أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - إدريس ولد القابلة - مذكرات الاعتقال السياسي - الحلقة 4/ 5 - لحظات في أركان درب مولاي الشريف















المزيد.....

مذكرات الاعتقال السياسي - الحلقة 4/ 5 - لحظات في أركان درب مولاي الشريف


إدريس ولد القابلة
(Driss Ould El Kabla)


الحوار المتمدن-العدد: 591 - 2003 / 9 / 14 - 05:04
المحور: أوراق كتبت في وعن السجن
    


نقش على جدران الزنازين


 منذ الوهلة الأولى اكتملت الصورة في خاطري...تصورت أن عصابة من قطاع الطريق اختطفتنا من منازلنا ونزعتنا من ذوينا وجاءت بنا إلى فضاء مظلم منسي، ركح الإذلال والتحطيم واغتيال الصفة الإنسانية..شعرت بريح عفنة تهب في هذا المكان الغريب.

 كلما تذكرت أيام ضيافتي بدرب مولاي الشريف، يتخيل إلي أن مصائب هذا الكون بأسره بالكاد تساوي قضاء ليلة واحدة بالدرب، ومهما دونت ووصفت، ومهما اجتهدت فلن أستطيع عطاء صورة حقيقية بمأساة الإنسان بدرب مولاي الشريف. كان الولوج إلى هذا الدرب بمثابة الدخول إلى غابة متوحشة مليئة بالحيوانات المفترسة المتعطشة للدماء الآدمية....لكنها حيوانات ليست كالحيوانات، لأن هذه الأخيرة خلافا للأولى، لا تفترس إلا بمقدار وللضرورة مع احترام قواعد معلومة مجبولة عليها. أما حيوانات درب مولاي الشريف فخلت قلوبها من الرحمة ولو من اختلاجة منها، ولا مكان فيها لذرة من الشفقة، إنها آلات عذاب وتعذيب...كذبوا أمثالي على امتداد سنة أو أكثر..مخلوقات كانت ترهب الناس خوفا من استيقاظهم...مخلوقات كالتنينات تخرج من أفواههم نار تقضي على كل ما هو طيب وجميل في نفس الإنسان المغربي.

 بعد الاستقبال وتقييد الأسماء..خلعنا ملابسنا ومنحونا قميصا وسروالا كاكيين...أعادوا تكبيلنا بالأصفاد ما دامت العيون ظلت معصبة " ببانضة " محكمة العقدة...بعد أن جردونا من النقود والساعات اليدوية والأقلام والسجائر رموا بنا بين أيدي جماعة من " الحجاج" ( وهم سجانو درب مولاي الشريف)..صففونا صفا واحدا ووجوهنا إلى الحائط..وكان الصراخ يرتفع من كل مكان ومن كل زاوية...يستمر الصراخ في التصاعد ليتحول إلى لحن جنائزي..لحن استقبال أحياء ـ أموات في فضاء هتك الصفة الإنسانية، فضاء يقبع فيه أناس يواجهون مصيرا مجهولا بين جدران صماء موروثة عن الاستعمار المستبد...فضاء لا مكان فيه للأمل ولا للأمنية...لم يكن أمامنا إلا الصبر والصمود. و " الحجاج" يهمون بوضع كل واحد بمكانه انطلق صوت رخيم رفيع وحاذ:
 الصمود الصمود يا رفاق القنيطرة.

 وعرفت بعد شهور أنه صوت عبد الله زعزع الذي حوكم بالمؤبد، قالها متحديا الجلادين، وأظن أنه ما زال يذكر ذلك جيدا.

كان الحاج يمنعنا من وضع الأقدام على جدار القبور نتعمد استفزازه لكي يعاقبنا بالوقوف على رجل واحدة لمدة ساعة أو ساعتين.


 أودعونا في سرادب تحت أرضي ضيق كانت تفوح منه رائحة نتنة كأنها لب الصديد، وكانت التعليمات تقضي بعدم صدور أي صوت وإلا فالصفع والركل والضرب والتنكيل...كل حركة وبطلب رخصة من " حاج" من " الحجاج" وما أكثرهم بدرب مولاي الشريف، أدخلونا في ذلك السرداب في جو من الفزع والخوف..فتساقطنا الواحد فوق الآخر قبل أن يجمدنا أحد " الحجاج" كل في مكانه تحت سيل من التهديدات والوعيد والتنكيل...ظل الفرد منا في مكانه يجتر أفكاره وآلامه ومحنته في صمت رهيب. كنت أشعر بجوع شديد ، لكن ما الجوع بجانب الرعب والخوف العارم الذي كان يخلخل الصدور في ذلك الفضاء بدون علم أحد وراء شمس الوجود.

