أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الفيتوري - ليال بورتا بينيتو















المزيد.....

ليال بورتا بينيتو


أحمد الفيتوري

الحوار المتمدن-العدد: 2042 - 2007 / 9 / 18 - 10:11
المحور: الادب والفن
    



لا أحب الذكرى أحب الحياة، فكل ما مضى لا وجود له أو لا يتسنى وجوده، وكذا نحن كائن اللحظة ما فات مات، وما سيأتي بذرة في حقل المجهول قد نرويها العرق والدم، ولأنها قد فقد لا يتسنى لها الوجود. هكذا؛ هكذا سيأتي ميت نجهد كي نبعث فيه الحياة بتوقنا .
هكذا لا أحب الذكرى، أحب الحياة ومصاب بالأمل.
بذا فإني ابن اللحظة الجدير بمصابه ، ما رأيت ثغرها إلا كشراع لبسمتها، بسمتها التي تهل حتى وإن لبستها تكشيرة ما تتبدى كالعاصفة التي تسبق الهدوء. بسمتها أصل فيها؛ هي رعشة الجسد ساعة التحامه بالأكسجين، بذا أحيا في اللحظة، فمن تنفسها أي من بسمتها انبثق كما الصبح الذي لا يغيب عن الأرض؛ فالصبح يحاذيها ويدغدغ إبطيها، تارة يدغدغ إبطها هذا، تارة يدغدغ أخيه، فلا يتسنى لها أن لا تبتسم فتغرها بسمة . منها وبها ليس لي في الذكرى، فالذكرى تعني ما مضى وبسمتها لا تمضى، هذه البسمة الزمن والزمن ذاتنا متجلية .
كأني مولود اللحظة، غير مستطاع لي الذكريات، غير متاح لي غير الأمل مصاب به ومصاب فيه، كالعاشق لا يأمل و لا يتذكر، العاشق معلق من إبطيه، هو عقربي الساعة ما يدلا علي الزمن و لا يدل الزمن عليهما، يلدغان وسميهما ماحق، و لا يلدغان بسِم أحد، في العاشق دم الآلهة؛ لا زمانيتهم.
الذكرى من كان، والعشق في يكون، هكذا العشق التحقق والذكرى هباء ما تحقق. لذا ما من عاشق يرضى أن يكون ذكرى، أن يكون من الناس، هو الناس كافة أو هو مشمول بهم ، حر لا يتوق لغير حريته والذكرى سجن .
لذا لم أحب يوما الذكرى، خاصة ذكرى السجن، وان قطع هذا السكين الحاد الشرس أي السجن عقدا من عمري. أما كفاه عقد كي أسكنه بإرادة الذاكرة ؟ ، فإن حللت فيه غصبا فلن يكون له ذلك طوعا ، السجن عسف وما رضيت العسف، لذا غمرني عسفه ولذا لن أغمر به الذاكرة، سأطوح به عنها كما طوحته عني، فكما لم يقهرني وقد أسرني فلن يغمرني وقد فككت أسري ، لن أسر ذاكرتي وما كنت مأسورا فيه و لا به .
كنت فيه ولم أكن حتى جاء إطلاق أسري يسعى، كنت أسعى دائما أن أكون خارجه .
ليلة القبض ؛ ليلة رأس السنة لعام 1979 م، كنت أطل من نافذة شقتي بالدور الخامس من عمارة تقع في شارع طارق في مدينة طرابلس الغرب ، أطل من النافذة علي نافذة في الجهة الأخرى من الشارع ،هناك فتاة شقراء بضة نهداها بارزان وخصرها خفي أما جسدها فرمح ، ذات القوام الممشوق هذه أترعت ليلتي تلك ، الفتاة كما يبدو من دول أوروبا الشرقية الذين كانوا يملئون البلاد . انغمست في المشهد فارا من خبر صباحي دوخني : أصدقائي من شعراء وكتاب اعتقلوا في مدينة بنغازي أثناء مشاركتهم في اسبوع ثقافي، اسبوع ثقافي إحياء لذكرى وفاة الشاعر الليبي علي الرقيعي ، الأسبوع الثقافي أقامته جمعية المرأة في المدينة . في حيرتي تلك وجدت في فتاة النافذة الملاذ ، وفي البحر قبالتي كونت قاربا شراعيا ومخرت اليم إلي مالطا حيث رأيت الحرية ، البحر أمامي أما خلفي فكانت الزنزانة .
لم التفت ورائي كعادتي؛ فالخلف ليس من مرادي، غيتي الصدر لهذا تشبث في ليلتي تلك بنهدي فتاة النافذة، التي تنفث سجائرها بعصبية ليلة رأس السنة تلك . أطفئت نور الغرفة وأشعلت خيالي عساني أخبئ روح جسدي العشريني في جسد فتاتي؛ فتاة النافذة المقابلة لحظتها لم أتأمل ما سيجيء و لا ما حدث .
صباح اليوم الأول من العام الجديد، نهضت من وسن علي طرقات كنت في انتظارها . رجلان دخلا الشقة أعلماني أني مطلوب من قبل جهاز أمن الدولة ، كنت أعرف الرجلين قبل هذا التقيتهما في سهرة عند أحد الأصدقاء، وعرفت أنهما من رجال المباحث.
