أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية - حزب العمال التونسي - ملاحظات حول وثيقة -مشروع أرضية لليسار















المزيد.....



ملاحظات حول وثيقة -مشروع أرضية لليسار


حزب العمال التونسي

الحوار المتمدن-العدد: 1970 - 2007 / 7 / 8 - 12:07
المحور: العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية
    


ملاحظات حول وثيقة "مشروع أرضية لليسار"

أصدرت مؤخرا إحدى المجموعات السياسية اليسارية في تونس (حزب اليسار الاشتراكي) وثيقة بعنوان "مشروع أرضية لليسار" بتاريخ 8 أوت 2006 تقع في 22 صفحة وتشتمل على 8 فقرات رصدت من خلالها "الملامح العامة للتحولات الدولية الراهنة" وأهم أبعاد " مشروع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا" لتتخلص إلى رسم "سمات الوضع في تونس والمسألة الديمقراطية" ثم استعرضت أبعاد "اختيارات النظام التونسي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية" قبل أن تعرض "الملامح العامة للبرنامج اليساري البديل" مكتفية في ذلك بالملامح السياسية مغفلة – ولا ندري إن كان ذلك عن قصد أو عن غير قصد – الملامح الأخرى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية واقترحت أخيرا "البرنامج البديل" و"المحاور البرنامجية لليسار الموحد التونسي".

وإذا كان لا بد من التنويه شكلا بهذه المبادرة لإثارتها مسألة من ألحّ المسائل في الظرف الراهن وهي توحيد فصائل اليسار التقدمي في بلادنا حول أرضية عمل مشتركة، فإن ذلك لا يمنع من حيث الأصل من إبداء جملة من الملاحظات الجوهرية تعميقا للنقاش ودفعا للصراع الفكري والسياسي حول المشروع المقترح وحول بعض نقاط الخلاف داخل فصائل اليسار التونسي، بخصوص "المسألة الديمقراطية" أساسا.

ولعل أوّل ما يشدّ الانتباه ويستحق التوقف عنده بالتدقيق والتعميق والنقد هو المنطق العام الذي بنى عليه أصحاب الوثيقة تحليلهم وكان الخيط الرابط بين جميع فقراته التقييمية منها والبرنامجية والذي على أساسه حددوا طبيعة "التناقض الرئيسي الذي يشق مجتمعنا في المرحلة التكتيكية الراهنة" كما جاء في الفقرة التالية: "وإذا كان نظام الحكم الدستوري يمثل العائق الرئيسي الأول أمام تحقيق الديمقراطية في بلادنا وإرساء نظام جمهوري ديمقراطي، فإن الحركة الإسلامية بمشروعها الاستبدادي المتستر بالدين وبما يدفع إليه من ردّة عامة في المجتمع، تمثل العائق الأساسي الثاني. وكلاهما يشكل الطرف الرئيسي في التناقض الذي يميز المرحلة التكتيكية الراهنة والذي يقابل بين الديمقراطية من ناحية والدكتاتورية القائمة ومشروع الاستبداد المتستر بالدين من ناحية أخرى. وإن حلّ هذا التناقض لا يحدث إلا بإقامة الجمهورية الديمقراطية ذات البعد الشعبي والتقدمي" (ص 9).

فكما هو واضح من الفقرة أعلاه، فإن "نظام الحكم الدستوري" و"الحركة الإسلامية بمشروعها الاستبدادي المتستر بالدين" "يشكلان" ومن دون أدنى تمييز "الطرف الرئيسي في التناقض" وأي تناقض؟ "التناقض الذي يميز المرحلة التكتيكية الراهنة" "التناقض الذي يقابل بين الديمقراطية من ناحية والديكتاتورية القائمة ومشروع الاستبداد المتستر بالدين من ناحية أخرى".

فلنر إلى أيّ مدى هذا التحديد لطبيعة التناقض القائم اليوم في بلادنا هو تحديد واقعي وصحيح، أي إلى أيّ مدى "نظام الحكم الدستوري" و"الحركة الإسلامية بمشروعها المتستر بالدين" "يشكلان" بالفعل "الطرف الرئيسي في التناقض" القائم دون أدنى تمييز ودون مراعاة لموقع كل منهما من الحكم ومن الاختيارات المفروضة على الشعب.

ولنر أيضا ما إذا كان "التناقض" القائم "يميّز" فعلا "المرحلة التكتيكية الراهنة" أم هو يميّز مرحلة أخرى، مرحلة بعيدة المدى أي استراتيجية. وسيجرّنا ذلك حتما إلى تدقيق مميزات كل مرحلة من المرحلتين، "التكتيكية الراهنة" والاستراتيجية والتعمق فيهما للتثبت في طبيعة المرحلة التي نحن بصددها، تكتيكية هي أم استراتيجية وما يطرح على الشعب التونسي في كل منهما من مهمات وأهداف.

ولنر أخيرا ما المقصود بـ"الديمقراطية" التي يقابلها "التناقض الرئيسي" المذكور بـ"الدكتاتورية القائمة" ومن هي القوى التي تمثلها الآن في الساحة السياسية التونسية؟

1 - في التناقض الرئيسي في المرحلة التكتيكية الراهنة:

غنيّ عن القول، منهجيا، أن صواب أيّ برنامج، استراتيجيا كان أم تكتيكيا، مرهون بصواب وصحة ودقة تحليل الوضع العام، وبتحديد طبيعة التناقض الرئيسي الذي يشق المجتمع (والتناقضات الثانوية المتفرعة عنه)، أي بتحديد مكونات كل معسكر طبقي من المعسكرين الأساسيين المتعارضين – مهما كانت درجة حدّة الصراع بينهما في ظرف زمني محدد سواء أخذ هذا الصراع طابعا تناحريا أو "سلميا"– وبتحديد مصالح كل منهما الآنية ومتوسطة وبعيدة المدى، المصالح التي يعمل كل منهما على تحقيقها أو الحفاظ عليها بكل الطرق السلمية وغير السلمية.

إن كل خلط يحصل عند تحديد هذين المعسكرين المتضادين ومكوناتهما، وكل خلط في رصد مصالح كل منهما الآنية أو بعيدة المدى من شأنه أن يشوّش أهداف البرنامج الاستراتيجي والتكتيكي المراد وضعه حيال كل منهما أو حيالهما معا.

