أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان الظاهر - المتنبي في أمريكا















المزيد.....


المتنبي في أمريكا


عدنان الظاهر

الحوار المتمدن-العدد: 1994 - 2007 / 8 / 1 - 06:13
المحور: الادب والفن
    


بعد زيارتنا المثيرة للجدل للعاصمة الروسية موسكو ... أعرب المتنبي عن رغبته في أن نزور أمريكا معاً . لكنَّ هذه السفرة تكلفنا كثيراً يا أبا الطيب ! قا ل لاعليك ، سأتحمل كافة النفقات ... ماذا تريد أكثر ؟ لا أريد أكثر من ذلك يا صاحبي يا ذا الشهامة والبطولات والكرم . قال خفض صوتك ، لئلا يسمعك الأمير سيف الدولة الحمداني . قلت وهو كذلك . متى ننفذ هذه السفرة التي ستكلفك أموالاً طائلة ؟ قال أنت حدد ساعة الصفر . وستتولى أنت تصريف كافة أمورنا لأنك كنتَ هناك وإنك تتكلم لغتهم كما كان شأنك في بلاد المسقوف . طيّب يا أبا الطيب ، أمريكا أو الولايات المتحدة الأمريكية قارة واسعة شاسعة مترامية الأطراف فيها أكثر من خمسين ولاية وعدد لا يُحصى من العواصم والمدائن الكبيرة ، فأين سنحط رحالنا وأية ولاية أو مدينة سنزور قبل غيرها ؟ قال الشأن شأنك . أنت من يختار وأنت مَن يخطط وأنتَ مَن ينفذ . طيب يا أبا الطيب ، أقترح أن نزور مدينة نيوورك أولا ً ، نظل فيها أسبوعاً واحداً ثم ننتقل بعدها إلى مدينة لوس أنجلس في ولاية كالفورنيا لنمضي هناك أسبوعاً آخر ، ما رأيك ؟ قال موافق ، بل وأبصم بأصابعي العشرة على صك أبيض . هل معك نقود ( كاش ) بالدولار أو صكوك مسافرين ؟ قال بل معي ( فيزا كريديت كارد )
Visa Credit Card
عظيم ، ستسير أمورنا في بلاد العم سام على أحسن ما يرام .
حطت بنا الطائرة العملاقة التي تحمل إسم ( بان أمريكان ) على أرض مطار مدينة نيوورك فألفيتُ صاحبي نائماً مائل الرأس . أيقظته ففتح عينيه ببطء متسائلاً : أين نحن ؟ نحن في نيويورك يا متنبي . قال وصلناها سريعاً إذاً . كلا ، بل كنتَ طوال الوقت نائماً حتى أنك لم تتناول طعامك الذي وضعته المضيفة الجميلة أمامك . قال ما كنتُ جائعاً . فاتك منظر مدينة نيويورك من الجو يا أبا الطيب . قال سأراها في عودتنا إلى بلادنا . لم أخسر شيئاً ذا بال .
وصلنا مطار مدينة نيويورك فحجزنا في فندق حجرة لشخصين . أخذنا سيارة تاكسي صفراء اللون يقودها سائق أسود البشرة خفيف الظل ظل طوال الوقت يتكلم معنا ويسأل الأسئلة المتوقعة والمألوفة عمن نكون ومن أين أتينا وهل زرنا بلده سابقاً أم إنها الزيارة الأولى وكيف سنرى نيويورك وما نود أن نزور فيها من معالم ومتاحف وغير ذلك من الأسئلة التي أضجرت صاحبي القليل الخبرة في عالم الغرب وأمريكا . لكزني بمرفقه وطلب مني أن لا أتجاوب مع هذا السائق الفضولي وأن أدعه يتكلم دون أن أرد َّ على أسئلته [ السخيفة ] ... حسب إجتهاد المتنبي . إمتثلت ، فكيف رد السائق الظريف ؟ تركنا وإنصرف يغني بصوت مسموع . ثم فتح جهاز الراديو على موسيقى صاخبة تخدش السمع . ندم المتنبي ، قال ليته يواصل إمطارنا بأسئلته المملة بدل هذه الموسيقى ... شاغله أنت وأطلب منه أن يوقف موسيقاه . بدأت أساله بعض الأسئلة لكنه لم يجب . أهملها وتجاهلني وواظب على سماع الموسيقى . يا له من سائق خبيث .
