8 أكتوبر:
عملت ما كان علي أن أعمله، وحصلت على ما علي أن أحصل عليه، وأعطيت أكثر ما كان علي أن أعطي وهنا تكمن خسارتي.
رغبت في استرجاع ما سلمت فيه سابقا اعتقادا مني آنذاك أنني اسعد به الغير، لكن المجتمع واجهني بقوة وشدة واعتبرني عاقا لأنني رغبت في استرجاع حق من حقوقي. وبذلك أيقنت أن المرء لا يحصد دائما ما يزرع.
9 أكتوبر:
لا أريد أن أكون محدود الرؤية. متهاونا، وحيدا مهددا لأن كل هذا يشدني للمعاناة، لا أريد أن تستمر حياتي في الاحتمالات والزوائف واللحظات تتسرب بين الأصابع منتهية قبل بدايتها، لابد لي من قناعة صلبة أرتكز عليها لأسلم من خوف فقدان من أحبهم..وسبيل الوصول إلى مثل هذه القناعة هو رؤية الأمور والأشياء كما هي. لأن الحقيقة تكمن فيما هو كائن وبالضبط هذه الحقيقة هي طريق خوفي الدائم.
10 أكتوبر:
إن لحقيقة ليست هي ما يجب أن يكون ولكن ما هي كائن بكل بساطة وبدون تعقيد، فإن كان المرء يرى نفسه محيطا ( بحرا) فإنه لن يرغب في شيء، فالمحيط هو كل شيء ويحتوي على كل ما يرغب في كل شيء، سيرغب في أن يدوم أكثر، أو أن يكون أكبر أو أسرع، كما أنه سيخشى البواخر التي يمكنها أن تقصم الموجة أو الصخرة التي ستلتطم بها.
فمعرفة المرء لذاته تبتدئ بمعرفة ما يرغب فيه وما يرفضه، ما هو صالح له وما هو ضار به.
11 أكتوبر:
وراء اهو:ان، عند أكل البشر، السؤال المطروح هو: ليس ما لديك وماذا لك؟ وإنما هو: من أنت ؟ ومن تكون؟ فكل ما يملكه اسؤال:مكن أن يفقده بين عشية وضحاها لكن من هو ؟ لا يمكن خلعه مسؤال:قدر ما يبتعد المرء عن سؤال: ماذا لي ؟ والاقتراب من سؤال: من أنا ومن أكون؟ يكون خطا الخطوات الأولى على طريقة الخلاص لأنه على هذا الدرب ، سيتخلى تدريجيا عن الارتباطات الزائفة ويتجاوز العقبات والعراقيل ويوسع مدى ومجال وعيه بالأمور وعيا مندمجا بمكونه الروحي وجوهره النوراني.
12 أكتوبر:
هنا، خلف الأسوار الرمادية العالية لولا وجود إمكانية التغيير وحركة التحول لتوقف كل شيء.
فالقضبان الحديدية السميكة لا قدرة لها مهما سمكت، والسجانون مهما كثروا ومهما حوموا، لا يمكنهم منع سريان الوقت والزمان، فالزمن سائر على الدوام إلى الأمام، لذلك فحركة التغيير والتحول كائنة حتى في فضاء الموت بالمجان والفناء البطيء، وضيف آكل البشر بالتعالي على واقعه الرتيب يعاين مرور الوقت بامتياز ويلمس جريان الزمن وبذلك يقوى على ملاحظة قانون التحول والتغيير في مكان أريد منه أن لا يتغير فيه شيء ما عدا توالي الأرقام.
13 أكتوبر:
حكمت علي ظروف ما وراء القضبان أن أعمل على استعادة حريتي والتأهب لاستقبالها من جديد وأول عقبة صادفتني هي التخلص من عبوديتي للانفعالات والحرص على ما اعتبره خيرا أو شرا لي، ما هو في صالحي وما هو غير ذلك.
14 أكتوبر:
السحب تمر في السماء..وغالبا ما تحجب عنا زرقة السماء..تغيب عن أنظارنا الزرقة لكن السماء باقية. على المرء أن يتخطى السحب لرؤية السماء الزرقاء المضيئة وهذا نوع من التعالي، وأكبر عدو للتعالي هي النفس الشهوانية المتشبثة تشبثا مستميتا برغباتها والبحث عن إشباعها مهما كان الثمن، إلى درجة التناسي، إنها رغبات سطحية مرتبطة بالظاهر والقشور وبعيدة عن اللب والجوهر.
15 أكتوبر
شاءت الظروف هذا اليوم أن أمر بجانب حي النساء وأنا متوجه صوب المصحة..بصرت ضيفة جديدة على آكل البشر ..تساءلت:بة في أحضانها رضيع..تساءلت :كيف يفكر البشر ؟ ما ذنب الرضع لحبس أنفاسه الأولى خلف الأسوار العالية وراء القضبان الحديدية السميكة واستنشاق أنفاس الجريمة والانحراف...أليس هناك حل آخر لمعاقبة الأم دون الرضيع ؟ ألا يمكن إرجاء تنفيذ العقوبة أو ابتكار عقوبة أخرى اعتبارا للرضيع؟
16 أكتوبر:
إن التوازنات يمكنها أن تختل، والعلاقات تفتر والنسب تكبر أو تصغر لكن الفردانيات تظل فردانيات قبل وبعد الخوف، والتعرف على هذه الفردانيات هي الخطوة الأولى في طريق الألف ميل المؤدية إلى الخلاص، إلا أن كل ما يغني هذه الفردانيات ويقويها يتمثل بالنسبة للمرء كعقبات لا مناص من تجاوزها للاقتراب من لمس السعادة الذاتية الأبدية رغم تغير الحال والأحوال.
