين المدارس الفكرية الأصولية و الفقهية ( التكوين و البنية ) والكلامية والفلسفية ( التكوين والبنية و " نحن والتراث " و " التراث والحداثة ") والأخلاقية ( نقد العقل الأخلاقي العربي ) والصوفية ( التكوين والبنية ) ؛ وعوض القيام ببحث اركيولوجي في أرضية الأصول القاعدية للإيمان الإسلامي ، اختار الاصطفاف إلى جانب مفكرين تراثيين مشروطين بالمقتضيات المعرفية والابستمولوجية لزمانهم الثقافي والحضاري ( ابن رشد وابن خلدون والشاطبي خصوصا ) .
( ... ولذلك فعقلنة فهمنا للتراث عملية تنصب أساسا على أنواع الفهم التي كونها المسلمون لأنفسهم عن القرآن والسنة ولما تفرع عنهما من فقه و أصول وكلام وبلاغة و أدب ، هذا يعني أنني لا أحاول أن أعقلن الدين نفسه فانا لست مصلحا دينيا آو صاحب مذهب ديني يحاول عقلنة الدين ، إنني أخوض فقط ، في القراءات والتأويلات التي عرفها تاريخنا وأحاول أن أرجعها إلى أصولها حتى نتبين أنها كانت مشروطة بشروط معينة فكرية وتاريخية واجتماعية واقتصادية ما أمكن ، بالتالي فهي تراثنا جميعا بما فيه من اختلاف واتفاق ، تراث من حقنا أن نتعامل معه تعاملا نقديا كمرجعية من المرجعيات الثقافية التي نتمرد عليها حينا ونستند عليها حينا آخر ، إذن الظرف الراهن على الأقل في تقديري الشخصي يزكي هذا النوع من التوجه ....)
(- محمد عابد الجابري - لم يعد الانغلاق ممكنا – مجلة آفاق - - مجلة اتحاد كتاب المغرب – العدد 2- السنة 1992- ص. 86) .
و الحقيقة أن انفجارات واستعصاءات وأزمات الفكر الإسلامي في القرن العشرين ، تشهد على عدم صوابية الرأي القائل بالتجديد من الداخل ، والترجيح بين التفسيرات والتأويلات ، والابتعاد عن الاستشكال الجذري لأصول الفكرية الإسلامية الأكسيولوجية والروحية والفلسفية . فالجابري يحصر مهمة المفكر في الإطار الثقافي الإسلامي ، في البحث في الأصول الثقافية والتاريخية للمقالات الكلامية والمقولات الأصولية ، والمفاضلة بين الأطروحات التراثية انطلاقا من منظور فكراني حديث منشغل بتحولات العصر ومتمسك بثوابت الأمة وبالأركان الأساسية لمرجعيتها المؤسسة . ولا مناص من القول ، بأن ارتباط الجابري بمتخيل الأمة ، يمنعه من تعميق المباحث النقدية وتفكيك مفاصل الميثولوجيا الإسلامية نظير ما أنجزه مفكرون حداثيون غربيون ( أشير هنا إلى اسبينوزا وهوبز وفولتير و فرويد ورينان وراسل .....الخ ) .
فالجابري يكتفي بالبحث في تاريخية النظر التراثي ، وشروط ومقتضيات بناء الاستدلال البياني أو البرهاني التراثي ؛ والحال أن الإشكاليات النظرية التراثية العربية الإسلامية لا تتضح كثير من عتماتها ومجاهلها إلا في سياق البحث في الفكرية الروحية بالشرق الأوسط القديم وفي سياق التدافع الروحي وتراكب العقديات وتثاقفها بهذا الفضاء الثقافي الأنثروبولوجي التاريخي الزاخر بعنفوان التخييل العقدي وبانسيابية الصور والمتخيلات العرفانية .
فالحقيقة أن النظر في الاختلافات الفكرية والإبستمولوجية بين المدارس الفكرية في الفضاء الثقافي الإسلامي ، تقتضي الفحص عن تكوين وبنية النصوص المؤسسية للإيمانية الإسلامية ، وعن تدبر المكونات المركزية لهذه الإيمانية انطلاقا من دراسات مقارنة مع النصوص التأسيسية للإيمانية اليهودية – المسيحية والمانوية والزرادشتية والصابئيةالمندائية والبوذية والهندوسية والهرمسية .