 ولا داعي للتأكيد بأنه لم يذق أحد منا طعم النوم في تلك الليلة وربما حتى في الليالي الموالية. كانت الآلام التي تواجهنا ونعايشها تشغلنا عن التفكير في التحقيق الذي ينتظرنا والذي ربما يستدعي إليه بعضنا في أية لحظات من لحظات الليل أو النهار. في تلك الليلة الأولى سمعت صوتا يصرخ وصدى فرقعات سوط تولول..أتصوره سوطا يهوي على جسد نحيف..صوت شخص مريض تسكنه بحة ..كان السبب هو أن أحد " الحجاج" ضبطه يتكلم مع أحد ضيوف الدرب الكثيرين آنذاك..بعد مدة علمت أن الصوت كان للملاخ الذي قام بطبع، رفقة العلوي، رسالة الشيخ عبد السلام ياسين " الإسلام أو الطوفان"، قبل المشاركة في توزيعها..شعرت أنني في كابوس مزعج لدرجة أنني حاولت جاهدا عدم التفكير فيما يجري ويدور حولي، علما أنني لم أكن أدري كيف سينتهي الحلم المزعج..في كل وقت كنت أحسب ألف حساب لكل لحظة قادمة، ولم يكن أمامي إلا الاستسلام في مواجهة الأحداث مع الحرص الشديد على محاولة إبعاد التذمر والانهيار..لم أقو على النوم رغم التعب والإرهاق...تذكرت أمالي وأحنبيلا:لبهجة التي كنت أشعر بها عندما كنت أناضل ( بين التلاميذ والطلاب، في التجمعات والمظاهرات..) لأن هدفي كان نبيلا : تحرير الإنسان من الظلم والاستغلال والذل لتمكينه من شروط العيش كإنسان بكرامة لا أقل ولا أكثر ...بدأت تساؤلات تتزاحم بدماغي...أين هو القانون كما هو سار به العمل عندنا على علته ونواقصه؟ أين الحضارة ؟ أين التحديث والتقدم اللذان يطبلون له ويغيطون في مختلف وسائل الإعلام آنذاك؟ ...وضاعت صورة العدل والعدالة بين التساؤلات في مخيلتي وانتابني غثيان وشعرت برغبة جارفة للتقيؤ على التو...كل هذا وأنا أجهل ما كان ينتظرني ...وإلى أي مصير أنا مقتاد بمعية الرفاق الممدودين بجانبي، وفي كل ركن من أركان فضاءات هذا الدرب اللعين.

 في صباح اليوم الموالي ساقنا أحد " الحجاج" إلى غرفة بها " حاج" آخر بيده آلة حلاقة، كان يمسكها ويحركها بطريقة مخيفة، كأنه جزار ينتظر الأكباش للبطش بها..وكلما جلس أحدنا أمامه هم به كأنه سيفترسه...جاء دوري وانتهت المجزرة تحت عاصفة من الشتائم لم اسمع مثلها من قبل.
 كنت مع مجموعة القنيطرة في ذلك القبو الذي لا يتجاوز عرضه المتر ونيف، وكنا مستلقين على ظهورنا ليس في اتجاه طوله وإنما في اتجاه عرضه، الشيء الذي حرمنا من مدر أرجلنا، لاسيما أصحاب القامات الطويلة منا، فكانوا يتعذبون ويعانون أكثر مني، أنا القصير القامة خصوصا وأن " الحاج" كان يمنع منعا كليا رفع الأقدام ووضعها على الجدار...كنا ملزمين بالاحتفاظ بالرجلين مطويتين، وهذا كان يسبب آلاما لا تطاق...لذا كان الواحد منا يتعمد استفزاز " الحجاج" لكي يعاقبه بالوقوف على رجل واحدة لمدة ساعة أو ساعتين مع الضرب المبرح...

