أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - إبراهيم إستنبولي - الصراعات السياسية في القرن العشرين - روسيا نموذجاً















المزيد.....



الصراعات السياسية في القرن العشرين - روسيا نموذجاً


إبراهيم إستنبولي

الحوار المتمدن-العدد: 2011 - 2007 / 8 / 18 - 10:52
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


يتميز المجتمع الصناعي بانتصار " العقلانية و التقدم " ،
بينما المجتمع ما بعد الصناعي يميزه " الخوف و الهلع "
دانييل D. Bell
صاحب نظرية ما بعد المجتمع الصناعي

إن القرن العشرين سيكون هو الأكثر عسكرة و الأكثر عنفاً بالنسبة للأجيال القادمة. ففي هذا القرن اكتسبت الحروب لأول مرة طابعاً عالمياً . و قد انقضى القسم الأكبر منه في أجواء المجابهة المُكلفة و الصدام المنهك بين نظامين عالميين . كما تسلحت الدول الرئيسية بأكثر الأصناف فتكاً من بين أسلحة الدمار الشامل و مع نهاية القرن اختبر العديد من البلدان على نفسه التأثير غير المدروس أو المدروس بدرجة غير كافية لتكنولوجيا المعلومات ذات القدرة التدميرية الهائلة . " لقد قدم التاريخ السياسي للبشرية أكبر عدد من الصراعات . إن الصراع من أجل السلطة ، من أجل الاحتفاظ بها و توطيدها ، كما و محاولة القضاء عليها ، قد خلق الكثير من الآمال و الأحقاد ، المخاوف و الأطماع ، العمل المجهد للعقل عند المفكرين من علماء الإيديولوجيا و السياسة ، من الثوريين و أعداء الثورة ، من المحافظين و الراديكاليين ، من المتطرفين و الإصلاحيين " .
فالعالم المعاصر من حيث تطوره أصبح أكثر اعتماداً على بعضه البعض ، أصبح ديناميكياً و تشاركياً. و بهذا الخصوص صار الحديث أكثر عن عولمة العمليات المجتمعية ، بمعنى الانفتاح الأوسع و جعل المجتمع الدولي أكثر أممية ، و تشكل المجتمع ما بعد الصناعي ، المجتمع التكنوقراطي . و بالفعل ، إن التغيرات الجذرية التي أصابت و تصيب التطور الاجتماعي واضحة ، إلا أنها جميعها تنطلق و تتفاعل انطلاقاً من أساس سابق . فالإنسان يحافظ خلال تطوره على الإرهاصات الأولية و على مواصفات طبيعته الخاصة . من هنا ذلك التناقض المتأزم و الذي يثير بعض مشاعر عدم الثقة و التردد أو ، على الأقل ، الالتباس بشأن عواقب التوجهات الحاصلة .
إن المستقبل بالنسبة لغالبية سكان الكرة الأرضية يبدو في الواقع متلبداً بالغيوم و غير سعيد . ذلك أن النمو غير المنضبط للسكان ، و الذي يفوق بشكل كبير إنتاج المواد الاستهلاكية ، هو من نصيب تلك المساحات الشاسعة مما يسمى بالمحيط العالمي ، حيث مستوى المعيشة بالأساس و من دون ذلك يبلغ حداً متدنياً . و المشاكل البيئية هناك متفاقمة أيضاً ، لأنه لا توجد موارد من أجل تنفيذ مشاريع حماية للبيئة ، و هناك أيضاً نجد مدى الارتباط العميق ( الاقتصادي ، المعلوماتي ، السياسي و العسكري ) لتلك البلدان بالدول المتقدمة في العالم . و لا تعتبر هذه الحالة مميزة لسكان المحيط بالمفهوم الجغرافي فقط . إذ يوجد محيط بالمعنى الاجتماعي أيضاً . ليس هناك في العالم من مدينة كبيرة أو بلد متطور اقتصادياً ، حيث يمكن أن لا تتمايز بشكل واضح حياة الشرائح المختلفة من السكان . ففي كل عاصمة أوروبية بغض النظر عن مستوى الرفاهية ، يوجد منبوذون ، مهانون و محرومون لا تختلف حياتهم عن حياة سكان أكثر البلدان فقراً في العالم .
