أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - إدريس ولد القابلة - مذكرات الاعتقال السياسي - الحلقة 12 الأخيرة - ملف قضية السرفاتي ومن معه















المزيد.....


مذكرات الاعتقال السياسي - الحلقة 12 الأخيرة - ملف قضية السرفاتي ومن معه


إدريس ولد القابلة
(Driss Ould El Kabla)


الحوار المتمدن-العدد: 599 - 2003 / 9 / 22 - 05:47
المحور: أوراق كتبت في وعن السجن
    


نقش على جدران الزنازين


 بدأت المحاكمة في 3 يناير 1977، وعين أحمد الفيزازي رئيسا لهيئة القضاء الجالس التي تكلفت بالنظر في ملف قضية السرفاتي ومن معه كما كان يقال آنذاك. وبلغ إلى علمنا ونحن في سجن غبيلة بالدار البيضاء أن عددا  من القضاة لم يكونوا متحمسين لرئاسة الهيئة. بل قيل إن هناك منهم من تهرب من القيام بهذه المهمة. وتحمل مسؤولية البحث في ملف النازلة. كما بلغ إلى علمنا أن الرئيس المعين وعد بالترقية بعد نهاية المحاكمة، وفعلا بعد نهاية المحاكمة تم تعيينه رئيسا لمحكمة الاستئناف بطنجة على ما أذكر، وهذا من شأنه الدفع إلى تصديق ما قيل.

 منذ البداية تأكد لنا أن المحاكمة كانت محبوكة لدرجة أن كل الموازين قلبت رأسا على عقب. فمن المعلوم أن الاستنطاق يبدأ عادة بالمتهمين الرئيسيين في الملف لينحدر إلى باقي المتهمين، لكن بالنسبة لمحاكمتنا وقع العكس تماما.

 كانت المحاكمة أشبه ما تكون بتمثيلية صاخبة يشاهدها جمهور على علم باللعبة مسبقا، لكن رباطة جأش وصلابة الشباب الذين كانوا يحاكمون أعطيا طعما آخر للمحاكمة، وذلك بتحويل المحاكمة المفبركة إلى محاكمة مضادة، لاسيما عندما قرر المعتقلون مقاطعتها وإعلان كل واحد منهم أمام الملأ مقاطعته للمحاكمة لعدم توفير أدنى شروط الدفاع.

 أمام الرئيس، والقاعة غاصة تكلم المعتقلون عن التعذيب الوحشي الذي تعرضوا له، وأبوا إلا أن يوضحوا ذلك رغم محاولة الرئيس المتكررة إسكاتهم وقمعهم بمختلف الأساليب، من تهديد وتسويف ومحاولات تقليل الشأن، وأحيانا كثيرة حدثت مواجهات بين الرئيس والمعتقلين، وانقلبت الأدوار فأصبح المتهم هو الذي يوجه الأسئلة للرئيس والقضاء الجالس، أسئلة من قبيل: ما رأيكم سيدي الرئيس وما رأي المحكمة الموقرة في هذه العلامات ( إمارات التعذيب البادية للعيان ).

