أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان الظاهر - المتنبي في أوربا / مع كارمن ودولة الخروف الأسود















المزيد.....



المتنبي في أوربا / مع كارمن ودولة الخروف الأسود


عدنان الظاهر

الحوار المتمدن-العدد: 2024 - 2007 / 8 / 31 - 07:29
المحور: الادب والفن
    


- 21 -

أخذنا قطار الأنفاق رقم 4 متجهين الى مكتبة ودار أرشيف موناسنزيا الحكومية
MONACENSIA
ملبين دعوة مديرة المكتبة السيدة تفوريك
TWOREK
لحضور أمسية أدبية فنية يشارك فيها بعض الكتاب والشعراء من أقطار مختلفة من الذين أختاروا ميونيخ ( أو أختيرت لهم ) أو أضطروا إليها ملجأ ومقاما . فيهم الروسي والألباني والأوكراييني والسيلاني والأيراني وبربري من الجزائر غير أسمه العربي الى اللغة الأمازيغية . وآخر من شيللي . قرأنا هذه التفصيلات في لدعوة التي وجهت لنا .
وصلنا المكتبة حوالي الساعة السابعة والنصف فأستقبلتنا المديرة بحرارة ودفء . قدمت لها أبا الطيب شاعرا معروفا من العراق فرحبت به أحر ترحيب وأقترحت أن يدخل في برنامج الأمسية ليقرأ شيئا من أشعاره . أعتذر المتنبي فألحت السيدة ( تفوريك ) قائلة إنها تود كثيرا أن يُقدمَ شيءٌ من الشعر العربي وأن يدخل شاعر عربي في هذه التشكيلة الأممية ... حسب تعبيرها . شجعته أن يستجيب ويشارك . تردد كثيرا بحجة أنه لم يقرأ منذ فترة طويلة أي شعر . ثم إنه لفرط التدخين فقد قدراته على الإلقاء الفني الجيد . وأضاف ما جدوى أن أقرأ أشعاري باللغة العربية التي لا يفهمها أحد من الحضور . أمسكت المديرة الشقراء الأنيقة الفارعة الطول بذراع المتنبي ملامسة كتفه بجزء من صدرها طالبة بضراعة منه أن يتجاوب وأن يستجيب . قالت اللغة ليست بالمشكلة , الدكتور هامان موجود الآن بين المدعوين وسأطلب منه أن يقوم بترجمة ما ستقرأ ترجمة فورية الى العربية . سيجلس معك والى جنبك مترجما ومبددا لوحشتك. وسيعزف السيدان ( عمّار ) و(فيصل ) ما يناسب أشعارك من أنغام وألحان أغان عراقية تعودنا على سماع البعض منها في مناسبات سابقة. ماذا تريد أكثر ؟؟ ثم أضافت : رجاء رجاء لا تخيب أملي ولا تدع هذه الفرصة الثمينة أن تفلت مني ومنك ومن حضور هذا المساء . أخذته من ذراعه الى حيث نُصبت في قاعة للأستقبال كبيرة موائدُ ملأى بقناني النبيذ الفاخر الفرنسي والإيطالي والإسباني والألماني والبلغاري وكؤوس البللور (الشعشعاني ) ففوجيء بحشد كبير من المدعوين منهمكين في أحاديث ساخنة شتى وكؤوس النبيذ أو عصير البرتقال في أيديهم. تغير بغتة ً مزاج الشاعر وعاوده الحنين الى قول الشعر والى أن يشغل الناس كما كان أبدا وأن يملأ جو الحفل بشخصه وبشعره وثقل ماضيه شاعراً ومقاتلا ً وقتيلا . لا بد أن يفرض على هذا المساء وهذا الجمهور النشوان كثافة َ حضوره الروحي الخاص . سيعادل الجميع ثقلا ووزنا ، شعراءَ ومستمعين ، نساءً ورجالا ً. ثم قادته الى شرفة واسعة تطل على حديقة غناء تتخفى ألوان الأضواء فيها خجولة ً بين غصون أشجارها وتهذي نافورات المياه بغمغمات شبيهة بأصوات تراتيل كنائس سريان وكلدان وآراميي بغداد والموصل وجرس حزن حمائم أبي العلاء المعري ( بنات الهديل ) وغموض سجع وسحر شياطين ربات الشعر زمن الجاهلية الأولى. لم يصدق عينيه . تعلق بذراع السيدة معلنا موافقته على أقتراحها شرط أن تجلس هي الى يمينه ويجلس المترجم الى شماله . وافقت السيدة.
في الثامنة تماما التأم الحضور في القاعة الكبيرة المخصصة لمثل هذه المناسبات . رحبت المديرة ( صاحبة المتنبي ) بالحضور في كلمة تضمنت بأيجاز طبيعة مهمات مكتبتها وما قدمت من منجزات في حقل الأدب والفن على مدى الأعوام الخمسة المنصرمة . أعلنت برنامج الأمسية الذي سبق وأن وزعته بالبريد على الأدباء وأصدقاء المكتبة ومن يعنيهم أمر الثقافة . ثم أعلنت المفاجأة الكبرى وهي حضور أبي الطيب المتنبي في قاعة الإحتفال وموافقته أن يلقي شيئا من أشعاره رغم بلوغه سن التقاعد وضعف حنجرته التي خدشها النيكوتين وصروف الزمان الرديء ورمال معسكر ( رفحا ) . صفق الحضور وقوفا دون أن يعرفوا من هو المتنبي . صفقوا طويلا . أُخِذوا على ما يبدو بحماس وصدق نبرة إعجاب السيدة
( تفوريك ) بالشاعر الضيف وحرارة عبارات الترحيب به. وقف مع الواقفين وصفق لنفسه معهم كما تقتضي الأصول . هكذا , وبكل بساطة يتغلب أحيانا إحساس الإنسان المنقول إليه من سواه على كل ملكاته العقلية الأخرى . ينسى نفسه , يتحرك بشكل آلي كأي ماكنة . يتثاءب مع المتثائبين , ينعق مع الناعقين ... تماما ً كما تعوي الذئاب والثعالب إذا ما ذئبٌ أو إبنُ آوى عوى . الإنسان حيوان ناطق !! توالى على منصة القراءة خلف مكبر الصوت عدد من الشعراء والكتاب. قرأوا فإختصروا. حتى السيد ( سعيد ) الإيراني الأصل ورئيس أتحاد الكتاب الألمان قرأ هو الآخر نتفا ً قصيرة من بعض قصصه التي كتبها ونشرها في كتب باللغة الألمانية . تلت ذلك فترة إستراحة قصيرة للتدخين خارج القاعة أو لزيارة