ليست قليلة المشاكل الخاصة ، التي تعاني منها البلدان المتطورة . إن دخول الأتمتة و التكنولوجيا الإلكترونية قد أدى إلى تقليص فرص العمل إلى حد كبير . و البطالة لا تنعكس بشكل سلبي فقط على الجانب المادي من حياة العاطلين عن العمل ، بل و تمارس تأثيراً ضاغطاً أيضاً على نفسية حتى أولئك ، الذين لا زالوا على رأس عملهم . إن ظاهرة البطالة بحد ذاتها ، حقيقة وجودها تزعزع أسس الاستقرار الاجتماعي ، تملأ حياة الكثيرين من المواطنين بمختلف مشاعر اليأس و السوداوية ، و ذلك على الرغم من المستوى العالي و الرغيد نسبياً للمعيشة من الناحية المادية . و إذا كانت اليابان ما زالت تتغلب على تعقيدات أتمتة الاقتصاد بفضل البنية الفريدة للشركات فيها، فإن الولايات المتحدة الأمريكية و أوروبا مضطرة لأن تكبح هذه العملية بشكل مصطنع ، خشية من حدوث هزات اجتماعية كبيرة .
كما تبعث على القلق المتزايد حالة النظام النقدي . فالتدفقات المالية العالمية تكتسب طابعاً متخيلاً أكثر فأكثر . لقد تخلت الولايات المتحدة الأمريكية في بداية السبعينيات عن الذهب كمعيار نقدي مما جعل من ذلك مقياساً مستقراً إلى حد ما كبير ، و إنْ يكن غير كامل ، لتقييم الأوراق النقدية . إن الأموال المعاصرة ، التي تُدعى " بالأموال الطيارة Phantom Money " ، ليست بلا رصيد فقط ، بل و غير محولة إلى سلع مادية بالشكل الطبيعي . و في حال تمت المطالبة بها من قبل المقرضين ، فإنه من غير الممكن تسديدها . و هي تبلغ أرقاماً خيالية . إذ يبلغ الحجم اليومي للتداولات المالية عبر شبكة الانترنيت أكثر من تريليون دولار .
هناك تأثير تفريقي أو ، يمكن القول ، تفكيكي على النسيج الاجتماعي لما يسمى بمجتمعات الرفاه من قبل العيوب القديمة – الجديدة . ففي تلك المجتمعات ترتفع نسبة الإجرام ، يزداد عدد الذين يخرقون شيفرات الكمبيوترات المصرفية ، تذهب أدراج الرياح جهود محاربة التجارة غير القانونية للأسلحة ، و كذلك مكافحة تجارة المخدرات و الهجرة غير الشرعية ، التي تتحول تدريجياً إلى شكل من أشكال الرق الحديث .
هناك أمثلة على الاتجاهات المثيرة للقلق في تطور الأحداث ذات الطابع العالمي . فقد اكتسبت أهمية غير مسبوقة في العالم المعاصر مختلف الشركات العابرة للقارات ( TNC ) و مختلف التنظيمات و المؤسسات الدولية ، و التي هي في غالبيتها غير قانونية أو غير شرعية ( من Legitimate ) عملياً : منظمة التجارة العالمية ، بنك النقد الدول ، NATO و غيرها . كلها من حيث الجوهر عبارة عن اتحادات من الموظفين ، الذين لم ينتخبهم أحد . و هي تكتسب أكثر فأكثر استقلالية و مزيداً من الغطرسة . و لنشاطها دور فاعل و تأثير كبير على حالة المجتمع الدولي . أما المؤسسات التمثيلية ذات الصفة الشرعية أو الانتخابية مثل الأمم المتحدة ( UN ) ، منظمة الأمن و التعاون في أوروبا غالباً ما تكون عاجزة عن منافستها . و يكفي أن نورد على سبيل المثال أنشطة حلف الناتو في مختلف مناطق العالم لكي يصبح واضحاً عمّا يدور الحديث .
إن العمليات السلبية للتطور العالمي تنشأ على خلفية الهوة الكبيرة ، التي تفصل بين الغنى و الفقر . ذلك أن النسبة بين دخل الأغنياء و الفقراء ، بين المليار " الذهبي " و المليار الفقير لم تتقلص قط ، بل ازدادت بسرعة قياسية و بلغت 13 إلى واحد في عام 1960 ، و 60 إلى واحد عام 1999 ، و هذا بدوره لا يشكل عامل استقرار إضافي للمجتمع الدولي .