 في إحدى الجلسات وقف عبد الله زعزع أمام القاضي وخلع حذاءه. جلس على الأرض ورف قدميه وبين بالملموس ومباشرة لهيئة المحاكمة وللحاضرين، وأغلبهم من عائلات المعتقلين، آثار ما نزل به من عذاب شديد بدرب مولاي الشريف. وبطبيعة الحال حاول الرئيس كعادته التقليل من درامية المشهد لكنه فشل وبدا بوضوح مرة أخرى أن محاكمتنا ليست محاكمة عادية وغنما محاكمة محبوكة الخيوط مسبقا. فكم من مرة لاحظ الجميع خروج رئيس الجلسة عن القواعد المتعارف عليها في مجال القضاء وتوفير شروط وظروف الدفاع بدون قيد ولا شرط، علما أن القاضي، كما هو في عرف الخاص والعام، عليه أن يكون رجلا عادلا مجردا هادئ النفس يزن الوقائع بصدق دون تحيز، ويحرص على العدل والعدالة والإنصاف والحيلولة عن العنت والقهر. في هذا الصدد. رأى أحمد الفيزازي بأم عينيه آثار التعذيب الوحشي والهمجي بادية وواضحة على أجزاء أجسام أكثر من واحد منا...ورغم ذلك أنكر إنكارا تاما وباتا وجود أدن إكراه لانتزاع الاعترافات بالقوة، ولما تبينت عدم قدرته على الإقرار بواقع ماثل للعيان بالحجة والبرهان، تعددت حالات نرفزته وقمعه للمستنطقين لذا فلم نكن ننتظر منه إلا الانتقام في نهاية المطاف. وكم من مرة أظهر الرئيس بوضوح جلي أنه ينطلق ليس من القاعدة الأولى القائلة إن المتهم بريء حتى تثبت إدانته وإنما كان ينطلق من القاعدة المناقضة تماما، أي أنه متهم حتى تثبت براءته، لذلك اجتهد اجتهادا في إبعاد كل ما من شأنه تبرئة المتهم أو تسليط الأضواء على الملابسات وتأكدت اللعبة أكثر عندما لاحظنا استقرار جلادي درب مولاي الشريف بقاعة تقع بالضبط أسفل قاعة المحاكمة للقيام بتسجيل ما يدور بها. وصرح أحد المتهمين أمام الملأ إبان استنطاقه بأن الجلادين الذين تفننوا واجتهدوا في تعذيبنا يوجدون حاليا معنا هنا ( وهو يشير بإصبعه إلى الأسفل).

 كانت محاكمتنا صورية بامتياز، شكلا ومضمونا. وحتى الأحكام صدرت انطلاقا من تعليمات ، ولم تكن شروط وظروف الدفاع متوفرة حتى في حدها الأدنى المقبول.

 منذ بداية المحاكمة اتضحت اللعبة ، وتبين أنها مسرحية محبوكة الخيوط والديكور ، وأن توقيتها فرض فرضا لذلك كان الانتقام متوقعا، وهذا ما جرني إلى التساؤل ..ما دام الأمر كذلك لماذا من الضروري أن يقوموا بما يقومون به...وكلاء النيابة وقضاة يحققون ومصاريف وحبر وأوراق وضياع الوقت والجهد وذهاب وإياب وحراسة مشددة وتطويق الحي الذي توجد به المحكمة وقطع الطرقات..ما دامت اللعبة انكشفت...فما الداعي لذلك؟..كان يكفي تبليغ العقوبة للمعنيين وتوفير المال والمجهود.


تراوحت الأحكام بين المؤبد وخمس سنوات نافذة وتمت مقاطعة " الوجدي" لأنه تسبب في اعتقال العشرات بتصرف طائش بعد أن أهدى معلومات مجانية للجلادين

 

 منذ أن علمنا، ونحن نقبع في سجن الدار البيضاء، أن رئيس الهيئة حظي بوعد بالترقية، انتصبت عدة علامات استفهام حول الموضوع، وهذا ما دفع البعض إلى اعتبار أن الأمور كانت " مفروشة" والتعليمات " معطية ". علاوة على أن المحاكمة تمت استنادا على اعترافات منتزعة بسوء المعاملة والتعذيب الوحشي غير المطاق. وبعيدا عن كل ضغينة، أقول إنه لم يفلت أحد ضيوف درب مولاي الشريف من التعذيب، كل ضيف من ضيوفه عزز وكرم تعذيبا وتنكيلا وقهرا، كل واحد منا نال حظه بسخاء ولم يحرم منه حتى الإناث والمرضى والمسنون والمعاقون.

 وهناك حادثة يمكن إدراجها في إطار المحاكمة المسرحية وهي حادثة مرتبطة بالمعتقل " الوجدي" وهو أحد قياديي منظمة " 23 مارس" وكان هو أول من اعتقل في غضون سنة 1975 صدفة حيث أوقفه شرطي المرور قصد مراقبة أوراق ووثائق الدراجة النارية التي كان يمتطيها إلا أنه حاول الفرار نظرا لعدم توفره على أي وثيقة، علما أنه آنذاك كان يعيش في السرية وكان من الأشخاص المبحوث عنهم. ومن هنا انطلقت سلسلة الاعتقالات. وهكذا استطاع البوليس اعتقال عدة رفاق في فترة وجيزة جدا. آنذاك انطلقت موجة الاختطافات بالجملة ، بالعشرات في اليوم أحيانا، وبدأ تكديس المختطفين ، في البداية بمخفر الشرطة، ثم بدرب مولاي الشريف مباشرة .

