أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عادل الامين - حدث في معسكر اللاسلكي















المزيد.....

حدث في معسكر اللاسلكي


عادل الامين


الحوار المتمدن-العدد: 1951 - 2007 / 6 / 19 - 05:31
المحور: الادب والفن
    


كان أزيز الطائرة الخافت ينساب على أذنيه ويترك أصداء مؤلمة على ذهنه المشوش "اللعنة.. تباً لتلك الرسالة العجيبة ضاع كل شيء" أخبره عاطف شقيقه أن كل شيء ضاع ، جرفت السيول كل شيء. أخرج علبة الدواء وتناول الرسالة الحزينة. أغمض عينيه في استسلام ورجع بذاكرته إلى أيام الجامعة، عندما سئم الدراسة وشعر بعدم جدواها، تذكر أنه حضر ذلك اليوم ظهراً وجد كل الأسرة مجتمعة للغداء.. كان "أسد البراري" يقف جوار العربة الكارو يعتلف البرسيم الأخضر ويهز ذيله في جزل، ذلك الحصان المخلص الذي كان معهم منذ أن فتحت أعينهم للدنيا، كان ذلك يوم مشهود في حياة أحمد أعلن بكل إصرار أنه قرر ترك الجامعة، وقد عرض عليه رجل عقد عمل في السعودية، العقد بقيمة ألفي جنيه في ذلك الزمن الغابر،

وافق والده على مضض، كان الحصول على مبلغ ألفي جنيه تجربة شاقة "لأسد البراري" الذي عمل يوماً بأكمله من الصباح حتى منتصف الليل الشيء الذي أجهده وأصبح لا يستطيع الحراك لمدة ثلاثة أيام، أحزن ذلك أحمد، أخذه في اليوم الذي تقرر فيه سفره إلى النيل ليغسله كما كان يفعل في الماضي، اغتسلا معاً وعاد أسد البراري إلى البيت سعيداً منتشياً.

لا زال أزيز الطائرة يطن في أذنيه ، إذا مات أسد البراري "كما ذكر أخوه في الرسالة" فتح أحمد عينيه في إعياء وقد غطتها الدموع، كان الحصان جزء من أسرتهم المتواضعة التي تسكن ضاحية الدروشاب جنوب الخرطوم بحري.

"جرفت السيول الصالون الذي بناه من كد قلبه، أخذت السيول والأمطار كل ما في المنزل وذهبت تاركة منزلهم أنقاض" كان أحمد قد عزم على أن يأتي ليتزوج هذا العام .. لكن هيهات!! كارثة أخرى حدثت "تزوج التوم العرة شقيق تاجر العملة الكبير من مريم فتاة أحلامه منذ الصغر" تمت تسوية غريبة مع أبيها الفقير الحاج عبدالله، ذكرها عاطف في رسالته الطويلة "تباً لتلك الرسالة العجيبة" إذاً فلتأخذ السيول والأمطار كل شيء لم يعد محتاجاً إلى الصالون أو الأثاث …

"ماتت ابنة الجيران ميري بحمى المستنقعات" ، ميري بنت عم دانيال جارهم الطيب وصديق أبيه، من أبناء الجنوب ويعمل في الجيش وكيل عريف والد صديقاه شاول وصمويل. كانت تربط بين الأسرتين كل المناسبات الجميلة، عم دانيال من أعز أصدقاء والده، جمعتهم عشرة عمر طويلة أيام الحلفاء والحرب العالمية الثانية تحصلا على قطعة أرض بصعوبة وتمكنا من البناء سوياً واقتسما الدار … "هرب صمويل وانضم إلى المتمردين".. هذه الأخبار التي أرسلها عاطف كانت تدور ككوابيس مزعجة في ذهن أحمد المشوش والطائرة والسعودية العملاقة تقترب من مطار الخرطوم.. أعلنت المضيفة عن وصول الطائرة مطار الخرطوم الغارق في البلل.. وهبطت في سلام.

* * * * *

استقل أحمد عربة أجرة تشق به طرقات الخرطوم الموحلة التي لا زالت تعاني من كارثة السيول والأمطار، كان أحمد ينظر إلى المنازل المدمرة والألم يعتصره، انطلقت السيارة إلى الضواحي، عند أطراف مدينة الخرطوم بحرى عند محطة اللاسلكي، كان المعسكر.. نظر أحمد إلى الخيام البيضاء المنتشرة تحت أبراج اللاسلكي الضخمة كأنها أسراب حمائم حطت على الأرض "إذاً هذا هو معسكر اللاسلكي، كما ذكره عاطف".. أوقف أحمد السيارة ونقد السائق أجره، واقترب يشق طرقات المعسكر، كان الكل ينظر إليه بفضول، الشباب الموفور الصحة الذي حضر إلى المعسكر، تعرف على الخيمة التي تقيم فيها أسرته عندما وجد عم دانيال ووالده يجلسان على كراسيهما المعتادة يستمعان إلى الراديو، كما كانا يفعلان في الماضي ويلعبان الدومينو أيضاً، كان اللقاء حافلاً بالدموع، وخرجت والدته من الخيمة وكل الجيران يحيون أحمد العائد من الخارج، حضر عاطف واحتضن شقيقه وأجلسه داخل الخيمة، استلقى أحمد الفرش وجلس عاطف الذي أدركه الهزال أمامه. نظر أحمد من الفرجة إلى عم دانيال الذي كان يستمع إلى إذاعة المتمردين في أسى وحزن بالغ ..
- مسكين عم دانيال.
هز عاطف رأسه في أسى
- منذ أن انضم ابناه إلى (أس. بي. أل. أي) وهو لا يكل ولا يمل الاستماع إلى إذاعتهم. نهض أحمد جالساً في دهشة.
- هل انظم إليهم شاول أيضاً ؟!
- نعم رغم أن تلك لم تكن قناعته وأنت تعرف أنه كان يدرس القانون يؤمن بالعدالة وعندما حضروا إلى المعسكر، كانت الإغاثة تأتي من الخارج من مختلف الدول فيتم صبغها بالأديان هنا ، لم يحتمل شاول ذلك واختفي كالمعتاد، عرفنا لاحقاً أنه مع المتمردين من خلال المذياع وكلما يأتي العصر يستمع عم دانيال إلى صوت ابنه شاول الذي يغطي البث الإنجليزي للإذاعة.