و في جميع تلك العمليات تلعب السياسة دوراً ليس هو الأخير . فالحياة المجتمعية للوهلة الأولى فقط تشبه الحركة غير المنتظمة للجزيئات في الكون . إذ لهذه الحركة العشوائية روابطها ، اتجاهاتها و القوى الموجهة الخاصة بها . تعتبر السياسة ، منذ زمن بعيد و عن حق ، الأداة الرئيسية للتأثير على الحياة المجتمعية . و هي ، أي السياسة ، تشكل بمعنى ما ، البداية الواعية في عملية التطور الاجتماعي . إذ يجري عبرها التحكم العام بالقضايا المجتمعية ، و فيها يرى الناس السبب الأساسي لنجاحاتهم و إخفاقاتهم الفردية و المجتمعية .
إن الوظائف الإدارية للسياسة كانت قائمة و موضع بحث منذ نشوء المجتمعات البشرية ، إلا أنه في زماننا هذا فقط يجري الكشف ، بشكل واضح أكثر من أي وقت مضى ، عن الأبعاد الإدارية للسلطة السياسية . و هذا يجد تعبيراً له ، على وجه الخصوص ، في أزمة المذاهب السياسية ذات الطابع المغلق .
لقد تبين أن القرن الماضي هو الأكثر غنى من حيث الأحداث و الوقائع ذات الصبغة السياسية . و إذا ما أخذت بمجملها و مجتمعة ، فإنها تبرهن على أن البشرية تمكنت عملياً و في الإطار التاريخي للقرن العشرين من " اختبار " جميع الأفكار السياسية المعروفة للفكر الفلسفي و السياسي بدءاً من أرسطو و حتى أيامنا . إن النظريات السياسية : الليبرالية ، الفوضوية ، المحافظة أو الأصولية ، الماركسية ، الحداثة – كلها خضعت للاختبار العملي بهذا الشكل أو ذاك ، بهذه الدرجة أو تلك . و لم تفلح أية منها ، أثناء تطبيقها على أرض الواقع ، في أن تحقق السعادة للبشرية . لقد جرّب المجتمع الدولي جميع أشكال الحكم و بناء الدولة ، التي يعرفها العلم السياسي المعاصر . إن جميع أشكال النظام السياسي المعروفة – الديموقراطي ، التسلّطي، التوتاليتاري ( الشمولي ) أو بعض مشتقاتها مثل النظام الاستبدادي Despotism ، الدكتاتوري ، الديموقراطي – الليبرالي و الفاشي – كلها خضعت للاختبار التاريخي و لا يستطيع أحد الإدعاء أن البشرية قد وجدت ضالتها . و في هذا السياق ، إن النظرية السياسية المعاصرة تعيش أزمنة صعبة للغاية ، لأنها عاجزة عن تقديم أيّ مذهب ( Doctrine ) سياسي جديد للفكر السياسي التطبيقي ، بل و في النهاية أدت إلى إرباك الفكر السياسي ذاته بمختلف " ما بعد - Post " و " نيو - Neo " ، التي لم تضف من حيث الجوهر أي شيء جديد لما هو معروف .
تنشأ الحاجة إلى نظرة أخرى مغايرة تجاه ظاهرة السياسة نتيجة لتغير التصورات السابقة حول طبيعة التطور المجتمعي . لقد أدت الأزمة السياسية للماركسية إلى إثارة الشكوك حول رؤيتها للتطور التاريخي : فالمقاربة القائمة على مفهوم التشكيلة الاجتماعية ، و التي وضعت أحداث التاريخ العالمي في سياق حركة متسلسلة من الأدنى نحو الأعلى ، من الأبسط نحو الأكثر تعقيداً ، تلك المقاربة التي قامت على تصور بأنه توجد قوانين و قواعد ما تتحكم بالتطور المجتمعي ، و التي يكفي الإطلاع عليها بدرجة كافية لكي نتحكم في النهاية بمسيرة التاريخ ، قد تبين عقمها في ظروف التطور الديناميكي المعاصر للمجتمع ، و في ظروف الواقع المتغير و حقائق الحياة المجتمعية المتغيرة بسرعة قياسية . إن الفهم الماركسي للتاريخ ، كما بالمناسبة و الفهم الهيغلي ، مبني بما يتفق مع التصورات العلمية لحقبة كل منهما . إذ أن النظرة النيوتونية للعالم و التي كانت مسيطرة حينذاك ، دفعت حتى بالعلماء أصحاب التفكير الديالكتيكي لأن يبحثوا عن قوانين عامة للتطور المجتمعي ، و أن يقولبوا نظريات هذا التطور في إطار صيغة منتهية و خالية من التناقضات . بالتأكيد ، إن الجهود المبذولة في هذا الاتجاه قد أدت إلى نتائج تبرهن على المقولة الأصلية . ليتبين أن لغز التاريخ العالمي ، أخيراً ، قد تم اكتشافه ، و أن قوانين الحياة المجتمعية – أضحت مفهومة . و لكن ، على الرغم من كل عمق و ضخامة تلك البناءات النظرية ، فإن الطموحات التي قامت على أساسها كان مُبَالغاً بها .