 ولم يستحسن أغلب الرفاق تصرف " الوجدي" لاسيما وأنه صادر عن مسؤول قيادي آنذاك بمنظمة "23 مارس" ما أدى إلى اتخاذ موقف عزله ومقاطعته منذ وصول المجموعة إلى سجن " اغبيلة " بالدار البيضاء. وما عدا ثلاثة أو أربعة رفاق من ضمنهم المرحوم عبد السلام المؤذن وعلال الأزهر لم يكونوا متفقين على قرار مقاطعة الوجدي وللإشارة فكل هؤلاء كانوا ضمن مجموعتنا (المجموعة 26 ) التي كانت معزولة عن باقي المعتقلين السياسيين بنفس السجن.

 كانت اعترافات " الوجدي" أحرجت أغلب المعتقلين، كبلتهم وجعلت مواجهتهم للجلادين بالدرب صعبة للغاية من جراء المعلومات الضافية التي أهداها لهم بسهولة، وأحيانا " مجانا"، رغم أنه كان من القياديين وبالتالي ملزما بالصمود أكثر من غيره كما كان سائدا في اعتقاد الجميع آنذاك.
 في بداية المحاكمة صرح " الوجدي" أمام هيئة المحكمة أنه يلتمس مقابلة صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني " لقضية غاية في الخطورة " وقبل مطالبة دفاعه بالخبرة الطبية وقعت حادثة كان لها وقع شديد على جميع المعتقلين آنذاك.
 إذ أنه حينما كنا نتأهب للصعود إلى السيارات التي ستقودنا من السجن إلى المحكمة منع " الوجدي" أحد رجال " السيمي " من تكبيله بالأصفاد، وبعد أخذ ورد صاح " الوجدي" قائلا:" الكل على علم الآن أنني أتعامل معكم فلا داعي لمعاملتي مثلهم "...ورفض قبول تكبيل يديه ككل المعتقلين.
 وإثر هذا الحادث المتوقع قررت المحكمة فصل ملف " الوجدي" عن محاكمتنا الجارية اعتبارا لخلل عقلي أصابه بحسب قرار المحكمة الموقرة. وهناك حادثة أخرى حولت مجرى المحاكمة رأسا على عقب. ففي جلسة 18 أو 19 يناير 1977، ندد أحد الرفاق بتصرف رئيس الجلسة تجاه أحدنا، فدوت في القاعة صيحة قائلة هادي مهزلة..فاشيستي...

 غضب رئيس الجلسة غضبا لم يسبق أن غضب مثله منذ بداية المحاكمة، فقال بالحرف:" لي قالها...إذا كان رجل فليقف...فوقفت القاعة عن آخرها وصاح الجميع " فاشي...نازي...وما كان أمامه إلا النهوض بسرعة وهرول مغادرا القاعة.

 وبعد عودتنا إلى السجن طبقت علينا إدارته العزلة ولم نعد نلتقي، فتقرر الدخول في إضراب عن الطعام ومقاطعة المحاكمة.

 