أنزل حقائبنا أمام مدخل الفندق ، قبض أجره ثم قال ( باي ) . كنا متعبين فلم نشأ أن نغادر الفندق الذي يقع قريباً من حي هارلم [ حي الزنوج الأمريكان ] . يقال إنَّ في هذا الحي يقع ليلاً الكثير من الجرائم والسرقات وبعض القتول . سنكون على أية حال حذرين . نخاف على نقودنا قبل أن نخاف على حياتينا ، ثم ، لا يقع الفندق في هذا الحي ، إنما في منطقة قريبة منه .
خرجنا صباح اليوم التالي بعد الإفطار للتمشي والتعرف على المدينة الهائلة بناطحات سحابها وشوارعها العاجة بالسيارات والبشر . تمشينا طويلاً وحين أخذنا التعب تناولنا طعام الغداء في محل صغير لبيع الهامبركر يديره شاب أسود البشرة قصير القامة . سألنا وقد جهز الطعام أَنحبه بحلقات البصل أم بدونها ؟ ضحك المتنبي ! قال ماذا يعني هذا الصبي بسؤاله ؟ يعني هل نحب تناول الكباب المشوي مع حلقات من البصل الطري أم لا ؟ قال بل مع البصل . لا يحلو أكل اللحوم إلا مع البصل الأبيض . سألنا مرة أخرى وقد طلبنا الشاي : أتحبونه بارداً أم ساخناً ؟ إنفجر صاحبي ، يا لسخافة هذا الصبي الأسود ! أهناك في الدنيا شاي بارد يتناوله البشر الأسوياء ؟ قلت للصبي شاي حار جداً يا هذا . لم نعتدْ بعدُ على تناول الشاي البارد . طلب صاحبي هامبركر آخر وقد أعجبه الأول ، طلبه مع المزيد من حلقات البصل وطلب شايا ً آخر ثقيلاً شديد السخونة . بَشمَ المتنبي ( شبع ) ... تجشأ بصوت عالٍ فجفل الشاب الأمريكي وفتح عينيه مستغرباً ما فعل زبونه . غمزته بعيني ورجوته أن يتغاضى وينسى الموضوع . تبسم َّ على مضض.