( بيوت الراحة ) أو لتناول المزيد من كؤوس النبيذ . فالناس يتقبلون ويتذوقون الشعر بنفسية أصفى حين يكون مزاجه كافوراً أو نبيذا ً . لاحظ صاحبي خارطة لبغداد معلقة على جدار أحد أروقة مبنى المكتبة فكاد أن يغمى عليه سروراً . توقف عن الكلام أو بالأحرى خانه لسانه فأخرج من جيبه سيجارة وشرع يسحب دخانها الى عالم رئتيه المعتم أصلا بكل ما تبقى لديه من قوة وقدرة جسدية. هكذا يتفاعل بعض الناس مع مفاجآت الحياة . تركته يتأمل كالوثني بغدادَ فرأى صورته في مركزها في قلب ساحة التحرير. هذا هو جسر الجمهورية وهذا هو نصب الحرية للنحات جواد سليم وهذه عمارة مرجان تنتصب شامخة رغم تقلب الزمن. وهنا كانت حديقة غازي وسينما غازي زمان العهد الملكي . وهنا كان يأكل اللبن الزبادي وكاسات المحلبي واقفا ً كباقي الزبائن من الدكاكين التي كانت تصطف هناك متجاورة حائطا لحائط مثل بيوتنا القديمة . كان طبيعيا أن يسأل عن سر ما يرى . قلت يسأل عن سرِّ ما يرى وليس عن ( سُرَّ من رأى ) . قلت له أن إدارة المكتبة قد أعدت لك هذه المفاجأة التكريمية تشرفا بزيارتك وقبولك أن تساهم في فعاليات هذه الأمسية. قال ومن أين أتوا بصورتي ؟؟ أخذوا لك صورة بأجهزتهم السرية المخفية . هناك كاميرات للمراقبة مثبتة في كل زاوية وركن . قال مستنكرا وبنبرة غضب حتى هنا تلاحقني الأجهزة السرية ؟! قلت لست وحدك في هذا المكان . ثم لا علاقة للمكتبة بهذه الأجهزة. جهات أخرى مسؤولة عن هذا الأمر . جهات أخرى تراقب كل نأمة ونفس وكل شاردة وواردة لا هنا حسب , وأنما في كل بقعة من بقاع العالم . قال عجيب !! حتى بغداد تحت المراقبة ؟؟ نعم ، يراقبونها ليلا ونهارا ً ومن شتى خطوط الطول والعرض وزوايا السماء وسمتها . تحت وفوق نطاق الجذب الأرضي . من كردستان حتى حقول مجنون . ومن زاخو الى الفاو . ومن أعالي الفرات في دياربكر ونصيبين وسد أتاتورك حتى صحارى معسكر رفحا . إبتسم الرجل ساخرا ً جاذبا ً أقصى ما يستطيع من دخان سيجارته مرددا ً لا حول ولا قوة الا بالله . أُعلن عن إستئناف الحفل ثانية لإكمال بقية الفقرات فأستقبلتنا المديرة لدى مدخل القاعة وأخذت المتنبي من ذراعه لتجلسه وسطا بينها وبين المترجم الدكتور هامان . كان ما زال مرتبكا غير واثق من نفسه. يتعثر ويتلعثم ويمشي مطأطيء الرأس . قدمت عبر مكبر الصوت الشاعر المتنبي قائلة ً (( يشرِّفني أن أقدم لكم في هذه الأمسية شاعرا يسميه قومه ماليء الدنيا وشاغل الناس )) ... إنه أبو الطيب المتنبي ، أحمد بن الحسين الجعفى الكوفي ثم الكندي. وقف الحاضرون مرة ثانية وسط تصفيق حاد متواصل فقام ومن معه يشاركون المصفقين تصفيقا ً . ولما طال زمن التصفيق جلس المتنبي فجلست المديرة وجلس المترجم ثم جلس الحضور . عدّلت السيدة [ تفوريك ] من وضع المايكروفون أمام المتنبي . ساد القاعة صمت مهيب يناسب مقام الشاعر الضيف . أجال ببصره متفحصا ً الوجوه التي لم يرَ مثلها في حياته قط ، لا في حلب الشهباء ولا في فسطاط مصر ولا في شيراز . مرت على مخيلته صور الأعرابيات والبدويات يوم قال (( مَن الجآذرُ في زي الأعاريب ِ// حُمرُ الِحلى والمطايا والجلابيبِ ؟؟ حسن الحضارة مجلوبٌ بتطرية ٍ // وفي البداوة حسنٌ غيرُ مجلوبِِ )). هزَّ رأسه وهو يقرأ هذين البيتين هزاتٍ خفيفة ً كأنما كان يدوزنها على إيقاع خفاف أرجل بعير ماش ٍ في بيداء سماوة بني كلب . مال برأسه يسارا ً حيث يجلس المترجم وهمس في أذنه شيئا لم يسمعه غيره . تغيرت سحنة الدكتور هامان فهمس بدوره في أذن تفوريك ... شحب وجهها وقطبت ما بين حاجبيها ثم سمعتها من خلال المايكروفون الذي كان موصولا بالتيار الكهربائي قائلة للمترجم : غير معقول , غير ممكن . كارثة. لقد قدمناه الى جمهور الحضور ووضعنا على الجدران خارطة بغداد وفي وسطها صورته. ثم قد رحب به الجمهور ترحيباً عزَّ نظيره . ماذا سنقول لهذا الحضور ؟؟ ساعدني . جدْ لي حلا رجاء ً. تكلم المترجم معتذرا نيابة عن المتنبي . قال إن ضيفنا أخبره أنه توقف عن قول الشعر بعد أن أغتيل في وطنه العراق . وأنه بعد مقتله أحال نفسه على التقاعد إحتجاجا على قتل وتصفية وإغتيال الشعراء وآخرهم محمد البريكان , أبن الزبير والبصرة ثم العراق. إنها صرخة مدوية عسى أن يسمعها من يسمع. واصل الترجمان كلامه قائلا : وبالإتفاق مع ضيفنا الكبير وشاعر العرب الأكبر سأقرأ وأترجم لكم - سيداتي وسادتي- بعضا ً من أشعاره وسأختار منها ما قاله في الغزل وفي وصف الطبيعة وفي العتب على الزمن المشاكس . ضجّت القاعة بالتصفيق ونهض من بين الحاضرين عراقي صارخا عاش شاعر العرب الأكبر ... عاش شاعر البدو والحضر ... عاش المناضل الكبير أبو الطيب المتنبي ...