إن الخصائص النوعية للنظم السياسية تدرس بصورة تقليدية من خلال المقارنة بين التوتاليتارية و بين الديموقراطية . أما مصطلح التوتاليتارية فقد ظهر في الأدبيات العلمية منذ ثلاثينيات القرن العشرين باعتباره انعكاساً للتوجه المتشكل في العلاقات السياسية في بعض بلدان أوروبا الغربية . و قد اكتسب في الكثير من النقاشات العلمية شكل الظاهرة السياسية و الاجتماعية المعقدة ، التي تمتلك جذورها التاريخية و ملامحها المعاصرة الخاصة . بل إن بعض العلماء يعود بالتوتاليتارية إلى الطبيعة الأبدية للإنسان و للمجتمع البشري ، إلى الجوهر التراتبي (Hierarchism ) للعلاقات الإنسانية . بينما يفترض آخرون أن التوتاليتارية ظاهرة غير عادية و غير مألوفة في تاريخ المجتمع ، و هي واسمة للحضارة الصناعية و قد تركت أثراً عميقاً في المظهر السياسي للقرن العشرين .
وفي هذا النمط من المجتمعات تصبح الصراعات الاجتماعية ظاهرة نادرة . و القضية هنا لا تكمن فقط في أن العنف و الإكراه تجاه المعارضة يعتبران الضمان بالنسبة للمجتمع " الآمن ، الهادئ " . فالوسط الاجتماعي بحد ذاته في مثل هذه المجتمعات لا يتمتع بالشروط الضرورية لقيام علاقات اجتماعية طبيعية . فالمصلحة الاجتماعية العامة ، التي تتميز بها هذه المجموعة أو تلك ، لا يتم إدراكها كما هي من قبل الأفراد المنتمين لهذه المجموعة ، و ذلك بسبب غياب الأشكال المنظمة القادرة على جعل تلك المصلحة في متناول الوعي الفردي . و في تلك المجتمعات تكون النمطيةStereotype الراسخة لعلم النفس الاجتماعي أقرب إلى المحاكمة المعروفة : " لننتظر مجيء السيد ، و عندئذ فإن السيد سيفتي فيما بيننا " . أي أن السلطة ، التي تقرر كل شيء و باسم الجميع ، هي التي تلعب دور السيد كحكم ثالث . و بالتالي فإن حق السلطة بلا منازع ، في أن تعود الكلمة الأخيرة لها و فقط لها في أي جدل اجتماعي ، يخلق في وعي العناصر المحتملة للصراع نوعاً من عدم الثقة في مقدرتهم على الدفاع عن مصالحهم المشتركة بقواهم الذاتية . و لذلك هم يميلون باستمرار ، من ناحية ، نحو تأجيل الدخول في صراع مكشوف و علني ، و من ناحية ثانية ، هم مستعدون لوقف التصرفات الخلافية ، حتى قبل أن يحققوا أهدافهم المنشودة و دون أن يجربوا في سبيل ذلك كل الفرص الممكنة ، و ذلك بمجرد أن يصلهم " من فوق " الأمر " كفّوا عن ذلك " . لقد لاحظ أ. توكفيل A .Towquil بصورة عادلة ، أن الصراعات الاجتماعية " تنتفي " إذا ما صارت سلطة الدولة المركزية قاهرة ، بحيث تعجز أية مجموعة عن الوقوف بوجهها . كما يزيد من صعوبة نشوء الصراعات في النظم التوتاليتارية غياب الآليات المسؤولة عن الأنشطة الذاتية المجتمعية و التنظيم الذاتي المجتمعي . إذ أن مثل هذه المجتمعات لا تحتمل أية مبادرات غير مرخص بها من فوق . لا لأية أنشطة ذاتية مستقلة ، خصوصاً في قضايا السياسة أو الإيديولوجيا – هذا هو القانون السائد بلا منازع لعمل النظام التوتاليتاري ، القانون الذي يُعتنى به و يحافظ عليه بواسطة جهاز بيروقراطي يتم تأسيسه خصيصاً لهذا الهدف . في مثل هذه الظروف ، تصبح الصراعات الحقيقية ممكنة بين عناصر ذلك الجهاز البيروقراطي و بين مكوناته الداخلية فقط . الوزارات و الإدارات ، الأقسام السياسية و أجهزة المخابرات ، مختلف الاستطالات غير الشكلية في الجهاز بدءاً بالفخذ أو العشيرة على أساس عائلي وصولاً إلى البنى الفاسدة – كلها تتحول إلى عناصر محتملة حصراً للصراعات الاجتماعية ، و التي تتفاعل في مختلف طبقات البناء الإداري و في الأروقة المختلفة للسلطة . أي أنه في المجتمع المغلق حتى نزعة الصراع تكتسب طابعاً مغلقاً . و أما المواطنون فهم يعرفون الحقيقة بشأن الصراعات الدائرة في مكونات السلطة و بناها فقط بعد انتهائها ، من خلال نتائجها المعلن عنها و عن طريق عواقبها الاجتماعية .