 معتقل درب مولاي الشريف فضاء التعذيب والتعسف والموت البطيء، والذاكرة لا تنسى الآلام والمحن، فهناك في قلب ذلك الفضاء استشهد من استشهد، وفقد من فقد وخبل من خبل...درب مولاي الشريف مفارقة غريبة، لعب ذلك الفضاء دورا في النضال ضد المستعمر، كما أنه كان فضاء لاغتيال الأمل....إنه مرتع أناس ارتبطت أسماؤهم بالفترات المظلمة...قضيت به ما يناهز ثمانية شهور، وهناك في أكثر من ركن من أركانه صادفت رائحة محمود عرشان والحمياني واليوسفي قدوري وغيرهم...هناك كانت بأيديهم سلطة الحياة أو الموت على ضيوفهم...كانوا يفعلون بهم ما يريدون وما يحلو لهم دون حسيب ولا رقيب ولا مسائلة. ومن بين السماء والوجوه التي ظلت عالقة بالذهن، رغم أنني كنت معصوب العينين منذ ولوجي عتبة الدرب: اليوسفي قدوري رئيس الغرفة الوطنية للشرطة القضائية وعبد اللطيف بطاش و " الديب " رئيس " الحجاج"، صورهم ما تزال عالقة بذهني.

 


الشهيد زروال عبد اللطيف


 عبد اللطيف كان رجلا من خيرة الناس بشهادة جميع من عرفوه وهم كثيرون جدا. ذهب ضحية التعذيب الوحشي الذي مارسه عليه جلادو درب مولاي الشريف، وغيره كثير...مازالت رائحة أنفاسهم حاضرة بأجواء الدرب وعلينا من حين لآخر الذهاب للترحم على أرواحهم هناك حتى لا ننسى.

 صمد عبد اللطيف زروال وأدى الثمن غاليا: حياته، وبعد أن انفضح أمر وفاة الشهيد زروال من جراء التعذيب الوحشي على أيدي زبانية درب مولاي الشريف تم الإعلان أن سبب موته هو إصابته بمرض عضال في المعدة. ولا علم لي هل تم إجراء تشريح الجثة ولا علم لي هل فعلا تمت مساءلة القائمين على الدرب آنذاك في الموضوع. وما أعلمه علم اليقين أنه كانت هناك نية إبعاد قضية زروال عن المحاكمة. فحتى محاضر الشرطة تم تغييرها وإعادة صياغتها بعد استشهاده وذلك بحذف كل ما هو مرتبط به، وهذه ممارسة تعد قمة الاستهتار بحياة الأشخاص آنذاك ببلادنا، فكيف يا ترى يشعر الآن أصحاب الأيادي التي تلطخت بدماء الشهيد ؟ وكيف سيكون موقف أبنائهم إذا علموا بالأمر ؟
 كانت هناك نية واضحة لطمس قضية  الشهيد زروال. عندما سلموا إلينا ملابسنا استعداد لمغادرة الدرب وعرضنا على النيابة بعد أكثر من سنة من الاعتقال التعسفي بدا خوف رهيب على الرفيق شيشاع، كان خائفا من الاحتفاظ به بالمعتقل لأنه هو الذي كان على موعد مع الشهيد عبد اللطيف زروال وهو الشاهد الأول على اعتقاله واختطافه وإيداعه بمعتقل درب مولاي الشريف. وما دام البوليس كان في نيته إقبار القضية اعتقد " شيشاع" اعتقادا أكيدا أنه سيقبر هو كذلك لأنه هو الشاهد على النازلة، وزاد خوفه عندما علم أن سجل الدخول إلى مستشفى ابن سينا تم تزويره بإسقاط اسم الشهيد عبد اللطيف زروال منه وذلك بنزع الورقة المثبت عليها اسمه وتاريخ نقله إلى المستشفى قبل لفظ أنفاسه الأخيرة بقليل. وتأكد، من هذه النازلة بعد معاينة السجل، محمد السريفي عندما إلى هناك من جراء تعقيدات صحية مرتبطة بالقلب. إلا أن تخوفات " شيشاع" اندثرت مع تقديمه للنيابة، لكن شيئا من الخوف ظل يسكنه حتى وهو بالسجن قبل المحاكمة.


كان الجلادون يرمون لنا قطعة: لحم" متناهية الصغر كل عشرة أيام وكان فطورنا عبارة عن طحين مغلي بماء مع قشور طماطم نتناوله لمجرد سخونته ليس إلا.