معلوم أنه في ميدان السياسة يدور التناقض الرئيسي حول الحكم بين من يملك وسائل الإنتاج ويستأثر بثمرة وفوائد عملية الإنتاج الاجتماعي، من يملك أجهزة الحكم القسرية والسياسية والإيديولوجية والروحية والدعائية (شرطة وجيش وحكومة وبرلمان ووسائل الإعلام ومؤسسات الدين...)، من يضع الاختيارات العامة ويفرضها على المجتمع من جهة، وبين من لا يملك وسائل الإنتاج ولا ينال إلا الفتات من ثمرة الإنتاج العام ويرضخ لسلطة الدولة بجميع مؤسساتها لاختياراتها وبالتالي هو ضحية النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي القائم.

إن إهمال هذا العنصر الحاسم في تحديد طبيعة التناقض الرئيسي يقود حتما إلى اعتبار عوامل أخرى أيديولوجية وعقائدية ذاتية لا تعكس الواقع في شيء. ومن نافل القول أن تحديد التناقضات بطريقة ذاتية لا يمكن أن يؤدي إلا إلى استنتاجات ذاتية لا تنطبق على الواقع ولا تستجيب له.

ونعتقد أن تحديد مكونات المعسكرين المتضادين اللذين يقابل بينهما التناقض الرئيسي في بلادنا في الظرف الراهن بالتحديد، كما جاء في الفقرة المقتبسة أعلاه من وثيقة "مشروع أرضية لليسار" يتضمن خلطا كبيرا – نتمنى أن لا يكون متعمدا - لا يعطي صورة دقيقة وواضحة وواقعية لمكونات معسكر القوى التي لها مصلحة في الإبقاء على الواقع الحالي لمجتمعنا بخصائصه ومميزاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية كما لا يعطي صورة دقيقة وواضحة وواقعية لمكونات معسكر القوى التي لها مصلحة في تغيير ذات الواقع وخاصة على المستوى المنظور.

لقد انطلق أصحاب الوثيقة في تحليلهم من رؤية ذاتية لا تحتكم لمعطيات الواقع كما هي بقدر ما احتكموا إلى منطلقاتهم الأيديولوجية التي أرادوا صبغ الواقع بها وتطويعه لها. ونحاول فيما يلي تبيان ذلك.

إن القول بأن "نظام الحكم الدستوري" و"الحركة الإسلامية بمشروعها الاستبدادي المتستر بالدين" "يشكل كلاهما الطرف الرئيسي في التناقض.." لا يعكس بدقة الواقع بل ويتجنى عليه لأنه لا يأخذ في الحسبان إلا طبيعة المشاريع المجتمعية التي يحاول أحدهما (نظام الحكم الدستوري) استدامتها ويعمل الثاني (الحركة الإسلامية) على تحقيقها، ولأنه لا ينظر إلى طبيعة التناقض من زاوية موقع كل من هذين الطرفين من الحكم أي من هو في الحكم، ويسيطر على جهاز الدولة ويكرس مصالح التحالف الرجعي الإمبريالي (البرجوازية الكمبرادورية أو العميلة والشركات والدول الامبريالية الغربية) أي "نظام الحكم الدستوري" ويستعمله لصالحه وعلى حساب مصالح الطرف المقابل، من جهة، ومن هو محكوم وخاضع لسلطة الدولة ولا يستأثر بفائض قيمة عملية الإنتاج الاجتماعي أي "الحركة الإسلامية، الخ." حتى وإن كانت لا تختلف عن "نظام الحكم الدستوري" في طبيعة المشروع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي العام الذي تدافع عنه وتروم إرساءه إذا تمكنت من الصعود إلى السلطة مستقبلا أو حتى ولو كانت تمثل تعبيرة من تعبيرات تلك البرجوازية.

ما من شك أنه على المستوى الاستراتيجي لا يختلف هذان الطرفان في إقامة مجتمع رأسمالي استغلالي وتابع لدوائر رأس المال العالمي ونظام حكم قمعي متعارض مع "الجمهورية الديمقراطية". وليس الصراع الدائر بينهما اليوم إلا صراعا داخل نفس المنظومة العامة البرجوازية حتى وإن كان أحدهما ذا قشرة عصرانية وحداثوية بينما يأخذ الآخر من الدين غطاء له.

ولكن وما دمنا نحن بصدد "المرحلة التكتيكية الراهنة" هل يستقيم النظر لهما من زاوية مشاريعهم المجتمعية؟ وهل يمكن على هذا الأساس اعتبار أن كلاهما "يشكل الطرف الرئيسي في التناقض" لا لشيء إلا لأنهما لا يختلفان في طبيعة المشروع المجتمعي الذي يدافعان عنه كلّ بصيغته؟

وبلغة أخرى هل يمكن اعتبارهما طرفا واحدا في التناقض في "المرحلة التكتيكية الراهنة" والحال أنهما على طرفي نقيض من الحكم، واحد يحكم ويستفيد من موقع الحكم على جميع الأصعدة ويريد تأبيد نظام حكمه ويرفض أي تغيير مستعملا أفظع أشكال القمع لهذا الغرض والثاني - حتى وهو لا يختلف عنه من حيث المشروع المجتمعي الذي يبشر به – في المعارضة، محكوم وضحية للقمع والإقصاء ويريد تغيير الوضع.

وإذا كان للأول مصلحة في الحفاظ على الوضع الحالي ونراه يتبع في سبيل ذلك شكلا دكتاتوريا في الحكم فهل للثاني (الحركة الإسلامية) نفس المصلحة في دوام هذا الوضع؟ بلا شك لا، لأن "الحركة الإسلامية..." (نقصد فصيلها الأساسي "النهضة") بمقولاتها المعروفة لن تتوانى عن إقامة مشروعها المجتمعي "الاستبدادي والمتستر بالدين" إذا استحوذت على الحكم ولكن هي الآن في واقعها الراهن كحركة مقموعة، ممنوعة من الوجود والتعبير، كوادرها ومناضلوها مقموعون ومشردون إمّا إنهم يقبعون في سجون "نظام الحكم الدستوري" أو هم منفيون في ديار الهجرة القسرية في حاجة ماسّة إلى أن تتغير الأوضاع باتجاه أن تتمتع على الأقل بحق الوجود والتعبير وإلى إطلاق سراح مساجينها وعودة مغتربيها وفي كلمة هي الآن في حاجة ماسّة إلى تغيير الأوضاع على نقيض ما يعمل من أجله "نظام الحكم الدستوري" القائم.

ولا يفوتنا أن نؤكد ذلك حتى وإن بدت هذه "الحركة..." اليوم متردّدة وغير متحمّسة للنضال الجاد من أجل تغيير الأوضاع إمّا بسبب عجزها التنظيمي أو لأنها تعلق أوهاما على المصالحة مع "نظام الحكم".