أصحاب البذل السوداء
 رغم الجهود التي بذلت من أجل طمس استشهاد عبد اللطيف زروال من جراء التعذيب الوحشي وسوء المعاملة، انفجرت قضيته أمام الملأ. ورغم تصريح أغلب المحامين بكون محاضر البوليس ملطخة بدماء المعتقلين وبالتالي وجب إبعادها وعدم الاعتداد بها، ورغم معاينة آثار التعذيب البادية للعيان على أجساد بعض الرفاق، لم يتم الاعتراف بأي تجاوز، ولم يسأم الرئيس من النفي تلو النفي، وبدا نفيه هذا، في الحقيقة، كتزكية واستحسان لما وقع وكان يكرس في درب مولاي الشريف ومختلف المعتقلات السرية الأخرى تكريسا. وهذا اعتبار من الاعتبارات الكفيلة بإظهار أن المحاكمة لم تكن عادلة وإنما كانت فصلا من فصول مسرحية انتقام وذلك لعدة أسباب. من ضمنها أن توقيت محاكمتنا تم فرضه فرضا بالنضال المستميت.
 ...انتهت المحاكمة المفبركة وبقي الجميع في انتظار الأحكام. وجاء اليوم الموعود، يوم النطق بالأحكام ودامت الجلسة قسطا من النهار وليلة كاملة. وكان أول ما نطق به رئيس المحكمة: سنتين نافذة للجميع بدون استثناء نظرا لإهانتهم للقضاء. وآنذاك اقتنع جميع الرفاق أن لا أحد سيطلق سراحه إلا بعد سنتين على الأقل، حتى أولئك الذين لا تسمح طبيعة وفحوى ملفاتهم بالاحتفاظ بهم داخل السجن محرومين من حريتهم. بعد ذلك شرع الرئيس في توزيع الأحكام التي تنوعت بين المؤبد وخمس سنوات نافذة.
 قام ممثل النيابة بمجهودات جبارة لإخفاء حقيقة التعذيب الذي مورس على المعتقلين بمستويات متفاوتة، إلا أن مجهوداته ذهبت سدى لأن الحقائق كانت بارزة للعيان. وكان توفير الدليل بصمت، دون كلام: انتصب عبد الله زعزع وغيره أمام الهيئة، وجها لوجه، وخلع حذاءه ومكن الهيئة من معاينة آثار التعذيب، وكان ذلك بمثابة إدانة صامتة لم تكن في حاجة لا إلى كلام ولا إلى تعليق.
 وكلما كان أحد المحامين، وما أكثرهم، يثير إساءة معاملة المعتقلين والتعذيب الذي مورس عليهم، كان ممثل النيابة يردد إجابة أصبحت اعتيادية لديه، يرددها بالحرف الواحد دون تغيير، وهي النفي وكون ما يقال هو مجرد اختلاق من طرف المتهمين تهربا من ثبوت التهم الموجهة إليهم، وذلك رغم علمه علم اليقين بعدم صحة ما يردده، وكان كلما ردد ذلك تبرز المهزلة أكثر لأن علامات التعذيب كانت لا تزال بارزة على الأجساد.
 رغم أن المحامي الفرنسي بمساندة هيأة الدفاع، طالب بإبعاد محاضر الشرطة وعدم اعتبارها لأنها نتاج لتعذيب وحشي ذهب ضحيته الشهيد عبد اللطيف زروال، أصرت المحكمة على ضرورة الاعتماد عليه، وبذلك كذبت آثار التعذيب الماثلة أمامها وصدقت كل ما ورد في المحاضر من اعترافات منتزعة بالدم وما فبرك منها، وهذا في حد ذاته مشهد من مشاهد فصول مسرحية المحاكمة الصورية.
 وقف المحامي الفرنسي، الذي جاء لبلادنا للدفاع عن منظمتنا " إلى الأمام" وبعض الرفاق وقال:" إن مرافعتي ستبدو لكم غريبة نوعا ما، لكن الظروف هي التي فرضتها " تم صمت ولم ينبس بكلمة..وبعد مدة أردف:
 هذه مرافعتي، ابتدأت عندما صمت وانتهت عندما نطقت من جديد معلنا عن نهايتها، وذلك اعتبارا للظروف التي طبعت هذه المحاكمة والطريقة التي سارت بها مجرياتها.
 وللإشارة فإنه هو المحامي الذي قدم ملتمسا للمحكمة يطلب فيه إبعاد محاضر الشرطة لأنها ملطخة بدماء الشهيد عبد اللطيف زروال.
 كما أن محامية فرنسية هي كذلك، جاءت لبلادنا لمؤازرة بعض المعتقلين، وأثارت بدورها إشكالية المعاملة والتعذيب، لكن ممثل النيابة أجابها أكثر من مرة قائلا إن جميع الاعترافات أخذت طواعية وبمحض إرادة المتهمين دون اللجوء إلى أي نوع من الضغط والإكراه بدنيا كان أو معنويا..وتبسمت المحامية الفرنسية طويلا...وبرزت المهزلة بصورة أكثر فظاعة.