إن المواصفات الرئيسية للتوتاليتارية المعاصرة لم تكن تنطبق على الأنظمة الفاشية فقط ، بل و تشكلت تدريجياً ، و إن بدرجات مختلفة ، في جميع البلدان الاشتراكية . و هذا بدوره انعكس على الحالة العامة للنزوع نحو الصراع . للوهلة الأولى يبدو الأمر مدهشاً ، أنه خلال مدة طويلة جداً من تاريخ الاشتراكية الواقعية ، لم يتعرض المجتمع الاشتراكي لأية هزات و صراعات اجتماعية عميقة .
و هي لم تكن كثيرة بالفعل . بل إلى الآن ، بعد أن افتضح أمر الكثير مما كان سراً في السابق ، يمكن أن نعد على أصابع اليدين فقط الصراعات الاجتماعية الكبيرة ، التي كانت قد حدثت في بلدان الاشتراكية الواقعية . و لكن سبب مثل هذه الظاهرة لا يكمن في خصوصيات النظام الاشتراكي الاجتماعية و حسب ، بل و في الملامح المميزة للنظام التوتاليتاري ، الذي يعيق بشكل مصطنع التعبير الحر عن التململ و عدم الرضى ، الذي يمكنه أن يتطور إلى صراع اجتماعي . و يمكن أن نرى بشكل جيد على مثال الاتحاد السوفييتي السابق بأية طرق و بأية أساليب كانت تتحقق " الهارمونيا الاجتماعية " .
قبل كل شيء ، عن طريق التأثير على وعي الناس من قبل جهاز دعائي فائق الضخامة . لقد أدى الضغط الإيديولوجي الشمولي إلى تشكل وعي اجتماعي يخدم بصورة حصرية المصالح السياسية للنظام السلطوي المسيطر ، مما أعطى الانطباع حول أحادية المدلول لما يجري من أحداث في المجتمع . لذلك فإن أية محاولة للاختلاف في الرأي ، حتى و لو صارت معروفة إلى هذا الحد أو ذاك لشرائح واسعة من المواطنين ، كانت تبدو عاجزة أمام جبروت و إمكانيات التأثير ، التي كانت تتمتع بها المؤسسات الرسمية . الصحافة و الراديو و التلفزيون – كانت تجيش جميع الوسائل الممكنة للتأثير على وعي المواطن العادي و كانت تتلاعب بشكل محترف بالرأي العام ، و تجهز على الخطر المتمثل بإمكانية اتحاد المواطنين على أساس الأفكار المناهضة للنهج الرسمي .
بالإضافة لذلك ، كان التوصل إلى غياب الصراع ظاهرياً يتم عن طريق تسييس أي اصطدام اجتماعي ، يمكنه أن يخرج عن سيطرة المؤسسات الرسمية و خارج إطار القواعد المعترف بها في السلوك المجتمعي ، حتى و إنْ لم يبادر المشاركون فيه إلى طرح أية مطالب ذات طابع سياسي . و المطلوب عادة أن لا يعرف المواطنون عن مثل هذه الصراعات سوى النذر اليسير .