تحيا الكوفة والسماوة وحلب ... يسقط كافور الإخشيدي والإستعمار والرجعية ... يسقط الحاتمي والمهلَّبي وعزة الدوري ومعز الدولة البويهي ... تحيا سبأ ومأرب وكندة ... تحيا بابل وحمورابي ... يا يا يا يعيش يسقط يسقط ... طز في المهلبي .
أشارت السيدة تفوريك لعمّار وفيصل أن يتداركا الموقف وأن يملآ الفجوة بصداح موسيقى ألتيهما . أخذ عمار زمام المبادرة فسارع الى النفخ في آلته سداسية الصوت ( السكسافون ) بلحن شجي سوداوي الطابع ذكرني بسكسافون المغني الأمريكي فرانك سيناترا في فيلم ( من الآن والى الأبد ) . ثم تلاه فيصل موقعا على عوده بعض الأغاني العراقية . طلبت منه أن يغني أغنية ( مُرّوا بنا من تمشون ) للغزالي فغناها مشكورا وأجاد .
إستمر الحفل حتى الساعة الحادية عشرة مساء . تفرق السامر . ودّعت السيدة المديرة أبا الطيب مقبلة ً خديه وطالبة ً منه أن يعيد النظر في موقفه من قراءة أشعاره وأنها ستنظم له أمسية خاصة به وستدعو إليها خيرة شعراء ألمانيا موتى وأحياءً ، فضلا عن شعراء العربية كالجواهري والسياب ومحمود درويش وسميح القاسم ونزار قباني والبياتي وأبي تمام . (( إنتبه المتنبي لدى ذكر أبي تمام , اذ له منه عقدة أرّقته طوال سني حياته !! )) . ثم أردفت قائلة وإنْ وافقتَ سأجزيك الجزاء َ الأوفى . خابرني أو أبعث لي فاكس . قال سأفكر في الأمر . شكرها وأنصرفنا .
في طريق عودتنا الى بيوتنا أضرب صاحبي عن الكلام ، ولم أشأ من جهتي أن ألومه أو أعاتبه أو أن استفسر عن سبب إمتناعه عن إنشاد شعره . قلت سأخرجه من إضرابه وسأغريه بخوض موضوع يهوى الخوض في تفاصيله . قلت له هل تحب أن نكمل السهرة في بيتي معا لنشاهد الفيلم الخاص بأوبرا كارمن وربما نناقش أمورا أخرى ما سبق وأن ناقشناها ؟؟ أخرج سيجارة من جيبه وطفق يعب من أدخنتها كما يمتص طفل رضيع ٌ صدر أمه . دخل في بئر عميق من ظلامة التفكير . ثم رفع رأسه على حين غرّة وقال مبتسما : وهو كذلك . سنسهر مع
( الكاولية كارمن ) . سحرتني هذه الغجرية . ما زالت لديَّ بعض الإستفسارات حول القضاء الذي ألمَّ بمقتل من سقط صريعا ومن لم يُقتل .

فضّلتُ أنْ أعرضَ على ضيفي في بيتي الإنتاج البريطاني الخاص بأوبرا كارمن الذي صُور منقولا نقلا حيا ً لأحد عروض هذه الأوبرا في واحد من مسارح لندن حيث قاد أوركسترا العزف المايسترو المعروف " زوبن ميهتا " الذي يتكلم الهندية والإنجليزية والألمانية . إنتبه ضيفي أن لغة ممثلي الأوبرا الممسرحة لا تشبه الألمانية . قلت له إنهم يتكلمون الفرنسية لأن واضع موسيقاها رجل فرنسي يُدعى " بيزيه " . قال لكن " كارمن " فتاة غجرية
إسبانية وكذلك الجندي ( خوسيه ) ومصارع الثيران وعاملات مصنع السجاير. قلت هذا صحيح ، القصة إسبانية وأحداثها وقعت في مدينة إشبيلية لكنها ترجِمت لواضع الموسيقى الفرنسي فصاغ موسيقاه من روح لغة ما ترجم له الى لسانه . الموسيقى ليس لها لسان ولذلك تسمى اللغة العالمية . إنها تخاطب نفوس البشر . سوف تحبها وتنسجم معها كأنك غجري إسباني يفهم الفرنسية . ثم لا تنس أن الشعر أيقاع موسيقي وأنت من أنت في عالم الشعر .
كان شديد الأنسجام مع ما يرى أمامه . لم يطلب طعاما أو شرابا . كان مسحورا غائبا ً عن وعيه . نسيَ التدخين ولم يسمح لي أن أعلق على بعض مشاهد المسرحية شرحا لبعض تفاصيلها . كان متكئا بكامل ظهره على الأريكة العريضة مغمض العينين حتى خيل لي مرة أنَّ الرجل قد غط َّ في سبات دون شهيق وزفير وصفارات إنذار . ما كان مهتما إلا بمتابعة سماع الموسيقى أما أحداث وتفصيلات القصة فقد شاهدناها معاً على خشبة المسرح الألماني .
إنتهى الفيلم الممسرح مع خيوط الفجر الأولى حيث بان َ في الأفق الشفق الأصفر الوردي آخذاً بالإصطباغ التدريجي باللون الأحمر القاني ، لون زهور شجرة الرمان في بساتين الطفولة . قال سأنام هنا على هذه الأريكة . لا أحتاج إلا الى بطانية واحدة أو لحاف عادي غير سميك ، لحاف صيفي. بعد بضعة سويعات سأناقش معك ظروف مقتل الضابط وكارمن ومصارع الثيران . فالموضوع يحيرني ويشغل تفكيري.
نهض المتنبي من نومه حوالي الساعة الحادية عشرة وكان الفطور جاهزاً . سأل وهو يتجه نحو الحمام هل أن الشاي جاهز ؟؟ كل شيء جاهز يا أبا الطيب . تحممْ وتعال نتناول فطورنا . أتعبتنا الليلة الماضية .