نعتنا من طرف إدارة سجن القنيطرة بالسياسيين لم يكن اعترافا منها بصفتنا ولكن من باب ترهيب سجناء الحق العام بهدف إبقاء جدار العزلة بيننا


السجن المركزي آخر محطة من المحنة
 انتهت المحاكمة في 15 فبراير وفي 11 مارس تقرر نقلنا إلى السجن المركزي بالقنيطرة. بعد أيام من صدور الأحكام ، حضر رئيس المعتل بسجن " اغبيلة" بالدار البيضاء إلى جناح مجموعة 26 التي كنت ضمنها...كان يبدو عليه شيء من الارتباك فقال لنا إنه تقرر نقلكم إلى القنيطرة وعليكم ارتداء ملابس السجن الموحدة عوض الملابس المدينة، فقال له أحد الرفاق وأظنه السرفاتي أو عبد الرحمان نودا، ما زالت الأحكام الصادرة في حقنا غير نهائية ما دمنا طعنا فيها ونقضناها. إلا أن رئيس المعتقل أصر على أن نرتدي ملابس السجن، ولإقناعنا بذلك ختم كلامه بالقول إنه لا يطبق إلا الأوامر، وإنه عبد مأمور، وطلب منا تسهيل مأموريته، ثم شكرنا وانصرف.
 السجن المركزي بالقنيطرة من السجون المعروفة على صعيد شمال إفريقيا، معلمة من معلمات الاستعمار الفرنسي، كان يعتبر أكبر سجن بها إبان الحماية. ومر به كل رموز الحركة الوطنية المغربية تقريبا، وكذلك الأغلبية الساحقة من المعتقلين السياسيين بالمغرب منذ الخمسينات. فحتى ضيوف، آكل البشر، معتقل تازمامارت، تم اختطافهم من السجن المركزي بالقنيطرة، وهو السجن الوحيد الذي يحتوي على جناح المحكومين بالإعدام.
 أودعونا بحي " أ" وحي "ب" وهما حيان مجاوران معزولان عن باقي الأحياء الأخرى، وكانا بالإضافة إلى حي "ج" آنذاك مخصصين للمعتقلين السياسيين المنضوين تحت لواء الحركة الماركسية الللنينية المغربي ( إلى الأمام ـ 23 مارس ـ لنخدم الشعب) وذلك في وقت كان فيه القائمون على الأمور ينكرون وجود معتقلي الرأي والمعتقلين السياسيين بالمغرب، لكن إدارة السجن كانت تنعتهم بالسياسيين، ولم يكن هذا اعترافا منها بصفتهم ولكن من باب تخويف وترهيب سجناء الحق العام بهدف إبقاء جدار العزلة بينهم.." عنداك هادوك سياسيين راهوم خطر" هكذا كان باقي السجناء يرون ضيوف حي " أ" وحي " ب" وحي " ج" بالسجن المركزي بالقنيطرة.
 وحي "ج" كان مخصصا آنذاك لأول مجموعة من الحركة الماركسية اللينينية التي حوكمت بالمغرب، وكان ذلك في بداية السبعينات، قبلنا بسنوات، وكان ضمنها عبد الحميد أمين وعبد اللطيف اللعبي وعلي أفقير وبلفريج وحرزني واسيدون وآخرون وكان معهم بنفس الحي بعض مناضلي الجناح الثوري لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
 كان آنذاك وما يزال السجن المركزي فضاء يجرد فيه الإنسان من إنسانيته وآدميته، فالسجان فيه لا يتقن إلا لغة واحدة قوامها القمع والتعذيب الجسدي والنفسي وتدمير المعنويات والدوس على الكرامة والاستغلال بمختلف ألوانه وأساليبه.