17 أكتوبر:
في مجال الروحانيات أكثر من أي مجال آخر، اليقين التام من درجة مائة في المائة هو وحده ذ قيمة، وحده القادر على تغيير المرء، لكن في هذا العالم الرديء هناك يقين ويقين، هناك اليقين القح الخالص الذي لا تشوبه شائبة، وهناك اليقين السطحي كزبد البحر يذهب جفاء.
في ظروف الجاهلية المتعولمة على المرء أن ينتصب سجانا لذاته وأنن لا يجعلها تغتر باليقين السطحي ليدغدغها وذلك حتى تظل يقظة متيقظة إلى حين التوصل إلى اليقين القح، اليقين من درجة المائة في المائة.
18 أكتوبر:
كلما تقدمت في اكتشاف الأمور والأشياء يواجهني خضم زوبعة من أسئلة: لماذا ؟ ومن؟ وكيف؟ ومازالت سلسلة الأسئلة والتساؤلات أسئلة أعمق من الأولى وهكذا دواليك وكلما حصل ذلك تجتاحني فرحة عارمة لأن الأسوار الرمادية العالية والقضبان الحديدية السميكة والحراسة الدائمة والإهانات اليومية لم تقو على إيقاف حركية التغيير .
ماذا؟ ولماذا؟ وكيف ؟ لم أتوقف بعد لمقاربة الإجابة فالسؤال من قبيل لماذا؟ يبدو لي دائما سطعنها.بالتالي زائفا، فالطفل منذ نعومة أظافره يطرح أسئلة من قبيل: لماذا؟ ويتعلم كيف يجيب عنها.
19 أكتوبر:
تناولت قنينة الماء..تحرك السائل بداخلها وأحدث تموجات طفيفة لا تكاد تبين وتذكرت بحر مدينتي الحر الطليق..رأيت في القنينة نفسي، ذاتي مرمية وسط اليم تداعبها أمواج في لحظة سكون ما بين المد والجز..وفهمت وجودي ومالي في هذا العالم الرديء: أنا ماء..ماء في بحر تحتويه قنينة، والقنينة بذاتها تعوم في بحر، فماء القنينة متميز عن ماء البحر، لن بمجرد فتح فواهة القنينة يختلط ماؤها بماء البحر ويضيع التمييز بين الماءين..لكن الماء لا يضيع ولكن يفنى التمييز، وتصبح كمية الماء التي كانت محدودة عندما استقرت بالقنينة غير محدودة حرة طليقة في أحضان المحيط محكومة بقوانين أزلية تحكم الكون بأسره.
20 أكتوبر:
إن قدرة التعالي على الواقع المزري والتعالي على الذات الشهوانية تستوجب الغرق في الواقع المعيش للتمكن من التحرر من كل المثبطات العالقة بذواتنا..هذه المثبطات التي نتناساه لاعتقادنا أنها غير كامنة بنا وإنما هي كائنة خارجنا. هكذا اكتسبنا عادة خداع أنفسنا بأنفسنا..
21 أكتوبر:
ضبطني رئـيس المعتقل وأنا أستعمل فرنا كهربائيا ( ريشو) لإعداد قهوة الصباح، وما دام ذلك يعد من الممنوعات عاقبني بقضاء بعض الأيام "بالكاشو " (غرفة صغيرة فردية معزولة عن الحي ) في خلوتي الليلية تسلل نور القمر بين القضبان الحديدية السميكة ورسم خيالي على الجدار المقابل. قابع في الركن مكوم على ذاتي التمس دفئا داخليا في سكون الليل الشتوي، أتأمل في الصورة الهلامية المرسومة على الحائط المتسخ. أتصورها كائنا يتحرك في عالمنا الرديء خارج الأسوار في فضاء الأحرار الطلقاء. كائن يرفض الحدود مهما كانت طبيعتها . يرفض التناقض مهما كانت جدواه. يرفض كلمة " لا" ولو كانت في صالحه. كائن لا يقبل المعاناة رغم أنها نمط الحياة في هذا العالم الرديء. أحسست بارتياح بعيدا ولو مؤقتا، عن فضاء القهر والاستغلال والاتجار بصفة الإنسان رغم ظروفي القاهرة بالكاشو.
22 أكتوبر:
منذ الصغر منذ الطفولة وتحت ضغط المجتمع وتأثير الأبوين والأقارب والمدرسة نكتسب عادة الكذب على النفس، وعادة عدم رؤية حقيقتها بموضوعية، وعادة عدم الجرأة على التعبير عن كل ما يختلجنا، وهذا ما يؤدي بالإنسان إلى نوع من الجهل بذاته.
فالحقيقة هي ما هو كائن بالفعل وليس ما نعتقد أنه كائن، فهي ليس ما نريد أن يكون أو ما يجب أن يكون. وأول خطوة على درب التعرف على الحقيقة هي توصل الإنسان إلى رؤية ذاته كما هي لا كما يرديها هو أو غيره أن تكون. ولن يتأتى هذا للمرء إلا إذا استطاع التعامل مع كل ما يخطه كأنه لا يخصه، ومع من يهمه شأنه كأنه غريب عنه، أي أن يتعامل مع كل ما هو ذاتي بطريقة ونهج موضعيين..وهنا تكمن صعوبة القدرة على التعالي.