***********************

نقش على جدران الزنازين

مذكرات الاعتقال السياسي

إدريس ولد القابلة

الحلقة 5

أحوال ضيوف درب مولاي الشريف


 ضيوف الدرب، بولوجهم إليه، يفقدون الماضي وينزلق من بين أصابعهم الأمل في المستقبل. هكذا كان حالهم طوال مدة ضيافتهم ، طالت أم قصرت ، مجردين من أي شيء حتى من صفتهم الآدمية والإنسانية ...تحت أنظار جلادي الدرب كل واحد منهم يواجه مصيره بذاته ولذاته وعزيمته وصموده فقط مجردا من أي شيء آخر..هكذا بكل بساطة كان ضيوف الدرب يقضون حياتهم في ظلام الدرب.

 تحرش مستمر ودائم لمجرد أبسط حركة. كان عليك أن تستأذن حتى حينما تريد الاستمالة من جنب إلى الآخر...كان عليك أن تنادي " الحاج"، والسجانون بدرب مولاي الشريف كلهم " حجاج"، وحتى رئيسهم كان يدعى " الحاج". وما زلت لحد الآن أذكر اسمه أو لقبه " الديب" الذي كان يناديني ب " ولد الفرملية " تفاديا لاستعمال اسمي كلما كان يأتي دوري في التحقيق أو حصة التعذيب الليلية أو النهارية بحسب الأحوال ومزاج الجلادين. كنا ممدودين على الأرض في مختلف أركان وفضاءات درب مولاي الشريف الذي ضاق بنا لكثرة عددنا...المحظوظون منا والمرضى كانوا ينامون على أسرة عسكرية من تلك التي تطوى، وكانوا قلة. أتذكر منهم: السرفاتي، الكرفاتي، مداد، السليماني، عبد السلام بودرار، عبد الله حريف وآخرين...لكن كانوا قلة قليلة مقارنة بمن كانوا يلتحفون الأرض..لكن بالنسبة للبانضة والأصفدة فهي القاعدة بالنسبة للجميع دون استثناء.

 في ما يتعلق بالأكل في معتقل الدرب فأصبحنا ككلب " بافلوف" نستشعر وقت الأكل بالضبط...نفس المراسيم بدون تغيير. أصوات الصحون المعدنية وهي تلقى على الأرض أمام كل واحد. حساء غريب، ذو مذاق غريب يصلح لكل شيء ما عدا للأكل، مرفوق بخبزة في منتهى الصغر. ومن حين لآخر قطعة من لحم غير معروف مصدره ولا طبيعته. ..قطعة صغيرة لا تكاد تظهر مرة على رأس كل عشرة أيام.

 بعد مدة أخذت أتأقلم مع فضاء الموت البطيء بالدرب، أصبحت أستغل الفجوة الصغيرة بين العين والأنف من تحت البانضة لأتفحص عبرها المحيط وأنا مستلق على ظهري، وجوه " الحجاج" وجلادي الدرب...أتأملها بدقة وأختزنها في ذاكرتي...كما أتفحص وجوه ضيوف الدرب...كان الألم والمعاناة يفترسانها افتراسا، كانت وجوها مصفرة كئيبة، عليها آثار محنة البشرية، لا سيما الجزء منها الذي قدر له العيش على أرض المغرب في ذلك العهد صرت أتنقل كل يوم من وجوه إلى أخرى فوجدتها كلها وجها واحدا، لا يمكن التمييز بينهما من جراء شدة المحنة.


المرآة أرتني وجهي المخيف والشاحب


 في احدالأيام قادنا " الحجاج" مجموعة تلو مجموعة إلى ممر طويل وأوقفونا بجانب الحائط الواحد وراء الآخر، طابور لا أعرف بدا تيه ولا نهايته، بين الفينة والأخرى يتحرك الطابور إلى الأمام، وكلما تحرك ترامى إلى أسماعنا إيقاعات صوت متتالية، إنها أصوات كانت تحدثها الأصفاد المكبلة لليدين، كانت تذكرني بالعبيد المسلسلين وهم متوجهون إلى حقول القطن أو القهوة ببلاد " العم السم" أو في البرازيل، يتحرك الطابور مدة ثانية...وثالثة ..ورابعة ولم أكن أعرف ماذا ينتظرني، لكن عندما اقتربت بي المسافة بدأت أسمع قرقرة المياه لاحظت طابورا في الضفة الأخرى من الممر ففهمت أن الأمر يتعلق بالاستحمام...وصل دوري...فك أحد " الحجاج" قيودي ودفعني داخل غرفة تم أزاح " البانضة " عن عيوني فقال: لا تلتفت واغسل بسرعة..طليت الصابون واستحممت بسرعة...انقطع الماء على التو وإذا بيد تمد لي سروالا وقميصا كاكيين وتجدبني نحو الركن...وأنا أحاول تثبيت السروال الذي كان واسعا أكثر من المحتمل بصرت جزء مرآة مكسرة مثبتة على الحائط...نظرت إليها فإذا بي أرى شخصا مخيفا، شاحب الوجه وأصفره، خائر القوى، هزيل البنية، لم أتعرف عليه رغم أنه أنا هو..