ما رأيك في أن نزور متحف نيويورك للفن الحديث ؟ قال فكرة جيدة لكني أفضل اليوم أو ربما غداً أن نقوم بسفرة بحرية نتعرف خلالها على معالم نيويورك من جهة البحر ثم للتعرف على تمثال الحرية الشامخ يتحدى الأعاصير والزمن ؟ أخذنا أحد الزوارق المخصصة للقيام بجولات بحرية دائرية حول جزيرة مانهاتن ( تقع نيويورك في قلب هذه الجزيرة ) ثم حول تمثال الحرية . آثر صاحبي الصمت أثناء رحلتنا ، لا من كلام أو سؤال أو تعليق لكأنه يعرف مدينة نيويورك منذ قرون ويعرف أنها قلب جزيرة مانهاتن حتى دنا زورقنا من تمثال الحرية وتباطأ قليلاً كي يتمتع المسافرون ، وكلهم من السياح الأجانب ، بفرصة جيدة للإطلاع على تمثال المرأة الشاهق حاملة مشعل الحرية المتوهج بأشعاعات الشمس ، شمس الحرية ، وهو هدية من الشعب الفرنسي للشعب الأمريكي لمناسبة نجاحه في الإستقلال عن الإمبراطورية البريطانية التي ما كانت الشمس لتغربَ عنها . سألني صاحبي ألا يتمهل قائد زورقنا أكثر كي أتمتع بهذا المنظر الذي سلبني لبي وما رأيت في حياتي نظيراً له ؟ لا يجوز ذلك يا متنبي ، إنهم محكومون بأوقات محددة عليهم مراعاتها بدقة كي تأخذ زوارق أخرى دورها في نقل السياح . إنصرف صاحبي عني وغاب في عالم مجهول . لم أجرؤ أن أسأله أين غاب ، أعرف إنه في أمثال هذه الحالة لا يُجيب أبداً . غاب المدمن على الغيبة . أنهينا سفرتنا الماتعة وغادرنا الزورق فسألته كيف كانت السفرة ؟ لم يجب . حوَّل الموضوع ليسأل كيف سنقضي ليلتنا هذه ؟ سنتجول طويلاً بعد العشاء ، أجبته . قال لا للمزيد من هامبركر الشباب السود ، فلنتعشَ اليوم في مطعم محترم مهما كانت التكاليف شرط أن نجد فيه لحوماً مذبوحة على الطريقة الإسلامية . [[ وأين نجدها ؟ تساءلت مع نفسي ]] . قلت لصاحبي ربما نجد ذلك في واحد من مطاعم السود المسلمين . ما كان مرتاحاً من كلامي ، مع ذلك ، قال ، فلنجرب حظنا عسانا نجد أحدها . غادرنا الفندق بعد فترة راحة قصيرة وتبديل بعض ملابسنا وحلق المتنبي ذقنه للمرة الثانية ... غادرنا ساعين لإيجاد مطعم يقدم لحوماً إسلامية الذبح . لا أتوقع أن نجد مثل هذاالمطعم إلا في حي هارلم للزنوج . لكني أعرف أن كل َّ زنوج هذا الحي من المسيحيين . فهل تغير الوضع بعد زيارتي الأولى لأمريكا في خريف عام 1968 ؟ لا أدري ، ربما . واجهتنا المشكلة إياها : المخاطر المحتملة في هذا الحي بعد حلول الظلام . مع صاحبي ( فيزا كارد ) وبعض النقود الكاش فكيف سيكون حالنا لو هاجمتنا عصبة من شباب هذا الحي وأرغمتنا على تسليم ما معنا من نقود أو القتل ؟ وضعت هذه الإحتمالات المتوقعة أمام صاحبي ففكر طويلاً قبل أن يقول : إذاً ، سنقفل راجعين ونأكل ما يقسم ربنا من أكلات بسيطة وإنا لله وإنا إليه راجعون . وهكذا وجدنا أنفسنا مرغمين على دخول أحد مطاعم مركز المدينة الكثير الإضاءة وتناول ما يتسير فيه من لحوم البقر حتى لو كانت مسيحية الذبح . أعجب المطعم صاحبي فقال سوف لا نأكل لاحقاً إلا في هذا المطعم . وهو كذلك ، ثم إن َّ الأسعار فيه معقولة وليست مرتفعة . قال لا تفكّر بالأسعار . أنت تأكل وعمك يدفع !!