سأل ونحن على مائدة الطعام ما تفسير أن يقتلَ العسكري ُ خوسيه كلا ً من كارمن وضابطه ثم يسقط مصارع شهير قتيلا أمام ثور ويظل هو ، خوسيه ، حيا يرزق ؟؟ قلت له ما هو تفسيرك لهذا الأمر ؟؟ إرتشف رشفة قوية ً عميقة ً من كأس شايه ثم قال : في الحياة ما يسمى بالقدر الأعمى . صحيح إنه أعمى لكن تتحكم في هذا القدر الأعمى جملة ضوابط تشبه من وجوه كثيرة القوانين الصارمة. إنها توجهه حينا ويوجهها هو ويتحكم في مساراتها حينا آخر. يتبادلان الأدوار في الخفاء . لكن من الذي يحرِّكهم ؟؟ من يرسم لهم الطريق ؟؟ من يحدد الإتجاهات ؟؟ تسلسل الأحداث يا أبا الطيب . للمصادفات قوانين لا نراها . لها منطقها الخاص . قال وضِّح ْ قليلا . قلت إن ِّ بقاء الجندي خوسيه حيا ً مقابل سقوط ثلاثة قتلى ليس محض مصادفة ... مصادفة عمياء . كلا . للأقدار عيون قوية مفتوحة ترى ما لا يرى البشر . الحدث حين يقع يرسم طريق ما يلي من أحداث . فكرة القصة كما أراها تترسم خطى فلسفة مفادها أن الغجرَ عموما وأن كارمن خاصة مخلوقون لنوع غريب من عشق الحرية الطبيعية . تهوى كارمن من تهوى وتبغض من تبغض . لا قوة في الأرض تجبرها أن تغيّر رأيها أو أن تخون قلبها . جسدها وروحها متحدان . الغجر لا يعرفون الإنفصام ولا التردد . أنت كنت في أشعارك تؤكد على إزدواجية النفس - الجسم . الغجر لا يعرفون هذا الأزدواج وهذه الثنائية . متوحدون داخل أجسادهم . وهذا كما إخالُ سرُّ قوة شخصياتهم . ملخص القول أن كارمن سقطت ضحية طبيعتها الخاصة . لم تبالِ بالموت ثمنا ًلإصرارها على التخلي عن خوسيه والإنصراف لمصارع الثيران الذي أحبت بكل جوارحها . هان الموت أمام القرار . طلب ضيفي المزيد من الشاي لتتميم فطوره . جاء الشاي سريعا . بدأ يأكل برغبة أقوى مازجا الكل بالكل . البيض المقلي مع مربى المشمش حينا , والزبدة مع الجبنة والعسل حينا آخر . أنفتحت معدة صاحبي على حديث كارمن وكان يبدو عليه أنه يصدق ما أقول بشكل مطلق . أعجبه منطقي.
واصلت الحديث قائلا إن َّ المجنّد العسكري خوسيه قد يكون هو الآخر متحدرا ًمن أصول أندلسية غجرية ، أي أنه يحمل في دمه ذات خصائص كارمن . قال وربما تجري في عروقه دماء عربية . قلت ذلك محتمل . كنا يوما هناك . أحسنت أبا الطيب , تذكرني بأمور تفوتني خاصة في ساعات تناول الطعام . لقد عزَّ على هذا أن تهجره كارمن وتعشق سواه بعد أن فرّط بالفتاة التي رشحتها أمه له خطيبة ً. قال تقصد ميكائيلا ؟؟ نعم, ميكائيلا . قال بصراحة ... إنها لم تعجبني ، إنها لا شيء مقارنة مع كارمن . قلت يبدو أن في عروقك دماء أندلسية يا أبا الطيب !! قال البدوي مثلي كالغجري حسب وصفك . طبيعي جدا ًوعنود جدا ً ومكابرٌ جدا ً . قتلتني السجايا التي قتلت كارمن . الشبه بيننا كبير . لنا نفس الجبلة والطبيعة . أنا غجري ترحلت كما يترحلون وتقلبت كما تقلبت في هواها السيدة كارمن . تراجع قليلا عن مائدة الطعام فأشعل سيجارة وقال تفضل أكمل حديث العسكر والغجر ثم أنشدَ صاحبي (( الخيلُ والليلُ والأهواءُ والغجر ُ ...)) . هل هي قصيدة جديدة يا أبا الطيب ؟؟ قال كلا . خربطات أو أضغاث أحلام متخوم بالمربى وعسل الملكات وأجبان ماعيز وأغنام قبرص / القسم اليوناني . نعم ، أحبَّ العسكري ُّ خوسيه كارمن وأرادها أن تحبه كما أحبها . أراد إقامة معادلة التوازن الطبيعي بين حواء وآدم . تركته وشرعت تجامل الضابط الأعلى رتبة ًمنه في السلّم العسكري . لم يهن الأمر على خوسيه . لا سلَّم َ عسكريا أعلى في دنيا الحب وبالنسبة لمن يحب. حين أهان الضابط ُ خوسيه لم يتردد في قتله . لقد قتل فيه مجمل المؤسسة العسكرية , المافوق والمادون كما يقول العسكر في العراق . الضبط العسكري شيء والحب شيء آخر . لكل زمانه وأحكامه فلماذا يخلط الضابط ُ الأمور َ وهي واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار ؟؟ نجوم الأكتاف لا تمنح حامليها إمتيازات فوق العادة خارج أسوار الثكنات العسكرية . بلى ، إمتيازاتهم في ثكناتهم وليس خارجها . ليس كل الناس عساكرَ . المدنيون يكرهون اللون الخاكي .
قال المتنبي هذا كلام جميل أعرفه لكني أصغيت له ولك إكراما لعيون المرحومة الشهيدة أسمهان . ضحكت ُ وصححت قائلا كارمن ، كارمن وليست أسمهان يا رجل . أسمهان ماتت غرقا في حادث سقوط سيارتها في ترعة ماء جار ٍ. قال عفوا ً ، كنت أقصد الشهيدة كارمن . ألم يقل نزار قباني (( قد مات شهيدا ً من مات على دين المحبوب )) . بلى والله قد قال . ولا أراه قد قال ما قال إلا في صاحبتنا كارمن . لو والله قمت كعيسى المسيح من موتي حيا ً لقلت في كارمن شعرا ً أفضل مما قال نزار.
حين أنفتح المتنبي على الحديث الذي أساغ َ رميت الكرة في ملعبه فطلبت منه أن يفسر سبب عجز العسكري خوسيه في أن يقتل مصارع الثيران [ أسكميللو ] أثناء العراك الذي نشب بينهما . كان خوسيه يحمل سكينا وكان المصارع أعزلا . قال سأحيل سؤالك الى المصارع الأمريكي ( عدنان القيسي / عراقي سابقا ) . قلت لا مزاح في سؤالي يا أبا الطيب . قال وأنا كذلك لا أمزح ، علام المزاح ؟؟ المصارع يعرف حيل المصارع . كلاهما دجال . المصارعون دجّالون . الناس لا يمزحون في أمور الموت والعراك . قلت بل أصرُّ على سؤالي . قال طيب سأجيبك عن سؤالك إن أغرقتني بالمزيد من الشاي ذي الوزن الثقيل . قلت ُ قد صرتَ تتكلم
بالأوزان الثقيلة . قال لم لا , أفلم يكن القيسي من الوزن الثقيل ؟؟ قلت سيأتيك الشاي كما أحببت بل ومن وزن ثقيل الثقيل .