إن التناقض الرئيسي اليوم هو بين "نظام الحكم الدستوري" الذي يمسك بجهاز الدولة ويفرض بواسطته اختياراته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الاستبدادية والثقافية للبرجوازية الكبيرة العميلة مدعوما بالإمبرياليات الغربية الأمريكية والأوروبية من جهة، وبين الشعب التونسي بجميع فئاته وشرائحه من جهة ثانية. وبعبارة أخرى فإن الطرف المهيمن في "التناقض الرئيسي" هو الدكتاتورية الدستورية النوفمبرية ولا يمكن أن تشرك معها "الحركة الإسلامية" أو أي حزب برجوازي آخر في المرحلة الراهنة، ذلك، أن الطبيعة الدكتاتورية لهذا النظام تجعله يحتكر السلطة بكاملها ولا يسلط قمعه على القوى الثورية والتقدمية التي تمثل مصالح العمال والكادحين وعموم الشعب فقط بل كذلك حتى على أحزاب وتنظيمات برجوازية ممّا يفسّر معارضتها له مرحليا وبالتالي مصلحتها في تحرير الحياة السياسية وهو أمر ينبغي مراعاته في أي تكتيك سياسي.

إن العنصر الحاسم في تحديد الطرف الرئيسي في "التناقض" في تونس اليوم أي في "المرحلة التكتيكية الراهنة" التي نحن بصددها ليس طبيعة المشروع المجتمعي لهذا الطرف أو ذاك وإنما هو الموقع من الحكم أي التناقض بين من هو مع نظام بن علي ومن هو ضده، علما وأن هذا التناقض الراهن – باعتباره ظاهرة موضوعية – ليس بحالة دائمة ومستقرّة في التاريخ بل هو قابل للتحول على قدر ما سيشهده الوضع من تطور ومن تحولات في المستقبل. ويعني ذلك أن "الحركة الإسلامية" الممنوعة والمقموعة اليوم والتي لها مصلحة في تحرير الحياة السياسية في بلادنا ومن هذه الزاوية بالذات من الوارد أن ترتد في ظروف أخرى إلى مقولاتها التقليدية والعودة للمناداة بإرساء نظامها الاستبدادي ودولة الشريعة مع ما يصحبها من إجراءات اقتصادية واجتماعية لا تختلف في شيء عن نظام بن علي الحالي وربما في نسخة أكثر قمعا وأشد وطأة على الشعب بل ربما تذهب كلها أو شقّ منها إلى المشاركة في الحكم وبالتالي المشاركة مباشرة في قمع الشعب التونسي واستغلاله. عندئذ فقط سيصبح التناقض معها، التناقض المطروح للحل، هو فعلا تناقضا رئيسيا لأنها أصبحت طرفا في التناقض الرئيسي.

ولكن هل يبرّر مثل هذا الاحتمال تصنيف "الحركة الإسلامية...’’ التي لا تزال بعيدة كل البعد عن الحالة التي تؤكد هذا الاحتمال (لأنها مقموعة وممنوعة ولا تراهن اليوم على افتكاك الحكم بقدر ما تراهن على الحد الأدنى من أدنى الحريات) ضمن العدوّ الرئيسي في "المرحلة التكتيكية الراهنة"؟

إن الإصرار على هذا التحديد متعسّف على الواقع وينطوي على تعنّت عقائدي ليس في الواقع ما يبرره سوى النزعة الذاتية في تحليل الواقع المادي لحالة الصراع الطبقي في بلادنا.

2 - في التحالف مع "الحركة الإسلامية..."

ولسائل أن يسأل، بما أن "الحركة الإسلامية بمشروعها الاستبدادي المتستر بالدين.." مقموعة وممنوعة من قبل "نظام الحكم الدستوري" كغيرها من القوى السياسية الليبرالية والديمقراطية والثورية وتحتاج مثلها تماما لتحرير الحياة السياسية، فهل يعني أنها بالضرورة طرف في التحالف الذي ينبغي أن يتشكل من أجل القضاء على نظام الحكم الدكتاتوري القائم وإرساء "الجمهورية الديمقراطية"؟

بلا شك لا. فالتحالف له مبادئه وشروطه الموضوعية والذاتية، وإذا كانت الحاجة لحل التناقض الرئيسي تحدد بصورة إجمالية طائفة القوى الاجتماعية والسياسية المرشحة للمساهمة في هذا الحل فإن التحالف من أجل إنجاز الحل يستوجب توافقا واعيا وواضحا حول مضمون الحل ومحتواه – المباشر أي التكتيكي على الأقل – الذي تترجمه أهداف البرنامج التكتيكي.

إن مواجهة نظام ديكتاتوري كالنظام الدستوري في تونس بجبروته البوليسي الشامل تستوجب منطقيا بل قل نظريا تكتيل كل القوى المعارضة والمتضررة من سياساته بصرف النظر عن طبيعتها الطبقية وعن طبيعة المشروع الذي تهدف كل قوة منها إلى إرسائه. إذ لا يمكن لهذه القوى أن تأمل في دحر النظام أو على الأقل إجباره على التخلي عن شكله الدكتاتوري أو حتى التخلي عن بعض اختياراته وممارساته إلا متى كانت موحّدة ولها من القوة ما يسمح لها بتحسين ميزان القوى لصالحها. والمعروف أن النظام لا يستمد قوته من طبيعة الاختيارات التي يتبعها أو الإجراءات التي يتخذها لبسط نفوذه وإنما أيضا يستمدها من ضعف معارضيه ومن تشتتهم وتناحرهم الداخلي. لذلك تكتسي مسألة وحدة المعارضة السياسية وتضامنها أهمية قصوى بل ومحددة في تغيير موازين القوى لفائدتها.

ولقد استطاعت شعوب كثيرة لها تجربة وخبرة تفوق بكثير خبرة وتجربة شعبنا هزم الدكتاتوريات التي ابتليت بها في فترات من تاريخها لأن أحزابها وتياراتها السياسية الديمقراطية عرفت كيف تكتل قواها وتتجاوز خلافاتها المذهبية والسياسية في جبهات ديمقراطية موحدة.

غير أنه ولئن كان منهج الجبهة الديمقراطية الموحدة قد أثبت نجاعته وجدواه سياسيا لمواجهة الأنظمة الاستبدادية في أكثر من بلد ومن فترة تاريخية، فإن هذا المنهج يخضع مثله مثل كل الظواهر السياسية لمبادئ وشروط موضوعية بما يعني أن التحالف (في جبهة أو أي شكل آخر) لا بدّ أن يستجيب لهذه الشروط والمبادئ.