حسب رغبة المتنبي زرنا صبيحة اليوم الثالث متحف الفنون الجميلة . أراد الإستمتاع برؤية لوحات الفنان الفرنسي الإنطباعي { رينوار } ! سألته عن سبب هذا الإختيار فقال إنه قد سمع بروعة لوحات هذا الفنان ولاسيما اللوحات التي صوّر فيها خادمه القروية الصبية ( دانييل أو دانييلا ) . سألني أكان رينوار عاشقاً لهذه الصبية رغم كبر سنه ؟ قلت لا أدري ولكن ، ربما . هناك حالات مماثلة معروفة وقع فيها أدباء عالميون كبار وفنانون ورجال سياسة مرموقون ... وقعوا في غرام صبايا بعمر حفيداتهم . الغرام لا يعرف أحكام العمر يا متنبي !! قلب البشر ينفصل أحياناً عن واقع أجسادهم . قال ماذا تعني ؟ أعني أنَّ قلب الإنسان يتمرد تحت ظروف معينة على الزمن فيبقى قوياً معافى نابضاً بالحيوية رغم تدهور خلايا الجسد الأخرى وضمور عضلاته وهمود (( الهمّة الجنسية )) بل ، وحتى التشوه في بعض أجزاء الجسم . كان كف ــ أو ربما كفا رينوار ــ معطلا ً تقريباً ومشوَّها ً بسبب داء النقرس الذي يصيب المترفين من البشر ، لذا يسمى ( داء الملوك ) . قال المتنبي لم أسمع قبلاً بمثل هذه الفلسفة ... القلب ينفصل ويتمرد على الجسد ولا يصيبه ما يصيب هذا من عطب وتلف، ما هذا التخريف ؟ هذه هي الحقيقة يا رجل . لا تفهم هذه الأمور لأنك غادرتَ الحياة بعد أن تجاوزت َ الخمسين بقليل . لو إمتد عمرك كثيراً لكان حالك تماماً كحال رينوار وأضرابه من عباقرة الفن والأدب . قال ماذا تقصد ؟ أقصد لكنت همتَ غراماً بإحدى الصبايا البدويات وقد وصفت َ يوماً بعضهن َّ فقلتَ . قال لعنك الله ، لا تكف عن ملاحقة فضائح زمان شبابي حتى ونحن في بلد العم سام ؟ قبّحك الله . ضحكت ضحكة المنتصر فشاركني الرجل ضحكي مغبوناً .
وقف مشدوها ً أمام لوحات رينوار الخاصة بخادمه الصبية دانييلا لا يصدق ما يرى . كان مسحوراً حقاً . إلتصق قبالة اللوحات لا من حركة ولا تعليق . لو إستطاع لأوقف في صدره عملية التنفس . لم أقتلعه من أمام لوحات رينوار إلا بشق الأنفس . فاجأنا ونحن نتمشى مستعرضين باقي اللوحات رجل أسمر البشرة . دنا منا وحيانا فرددنا عليه بالعربية . إعتذر إنه لا يعرف اللغة العربية وأضاف إنه في الأصل من لبنان ، هاجر أبوه إلى أمريكا حين كان هو طفلاً رضيعاً . قال إنه محام ٍ وإنه عضو في
( جمعية العرب الأمريكان ) أو الأمريكان العرب وإنه برسم خدمتنا فيما لو إحتجناه . أعطانا ( كارد ) يحمل إسمه ورقم تلفونه وعنوان مكتبه في نيويورك فشكرناه . واصلت مع صاحبي جولتنا الشاقة للتعرف على هذا المتحف الهائل والرائع تنظيماً وتصميماً مع ندرة محتوياته ومقتنياته ، ثم كان دخوله مجاناً . هل تروم يا متنبي زيارة المزيد من المتاحف ؟ قال لا ، هذا يكفي . زيارة مثل هذا المتحف تغنيني عن زيارة الكثير من متاحف العالم . حتى لو كان متحف ( اللوفر ) في باريس ؟ سألته . قال قد زرته مراراً . وماذا عن متحف ( الأرمتاج ) في مدينة ليننغراد أو بيترسبورغ الروسية ؟ قال زرته مرة ً واحدة وأود لو أستطيع زيارته مرة أخرى .
رجعنا إلى فندقنا منهوكي القوى ، لا من رغبة في طعام أو شراب . إستلقينا في أسرتنا على ظهورنا بكامل ملابسنا ونمنا نوماً عميقاً قرابة الساعتين . نهضنا جائعين فقال صاحبي أسرعْ ، أكاد أموت جوعاً . أسرعْ وخذنا إلى مطعم عشاء أمس . أعجبني هذا المطعم ، نظيف وطعامه لذيذ .