هكذا بسهولة وانسياب غادرت زماني، كنت في السنة الأولي من العقد الثالث من عمري ، هذا العقد وزيادة قضيته بين قضبان نسيت لونها أو أنها دون لون .
في التوقيف غرقت في الوحدة ؛ زنزانة انفرادية نمطية انحشرت فيها ، جسد بدين وزنزانة نحيفة تزاوجا ، حاطني في التابوت المستطيل جيش ريبة وجحافل خوف وما من عاصم. من كوة تدخل أصابع اليد كنت أعلف بالمكرونة النية والخبز البائته ، تجاوزت جنوني بالحديث مع نفسي بصوت عال ضايق الحارس من نهرني بشدة . غالبت جحافل الخوف، أما جيش الريبة فقد اكتسحني ولم يكن ثمة مقام للتأويل؛ الزنزانة بضيقها فجة في حقيقتها، فإطعامي جعل مني ثورا يعد للذبح.
لم تسعفني الذاكرة في ملمتي تلك، لست صاحب ذاكرة لهذا أخذت في تأليف فصول حياتي الجديدة ، أفيق علي الإفطار ما يحشر من الكوة ؛ شاي بارد وخبز بائت في حجم الكف، أفطر وأعود إلي حميمي النوم مبدد الوحشة وقابر الرأب، ساعة تغيب عن الزنزانة الشمس التي تتسرب خيوطها عند ظهورها أو انحدارها فقط إلي الزنزانة عند الظهر، وقتها تقطع حبل نجاتي عربة الطعام؛ أي المكرونة غير الطازجة دائما، التي أبددها بأن أمشي في جادة الزنزانة المتر ونصف حتى مجيء عربة العشاء عند الغروب ، الظهيرة والمغربية أقضي ما بينهما ماشيا . هكذا عرفت معنى فلسفة المشائيين السقراطيين، ففي صراط الزنزانة تهياء لي المشي المفكر ،كتبت علينا خطى ومن كتبت عليه خطى مشاها، فمشيت خطاي كل يوم أحلل الوجود مانحا من رحابة اللحظة معنى لوجودي في ممشاي هذا.
حيث حشرت لم يكن لي شيء، كما لو كنت في يوم القيامة، غير أنه في الزنزانة حشر جسدي في سروال وقميص ، كم تمنيت من رفقاء : صرصار مثلا أو حشد نمل، أو جيري كي أكون له توم فصرخت مرة من الوحشة: أيتها الزنزانة حتى الصحارى الكبرى فيها جرابيع فجودي بكارثة.
لا حدث ولو مأساة؛ بهذا فطنت لجودوا من ينتظر من يأتي و لا يأتي، لا شيء يحدث و لا أحد يجيء، تأولت هذه التراجيديا في محبسي هذا : أن تنتظر اللا شيء، أن يحدث اللا حدث،الانتظار حصاده الانتظار، وكل امرئ منا في انتظار موته.
زنازين تفتح زنازين تغلق في ليل السكاكين الطويلة، وأحذية ثقيلة تصفع طرقاتها الأذن .....ليلتها قامت القيامة غمغمة وصراخ وأقدام تجر أجساد هول ما يحدث لم أتبين ملامحه رغم إصغائي بدأ ما يحدث لا يحدث . أبواب تفتح أبواب تغلق وأقدام تدك الأرض ، لم أستطع النظر فما أمامي حائط صلد. حتى شاع الصباح فشاع الخبر: زملائي في الشعر والحلم جلبوا من مدينة بنغازي حيث اعتقلوا إلي سجن الجديدة في طرابلس حيث سجنت .
كيف جلبوا
كيف اعتقلوا
كيف هم الآن ؟
أعرف أنك مصاب بالدهشة وزكام الفضول مثلي.



#أحمد_الفيتوري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بيتزا أحمد الفيتوري
- أنت كذبي
- جيل 57 بدايات الواقعية الليبية
- آنا حبيبتي
- احذروا غات !
- محاكمة صدام الأسد
- جبران تويني أو مديح النهار.
- جمعيات ليبية لحقوق الإنسان ؟
- مرثية الزوال - أخر ما تبقي من شيء أصيل في الصحراء
- القفص الزجاجي
- الزعيم نصر الله ورقة وحيدة وأخيرة بيده لا بيد عمر
- المحروق المنسي في جوف الطين
- غرابة الزمان التي لا ريب فيها
- من قتل ناجي العلي ؟
- تجربة المتشائل إبداع تحت الشمس
- كم شجرة تكون غابة ؟
- دروس الأكاديمية:لا تقول بغ ، ممنوع التصوير ، الكتابة ، الكلا ...
- قصيدة حب متأبية بطريقة خ ، خ
- تعيش جامعة العرب
- زلة عرجون اليأس


المزيد.....




- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الفيتوري - ليال بورتا بينيتو