كما يمكن أن نشير إلى ميزة أخرى لموقف النظام التوتاليتاري من الصراع الاجتماعي ، أي سعي السلطة لإزالة النزعة الصراعية الكامنة في المجتمع عن طريق الجهود السياسية ذات الطابع الوقائي ، انطلاقاً من منع ظهور تململ أو نقمة اجتماعية و بالتالي إمكانية ظهور حركة رفض شعبية . هذه الخدمة يقدمها الصراع المفتعل من قبل الجهات الرسمية . معروفة " الأعمال " و " الارتكابات " في النصف الثاني من ثلاثينيات القرن العشرين في الاتحاد السوفييتي السابق ، التي كانت تُغذى من قبل أجهزة الأمن و المخابرات ، و التي كانت لها عدة أهداف سياسية هامة . و من بينها الرغبة بالتخلص من المعارضة المحتملة ، و السعي نحو استعراض المستوى العالي من اليقظة السياسية للرأي العام ، و تسهيل إجراء و تنفيذ النهج الاقتصادي و السياسي المسيطر . و لكن المهمة الرئيسية ، على الأرجح ، كانت تكمن في منع حدوث حركات اجتماعية غير ممسوك بها ، و السعي بأي ثمن للتعبير عن الوحدة المتماسكة في المجتمع و هذا بدوره يزيد من تعاضد و وحدة المجتمع الفعلية ، و هذا يعني – القضاء على أية ظروف ملائمة لنشوب الصراعات الاجتماعية .
أما في المجتمع الديموقراطي فتنشأ حالة مغايرة بشكل كامل . ففي مناخ الحريات الديموقراطية يكتسب المجتمع المدني بالتدريج قواعد و ضوابط محددة لنشاطه . و بوجود مجتمع مدني قوي باستقلاليته فإن سلطة الدولة تتخلى بالتدريج عن طموحها و نواياها نحو ضبط جميع و مختلف مظاهر الحياة المجتمعية . إن الحرية في تشكيل التنظيمات السياسية و الهيئات المجتمعية ، التي تحصر نشاطها ضمن إطار القانون الأساسي فقط ، بالإضافة لنضج و تطور الآلية الاجتماعية في الكشف عن المصلحة الخاصة و الفردية ، تخلق نوعية جديدة تماماً من الحياة الاجتماعية . و في هذه الظروف يصبح بالإمكان تصور الحياة المجتمعية كلوحة باهتة للكثير من مراكز العمليات السياسية ، التي تتحدد و تتشكل ، أي المراكز ، بطريقة حرة ، أو كحالة عشوائية نوعاً ما ، حيث القاعدة الاجتماعية – مجرد محصّلة غير مستقرة لتأثير متعدد لمختلف اتجاهات التطور ، و بحيث تنشأ هذه المحصلة بصورة موضوعية ضمن ظرف محدد ، و لكن نادراً ما يكون لأمد طويل .
إن المجتمع الديموقراطي يميل نحو الاستقرار بفضل مرونته ، و ليس بفضل " وحدته المتراصة و الراسخة " أو بسبب غياب الصراعات . و هو لا يلجأ قط إلى قمع الصراعات أو كبْتها ، بل يخلق الظروف المؤاتية لكي تتظاهر و تعبر عن نفسها بشكل حر . حتى أنه يمكن القول بأن الديموقراطية الحقيقية هي حالة صراعية . إلا أنها ، بخلاف الصراعات في النظام الشمولي ، صراع معلن و صريح ، و كقاعدة ، صراع سلمي . و مما يساعد في المجتمعات الديموقراطية على انتفاء الأشكال المتطرفة من حدة التصادمات الاجتماعية تلك الآليات المتطورة من التنظيم الذاتي الاجتماعي . فمع توفر التكنولوجيا الاجتماعية الملائمة ، التي تفترض خطوات محددة لإجراء الحوار و بقصد الرقابة و التنسيق و المداولات وفق أسلوب مدروس و مجرب علمياً ، فإن الصراع الاجتماعي يتخذ مساراً ديموقراطياً من دون عواقب اجتماعية سلبية .
و بالعودة إلى التجربة السياسية في روسيا ، نجد أنه من المفيد تركيز الانتباه بشكل رجعيRetrospectively على الطريقة ، التي كانت فيها الأحداث السياسية الجارية تؤثر على نزعة العلاقات الاجتماعية نحو الصراع . و يجب أن نعترف بأن الصراعات الاجتماعية كانت ، قبل كل شيء ، ترافق أكثر تحولات الحياة الاجتماعية اختلافاً من حيث طبيعتها ، مضمونها و اتجاهاتها السياسية .