  هذه هي الحقيقة المخالفة بالتمام والكمال لكل ما يقال في الخطابات الرنانة التي تسعى جاهدة لتقديم السجن كمدرسة تقوم السلوك المنحرف وتعيد المخطئ إلى الطريق السوي المستقيم. فعلا إنه مدرسة لكن مدرسة لتعميق أعمال الإجرام والانحلال الخلقي والشذوذ بمختلف أنواعه وتلاوينه ، فالكل قذر في السجن، الأجواء والتصرفات والسلوكات والعيش اليومي، إنه فضاء لتعميق الانحراف وصقله وتكريس العنف بمختلف أنواعه كنهج وآلية للعقاب والنبذ ، السجن آلة قمعية رهيبة تدمر الإنسان وتحوله إلى مجرم من حيث لا يدري وتنتزع منه كل إحساس بالكرامة. إنه فضاء يكرس فلسفة تعمق الفردانية والأنانية وتقتل روح التعاون والتضامن لتحويل السجين إلى أداة طيعة في يد إدارة السجن والسجان. والسبيل لبلوغ هذا الهدف هو القمع والقهر المستمرين الدائمين، والإهانة والتفتيش ومختلف أساليب وطرق الحرمان والعزلة و " الكاشو" ويزداد الأمر سوءا بتحسيس السجين الفقير بقهر مضاعف أكثر بسبب الرشوة والمحسوبية واللعب على ورقة العفو والمضاربة بصدده ونشر الإشاعات للمتاجرة فيه لجعل السجين يركن إلى الانتظار والتخلي عن المواجهة والاحتجاج والتصدي.
 حتى الاستفادة من الحقوق الأساسية مرهونة بالرشوة والزبونية والمحسوبية.
 إن العقلية السائدة ما زالت عقلية ترتكز على الضبط والتأديب والعقاب والنيل من الكرامة عوض ارتكازها على عقلية الإصلاح والتربية وإعادة التأهيل والمعاملة الإنسانية ، إنه مؤسسة للعقاب وإعادة إنتاج الجريمة وتوسيع مدى النبذ والتهميش.
 في هذا الفضاء حاولنا تنظيم حياتنا اليومية، وتدبير عزلتنا عن العالم بطريقة تجعلنا نضمن درجة من تتبع الأحداث والمساهمة فيها، ولو من بعيد، من وراء الأسوار العالية وخلف الأبواب الفولاذية.
 ابتداء من سنة 1979 تم فتح نقاش واسع النطاق حول التجربة ومستقبل الحركة الماركسية اللينينة المغربية. وطفت على السطح خلافات واضحة حول جملة من القضايا الجوهرية، الشيء الذي أدى إلى بروز تكتلات وتوجهات وحساسيات متباينة بين جيل التأسيس وجيل الاستمرارية ومواقف أخرى لهثت وراء الشرعية آنذاك بأي ثمن.
 فمن المعروف أنه في عقد السبيعنات كانت مختلق مواقف منظمة " إلى الأمام" تتمحور حول شعار " لا إصلاح ولا رجعية قيادة ثورية " كل الممارسات كانت تحاول تجسيد هذا الشعار. إلا أنه في النصف الأخير من الثمانينات حصل تحول جوهري في الموقف، لاسيما الموقف إزاء الهيئات السياسية والقوى الديمقراطية.
 في أجواء النقاش الواسع تمكنا عن طريق المرحوم جبيها رحال من الحصول على مذياع جيبي صغير من نوع طرانزيستور وتعاونا، أنا وعبد الله زعزع والمرحوم جبيهة على ربط المعتقلين السياسيين بالعالم الخارجي، حيث كنا نقوم طوال الليل في الزنزانة بالتقاط الأخبار من مختلف الإذاعات ثم ننقلها كتابة إليهم للإطلاع عليها كل صباح.
 وكان آخر لقائي مع المرحوم جبيهة رحال قبل ذهابه إلى مستشفى ابن سينا بالرباط، حين فاتحني حول موقفي من الهرب من السجن. وناقشنا الفكرة طيلة ليلة كاملة ، إلا أن ذهابه إلى الرباط حال دون تعميق النقاش في الموضوع.
 وكان ذلك في غضون شهر شتنبر 1979. وفي ليلة 13- 14 أكتوبر لفظ رحال جبيهة أنفاسه الأخيرة وهو يحاول الهرب من الطابق الخامس لمستشفى ابن سينا بمعية البربري وأسيدون اللذين استطاعا الفرار ولم يعتقلا إلا بعد مدة.