ولعلّ أول شروط التحالف هي أن يتشكل استجابة لحاجة يمليها الواقع الموضوعي أي تمليها الحاجة إلى تعديل موازين القوى بين المعسكرين المتضادين. فهو بهذا المعنى ظاهرة موضوعية تفرزها مرحلة محددة من تاريخ الصراع الطبقي وليس اختيارا إراديا للنوايا الحسنة لهذه القوة السياسية أو تلك. ومعلوم أن سياسة الاستبداد والانغلاق السياسي تخلق منطقيا وخارج إرادة كل القوى المعارضة الظروف والشروط المادية التي تدفعها لتوحيد نضالها وتفعيله.

أما الشرط الثاني للتحالف السياسي فهو وعي هذه القوى السياسية المعارضة بقصور إمكانياتها منفردة عن إحراز النصر على العدو وبالتالي بضرورة ضمّ جهودها وإمكانياتها لجهود وإمكانيات القوى الأخرى في عمل مشترك لتحقيق الأهداف المنشودة.

وينبغي أن يتجسم الوعي بهذه الحقيقة وهذه الضرورة في إرادة فعلية نشيطة وملموسة بما يفترض من القوى الراغبة في التحالف قدرتها على صهر طاقاتها ضمن الطاقة المشتركة للحلف المراد إقامته والارتقاء عن تفاصيل الرؤى والأطروحات الخاصة والخطية لفائدة ما هو مشترك. ويجرّنا ذلك إلى شرط آخر ولعله الأهم وهو شرط التوافق على قواسم مشتركة في البرنامج الاستراتيجي إذا كان التحالف المراد تشكيله يهدف إلى تحقيق هدف استراتيجي أو على قواسم مشتركة في البرنامج التكتيكي إذا كان التحالف يعنى بتحقيق أهداف تكتيكية مرحلية. وجدير بالتأكيد القول أنه من دون توفر هذا الشرط من غير الممكن مطلقا إقامة أي تحالف مبدئي هادف وقابل للدوام أو قادر على إنجاز مهامه.

لنأتي الآن للحالة الخصوصية الملموسة في بلادنا لنرى ما إذا كانت هذه الشروط المذكورة متوفرة أم لا وهل توفر فرصة حقيقية لإقامة تحالف (جبهة أو أي شكل آخر) معارض لنظام الحكم الدستوري.

في البداية لا بدّ من التأكيد مجددا أن لا "الحركة الإسلامية بمشروعها الاستبدادي المتستر بالدين" ولا الأحزاب الكرطونية التي انخرطت في مشاريع بن على وزكت سياساته معنية بتغيير طبيعة نظام الحكم في تونس تغييرا جوهريا ولا يمكن بالتالي أن تكون طرفا في التحالف الاستراتيجي الذي يمكن عقده لهذا الغرض لأن الشعب التونسي ليس في حاجة إلى استبدال نظام عميل ورجعي ودكتاتوري ومعاد لمصالح الشعب بآخر لا يقل عنه رجعية وعمالة ودكتاتورية وعداء للشعب أو ربّما يمتاز عنه في كل هذه السمات والخصائص.

وإذا كان الأمر محسوما – داخل فصائل اليسار على الأقل – ولا يستدعي جدلا أكبر فإن البحث في ما إذا كانت الحركة الإسلامية والأحزاب الكرطونية معنية بأي تحالف تكتيكي محتمل يستدعي حقا مزيدا من التدقيق والتوضيح.

لا جدال في أن أوضاع الشعب والحركة الديمقراطية في تونس تقتضي اليوم وبصورة عاجلة بعث قطب ديمقراطي واسع مناهض للدكتاتورية النوفمبرية الحاكمة هدفه على المدى المباشر والمتوسط القضاء على الاستبداد والانتقال ببلادنا إلى مرحلة ديمقراطية تحرر الشعب وتعبيراته السياسية المختلفة من القيود المفروضة عليه. وهو ما يعني بالضرورة، علاوة على الوعي بإلحاحية هذه المهمة، تبني برنامج ديمقراطي بديل يقطع فعلا مع الديكتاتورية ويضع أسس المرحلة الديمقراطية الجديدة التي تفتح الباب واسعا لتغيير أرقى تتحقق فيه "الجمهورية الديمقراطية" الحقيقية.

وهنا لا بدّ من استعراض مضمون برنامج البديل الديمقراطي لنرى فيما بعد مدى تلاؤم برامج كل الأطراف التي تدّعي الديمقراطية أو تقول عن نفسها كذلك، مع هذا البرنامج وللحكم على أي طرف من هذه الأطراف إذا كان فعلا مرشحا وأهلا للانضمام إلى أي تحالف (جبهة أو أي شكل آخر) سينبنى على أساس البرنامج الديمقراطي البديل.

إن برنامج البديل الديمقراطي برنامج متعدد المحاور ويشتمل على جوانب متعددة ومتشابكة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. وإذا كان كل جانب من هذه الجوانب مهما في حدّ ذاته، فإن الجانب السياسي منه يبقى هو المدخل والمفتاح الحقيقي لأي تغيير منشود. لذلك تكتسي المطالب السياسية في برنامج البديل الديمقراطي أهمية قصوى تكاد تكون محددة. فلنتفق ولنوضح أولا مضمون الحرية السياسية، عنوان البرنامج السياسي في البديل الديمقراطي لرفع كل التباس خصوصا وأن كل الأطراف السياسية، عدا نظام الحكم وأذنابه، يدعي المطالبة والدفاع عن الحرية السياسية والديمقراطية ومعارضة الحكم الفردي الدكتاتوري.

ويمكن تلخيص معنى الحرية والديمقراطية في:
- احترام الحريات العامة: حرية التنظيم والتعبير والنشر والصحافة والاجتماع والتظاهر ومبدأ سيادة الشعب أي حريته في اختيار من يحكمه عبر الانتخابات الحرّة والنزيهة ومراقبة من يحكمه ومحاسبته وعزله ومقاضاته ووضع التشريعات.
- عدم المساس بالحريات والحقوق الفردية وعلى رأسها حرية التفكير والمعتقد والإبداع والتنقل والسفر وحق احترام الحرمة في كل أبعادها.
- المساواة في كل معانيها وخاصة المساواة بين النساء والرجال.

وليس من باب الادعاء في شيء القول أن "الحركة الإسلامية" كانت قد عبّرت في فترات سابقة من تاريخها عن تعارضها مع هذه المبادئ والأهداف إذ وعدت الشعب التونسي في برنامجها السياسي بإقامة دولة دينية (دولة الشريعة) تتنافى ومفاهيم الجمهورية ودولة القانون والمؤسسات والفصل بين السلطات والسيادة الشعبية والتداول الديمقراطي على الحكم والتعددية السياسية وحقوق الإنسان.