 فعلا كنا نصادف الموت بالدرب في كل لحظة..وكان أغلبنا يتمناه لاسيما في الشهر الأول عندما كانت وتيرة التعذيب في أوجها...وتركت هذه الفترة في نفسي أناة لا أظن أنها ستنمحي يوما، وذلك من جراء فظاعة المعاناة التي عاشها وعايشها ضيوف درب مولاي الشريف.

 وفي ظل هذا الرعب الدائم ابتدع الرفاق أساليب للتواصل، كانت عبارة عن شفرة خاصة من الأصوات والحركات والكلمات تسري بيننا كما يسري الدم في العروق..حصل الاتفاق على " مورس" خاص للتفاهم، فمثلا كلما غادر " الحاج" مكانه، فكان على من يلاحظ ذلك من المعتقلين أن يخبر الآخرين بإحداث صوت معين، كما كان عليه أن يظل يحرس عودته للإخبار من جديد. وهذا كان يمكن البعض من التواصل، وأحيانا التنقل بسرعة من مكان إلى آخر بسرعة ذهابا وإيابا...كان الكلام ممنوعا والويل لمن ضبط يتحدث مع رفاقه...الضرب والشتم والوقوف على قدم واحدة لعدة ساعات..هكذا كنا نحيا مفصولين عن الحياة والحياة مفصولة عنا.

 كان إفطارنا عبارة عن طحين مغلي بماء مع قشور طماطم، حساء لا لون له في قائمة الألوان المعروفة، ولا مذاق ولا طعم له...كنا نتناوله لمجرد سخونته ليس إلا..وأحيانا قليلة كوب شاي صغير بطعم غريب لا يمت إلى المذاق المعروف للشاي حتى الرديء منه، وخبزة صغيرة، غريبة الصغر والحجم، من أردأ ما يمكن أن يوجد من دقيق. وفي الغذاء قطاني، غالبا ما تكون فولا بقشوره، القشور أكثر من الفول. وفي العشاء " فداوش " متلاحمة بينها لدرجة أنها تكون كتلة واحدة. وفي الأعياد أرز من النوع الرديء، ومن حين لآخر قطعة " ميكروسكوبية" من اللحم، أكيد أنه لحم دابة أي دابة ؟ العلم لله وحده...كانت الشكوك تحوم حول مصدر ذلك اللحم نظرا لغرابة وضخامة العظام التي كنا نلاحظها في الطبق الكبير المخصص للتوزيع.


طوابير إلى المرحاض


 عندما يكثر القمل يسمحون لنا بالاستحمام..وجيوش القمل كانت تكتسح جميع زوايا وثنايا أجسامنا وأسمالنا..ويوم الاستحمام يوم نحس، يكثر فيه الشتم والسب والتنكيل والضرب ويتفنن فيه " الحجاج" في ابتداع مختلف أساليب الإهانة والحط بالكرامة.

 كان عليك أن لا تتحرك إلا بإذن " الحاج"...كل مرة كان أحدنا ينادي على أحد " الحجاج" إما للسماح له بالشرب أو لاقتياده إلى المرحاض، كنا نسمع سلا من الشتائم البذيئة القبيحة...وعند الشعور الحاد بالرغبة الأكيدة في قضاء الحاجة كان الواحد منا يظل ينادي " الحاج " الذي لا يستجيب إلا بعد أن تتكاثر النداءات ولن يستجيب إلا بحسب مزاجه فيقود طابورا إلى المرحاض لقضاء الحاجة..في المرة الأولى أغلقت باب المرحاض فإذا بالحاج يفتحه بقوة وقسوة حتى كاد يسقطني ثم انهال علي ضربا..ارتبكت من تصرفه ولم أفهم المقصود من تصرفه..إنه كان يريد أن لا أقفل الباب وأقضي حاجتي وهو ينظر إلي..فقلت مع نفسي هو والغائط سيان..أراد معاينة ما افعله فله ما يريد..فمادامت " البانضة " على عيني ولا أراه فكأن الباب مقفول وكفى...فأصحاب الحضيض لا يرضون إلا بالحضيض وكان له ما أراد.