#إدريس_ولد_القابلة (هاشتاغ)       Driss_Ould_El_Kabla#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مذكرات الاعتقال السياسي - الحلقة 11 - الإضرابات عن الطعام
- مذكرات الاعتقال السياسي - الحلقة 9- 10 - التعرف على الشيخ عب ...
- علامات استفهام
- قضايا استثنائية أمام محكمة استثنائية !
- مذكرات الاعتقال السياسي - الحلقة 8 - الحصة الأولى من التعذيب
- العالم المتحضر يحترم حقوق الإنسان من ولادته إلى وفاته
- مذكرات الاعتقال السياسي -الحلقة 6/7 - عبد اللطيف زروال يلفظ ...
- مذكرات الاعتقال السياسي - الحلقة 4/ 5 - لحظات في أركان درب م ...
- مذكرات الاعتقال السياسي - الحلقة 3 - الليلة الأولى بمخفر الش ...
- مذكرات الاعتقال السياسي - الحلقة الثانية - من الخميسات إلى ا ...
- نقش على جدران الزنازين مذكرات الاعتقال السياسي - الحلقة الأو ...
- - مجرد إطلالة على فكر الدكتور -المهدي المنجرة
- وقفات على أرض الواقع المغربي
- الفقر وما أدراك ما الفقر ببلادي !
- رأي في الحركات الإسلامية بالمغرب
- المواطنة و الديموقراطية
- المحاكمة العادلة المعايير المتعارف عليها دوليا
- الـصحـافـة وتـطـورهـا - لـمـحـة خـاطـفـة
- أمية الأمس ليست هي أمية اليوم
- وقفات على أرض الواقع المغربي


المزيد.....




- غواتيمالا.. مداهمة مكاتب منظمة خيرية بدعوى انتهاكها حقوق الأ ...
- شاهد.. لحظة اعتقال الشرطة رئيسة قسم الفلسفة بجامعة إيموري ال ...
- الاحتلال يشن حملة دهم واعتقالات في الضفة الغربية
- الرئيس الايراني: ادعياء حقوق الانسان يقمعون المدافعين عن مظل ...
- -التعاون الإسلامي- تدعو جميع الدول لدعم تقرير بشأن -الأونروا ...
- نادي الأسير الفلسطيني: عمليات الإفراج محدودة مقابل استمرار ح ...
- 8 شهداء بقصف فلسطينيين غرب غزة، واعتقال معلمة بمخيم الجلزون ...
- مسؤول في برنامج الأغذية: شمال غزة يتجه نحو المجاعة
- بعد حملة اعتقالات.. مظاهرات جامعة تكساس المؤيدة لفلسطين تستم ...
- طلاب يتظاهرون أمام جامعة السوربون بباريس ضد الحرب على غزة


المزيد.....

- في الذكرى 103 لاستشهادها روزا لوكسمبورغ حول الثورة الروسية * / رشيد غويلب
- الحياة الثقافية في السجن / ضرغام الدباغ
- سجين الشعبة الخامسة / محمد السعدي
- مذكراتي في السجن - ج 2 / صلاح الدين محسن
- سنابل العمر، بين القرية والمعتقل / محمد علي مقلد
- مصريات في السجون و المعتقلات- المراة المصرية و اليسار / اعداد و تقديم رمسيس لبيب
- الاقدام العارية - الشيوعيون المصريون- 5 سنوات في معسكرات الت ... / طاهر عبدالحكيم
- قراءة في اضراب الطعام بالسجون الاسرائيلية ( 2012) / معركة ال ... / كفاح طافش
- ذكرياتِي في سُجُون العراق السِّياسِيّة / حـسـقـيل قُوجـمَـان
- نقش على جدران الزنازن / إدريس ولد القابلة


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - إدريس ولد القابلة - مذكرات الاعتقال السياسي - الحلقة 12 الأخيرة - ملف قضية السرفاتي ومن معه