وعلى حدّ علمنا فإن "الحركة الإسلامية" (ونقصد فصيل "النهضة" بالتحديد) لم تعبّر عمّا يفيد أنها تخلت نهائيا عن تنظيراتها المعروفة وما تزال بالتالي متمسكة بمشروعها المعادي لأبسط مبادئ الديمقراطية وهي تبعا لذلك غير مرشحة ولا مؤهلة لأن تكون طرفا في أي تحالف من أجل البديل الديمقراطي. ولقد صرّح زعيم الحركة، راشد الغنوشي يوم 9 أكتوبر 2006 لموقع حركة الإخوان المسلمين المصرية "إخوان أون لاين" بقوله: "برنامجنا اليوم هو نفس البرنامج الذي أعلناه يوم دخولنا الحياة السياسية سنة 1981، يتلخص في كلمة واحدة الحرية باعتبارها المفتاح الرئيسي لحل كل مشاكل بلادنا ثم هي مقصد عظيم من مقاصد النبوات "يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم" (الأعراف). نحن نرى في مبادئ الديمقراطية المعاصرة وآلياتها ومبادئ حقوق الإنسان الترجمة الوفية لمطلب العدل والشورى في الإسلام، الترجمة الكفيلة بتحرير أمتنا من أعظم إعاقة حلت بها منذ الانقلاب المشؤوم على نظام الشورى وتحويله إلى ملك عضوض يستمد شرعيته من الشوكة، من العنف".

أما بعض التعديلات التي أجرتها على برنامجها في مؤتمرها الأخير (لندن 2001) وظلت تقدّمها على أنها مراجعة عميقة لخطها باتجاه تبني الديمقراطية كخيار جوهري فهي لا تعدو أن تكون محاولة لإلباس خطابها لبوسا ديمقراطيا يدمج جملة المفاهيم والمصطلحات الليبرالية الغربية الخاضعة في مفهومها العميق للمنهج الإخواني السلفي التقليدي (العدل والشورى). وبعيدا عن الحكم عن النوايا أو الرجم بالغيب فإن "الحركة الإسلامية" ("النهضة") لم تتقدم إلى اليوم وبصورة علنية وجازمة بما يفيد أنها راجعت خطها القديم وبالخصوص في مسائل تعتبر أساسية وفاصلة بين الديمقراطية والاستبداد. هذه القضايا التي ما تزال موضوع جدال وصراع مع الحركة الإسلامية تتعلق أساسا بـ:
- الحريات الفردية وخاصة حرية التفكير والمعتقد وعلاقتها بالحريات العامة (حرية التعبير والتنظيم والاجتماع والتظاهر والانتخاب والترشح...)، إذ لا حريات عامة من دون حرية فردية ولا حرية سياسية من دون حرية فكرية وعقائدية ولا حرية من دون وضع حدّ منطق التكفير.
- احترام حقوق الإنسان وفي إطار ذلك احترام الحرمة الجسدية للبشر وحرمة المسكن والمراسلة والمكالمات الهاتفية والمعطيات الشخصية ويحيلنا هذا على الموقف المبدئي من العقوبات الجسدية وإطارها التشريعي وخاصة مسألة الحدود.
- مفهوم الديمقراطية كنظام سياسي بقواعده الثابتة غير القابلة للتصرف لا كمجرد حريات تقتضيها الظروف السياسية التي يمرّ بها هذا الطرف أو ذاك أو كمجرد آلية انتخابية ظرفية للوصول للحكم ثم الانقلاب عليها باسم " الشرعية الشعبية" أو غيرها من المسوغات.
- علاقة الفضاء السياسي بالفضاء الديني أو المقدس وحدود كل منهما وعدم تعدي أيّ منهما على الآخر بدعوى السلطة الربانية أو الشرعية السياسية الدنيوية.
- مسألة المساواة بشكل عام والمساواة بين الجنسين بصورة خاصة، إذ لا سبيل للحديث عن ديمقراطية لا يكون للنساء فيها الحق في التمتع بكل ما توفره من مكاسب للرجال في العائلة وفي المجتمع.

لذلك نعتقد أنه من حق الكثير من الأطراف السياسية أن تظل رافضة للعمل مع "الحركة الإسلامية" أو التحالف معها.

لكن وإذا كان التحالف مع هذه الحركة غير وارد ما لم تغيّر برنامجها في القضايا المشار إليها سلفا، فهل يعني ذلك أنه أيضا لا يمكن الالتقاء معها ولو بصفة ظرفية حول بعض المطالب الجزئية من برنامج البديل الديمقراطي، أي حول المطالب الجزئية الأكثر إلحاحا؟

قبل الإجابة على هذا السؤال الهام لا بدّ من توضيح الفرق بين التحالف والالتقاء. فالتحالف هو الاتفاق الواعي والإرادي والصريح والعلني بين عدد من الأطراف السياسية حول برنامج متكامل الجوانب الهدف منه إجراء تغيير مرحلي (أو استراتيجي) على الوضع أي حل تناقض رئيسي حلا نوعيا يستوجب كما قلنا اتفاقا شاملا حول برنامج يتضمن مطالب وأهداف متكاملة.

أمّا الالتقاء فهو مجرد اتفاق جزئي تفرضه ظروف النضال وتقاطع المصالح، حول بعض المطالب والأهداف الجزئية من البرنامج البديل لا كل مطالب البرنامج وأهدافه.

وكما سبق وقلنا أن عقد تحالف مرحلي تكتيكي لا يشترط الاتفاق المسبق على طبيعة المشروع المجتمعي، فإن الالتقاء حول بعض المطالب الجزئية من البرنامج التكتيكي المباشر لا يشترط هو الآخر الاتفاق على مجمل البرنامج التكتيكي، فهو التقاء تفرضه ظروف النضال والتقاء المصالح بصرف النظر عن الأغراض التكتيكية لكل طرف من الأطراف.

ومن هذه الزاوية، نعتقد أن الخلافات الجوهرية حول المشروع المجتمعي الذي يحتاجه شعبنا ويخدم مصلحته وحول برنامج البديل الديمقراطي لا يمنعنا كما لا يمنع أي طرف سياسي آخر ليبراليا كان أم يساريا من أن يقبل بوحدة العمل التي يفرضها الواقع وتتقاطع فيها المصالح دون أن يكون ذلك رديفا لتفريط أي كان في ذاتيته أو في أهدافه العميقة أو المرحلية.