لقد وصم الجابري التراث الاعتقادي القديم للشرق الأوسط بالعرفانية الغنوصية والهرمسية وحمله مسؤولية العقل المستقل في الإسلام أي العقل الشيعي والصوفي ، علما أن هذا التراث العقدي جزء بنيوي مؤسس للنص البياني المعياري أي للنص القرآني .
لا جدال في أن الجابري يصدر في دراساته التراثية عن محفزات واعتبارات فكرانية صريحة وعن تدبر تكتيكي للفكر في أحسن الأحوال ، وعن سعي للربط بين الفكر والسياسية( انظر كتاب " التراث والحداثة ") . ولذلك فهو يميل إلى الابتعاد عن الإشكاليات الحارقة الخاصة بالنصوص والعقائد المؤسسة للإيمانية الإسلامية ، ويعتقد أن التمسك بالتسوية الفكرية والموافقة الفكرانية كفيل بتليين مواقف الخصم السلفي المتمسك بحرفية النصوص وبحتمية تحيين مقتضيات الشريعة الإسلامية في زمان الحداثة والتحديث وحقوق الإنسان . وبناء على هذا الاعتبار ، طالب الجابري بسحب مفهوم العلمانية من حقل التداول الفكري العربي – الإسلامي والتمسك بالديمقراطية والعقلانية ( انظر كتاب " وجهة نظر" ) واسترسل في تقديم التنازلات الفكرية إلى حد الوقوف على أعتاب الفكر السلفي في مؤلفاته التسعينية ( نسبة إلى التسعينات )* .
تكشف أعمال عبد العروي قدرة كبرى على الاستدلال على راهنية التحديث والحداثة الفكرية ، والخروج من منطق الحجاج والمناظرة القروسيطة ( مفهوم العقل ) ومن منطق الإعتراب ( العرب والفكر التاريخي ) ومن دعوى التجديد من الداخل .ولذلك فهو ينأى عن التمسك بالتراثيات باعتبارها سندا بيداغوجيا لتمرير المفاهيم والمتصورات الحداثية كما يفعل الجابري ؛ فهو يطلب بالانعتاق من بداهة التراث وتجاوز إشكاليات التراثية المعرفية والسياسية ، ومعانقة الفكر الحديث . وقدم في هذا الإطار ، فحصا نقديا للمنطق الفكري للعقل الإسلامي، ودلل على محدودية الانجاز النظري الإبستمولوجي للمفكرين المسلمين وعلى تاريخية العقل الإسلامي ، واستحالة استلهام التعقيل الاعتزالي أو الرشدي أو الخلدوني أو الغزالي أو التيمي كما يعتقد حسن حنفي والجابري وعبد السلام الشدادي وطه عبد الرحمان و أبي يعرب المرزوقي.
( أتطرق هنا إلى قضية جوهرية ، وهي أن مفهوم العقل عند كبار مفكرينا ، حتى الأكثر تشبثا به مثل المعتزلة والفلاسفة وابن خلدون ومحمد عبده بين أنصار الإصلاح في القرن الأخير ، غير مكتمل بالنظر إلى مفهوم آخر يهيمن اليوم على البشرية جمعاء. )
( - عبد الله العروي – مفهوم العقل – مقالة في المفارقات – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – الطبعة الأولى – 1996- ص .18)
كما قام بفحص الفكر المغربي في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، وكشف عن لا عقلانيته الصميمة وعن مجافاته لأبسط قواعد الفكر الحديث ، وعن انهماماته البرانورمالوجية والغيبية الصريحة . وليس هذا الفكر محصورا في نخب محصورة ومحدودة الفاعلية ، بل هو عام يخيم على كل مفاصل الاجتماع المغربي ، ويقوض عمقيا أي مجهود لإقرار بنيات الحداثة والتحديث .