مع الشاي الثقيل قال المتنبي إنَّ هذه المسألة لتستحق الكثير من التفكير حقا . لِمَ لمْ يستطع الجندي المهووس حبا والمفعم بالعنجهية العسكرية وما يحمل من سلاح يدوي ... لماذا عجز هذا عن قتل مصارع ثيران أعزل ؟؟ المسألة تحتاج الى
( صفنة ) جدية وطويلة . الساعة الآن قاربت الواحدة بعد الظهر ولدي َّمهمات بيتية علي َّ أن أقضيها . سنواصل نقاش هذا الحديث في فرصة أخرى . أعطني وقتا . طيب يا أبا الطيب . معك حق . سنلتقي أخريات الأسبوع القادم . أنا أيضا لدي َّ ما يشغلني طيلة هذا الأسبوع . خابر من الشارع أنْ إستجد أمرٌ طاريء أو حصل لك - لا سمح الله - مكروه .
صحبته حتى موقف الحافلة التي ستأخذه الى منزله . بقيت أنتظر حتى غابت الحافلة عن ناظري وغاب المتنبي معها في جوفها وفي جوف فراغ الغيب المغيَّب.
- 22 -

ركبنا قطار الأنفاق رقم 3 قاصدين المركز الأولمبي للسباحة في مسابحه الهائلة . وصلنا المركز في العاشرة والنصف صباحا . دفعنا أجور ثلاث ساعات ودخلنا القسم الخاص بإيداع الملابس ثم طلبت من صاحبي أن يهيء نفسه لأخذ حمام
( دوش ) حار مع الشامبو. إحتج بنبرة فيها حدة قائلا لماذا ؟؟ أخذت صباح اليوم حمّاما ً ساخنا ً وما زلت على طهارتي ولم أدخل بعد حمامي ذاك أي بيت للراحة. هل هي طقوس وضوء أم ماذا ؟؟ قلت كلا ، إنها التعليمات وإنها خطوة ضرورية لمراعاة صحة الجميع ... أنت وأنا والآخرين من أمثالنا. لا تتنرفز ولا تفقد أعصابك . إفعلْ ما سأفعل ولا تورطنا في مشاكل نحن عنها في غنى . تذكر أنك ما زلت لاجئا في هذا البلد . تبعني صاحبي على مضض لكنه رفض أن يخلع ملابس السباحة كما تقتضي التعليمات . أصرَّ أن لا يخلع القطعة الأخيرة الباقية على جسده وأن لا يتعرى ( ربي كما خلقتني ) . قال أفضّل ُ الرجوع الى معسكر رفحا الصحراوي ولا أتعرى . سأكسر المجرشة ويا غريب أذكر هلك . دخلت الحمام قبله وكان مكشوفا دون أبواب فرأى جمعا من المستحمين عراة يغنون ويغسلون رؤوسهم ويدلكون أجسامهم بالصابون ومشتقاته . جفل الرجل أول الأمر من منظر ما سبق وأن رأى مثيلا له في حياته. قلت له مشجعا ومداعبا (( هون على بصرٍ ما شقَّ منظرُه ُ ... )) مذكرا ً أياه بواحد من أبياته الشعرية . فهم التلميح فأبتسم ورمى جانبا ً قطعة التوت الأخيرة متخذا مكانه تحت دوش غير مشغول ... ولمّا رآني ضاحكا قال (( حشرٌ مع الناس عيد )) . فعلقت قائلا (( عيد بأية حال عدت َ يا عيد ُ ... )) . لم يسمعني وهو يفرك رأسه ووجهه ثم باقي أعضائه بالصابون مستمتعا بالماء الساخن يتساقط فوقه مدرارا. سمعته - يا للعجب - يغني صوتا غريبا وهو مغمض العينين تحت فقاقيع الصابون التي غطت وجهه ورأسه بشكل كامل . قلت له هيا . كفى إستحماما وماء ساخنا وصابونا . وضعنا على أجسادنا أوراق التوت ودخلنا أحواض السباحة المجاورة . قفز المتنبي في الحوض الكبير العميق المخصص للسبّاحين المَهَرة ففوجئت أن صاحبي يجيد السباحة . ترى أين تعلم فن العوم ؟؟ أخذ يقطع المسبح جيئة وذهابا بدون توقف . بل وشرع يتبارى مع بعض السابحين من الشباب . قلت له ممازحا أراك تسبح كأحد تماسيح النيل . قال أي ورب الكعبة . هناك تعلمت السباحة وكاد تمساح مرة أن يقتلني ، هاجمني ثم تخلى بقدرة قادر عني . سبح المتنبي كثيرا وقفز عدة مرات من القفاز العالي فسقط مرة على بطنه مما أثار ضحك السابحين ... الأمر الذي أغاضه كثيرا . قلت له فلنسترح ْ قليلا وسأجلب القهوة من الكافيتيريا . رحب بالفكرة . أستلقى كاملا على أحد كراسي الإنبطاح المحيطة بحوض السباحة وقدح القهوة في يده . كان مرتاحا جدا مما هو فيه . أعجبه جو المسبح الذي أخذ مع مرور الوقت يغص بالسابحين والسابحات . قلت له تستطيع أن تنام وأنت في وضعك هذا . قال كلا . أريد أن أناقشك في الأمر الذي أرجأنا مناقشته في لقائنا الأخير في بيتك . قلت ذلك أمر جاد يتطلب جوا ً آخرَ للخوض فيه وفي دقائق تفاصيله . إستلق ِ كما أنت وتمتع بالقهوة وجو المسبح الأولمبي ومتع ناظريك بما ترى من أجساد حور العين شبه عاريات . إنسَ ما يجلب لك ولي المزيد من الهموم . لدينا ما يكفينا . رأيت صاحبي سارحا ً مغمض َ العينين حتى خلته قد أخذته سِنة ٌ من نوم . تركته في الجو الذي هو فيه وإنصرفت أقلب إحدى الصحف علني أجد على صفحاتها شيئا منشورا ً لي . بعد فترة قصيرة من الزمن فتح المتنبي عينيه متأهبا للنهوض قائلا هيا للقفز والعوم ومسابقة