أراد الشاعر بعد الطعام أن يبتاع بعض الهدايا وبعض القمصان له ولأصدقائه . تجولنا في العديد من المخازن فصرف فكرته وقال : بل نبتاع ما أروم في مدينة لوس أنجلوس . قلت الرأي رأيك والقرار قرارك والنقود نقودك . ثم إقترح أن نتصل تلفونياً بالمحامي ونسأله هل في الإمكان أن نلتقي اليوم أو غداً كي نتعرف على بعضنا جيداً وربما يأخذنا بسيارته للإطلاع على مناطق مجاورة وعلى سواحل المحيط الأطلسي . قلت إنها فكرة جيدة . عرض الرجلُ علينا خدماته فلنستفد منها . إتصلنا بالمحامي فقال سأمرُّ عليكما غداً الساعة السادسة عصراً فأمكثا هناك ولا تغادرا الفندق . يا لطيبة وشهامة الرجل ( ألبرت ْ ) . كيف سنقضي باقي يومنا هذا ؟ قال المتنبي سنزور مقر هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي . موافق ولكن ، هل تستطيع التمشي طويلاً ؟ قال أجل ، أستطيع . وقف الرجل مشدوهاً أمام مبنى هيئة الأمم المتحدة ، رافعاً رأسه إلى أعلى ما يمكنه . قلت له أتحب أن تتعرف على السكرتير العام لهذه المنظمة ؟ قال كلا ، قد كنت تعرفت على سلفه السيد ( كوفي عنان ) . أين ومتى كان ذلك يا متنبي ؟ قال خلال إحدى زياراته لبغداد قبل السقوط . هل أعجبك الرجل ؟ قال أعجبني لولا تورط ولده في سرقة نفوط وأموال العراقيين مستغلاً إسم أبيه ومعرفته الجيدة لبعض كبار مسؤولي العراق يومذاك . طيب ، ألا تحب أن نزور غداً أو بعد غد مقر محكمة الجنايات الدولية في نيويورك ؟ قال بل أود ، هل تعرف عنوان مقرها ؟ نعم يا أبا الطيب ، وصلني قبل يومين من أحد أساتذة جامعة البصرة في العراق . سنزور مقر هذه المحكمة وسنتعرف على سكرتيرها العام أو المنسق المسؤول فيها . كما قد نلتقي بعض أعضائها ومستشاريها من العرب . قال وهو كذلك ولكن ، دعنا نصرّف أمورنا للباقي من وقت هذا اليوم الذي أهلكني .
في الوقت المحدد ، في الساعة السادسة من مساء اليوم التالي ، جاء المحامي السيد ألبرت وكنا في إنتظاره في قاعة الإستقبال في فندقنا . قال هيا ، قلت ألا تشرب بارداً أو قهوة ؟ قال لا وقتَ لدينا ، أعددت لكما برنامجاً طويلاً وأنتما ضيفاي العزيزان . هيا ، أسرعا . إخترقت سيارته الشفروليه السماوية اللون جسر ( بروكلين ) الشهير متجهةً إلى