( 1- إن الفكر التقليدي ، المخالف في منهجه ومفترضاته للفكر الحديث ، يعتبر نفسه ويعتبره المجتمع المغربي ، المعبر الأمين على تجربته التاريخية . لذا يجد صداه عند جميع الفئات . )
( - عبد الله العروي – العرب والفكر التاريخي – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – الطبعة الرابعة -1998- ص. 42)
فلاستئناف التاريخ وتجديد المجتمع والخروج مما سماه بالتخلف المضاعف( انظر كتاب "خواطر الصباح – الجزء الثاني " ) ، اشترط إحداث القطيعة الصريحة مع مضامين وآليات المعرفة التراثية . وقد طالب مرارا ، بنقد تراثية الكثير من المثقفين الرافضين لتفعيل القطيعة المنهجية والابستمولوجية مع المجال التداولي العربي الإسلامي ، وبإقامة سوسيولوجيا للمثقفين ، يكمن دورها في الكشف عن أسباب انهمام المثقفين المغاربة والمغاربيين بالمفاهيم والمتصورات التراثية رغم فواتها الواضح وانتمائها إلى أزمات تاريخية ومعرفية تجاوزتها الحداثة بما لا يقاس .( انظر نقده لطه عبد الرحمان في " خواطر الصباح – حجرة في العنق " ) .
ولئن امتلك العروي جسارة كبرى في استشكال المعارف التراثية ، وفي تعيين مواطن الفوات الإبستمولوجي والمنهجي في البناء المنهجي والإبستيمي للمعرفة التراثية البيانية والعرفانية والبرهانية ، فانه يبدي ترددا كبيرا إزاء الأصول المؤسسة للنظر الإسلامي التراثي . فجوهر الإشكال قائم ، تحقيقا ، في الأصول لا في تأويل الأصول ، كما تعتقد الإصلاحية الإسلامية . والحداثة الفكرية قائمة ، على الفحص المتجرد والموضوعي للمستندات المعرفية والتاريخية للأصول المؤسسة ، والبحث في تمفصلاتها وتفاعلاتها وارتباطاتها مع أصول عقدية ومعرفية موغلة في القدم ومع وقائع تاريخية ومعرفية مشروطة لا بد من الكشف عنها والإبانة على طرائق العقل الديني في تحويلها وترميزها وإعادة إنتاجها .
يعتقد بعض المفكرين الحداثيين المغاربيين ، انه يمكن تحقيق التحديث والحداثة العقلية والحفاظ على جوهر المعرفة والمنهاج التراثي أي على العقيدة الإسلامية . والحقيقة أن الإخفاق التاريخي للاعتزال والرشدية ومحاولات المفكرين النهضوين التوفيقيين من أمثال طه حسين ( مرآة الإسلام ) و محمد حسين هيكل ( محمد ) وزكي نجيب محمود ( تجديد الفكر العربي ) كافية للتدليل على استحالة المصالحة بين الحداثة والإسلام . فالحداثة قائمة أصلا على نفي الفكر المتعالي المفارق وعلى استشكال الجيولوجيا المعرفية وميثولوجيا النصوص المؤسسية للمعتقدات بدون استثناء . وبناء على هذا التصور ، فلا يمكن استثناء النصوص المؤسسة للمعتقدية الإسلامية من التمحيص النقدي التاريخي كما يعتقد الكثير من المفكرين المغاربة ، عن قناعة أو عن تقية "حداثية ". وبالإضافة إلى ما تقدم ، فان التوسع السوسيولوجي للحقائق الإيمانية وانتشار الفكر الإعترابي ، أخذا أبعادا باثولوجية ظاهرة طيلة النصف الثاني من القرن العشرين ،مما سبب ضمور الفكرية النقدية وبلوغ اجتياف الحقائق والتخييلات العقدية مستويات خطيرة بدلالة انتقال الكثيرين إلى مواقع دفاعية إيديولوجية ( صادق جلال العظم ) أو إلى الخلط بين المفاهيم والمتصورات بفعل التطويق السلفي للاضاءات العقلية لعتمات ومجاهل الميثولوجيا الإسلامية ( نصر حامد ابوزيد و سيد محمود القمني ) .