السابحات الفاتنات فسأقهر بسباحتي جميع السابحين . قفز المتنبي في حوض السباحة العميق قبل أن يسمع جوابي. حاولت اللحاق به سُدى ً . كان يشق الماء برشاقة وسرعة مثل دلافين الفرجة المدربة . وكان يغوص تحت سطح الماء عميقا كلما حاولت الدنو منه . وحين حاولت أن أمسكه مرة فلت مثل شبوط دجلة من يدي متضاحكا ساخرا ً مرددا هيهات هيهات ... لم يمسك ْ بي أحدٌ من البشر قبلك . هيهات هيهات . لا تجرب ْ المستحيل . جربه المهلبي وكافور من قبلك فلم يفلحا . ثم طفق يردد مقطعا حرّفه ُ قليلا ً من إحدى قصائد الشاعر نزار قباني مترنما ًمتحديا هازئا (( إن ْ كنت َ قويا أخرجني من هذا اليم ْ // فأنا أعرف ُ أعرف ُ أعرف ُ فن َّ فنون العوم ْ )) . ثم يدور فجأة دالقا لسانه في وجهي هُزءا ً وتندّرا ً . لم أرَ شاعري أبدا في مثل هذا الحال من النشوة والحبور . أهو تأثير الماء أم جو المسبح الرائع أم ماذا ؟؟ تبدل مزاج الرجل جذريا حتى أني كدت أن أتخيل أنَّ الرجل قد تغير ... قد تحول . في الماء يجد الإنسان ُ نفسه أخف وزنا ً ، وبالتالي سيخف وزن همومه . شعرت بالإعياء وأحمرّت عيناي وضاقت الرؤية أمامي لكن صاحبي كان غارقا في جو أثيري علوي ساحر يعز عليه فيه أن يغادره . تركت الماء لأستلقي على كرسي الإضطجاع الطويل مقلبا الجريدة إياها ومجلة
( رسالة العراق ) التي أستعيرها عادة من بعض الأصدقاء . غرقتُ في قراءة بعض المواضيع لكني كنت أحرص أن ألقي بين الفينة والفينة نظرة ًعلى صاحبي الذي كان كثيرا ً ما يضيع من ناظري بين حشود السابحين . متى سيغادرُ الماءَ صاحبي ؟؟ لقد تحداني بقوله (( إنْ كنت َ قويا ً أخرجني من هذا اليم ْ )) .
فمن ذا الذي يستطيع إخراجه من هذا اليم ؟؟ سأحاول النوم أو أن أغرِّق نفسي في قراءة بعض المواضيع السياسية .
ترك المتنبي أخيرا ً حوض السباحة نافضا ً الماء عن رأسه ماسحا ً وجهه بكف يده اليمنى . دنا مني فناداني ( هَيْ هَيْ ) ظانا أني كنت نائما ً إذْ رأى الجريدة تغطي وجهي كاملا . أزحتها عن وجهي متسائلا هل شبعت سباحة ؟؟ قال كلا ، بل شبعت ماء ً. ثم عاد يسألني : وأنت هل شبعت َ نوما ؟؟ قلت كلا ، لا يأتيني نوم في المسابح . بل كدت أن أشبع قراءة ً . قال ذلك أفضل الجميع وأخذ يقرأ
(( وخيرُ جليس ٍ في الزمان ِ كتاب ُ )) .
في السادسة تركنا المسبح عائدين الى دورنا . وفي قطار الأنفاق رقم 3 فاجأني صاحبي أن لديه دعوة لحضور مهرجان ثقافي في العاصمة السويدية
( ستوكهولم ) . قال لي ما رأيك؟ قلت إذهب ْ وشارك ْ ثم عدْ وحدثنا عما رأيت. ... ليس لدي َّ ما أقول للقوم . قلت بل هم سيقولون الكثير وما عليك إلا الإصغاء . ثم إن َّ حضورك بحد ذاته سيملأ سماء العاصمة السويدية وسيشغل ساكنيها قاطبة. قال وهل تظن أنهم سيسمحون لي بتوجيه كلمة نقد أو تعليق أو إشارة ؟ قلت ذلك يعتمد على جو المهرجان العام وعلى نوعية المشاركين فيه ومستوى الحضور. قال وستودِّعني في المطار ؟ قلت أجلْ ، وسأكونٌ مسروراً أن أودّعك . قال إذا ً تأهب ْ ، فغدا ً ظهراً سأغادر مدينة ميونيخ متوجها ً إلى ستوكهولم .





- ــــ23 –
-

( دولة الخروف الأسود )

قضى أبو الطيب خمسة أيام في ستوكهولم ( 29/5 / 2002 - 3/6 / 2002 ) وعاد ليقصَّ عليَّ ما رأى من أعاجيب في عاصمة السويد. أستضفته في بيتي على الطعام الذي يحب والشاي الذي يفضل ولكيما نستمتع بأقصى قدر من الحرية . لقد أرجأ ضيفي الكلام الى ما بعد طعام الغداء . قال لا يأتي الكلام الجيد مع الطعام الجيد . إمّا هذا أو ذاك . تركته على سجيته يأكل كيفما شاء لكنه كان غائبا عني في مكان وعالم آخرين . كان يفكر بعمق ، لا يرفع عينيه عن مائدة الطعام ، يتنقل بهما ما بين الصحون برشاقة فراشة وخفة نحلة . طلب ماء ً باردا ً فأتاه مع قليل من الثلج . تلفّت َ يَمنة ً ويسرة ً وقال أين اللبن ؟ قلت له قد طلبت ماء . قال أجل ، نسيت ... في الصيف ضيّعت ُ اللبن . هل الشاي جاهز ؟ أجل ، وأكثر من جاهز.
سألته هل ستفتح قمقم أسرارك ؟ قال لا أسرار لدي َّ. ليس في حياتي ثمة َ من أسرار . مع الشاي الحقيقي يأتي الإبداع . هات شايك أولا لأقص عليك ما قد رأيت. قال المتنبي :

في يوم المهرجان الثاني رأيت موكبا تتقدمه ملكة السويد . توسط الموكب ( دولة الخروف الأسود ) محاطا بجوقة من الطبّالة والمصفقين ومهرجي السيرك الصيني . ما أن تقدم الموكب قريباً مني حتى أستطعت تشخيص بعض المعارف.