 ومرات عديدة لم يقو أحدنا على قضاء حاجته الملحة وذلك من جراء مراسيم الإرهاب والتنكيل التي تحيط بالعملية، فكان عليه تأجيلها حتى تتغير دورية الحراسة وقدوم فرقة أخرى من " الحجاج" ليرمي بحظه معه.


الإهانات في الدرب كانت تشمل الكي و " التعلاق " والصدمات الكهربائية والتجويع والحرمان من النوم والخنق " بالشيفون" النتن وبالمياه القذرة و " الكريزيل ".

 



#إدريس_ولد_القابلة (هاشتاغ)       Driss_Ould_El_Kabla#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مذكرات الاعتقال السياسي - الحلقة 3 - الليلة الأولى بمخفر الش ...
- مذكرات الاعتقال السياسي - الحلقة الثانية - من الخميسات إلى ا ...
- نقش على جدران الزنازين مذكرات الاعتقال السياسي - الحلقة الأو ...
- - مجرد إطلالة على فكر الدكتور -المهدي المنجرة
- وقفات على أرض الواقع المغربي
- الفقر وما أدراك ما الفقر ببلادي !
- رأي في الحركات الإسلامية بالمغرب
- المواطنة و الديموقراطية
- المحاكمة العادلة المعايير المتعارف عليها دوليا
- الـصحـافـة وتـطـورهـا - لـمـحـة خـاطـفـة
- أمية الأمس ليست هي أمية اليوم
- وقفات على أرض الواقع المغربي
- إشكالية الماء في العالم
- العروبة و الإسلام
- تاريخ الإرهاب ضد الصحافة المغربية
- الثورة المعلوماتية و الاتصالية : تعميق الهوة بين التقدم و ال ...
- الجنس....المال ....العاطفة أساليب الموساد في تجنيد عملائها
- المقاطعة ….والمصالح الإسرائيلية ببلادنا
- منظومة الرواتب والأجور إلى متى هذا الحيف ؟
- العلاقات الإنسانية


المزيد.....




- تفاصيل مروعة عن أساليب تعذيب الأسرى الفلسطينيين في سجون الاح ...
- الأمم المتحدة: إسرائيل تمنع وصول شحنات المساعدات إلى غزة
- مخابرات الأسد ـ التعذيب بعقلية النازيين وأساليب ألمانيا الشر ...
- مخابرات الأسد: التعذيب بعقلية النازيين وأساليب ألمانيا الشرق ...
- الصليب الأحمر يدعو للاحتفاظ بقوائم المعتقلين في سوريا
- الرئيس الفنزويلي:صمت الامم المتحدة ازاء الابادة في قطاع غزة ...
- مستشفيات.. وجرائم حرب
- الكشف عن هوية مهرب صور التعذيب من السجون السورية التي أدت إل ...
- ألمانيا تحسم موقفها من القيادة الجديدة في سوريا ومسألة بقاء ...
- الاحتلال ينفذ اعتقالات بالضفة ويشتبك مع مقاومين قرب نابلس وج ...


المزيد.....

- ١-;-٢-;- سنة أسيرا في ايران / جعفر الشمري
- في الذكرى 103 لاستشهادها روزا لوكسمبورغ حول الثورة الروسية * / رشيد غويلب
- الحياة الثقافية في السجن / ضرغام الدباغ
- سجين الشعبة الخامسة / محمد السعدي
- مذكراتي في السجن - ج 2 / صلاح الدين محسن
- سنابل العمر، بين القرية والمعتقل / محمد علي مقلد
- مصريات في السجون و المعتقلات- المراة المصرية و اليسار / اعداد و تقديم رمسيس لبيب
- الاقدام العارية - الشيوعيون المصريون- 5 سنوات في معسكرات الت ... / طاهر عبدالحكيم
- قراءة في اضراب الطعام بالسجون الاسرائيلية ( 2012) / معركة ال ... / كفاح طافش
- ذكرياتِي في سُجُون العراق السِّياسِيّة / حـسـقـيل قُوجـمَـان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - إدريس ولد القابلة - مذكرات الاعتقال السياسي - الحلقة 4/ 5 - لحظات في أركان درب مولاي الشريف