ومن هذه الزاوية أيضا نعتبر أن القبول بوحدة العمل هذه بما في ذلك مع "الحركة الإسلامية" لا يمكن أن تمنع الأطراف التي تتفق على برنامج ديمقراطي بديل أو مشروع مجتمعي مشترك من إقامة التحالفات التي يمكن أن تتفق عليها.

3 - ملاحظات أخرى لا بدّ منها

إن الخلط في تحديد طبيعة التناقض الرئيسي في "المرحلة التكتيكية الراهنة" - سواء عن حسن نيّة أو عن قصد – يؤدي بنا كما هو مبيّن أعلاه إلى استنتاجات سياسية خاطئة وخاصة إلى اختلاق الذرائع لرفض العمل المشترك في قضايا دنيا وبسيطة ولكنها أساسية ومحورية بل ومحددة اليوم في مواجهة الديكتاتورية الحاكمة. والحقيقة أن المزايدة والتظاهر بالمعاداة المطلقة "للحركة الإسلامية" بصفتها صاحبة مشروع "استبدادي متستر بالدين" نابعة عن إرادة في التهادن – وبطرق ملتوية – مع السلطة وتخفيف حدّة الموقف منها لحسابات براغماتية مغلوطة تكرّس نظرة إصلاحية في التعاطي مع النضال من أجل مطالب الحرية ومقارعة السلطة بصددها.

إن اعتبار كل من الديكتاتورية الدستورية الحاكمة و"الحركة الإسلامية بمشروعها الاستبدادي المتستر بالدين" على نفس قدم المساواة الآن وبالتحديد في المرحلة التكتيكية الراهنة يشكلان طرفا في التناقض الرئيسي مع الشعب من شأنه أن يميع التناقض القائم مع نظام الحكم ويخفت من حدّة الموقف منه ويشوّش على الحركة الديمقراطية الهدف إلى حيث ينبغي أن تصوّب رمايتها وتركز جهودها. والاستمرار في مثل هذا التحليل والسلوك السياسي بقدر ما يحرم الحركة الديمقراطية من فرصة لتقوية صفوفها – عبر جرّ أطراف أخرى بما في ذلك تلك المتسترة بالدين – على أرضيتها المباشرة لتشديد الخناق على الدكتاتورية الدستورية المتغطرسة، يعطي الفرصة لهذه الأخيرة للعب على تناقضات وخلافات معارضيها والمضي قدما في تصعيد هجومها على الحريات في أبسط مظاهرها.

ولا نعتقد أننا نأتي بجديد حين نذكر أن مطالبة الحركة الإسلامية اليوم بالعفو التشريعي العام وإطلاق سراح المساجين السياسيين وبحرية التنظيم الحزبي والجمعياتي وبحرية الصحافة والتعبير إنما هو دليل على أنها جاءت على أرضية لطالما نادى بها الديمقراطيون في تونس وحاولوا جرّ كل القوى على قاعدتها وليس العكس. لكن ورغم ذلك فهل يعتقد أحد أن "انجرار" الإسلاميين وراء الديمقراطيين على هذه الأرضية المباشرة – من منطلق مصلحتهم طبعا – سيمنع الديمقراطيين من مواصلة الصراع معهم حول مفاهيمهم بخصوص الديمقراطية والحرية؟ أم هل سيمنعهم من بناء جبهات النضال التي يرونها صالحة (جبهة يسار أو غيرها...)؟

وعلاوة على هذا فإن النضال من أجل المطالب الديمقراطية في ظل الانغلاق السياسي التام يستوجب اليوم أكثر من أي وقت مضى تكتيل أكثر القوى بل كل القوى حول المطالب الدنيا والبسيطة – مثل النقاط الثلاث المذكورة سلفا – عسى أن تستطيع الحركة الديمقراطية ثني نظام بن علي عن تشدده القمعي المطلق تجاه المطالب الديمقراطية الدنيا. ولا يجب أن يذهب في ظن أيّ كان أن النظام يميّز في تشدده بين هذه القوة وتلك وبين هذا الفريق وذاك، فبن علي لا يسمح بأبسط مظهر من مظاهر الحرية لا ’’للحركة الإسلامية" لأنها "تحمل مشروعا استبدادا يتستر بالدين" ولا لليساريين ولا لليبراليين ولا لغيرهم وإنما من منطلق خوفه من الديمقراطية وحرصه على أن يظل مسيطرا على الوضع ومتربعا على عرش الحكم.

إن الدافع الرئيسي لنظام بن علي في مثل هذا النهج هو سياسي بالأساس، أي الحفاظ على الحكم لا أكثر ولا أقل ولا يضيره في شيء أن تنتشر الأوهام الدينية أو أيّة أيديولوجيا أخرى ما لم تتحول إلى حركة سياسية تقلق راحة حكمه وتهدد عرشه. وما الضجة التي يثيرها والحملة الإعلامية التي يشنها على حركة 18 أكتوبر مثلا إلا دليل على خوفه من أن تتحول هذه الحركة إلى تهديد جدي لنمط حكمه لذلك أطلق عنان أعضاء الديوان السياسي لحزبه التجمع "الدستوري الديمقراطي" لتشويه مقاصد إضراب الجوع وحركة 18 أكتوبر متباكيا على "استقلالية القرار الوطني" منددا بـ"الاستقواء بالخارج" وبتحالف "أقصى اليسار وأقصى اليمين". فمن يصدق مثل هذه الدعاية والحال أنه نظام عميل يأتمر بأوامر البيت الأبيض الأمريكي وأسياده في باريس وأوروبا ويستقوي على الشعب بالخارج ويفتح الأبواب على مصراعيها لرساميل وبضائع وأساطيل "الخارج" لتمتص دماء الشعب وتدنّس أرض الوطن؟ ومن يصدّق أنه لا يكرس أشدّ السياسات يمينية ورجعية؟

أمّا أن يتظاهر البعض بالتباين معه باعتباره نظاما دكتاتوريا ومعاديا لمصالح الشعب والوطن وأداة لتكريس الهيمنة الإمبريالية على بلادنا وفاعلا أساسيا في تمرير "مشروع الشرق الأوسط الكبير" (نذكر هنا الدور الذي لعبه في القمة العربية التي احتضنتها بلادنا سنة 2004) ثم لا يتورّعون عن ترديد نفس الشعارات والدعاية التي يروجها ذات النظام العميل والرجعي لمحاصرة مطالب الحركة الديمقراطية ونضالاتها متعللين بعدائهم "المبدئي" "للحركة الإسلامية ومشروعها الاستبدادي المتستر بالدين" فإنهم في الواقع يسقطون شاءوا أم أبوا في خندق النظام ويساعدونه بصورة واعية أو غير واعية على تعطيل نضال الحركة الديمقراطية وتسويغ حالة القمع العامة والانغلاق السياسي.