فهذا رسّام وذاك عازف عود وآخر مصور ثم لمحت شخصا يقرأ في كتاب . وحين واصل الموكب مسيرته في واحد ٍ من أهم شوارع المدينة رجمت الجماهير المصطفة على الأرصفة جوقة ( دولة الخروف الأسود) بالطماطم والبيض المسلوق . الأمر الذي أدى الى تدخل الشرطة الملكية التي أنقذت ( دولته ) والزمرة التي كانت تحيط به . لم يكد الشارع يخلو من جماهيره الغضبى حتى وجدت نفسي وجها لوجه أمام الملكة التي مدت يدها تصافحني مرحبة محيية عاتبة علي َّ أني لم أخبرها بحضوري الى عاصمة بلدها. أعتذرت منها أني لم أعدْ أحمل سمة شاعر وإنما قبلت دعوة المهرجان الثقافي لأستمع ولأرى حسبُ . قالت سأدعوك غداً الى القصر الملكي على حفلة عشاء ولأقدمك الى صاحب الجلالة الملك . قلت لها على الفور
معتذرا أني لا أطيق منادمة الملوك . ثم قرأت لها (( قالت إنَّ الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزَّة أهلها أذلة ً وكذلك يفعلون // سورة النمل )) . قالت لكنك يا أبا الطيب تعلم أن بلدنا بلد ٌ عريق ٌ في ديمقراطيته ومشهور بمستوى وتنوع حرياته وأن الملكية فيه رمز لإستقرار أوضاعه ليس إلا . ثم ، أضافت ، ألم يزدنا العربُ ملكا جديدا ً ؟ قلت بلى ، لكن الملك الجديد لا يطلق على نفسه لقب ( صاحب الجلالة ) ... إنما الجلالة لصاحب الجلالة والإكرام خالق الملوك والصعاليك من أمثالي وسائر البشر . قالت إنَّ لفظ ( الجلالة ) بلغتنا لا يعني ما يعنيه في لغتكم . إنه مجرد من الهالة الدينية التي تسبغونها أنتم عليه . قلت لها بحزم : مع ذلك فإني أعتذر عن مقابلة السيد زوجك .
مع الشاي الرابع سألت ضيفي : يا أبا الطيب لدي سؤال أخشى أن أطرحه عليك . قال قلْ ولا تخفْ . قلت له إنك لم تبينْ لي بعدُ لماذا أسميتَ ( دولته ) بدولة الخروف الأسود ؟ قال على الفور لأن ( دولته ) كان يوما خروفا صوفته بيضاء ، واللون الأبيض كما تعلم ينقلب مع مر الزمن الى الأسمر الفاتح فالجوزي البني ِّ الغامق ثم ينتهي متحولا الى الأسود . ثم ألم تحكم العراق عام 813 للهجرة قبيلة أجنبية تركمانية حملت دولتها إسم دولة الخروف الأسود ( قره قوينلو ) وإسم مؤسسها [ قره يوسف ] حيث حل إبنه شاه محمد في بغداد وحكم العراق بإسم أبيه ؟ قلت بلى قد كان ذلك . وقد حكمتنا بعدها دولة أخرى تسمى ( دولة الخروف الأبيض ) . قال إنما هي تلك بعد أن تحوَّلت ْ اليها. السواد ( الظل ) يتمم البياض ( النور ). قلت له وهذا ما قلتَ أنتَ في واحد من أبياتك الشعرية (( ومن خبرَ الغواني فالغواني // ضياء ٌفي بواطنهِ ظلام ُ )) . تضاحك الرجل وهو يجهز سيجارة أخرى ولم يعلقْ. ثم عدت أسأله ولماذا سميت دولة التركماني قره يوسف بدولة الخروف الأسود ؟ قال لأن ( الخروف الأسود ) كان شعار هذه الدولة المرسوم على راياتها ... كما يقول المؤرخون (( كتاب : تأريخ الحلة للشيخ يوسف كركوش الحلي . القسم الأول. منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها في النجف / الطبعة الأولى 1965 , الصفحة 100 )) . لم أعطه فرصة كافية لكي يتمتع بمذاق طعم تبغ سيجارته إذ يهوى ذلك مع الشاي وخاصة بعد الطعام فسألته : ولماذا أسبغت عليه لقب ( الدولة ) فقلت دولة الخروف الأسود ؟ . نفث دخان لفافة التبغ ضَجرا ً متأففا ليقول إنك أكثرت من الأسئلة ودماغ الأنسان - كما تعلم - لا يعمل بشكل طبيعي ما دامت المعدة ملأى بما لذَّ وطابَ . زدْ على ذلك أني ما زلت أشعر بالإعياء جرّاءَ وعثاء السفر وإجراءات المطارات ومطبّات الأجواء العليا وفرق الضغط الجوي وسواها من أمور لم أألفها من قبلُ . قلت حسنا ، فلنؤجلْ الجواب والمسألة برمتها حتى موعد لقاء آخر . قال كلا ، بل سأجيب على أمل أن ننتهي من الخوض في هذا الموضوع . قلت هيا . قال وهل نسيت أن ( دولة السيد فلان ) هو اللقب الرسمي لرئيس الوزراء في البلد الشقيق لبنان ؟ قلت إي والله قد نسيت. عذراً أبا الطيب . عذرا ً والعذر عند كرام الناس مقبولُ . دولة السيد رياض الصلح ودولة السيد رشيد كرامي ثم دولة السيد رفيق الحريري . قال أفلا يستحق هذا الخروف الغارق في نرجسية مركبة غريبة في شذوذها أن يحمل لقب ( دولة الخروف ) ؟ كان السيد قره يوسف قوينلو يمثل دولة الخروف الأسود . أما صاحبنا ( خروفنا ) فأنه دولة بذاته . قلت بل وأكثر. يستحق لقب ( صاحب العصمة ). قال لا تخلط الجد َّ بالهزل. هل نسيت أني قلت يوما (( ووضع الندى في موضع السيف بالعلى // مضرٌّ كوضع السيف ِ في موضع الندى )) . إعتذرت مرة أخرى فقد لاحظت أن صاحبي قد آب من سفرته الى ستوكهولم ومقابلته لملكة السويد بمزاج حاد وصدر يضيق لأبسط الأسباب . معه حق . إنه يكره لقاء الملوك وإنه هو الذي قال (( أرانبُ غيرَ أنهمُ ملوك ٌ // مفتحة ٌ عيونهمُ نيامُ )) .