لقد كرس العروي صفحات طويلة للدفاع عن الحداثة الفكرية وتمكن من تقديم أجود نقد واحذق استشكال للعقل العربي الإسلامي وللمعرفة التراثية في كتاب ( مفهوم العقل ) ؛ إلا انه يكتفي بملامسات طفيفة للإشكالية الحقيقة في ظننا وهي الإشكالية النصية العقدية .
( ويستحق الإسلام أن نقوم بذلك الجهد لأنه وحده يرغم الخصوم على العودة إلى نوع من النزاهة والاتزان، يجب أن نواجه من يجهل حقيقة الإسلام أو يتجاهله في مستواه الفلسفي العميق. ولكن للأسف الشديد لا نلاحظ هذا الاطلاع الواسع الضروري عند من يتكلم باسم الإسلام . وهو يضر من حيث لا يشعر ويصبح ، كما قال الشيخ محمد عبده ، حجة على دينه . لذا أتخوف من أن يصبح الإسلام السياسي خطرا على الإسلام كعقيدة وكدين وكأخلاق، لا بالنسبة للخارج فقط ولكن حتى بالنسبة للداخل. )
(- عبد الله العروي – التحديث والديمقراطية – ضمن كتاب - محاورة فكر العروي – جمع مقالاته ورتبها : بسام الكردي - المركز الثقافي العربي – الداررالبيضاء – الطبعة الأولى – 2000- ص .34)
إننا نستخلص من هذا الشاهد ، الاستخلاصات التالية :
1- يشهد تاريخ الفكر الإسلامي ، قديما وحديثا، على عجز النظار والمتناظرين الإسلاميين عن التناصف والتواهب ، بشهادة المؤلفات الكلامية والردود اللاهوتية أو الفلسفية الإسلامية ومأسسة العداوة الفكرية بين المذاهب والفرق والطوائف . فقد انطوت الردود والمناظرات بين مختلف الفرق والمذاهب ، على تنطعات وتشنيعات وتشغيبات وسفسطات ، بعيدة عن الفضيلة الأخلاقية ، وعلى رغبة لا مثيل لها في استئصال الخصوم الفكريين والإيديولوجيين . وأشير هما مثلا إلى :" الفرق بين الفرق" للبغدادي الأشعري و"تلبيس إبليس" لابن الجوزي الحنبلي و"الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة " لابن قيم الجوزية الحنبلي و " الفصل في الملل و الأهواء والنحل " لابن حزم الظاهري .... الخ .وليس التنازع خاصا بالفكر الإسلامي الوسيط فقط ، فقد تميز كتاب الإصلاحية والسلفية الإسلاميتين المعاصرتين والحديثتين بضراوة بلا عديل في محاربة المفكرين المتحررين من مسلمات النظر التراثي ومن السياجات الدغمائية للعقيدة ،وفي التشغيب على الفرق والملل والمذاهب المخالفة لها( انظر كتابات ديدات وطارق البشري ومحمد عمارة عن المسيحية مثلا ) .
2- المطالبة بإخضاع المتناظرين والفرقاء الفكريين إلى السوية الفلسفية للإسلام ، لا تستقيم بالنظر صعوبات نصية واستعصاءات تأويلية شكلت موضوع التنازع بين المعتزلة والأشاعرة والحنابلة والشيعة الإمامية والشيعة الإسماعيلية ؛ كما أن النص المؤسس هو موضوع استشكالات فلسفية علمانية جذرية ، تمس المكونات الجوهرية للاعتقاد الإسلامي وتنفي استقامة النظر القرآني واتساقه الدلالي والرؤيوي .
3- يحاجج العروي الإسلام السلفي الموغل في الفقهيات والشرائعيات باسم إسلام عرفاني أخلاقي وصوفي؛ والحقيقة أن التصوف والتسلف الإسلاميين ، يختلفان في الجزئيات ويتفقان في القضايا الكنهية . ثم إن المستويات العقدية والأخلاقية للإسلام ، ليست مسلمة ، من منظور الفكر العلماني والعلمي الحديث ، المعتمد من قبل العروي منذ ( الايدولوجيا العربية المعاصرة ) .