لقد وجدت روسيا نفسها في غمرة الأحداث العالمية : التأزم العميق للتناقضات الاجتماعية الداخلية في بدايات القرن العشرين ، حربين عالميتين ، الثورة الاشتراكية و ما رافقها من تغيرات هي الأكثر راديكالية في التاريخ ، الحرب الأهلية إلى جانب الغزو الأجنبي ، التحولات الصراعية من حيث الجوهر في الحقبة السوفييتية في مجال الاقتصاد ، الزراعة ، الثقافة و الفكر و الإيديولوجيا ، التعليم و التربية . و في النهاية ، مع أفول القرن العشرين ، مرحلة نادرة جداً من حيث النفاق السياسي ، من حيث الكذب و العهر السياسي الواسم للعقد الأخير ، الذي أُطلِق عليه عقد الإصلاحات الديموقراطية ؛ هذه الإصلاحات التي تسببت بنشوب موجة واسعة من النزاعات المتواصلة و التي لا تنتهي . ففي محاضرة له في المؤتمر العلمي العالمي في معهد العلاقات الدولية في موسكو في 21 – 23 أكتوبر من عام 1999 ذكر الصحفي الإيطالي المعروف ج . كييزا J.Kieza ما يلي : " لن يكون سهلاً بالنسبة للمؤرخين اللاحقين أن يستطيعوا فهم و تفسير الخيانة العظمى للمصالح القومية من قبل الطبقة الحاكمة و من قبل المثقفين الروس ، و ذلك بعد أن تمكنوا من الوصول إلى السلطة عن طريق القضاء على الاتحاد السوفييتي . و التاريخ لا يعرف حالة مشابهة تم فيها طواعية القضاء على الوطن و الثقافة . هناك أمثلة على هزيمة هذه الدولة أو تلك على أثر حرب . أو كنتيجة لامتصاصها – من دون حرب – من قبل ثقافات و قوميات أكثر قوة ، أكثر دينامية ، أكثر تنظيماً و أكثر تطوراً . و لكن لم يحصل أبداً أن بلداً سبق و كان بمعنى ما إمبراطورية ، بلداً – بمثابة دولة عظمى ، بلداً – خزاناً لثقافة عريقة و لعلوم عظيمة بالمقاييس العالمية ، و الذي كان يُعتبر واحدة من دولتين اثنتين أو من ثلاث دول أوائل في العالم ، أن انهار و استسلم بدون معركة و بلغ خلال بضعة سنوات ذلك الحد غير المسبوق من الانتحار و الانحدار . إطلاقاً لم يكن هناك ، كما يبدو لي ، مثل هذا المهزوم ، الذي راح يكيل كل ذلك المديح للمنتصر " .
إن القرن الفائت يعتبر الأكثر عمقاً بلا جدال ، من حيث خطط التأثير الصراعي على وعي الأمة ، خلال كل تاريخها . كتب الفيلسوف الروسي الراحل ( الذي كان محرماً الإطلاع على آرائه في الاتحاد السوفييتي السابق و كانت كتبه ممنوعة من النشر ) : " إن المستقبل مخفي بالنسبة لنا - و نحن لا نعرف كيف ستؤول سلطة الدولة في روسيا بعد عصر البلاشفة . و لكننا نعرف أنه إذا صارت معادية للمصالح القومية و للدولتية ، و صارت تجاري مصالح الأجانب ، و تلعب دوراً تقسيمياً في البلاد و أصبحت خالية من أية فكرة وطنية ، فإن الثورة لن تتوقف ، بل سوف تنتقل إلى مرحلة الموت الجديد ... " .
إن جميع الإشكاليات " في روسيا بعد البلاشفة " ، و التي كان حذر منها ي.أ. إيليين ، كانت قد تعمقت و تكرست في ممارسة القيادة السياسية على مدى العشر سنوات الأخيرة بصورة مطابقة إلى حدود مدهشة .