بعد الغداء والشاي والسجائر عرضت على صاحبي أن يمضي القيلولة في بيتي وأن يقصَّ علي َّ بعدها وقائع يوم المهرجان الثقافي الأول فقد تجاوزه قافزا الى فعاليات اليوم الثاني . وافق الرجل ونام فورا ً بكامل ملابسه . بعد لحظات بدأ قطار الشخير يشق عنان سماء البيت . كان الرجل متعبا ً حقا ً ومتخما ً . معه حق.
في أمسية المهرجان الثقافي الأولى - قال المتنبي أثناء شاي ما بعد القيلولة - سمعت شعرا ً بالفصحى وآخر َ باللغة الدارجة . تلت ذلك بعد فترة إستراحة قصيرة محاضرة عن الغموض والإبداع في شعر أبي الطيب المتنبي . قال المحاضر في بداية محاضرته كلاما غريبا علي َّ لم أسمع له مثيلا من قبل . تكلم عن الصورة الشعرية وإبداع الغموض وغموض الإبداع في الشعر . تكلم عن إسقاط المحور الشاقولي على المحور الأفقي كإحدى أبرز آليات توليد الصورة الشعرية وغير ذلك مما قرأه وإستعاره من كتب بعض مفكري الغرب وآخرين من العرب . ما كنا في زماننا نعرف السوريالية ولا كنا نسعى للغموض في أشعارنا كهدف أو وسيلة لجلب الشهرة على قاعدة ( خالف ْ تعرفْ ) . كنا نعرف أن الشعرَ شعرٌ وكفى. أي إما أن يكون المرء شاعرا ً بطبعه وسليقته أو أن لا يكون . إما أن يكون الشعر مطبوعا أوأن لايكون شعرا ً على الإطلاق . لقد ظلمني غير قليل من نقادي السابقين إذ إتهموني بالسعي المتعمد للغموض وخلق الإشكال والتغريب واللعب على حبال اللغة وإستفزاز أئمة اللغويين ومشاهير النحاة . كنت وبكل بساطة رجلا شاعرا ً بطبعي وحسي وثقافتي وعلمي . وكنت أخضع بالكامل لسلطان الشعر وجبروت غوايته حين يأتيني مداهما ً. كان يخترقني ويسخّرني كالعبد من خلال طبيعتي وتكويني وجبلتي التي فطرت عليها. وما كان في وسعي أن أرد َّ هذا الجبروت الطاغي ولا أن أوجهه الوجهة التي أريد . بالعكس , كان هو المحرك والموجه . كنت مجرد قشة في كف هذا القدر الغامض الذي رسم مجرى وخطوط حياتي وما لاقيت من عنت ومشاكل كان ختامها مأساة قتلي غيلة في دير العاقول ما بين واسط والنعمانية عام 354 للهجرة كما يعرف الجميع . لم أندم ْ على ما أذعتُ من أشعار بين الناس أبدا ً . وكان لحسن الحظ في زمني من يفهم ويقدر شعري وفلسفتي في نظم الشعر . كما كان هناك الحساد والمتشاعرون والموتورون . قلت له قد أبنتَ فأحسنت َ البيان ولكن ألم يقلْ المحاضر شيئا آخرَ عن شعر المتنبي ؟ قال بلى ، ساق الكثير من الأمثلة على الإبداع في الغامض من أشعاري وإعتبرني مؤسس المدرسة السوريالية في الشعر العربي . سألته وهل وافقته في كل ما قال . قال كلا ، بل كنت أوافقه على الكثير مما قال . قلت مثلا ؟ قال وافقته على الإبداع الغامض بشكل خاص في البيت (( إذا بدا حجبتْ عينيك هيبته ُ // وليس يحجبهُ سِترٌ إذا أحتجبا )) والبيت الآخر (( نافستُ فيه صورة ً في ستره ِ // لو كنتها لخفيت ُ حتى يظهرا )) . لقد إعتبرهما المحاضر قمة هرم الإبداع في شعر المتنبي وقال متعجبا ( كيف لم ينتبه النقاد الى تفرد وسحر هذين البيتين ؟ ) . قلت معلقا : لا فضَّ فوه ُ . إنهما لكذلك غاية في الغموض والإبداع . قال ولقد طلب المحاضر من الحضور أن يساعدوه في شرح البيت الثاني لأنه عصي ٌّ على الشرح والتفسير . قلت وإنه حقا لكذلك يا أبا محسد . قال مزيدا من الشاي. مع الشاي سألته وهل كانت هناك أسئلة من لدن الحضور أو ملاحظات وتعليقات . قال نعم . أبدى البعض بعض الملاحظات ، كما حاول أحدهم التشويش بخبث فتحاشاه المحاضر بلباقة وكياسة . ثم ماذا يا أبا الطيب ، هل حضرت باقي أيام المهرجان ؟ قال نعم ، حضرتها جميعا ، وكانت بين شعر وعزف وغناء وعرض لوحات رسم وبعض الأفلام . كانت أيام المهرجان تظاهرة رائعة حقا دلت على قدرة وكفاءة منظميه وسخاء يد الجهات السويدية المسؤولة التي موّلت المشروع . شكرا لملكة السويد وشكرا ( لعصمة ) زوجها الذي لولاها لما تنعّم َ بهذا اللقب السامي ، فسواه مجرد ( أمير ) !!



#عدنان_الظاهر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حوارات مع المتنبي / المتنبي في أوربا
- تصحيح معلومة خاطئة / إلى الأستاذ سلام عبود ... حول قصص جلال ...
- مقبرة الغرباء / رثاء الجواهري
- آليات الإبداع في الشعر / المتنبي نموذجاً
- الأوزون ... درع الأرض الهش
- رسالة لعدنان الظاهر من محمد علي محيي الدين
- التلوث والبيئة / الزئبق
- ليزا والقاص جلال نعيم حسن
- عامر الصافي والمناضل القتيل الحاج بشير
- البايولوجيا الإشعاعية ومخاطر الإشعاع / لمناسبة إسقاط القنبلة ...
- مشاكل ومخاطر محطات توليد الطاقة
- لوركا والبياتي / في ذكرى رحيل الشاعر
- شعراء ثلاثة : أديب وحسين وعبد الهادي
- المتنبي في أمريكا
- المتنبي في موسكو
- وشم عقارب ... ديوان شعر للشاعرة ورود الموسوي
- ألكترا تقتل أباها
- ليس دفاعاً عن سعدي يوسف / سعدي والإحتلال وعزرا باوند
- المتنبي و ( شوكار ) جارية شجرة الدرّ رومانس المتنبي
- بيان إلى المثقفين العراقيين كافة ً ...


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان الظاهر - المتنبي في أوربا / مع كارمن ودولة الخروف الأسود