لا جدال في أن الحركة الديمقراطية ضعيفة ومشتتة ومنقطعة عن عامة الشعب ولا تمتلك لمواجهة استبداد نظام الحكم غير إصرارها وتعلقها بالحرية والديمقراطية اللذين لا يكفيان لكسر شوكة الدكتاتورية لذلك فهي مطالبة اليوم بتكتيل كل القوى بصرف النظر عن المنطلقات الأيديولوجية والأهداف الاستراتيجية حول المطالب الدنيا. وعليها أن تعي بأن جوّ الحرية حتى وإن تمتع به غيرها بما في ذلك أصحاب المشاريع الاستبدادية المتسترة بالدين أفضل لها بكثير من حالة الانغلاق المظلمة الذي تدمر مجتمعنا وتعوق نهضته، فالحرية هي "الهواء الصحي" كما قال بعضهم الذي ينتعش ويزدهر فيه النضال السياسي وأن مناخ القهر والتعفن والأزمة لا تفرّخ إلا روح الإحباط واليأس وتلقي بالآلاف المؤلفة من الناس للارتماء في أحضان الجريمة والفساد ورديفها التزمت والخرافة والغيبيات.

والذين يستنكفون اليوم عن معاضدة الحركة حول المطالب الديمقراطية الدنيا وعن الانخراط والإسهام فيها فكأنما يريدون للحركة الديمقراطية أن تظل مشتتة وضعيفة ومقطوعة عن الشارع ليواصل النظام استبداده وعنجهيته وليزيد في تعفين الجوّ وتعميق الأزمة وبالتالي في إعداد الأرضية وتحضير التربة الخصبة لمزيد انتشار اليأس والإحباط واستشراء ظواهر الشعوذة والخرافة والتزمت وفي المحصلة تقديم أفضل الخدمات للتيارات "المتسترة بالدين" والتي تتربص بالبلاد لتنتصب في الحكم حالما تسمح الظروف بذلك وتفرض على الشعب مجددا مشروعا ظلاميا معاديا.

إن الديمقراطي المتماسك لا يخشى إطلاق الحريات لصالحه ولصالح خصومه إلا إذا كان لا يثق بالفكر الذي يحمله والبرامج التي يتقدم بها للشعب ويخاف من الصراع الفكري الديمقراطي. فهل يمكن أن يكون ديمقراطيا من يبتغي الحرية لنفسه وينتقص منها لغيره؟ ثم هل يمكن أن يعتبر نفسه انتصر على الاستبداد واقتلع جذوره وهو لا يبتغي من الحرية إلا ما يناسبه هو دون غيره؟

والديمقراطي الحقيقي ليس هو كذلك لمجرد أنه يطلق على نفسه تلك الصفة أو لأنه يدبّج خطابه بمبادئ الحرية، بل الديمقراطي هو من يسخّر حياته للنضال من أجلها ولا يتخلف عن أية مبادرة تدفع الحركة إلى الأمام لدحر الدكتاتورية وتوسيع نطاق الحرية.

ونودّ هنا الإشارة إلى أن الحديث عن "الحركة الديمقراطية" بتلك الصيغة المبهمة في الفقرة الأولى من الصفحة 9 (وظل اليسار، هو الآخر، مشتتا توظفه المعارضة الديمقراطية في خدمة أغراضها السياسية...) وفي الفقرة الأولى من الصفحة 18 (إن اليسار، الذي يضم جهوده إلى الحركة الديمقراطية من أجل تغيير ديمقراطي فعلي في بلادنا...) يضفي كثيرا من الغموض والضبابية على ما يسمى بـ"الحركة الديمقراطية" في واقعنا الراهن.

وإذا كان ثمّة مسألة تتطلب اليوم أقصى درجات الدقة والتمحيص في واقعنا السياسي الراهن فهي "الحركة الديمقراطية"، ماهيتها ومكوناتها وحدودها... ولا نرى من حدّ فاصل وحاسم في اعتبار هذا الفصيل أو ذاك من الحركة "ديمقراطيا" إلا ما يعبّر عنه من مواقف وما يكرسه على أرض الواقع من سلوكات وممارسات سياسية تجاه السلطة، حيال الحكم الفردي المطلق، ضد القهر والقمع والقبضة الأمنية التي أحكمها النظام على جميع مظاهر الحياة العامة والسياسية خصوصا، بذلك فقط يمكن أن نحدّد إن كان هذا الطرف أو ذاك ديمقراطيا وينتصر بحق للشعب وللمطالب الديمقراطية بصورة مبدئية وثابتة أو إن كان يصبّ في طاحونة نظام الحكم رغم كل ما يمكن أن يتشدّق به من شعارات حول الديمقراطية واللائكية، لأن المسألة تتلخص في النهاية في الجواب عن سؤال بات اليوم واضحا وهو هل يمكن أن تتحقق الديمقراطية في تونس بواسطة النظام الحالي أو عن طريق التحالف معه ومهادنته أم بالقطيعة معه والنضال ضدّه وعلى أنقاضه؟

فالديمقراطي في ظروف النضال السياسي الراهن في بلادنا هو من يرفض الحكم الفردي المطلق في شكل رئاسة مدى الحياة مقنعة وغير مقنعة، من يرفض المؤسسات التمثيلية الصورية القائمة على التزوير المنهجي والتلاعب بالعملية الانتخابية، من يعارض بجدية والتزام كل أشكال القمع الفكري والسياسي والمادي ويكرس حياته من أجل أن يتمتع الشعب التونسي بحقوقه كحقوق لا كهبة من نظام الحكم ينبغي أن يسعى لها عبر التنازل والانبطاح إن لزم الأمر. فالديمقراطي ليس صفة يطلقها المرء على نفسه من منطلقات أيديولوجية فضفاضة أو ذاتية ضيقة، وإنما هو من يعبّر ويمارس ويجسّد بتماسك ومبدئية في الظرف الزماني المحدّد وفي الواقع السياسي المحدّد، أي الآن وهنا، رفضه للديكتاتورية الدستورية، لنظام الحكم الفردي، للحكم البوليسي الذي أرساه ويرعاه بن علي اليوم في بلادنا.