لقد بذل عبد الله العروي ، جهودا كبرى في نقد وتحليل وتفكيك ، العقل التراثي العربي – الإسلامي ، و أبان على الفوات المعرفي والمنهجي والتصوري ، لمضامين ورؤى الفكر الإسلامي الكلاسيكي ، ودلل على المحدودية الإجرائية للمنهاج المعرفي الإسلامي ضد المفكرين الإسلاميين المنتصرين لصلاحية المنهاج الإسلامي العابرة للتاريخ والثقافات والحضارات ( أشير هنا إلى طه عبد الرحمان في " تجديد المنهج في تقويم التراث " )؛ إلا انه لم يلتفت إلى أصل الإشكاليات الإسلامية أي النصوص المؤسسة . فالنصوص الثواني ، مشدودة إلى نطاقات النصوص المؤسسة ، مهما جددت أو حملت النصوص معاني ظرفية أو دلالات إيديولوجية وقتية أو انشغالات عندية محدودة السعة المعرفة والعرفانية .
لقد أسقطت تحولات القرن الحادي والعشرين الكثير من الأوهام المعرفية المتعلقة بإمكانية تأصيل المفاهيم الحداثية وتبيئتها في أرضية غير مدروسة وغير معلمنة . كما أنها أبانت على استحالة التحديث والاكتفاء بعقلنة التفاسير والتآويل ، بدون فتح الاوراش المعرفية الخاصة بالمصادر الفكرية والعقدية . وعليه ، فلا مناص للمفكر الجدير بصفته ، الآن وهنا ، من الانخراط في الأبحاث العلمية المنصبة على مقاربة المقدس النص وتفكيك آلياته الميثية وعلى قراءة الميثولوجيا الإسلامية قراءة مقارنة جسورة وناجعة .
* لقد اضطر الجابري إلى ملامسة منطقة حارقة خصوصا في كتابه ( مدخل إلى القرآن الكريم – الجزء الأول – في التعريف بالقرآن-2006 ) في سياق مخصوص، يحتاج إلى استقراء في مناولة أخرى.



#ابراهيم_ازروال (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- واقع الثقافة بسوس-قراءة في وقائع نصف قرن
- من سوس العالمة إلى سوس العلمية
- تأملات في مطلب الحكم الذاتي لسوس الكبير
- الأخلاق والعقل-التسويغ العقلاني للأخلاق
- تأملات في المعضلة العراقية
- نحو فكر مغاربي مختلف بالكلية


المزيد.....




- مصدر يعلق لـCNNعلى تحطم مسيرة أمريكية في اليمن
- هل ستفكر أمريكا في عدم تزويد إسرائيل بالسلاح بعد احتجاجات ال ...
- مقتل عراقية مشهورة على -تيك توك- بالرصاص في بغداد
- الصين تستضيف -حماس- و-فتح- لعقد محادثات مصالحة
- -حماس- تعلن تلقيها رد إسرائيل على مقترح لوقف إطلاق النار .. ...
- اعتصامات الطلاب في جامعة جورج واشنطن
- مقتل 4 يمنيين في هجوم بمسيرة على حقل للغاز بكردستان العراق
- 4 قتلى يمنيين بقصف على حقل للغاز بكردستان العراق
- سنتكوم: الحوثيون أطلقوا صواريخ باليستية على سفينتين بالبحر ا ...
- ما هي نسبة الحرب والتسوية بين إسرائيل وحزب الله؟


المزيد.....

- عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية / مصطفى بن صالح
- بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها / وديع السرغيني
- غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب / المناضل-ة
- دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية / احمد المغربي
- الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا ... / كاظم حبيب
- ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1) / حمه الهمامي
- برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب / النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
- المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة / سعاد الولي
- حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب / عبدالله الحريف
- قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس / حمة الهمامي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - ابراهيم ازروال - الإشكالية الدينية في خطاب الحداثيين المغاربة-( نموذج الجابري والعروي )