( نيوجرسي ) . أين نحن ؟ سأله المتنبي ؟ نحن الآن في أكثر شوارع نيوجرسي شهرةً ... أنه الشارع التجاري الجميل حيث تجدان فيه العديد من مخازن العرب السوريين والفلسطينيين واللبنانيين ومن جاليات عربية أخرى . فتح المتنبي عينيه واسعتين ثم سأل : أليس من بقلاوة هنا في مخازن العرب ؟ إشتقتُ إليها وقد فارقتها منذ فترة . لم يجبْ صديقنا الكريم الجديد السيد ألبرت . لازم المتنبي الصمت . بعد قليل أوقف ألبرت سيارته بحذاء رصيف يقع مقابل مخزن يرتفع منه صوت أغنية عربية . قال تفضلا ... هذا مخزن صديق لبناني فيه أجود أنواع البقلاوة . لم يصدق المتنبي . كرّر : بقلاوة ؟ هنا نجد بقلاوة ؟ في أمريكا بقلاوة ؟ طلبنا ثلاثة صناديق بقلاوة ( مشكّلة ) فأصرَّ ألبرت على أن يدفع هو ثمنها قائلاً إنما أنتما اليوم ضيفاي . قال هل تودان التعرف على عائلتي ؟ إعتذرنا , قلنا بلغْ السيدة زوجك سلامنا . قال إنها آيرلندية الأصل إسمها ماريا ولي منها ثلاثة أطفال. طاف ألبرت بنا في مناطق عديدة من ولاية نيوجرسي . يتكلم موجهاً كلامه إلى المتنبي الذي كان يجلس إلى جانبه في المقعد الأمامي . ما كان المتنبي يفقه شيئاً من اللغة الإنكليزية . كنت أترجم له كلام ألبرت كلمة كلمة ً بينما كان هو يوالي هز َّ رأسه هزات ٍ خفيفة مؤكداً فهمه لما كنت أترجم له .
رجعنا إلى فندقنا فدعونا آلبرت للعشاء معنا . قبلَ الدعوة فأخذناه إلى مطعمنا المعهود . سأله المتنبي ونحن في الطريق أما من مطعم هنا يقدم اللحوم الذبيحة على الطريقة الإسلامية ؟ قال الرجل بكل تواضع أنْ لا علمَ له بهذا الموضوع. تحرّج كثيراً من التصريح بإنه رجل مسيحي وليس لديه إهتمام باللحم الإسلامي . شرحت ذلك لصاحبي فيما بعد .
ودعنا الرجل النبيل حوالي الساعة الحادية عشرة ليلاً فكرر قوله إنه برسم خدمتنا وإنه سيكون مسروراً لو إتصلنا به ثانيةً .
تناولنا فطورنا صباح اليوم التالي مبكراً لكي نزور مقر بناية محكمة الجنايات الدولية . هذا هو عنوانها معي :
ICC
708 3rd Avenue
New York , NY – 10017
أخذنا المصعد الكهربائي إلى الطابق العشرين من بناية ضخمة حيث مقر المحكمة . دخلنا وسألنا موظفة شابة أنيقة بدا لنا إنها سكرتيرة ... سألناها أما من موظفين عرب هنا ؟ قالت كلا ، كان هنا بعضهم بالأمس . لم تسأل عن سبب زيارتنا ولا عن أسماء من وددنا لقاءهم ولم تطلب منا أن نترك لديها أسماءنا أو أرقام تلفوناتنا . شكرناها وإنصرفنا . ما حاجتنا بالتعرف على السكرتير العام أو أكابر المسؤولين وما نحن إلا مجرد سياح عابرين ؟ أردنا بتأثير حب الإستطلاع التأكد من وجود هذه المحكمة على أرض الواقع . إنها حديثة التأسيس وتسمى (( نظام روما )) .