روسيا بلد شاسع . و بالتالي فإن الترابطات السببية – الاستنتاجية للعمليات ، المتشكلة عبر فضائها في وعي الملايين الكثيرة من سكانها ، لا تنضج بصورة مفاجئة ، على الفور . إن " خلد التاريخ " هنا يحفر ببطء شديد . إذ أن عدم التمكن من التقاط الفرصة في اللحظة المناسبة لتحاشي المسار غير المرغوب في التطور قد يتحول إلى سبب قاتل لأحداث كارثية ، عندما لا يعود ممكناً توقف الفوضى أمام السعي المتأخر و المستدرِك نحو تغيير ما يمكن تغييره في المجتمع في اتجاه الأفضل . و هذا كثيراً ما يحدث في التاريخ . فهذا هو الشاعر الروسي المعروف ف. ي . توتشيف يكتب في رسالته إلى أ.د. بلودوفا بتاريخ 28 أيلول 1857 ما يلي : " يوجد في تاريخ المجتمعات البشرية قانون حتمي لم يسبق أن خان ذاته مطلقاً . فالأزمات العظيمة ، و الانتقامات أو القصاصات العظيمة عادة لا تحدث ، عندما يبلغ خرق القانون حداً معيناً ، عندما يسود الظلم و غياب القانون و يتحكم بكل قوته و بكل عهره . كلا ، يتم تفريغ الانفجار عند أول محاولة خجولة للعودة إلى الخير ، عند أول زحف صادق ، ربما ، و لكنه غير واثق و غير جريء نحو الإصلاح الضروري . عندئذ فقط تتم معاقبة أمثال لودوفيغ السادس عشر على أخطاء لودوفيغ الخامس عشر و الرابع عشر " .
أحياناً يبدو لنا ، أن كل شيء في التاريخ يتوقف على الإرادة و على الدافع لدى القابضين على زمام السلطة . و هذا بالفعل صحيح إلى حد ما ( لا يمكن من دونهم ) و السياسة تقدم في هذا المجال مجموعة من الحقائق و الأدلة الثابتة . إلا أنه لا يقل صوابية الرأي المعاكس تماماً : " مادة التاريخ هي حياة الشعوب " ( ليف تولستوي ) .

المراجع

علم الصراعات " . مجموعة من المؤلفين الروس .
د . م . فيلدمان : علم الصراع السياسي . دليل تعليمي .



#إبراهيم_إستنبولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كيمياء المشاعر - قطط حمراء و فئران زرقاء
- إسحاق بابل I. Babel - دي ساد الثورة الروسية
- يفغيني الكساندروفيتش يفتوشينكو Yevgeni Yevtushenko- ... أكثر ...
- لا حياة لمن تنادي .. أو عبثية الكلام
- كل شيء يغرق في الرياء - قصائد للشاعر الروسي بوريس باسترناك
- قصائد للشاعر الروسي العظيم الكسندر بوشكين - بمناسبة ذكرى رحي ...
- آخر فرسان العصر- بمناسبة الذكرى الثالثة لرحيل رسول حمزاتوف
- كتاب لكل العصور
- ليلة القدر في الشعر الروسي ؟ - تنزّل الملائكة و الروح فيها . ...
- تعليقات سريعة حول قضايا راهنة
- ما بين التزوير و التضليل ... توضيح
- طرطوس و المقاومة ... و عماد فوزي الشعيبي
- أحلام = شيطانية = صغيرة
- ديموقراطية .. غير شعبية - نص شبه أدبي
- المواطن السوري ما بين الهم و القبح
- تفاصيل صغيرة في قضايا كبيرة - من دفتر يوميات
- لا تقاوموا الشر
- و يحدثونك عن الإصلاح ! نهاية التضليل ؟
- كلمات بلا عنوان
- بعض الملاحظات على المشهد السياسي العام


المزيد.....




- هارفارد تنضم للجامعات الأميركية وطلابها ينصبون مخيما احتجاجي ...
- خليل الحية: بحر غزة وبرها فلسطيني خالص ونتنياهو سيلاقي في رف ...
- خبراء: سوريا قد تصبح ساحة مواجهة مباشرة بين إسرائيل وإيران
- الحرب في قطاع غزة عبأت الجهاديين في الغرب
- قصة انكسار -مخلب النسر- الأمريكي في إيران!
- بلينكن يخوض سباق حواجز في الصين
- خبيرة تغذية تحدد الطعام المثالي لإنقاص الوزن
- أكثر هروب منحوس على الإطلاق.. مفاجأة بانتظار سجناء فروا عبر ...
- وسائل إعلام: تركيا ستستخدم الذكاء الاصطناعي في مكافحة التجسس ...
- قتلى وجرحى بقصف إسرائيلي على مناطق متفرقة في غزة (فيديو)


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - إبراهيم إستنبولي - الصراعات السياسية في القرن العشرين - روسيا نموذجاً