ومن هذا المنطلق فإن الحديث عن "الحركة الديمقراطية" وعن ضم اليسار لجهوده معها في نضاله "من أجل تغيير ديمقراطي فعلي في تونس.." كلام يكتنفه كثير من الغموض المتعمّد للتستر على حقيقة الأطراف التي يعتبرها أصحاب الوثيقة جزءا من الحركة الديمقراطية أو هي "الحركة الديمقراطية" بعينها والواقع أنها لم تكن في الماضي القريب ديمقراطية ولا هي اليوم كذلك. إذ هل يمكن أن يكون ديمقراطيا من تهادن مع النظام طيلة عشرية التسعينات الماضية وزكى وصوّت لسياساته وانخرط في مؤسساته الصورية وفي حملاته الدعائية في الداخل والخارج (كمن يشترك في الوفود الرسمية لدى البرلمان الأوروبي لتلميع صورة نظام بن علي) لتشويه مطالب الحركة الديمقراطية، من سكت على حملات القمع والمحاكمات وجرائم التعذيب والتجويع والتشريد مقابل فتات الفتات متنكرا "للحركة الديمقراطية" ومطالبها، هل يمكن أن يصنّف هكذا وبجرّة قلم ضمن "الحركة الديمقراطية"؟

وهل المقصود بـ"الحركة الديمقراطية" أولئك الذين ولّوا ظهرهم للحركة الديمقراطية سنوات القمع الفاشي الأسود وتظللوا بالبيرقراطية النقابية وتحوّلوا إلى سندها الفعال غاضين الطرف عمّا اقترفته من تخريب للحركة الاجتماعية وما قامت به – بالوكالة عن أجهزة القمع الرسمية – من تعديات على الحريات النقابية ومن تصفيات للمناضلين والديمقراطيين بل وراحوا يمجّدونها ويكيلون لها المديح علانية حفاظا على بعض المواقع في الجهاز البيرقراطي للاتحاد العام التونسي للشغل؟

نعتقد أن لا أولئك ولا هؤلاء يمتون بصلة "للحركة الديمقراطية" ولا لليسار بصلة، لأن صفة الديمقراطية واليسارية لا تمنح ولا تهدى ولا يمكن لأيّ كان ادعاءها بل هي تكتسب وتفتك بجدارة وفي ميدان النضال الفعلي والمبدئي زمن الشدة كما في زمن الفجوات التي تتيحها ظروف الصراع ضد النظام.

هذه بعض الملاحظات العامة نبديها حول "مشروع أرضية" اليسار دفعا للحوار وتعميقا للنقاش في بعض أوجه المسألة الديمقراطية والمقدمات الأساسية التي ينبغي أن نتعاطى معها بأكثر جدية وموضوعية مثل تحليل وتحديد طبيعة التناقض الرئيسي الذي يشق مجتمعنا في "المرحلة التكتيكية الراهنة" وسبل معالجته والمسائل المتصلة بالتحالفات المطروحة والأطراف المعنية بها. أمّا الجوانب التفصيلية الأخرى (الملامح والنقاط البرنامجية...) فإن حسمها بالاتفاق أو بالاختلاف سيظل أمرا أيسر كلما تقدّمنا أكثر على هذه الواجهة من الصراع والنقاش.





#حزب_العمال_التونسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التعددية النقابية في تونس: قراءة في الوثائق التأسيسية ل-الجا ...
- إضرابات ناجحة في التعليم:المعلمون والأساتذة يدقّون نواقيس ال ...
- بمناسبة عيد العمال العالمي:بيان
- مؤتمر اتحاد الشغل بالمنستير: وكادت المفاجأة الكبرى أن تحدث!
- الطبقة العاملة الثورية وحقوق الإنسان
- أحداث حمام الشط - سليمان: فشل الاستبداد في توفير الأمن والاس ...
- قولوا الحقيقة للشعب !
- ماذا تعرف عن العلمانية ؟ 4
- خطاب 7 نوفمبر: لا تنتظروا تغييرا...فكل شيء على ما يرام
- حملة أمنية واسعة على -المتحجبات
- الحق في الشغل، حق مقدس
- الجبهة الوطنية ضرورة ملحة في مواجهة الهجمة الامبريالية والصه ...
- البابا يمنح تفويضا دينيا لسياسة بوش العدوانية
- بعد مرور 50 سنة على صدور مجلة الأحوال الشخصية: المساواة القا ...
- سنة سياسية جديدة بمشاكل قديمة
- الإجرام ملازم للنظام الرأسمالي
- لا طريق أمام الطبقة العاملة سوى طريق النّضال
- تونس إلى أين؟
- الاتحاد العام لطلبة تونس: التوحيد النقابي، مهمة عاجلة
- التناقضات الأساسية والتناقض الرئيسي


المزيد.....




- في ذكرى 20 و23 مارس: لا نفسٌ جديد للنضال التحرري إلا بانخراط ...
- برسي کردني خ??کي کوردستان و س?رکوتي نا??زاي?تيي?کانيان، ماي? ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 28 مارس 2024
- تهنئة تنسيقيات التيار الديمقراطي العراقي في الخارج بالذكرى 9 ...
- الحرب على الاونروا لا تقل عدوانية عن حرب الابادة التي يتعرض ...
- محكمة تونسية تقضي بإعدام أشخاص أدينوا باغتيال شكري بلعيد
- القذافي يحول -العدم- إلى-جمال عبد الناصر-!
- شاهد: غرافيتي جريء يصوّر زعيم المعارضة الروسي أليكسي نافالني ...
- هل تلاحق لعنة كليجدار أوغلو حزب الشعب الجمهوري؟
- مقترح برلماني لإحياء فرنسا ذكرى مجزرة المتظاهرين الجزائريين ...


المزيد.....

- مَشْرُوع تَلْفَزِة يَسَارِيَة مُشْتَرَكَة / عبد الرحمان النوضة
- الحوكمة بين الفساد والاصلاح الاداري في الشركات الدولية رؤية ... / وليد محمد عبدالحليم محمد عاشور
- عندما لا تعمل السلطات على محاصرة الفساد الانتخابي تساهم في إ ... / محمد الحنفي
- الماركسية والتحالفات - قراءة تاريخية / مصطفى الدروبي
- جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ودور الحزب الشيوعي اللبناني ... / محمد الخويلدي
- اليسار الجديد في تونس ومسألة الدولة بعد 1956 / خميس بن محمد عرفاوي
- من تجارب العمل الشيوعي في العراق 1963.......... / كريم الزكي
- مناقشة رفاقية للإعلان المشترك: -المقاومة العربية الشاملة- / حسان خالد شاتيلا
- التحالفات الطائفية ومخاطرها على الوحدة الوطنية / فلاح علي
- الانعطافة المفاجئة من “تحالف القوى الديمقراطية المدنية” الى ... / حسان عاكف


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية - حزب العمال التونسي - ملاحظات حول وثيقة -مشروع أرضية لليسار