عدنا لمركز المدينة أدراجنا فسألت صاحبي أيود زيارة متحف ( كوكنهايم ) ؟ قال أعوذ بالله منك ومن المتاحف !! أنهكتني متاحفك وجولاتك التي لا تنتهي على القدمين . لم تبقَ في جسدي قوة كافية لحمل هذا الجسد . أخشى أني قد أنهار فجأة ونحن في طريق أو مطعم أو شارع . بعُد الشر عنك يا متنبي . أظن أن مخاوفك أو أوهامك هذه هي بعضٌ من تأثير ما أكلت بالأمس من بقلاوة ، أكلتَ بإفراط وبدون حساب . قال كلا ، ليس الأمر كذلك . كنت في سالف الزمان ألتهم الكيلو والكيلوين دفعة واحدة ولا أشعر بأية مضاعفات . مضى ذلك الزمن يا متنبي ، مضى ومضت معه فتوّنك وقوتك وصلابة عودك . الإنسان يكبر فيضعف وقد يعتل ويمرض ، يذوى جسده ثم يفارق دنيانا . أطرق صاحبي مفكراً في قولي على ما أحسب وقد أهمّه ما سمع من قول : مرض وعلل ثم موت ! أهذا هو مآل الحياة الأخير ؟ لم يشأ مواصلة التمشي والتعرف على بقية معالم مدينة نيويورك الهائلة. رام الرجوع إلى الفندق . قال إنه يحس ببعض التعب والتوعك . خلع في غرفتنا ملابسه ونام . طالت نومته كثيراً فداهمني خوف مشروع . هل أنَّ صاحبي مريض حقاً ؟ هل أستدعي له طبيباً ؟ سأنتظر حتى يصحو . صحا قبيل المساء . كيف حالك يا متنبي ؟ بخير ، قال ، أشعر ببعض التحسن في صحتي لكني لست متأكداً هل سيدوم هذا التحسن وإلى متى . هل أستدعي طبيباً ؟ قال كلا ، بدل ذلك أرجو أن تعاجل إلى إلغاء سفرتنا إلى مدينة لوس أنجلوس وتحجز لنا بالسرعة الممكنة للعودة إلى أوطاننا .
تم ذلك بيسر صبيحة اليوم التالي وغادرنا نيويورك الساعة السابعة مساءً وما كان المتنبي تام العافية . كان في وجهه بعض الشحوب ويعاني من ضعف عام وما كان يأكل إلا القليل من الطعام .
وصلنا أوطاننا بعد رحلة طويلة فسألتُ صاحبي ونحن ما زلنا على أرض المطار عن سبب وعكته فقال دون إبطاء : اللحوم ، اللحوم يا هذا . ما شأنها يا متنبي ؟ لم أعتدْ في حياتي إلا على تناول اللحوم الإسلامية ... أجاب وقد أشرق وجهه قليلاً وعاوده بعض طبعه الساخر ثم قال أكاد أموت من الجوع !! لن تموتَ يا متنبي من جوع وأنت على أرضك وفي وطنك !! قال أحسنتَ أحسنتْ ، على أن لا أزور أمريكا الشمالية مرةً أخرى أبداً أبداً ، أعاهدك وربّي علي َّ شهيد !!

عدنان الظاهر تموز 2007


المتنبي في أمريكا الشمالية

www.mars.com



#عدنان_الظاهر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المتنبي في موسكو
- وشم عقارب ... ديوان شعر للشاعرة ورود الموسوي
- ألكترا تقتل أباها
- ليس دفاعاً عن سعدي يوسف / سعدي والإحتلال وعزرا باوند
- المتنبي و ( شوكار ) جارية شجرة الدرّ رومانس المتنبي
- بيان إلى المثقفين العراقيين كافة ً ...
- إلى الدكتور قاسم حسين صالح / حول مجلس عمان
- المتنبي وبعض الثائرين / الجزء الثالث
- المتنبي و المغولي بوقا تيمور في الحلة
- رواية المسرات والأوجاع / لفؤاد التكرلي الجزء الأول
- رواية المسرات والأوجاع لفؤاد التكرلي / الجزء الثاني
- برشمان أنيس الرافعي مجموعو قصصية
- البرشمان / أنيس وجحيم دانتي
- ورق عاشق / ديوان شعر لفاتحة مرشيد
- المتنبي وبعض الثائرين
- الصابئة المندائيون
- الشعراء والأديان الأُخرى
- مع أبي محسد المتنبيء في أوربا
- أطياف الندى
- السامري


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان الظاهر - المتنبي في أمريكا