تنهد أحمد في أسى ثم ابتلع قرصاً آخر من علبة الدواء وشقيقه يحملق في دهشة وأردف أحمد في امتعاض.
- طريقه رديئة لاستقلال الأديان السماوية !!
ثم تنحى منحى آخر مواصلاً حديثه.
- كيف مات أسد البراري؟
كانت الدنيا شديدة المطر وقام والدنا وبمساعدة "أسد البراري" بنقل كل الأسر التي تقيم في الجوار إلى شريط السكة الحديد، المكان الوحيد المرتفع الذي عصمنا من الماء في تلك الليلة وقد نفق من الإعياء، أحزن ذلك والدنا كثيراً، وقد قمنا بدفنه جوار هذا المعسكر لاحقاً .
دمعت عينا أحمد ونهض ينظر إلى أخيه في أسى.
- خذني إلى مكانه.

نهض عاطف وخرجا من باب الخيمة واتجها غرباً نحو الشمس الغاربة، جلسا هناك تحت ظل شجرة سلم وأشار عاطف إلى مكان مرتفع تعبث به الريح.
- هناك يرقد أسد البراري.
تنهد أحمد بحرقة وقد احمرت عيناه وبدأت يده ترتعش.
- كيف ماتت ميري ؟!
- أصيبت بحمى المستنقعات وعندما انتقلنا إلى شريط القطار أمرت الحكومة بالابتعاد عن المنطقة ورفض المنكوبون ذلك، حضر رجال الاحتياط المركزي واطلقوا علينا الغازات المسيلة للدموع وماتت ميري مختنقة بالغاز، اشتبك صمويل مع الجنود، ضربوه ضرباً مبرحاً ومنذ ذلك اليوم لم يره أحد، انضم إلى المتمردين وكان ذلك قبل إجلائنا بصورة نهائية إلى هذا المكان.
- اللعنة !! هرب كل أولاد عم دانيال وانضموا إلى المتمردين.
- أنا أجد لهم العذر في ذلك، هذه ديماجوجية الأحزاب وليس ديموقراطية.
نظر أحمد إلى أخيه في حنق، وهو يعرف أنه يساري وليس الوقت مناسباً الآن لإثارة جدل، إن داخله محطم تماماً، أخرج أحمد قرصاً آخر وابتلعه بأصابع مرتجفة.
- وضاعت مريم أيضاً؟ تزوجها التوم العاطل عن كل شيء، قريب تاجر العملة الثري.
- نعم كان ذلك.. وأنا جد آسف لك.
- لا تأسف يا عزيزي إنه زمن الكوليرا

حاول أحمد أن يخرج قرصاً آخر، نظر إليه عاطف في امتعاض ممزوج بالحنق وصاح فيه بحدة.
- انتبه !! ما هذه الأقراص اللعينة التي تناولتها وتتناولها كل لحظة منذ حضورك.
- دعك منها .. اتركني وشأني.
نهض عاطف وانقض على شقيقه يحاول انتزاع علبة الدواء منه، تشبث أحمد بالعلبة وأفرغ الأقراص كلها في قبضته، كانت المعركة غير متكافئة بين أحمد الموفور الصحة القادم من السعودية وعاطف الهزيل المنهك بحمى المستنقعات، التف كالثعبان على شقيقه يمنعه من بلع الأقراص دفع أحمد شقيقه بعيداً وابتلع كل الأقراص، انقض عاطف وهو يصرخ صراخاً هستيرياً على جسد أخيه الذي كان يختلج بشده وخيوط رفيعة من الدم تنساب من أنفه وفمه.

تجمع أهالي المعسكر من كل حدب وصوب، ينظرون في فضول حزين إلى الزائر الغريب الذي كان يلفظ أنفاسه الأخيرة وشقيقه جالس جواره ينتحب بحرقة.. سكن جسد أحمد أخيراً نهض عاطف وأطلق صرخة دواية رددت صداها جنبات المعسكر.. انقض الأهالي الطيبون.. أهالي الدروشاب عرب، نوبه، مسلمين، مسيحيين بسطاء كالثوب الأبيض كالخيام البيضاء التي تغطي الأرض جوار محطة اللاسلكي، وأسدل الستار على حكاية الزائر الغريب الذي حضر من السعودية ومات في السودان في معسكر اللاسلكي.



#عادل_الامين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كانوا في زيارة ابنهم ال(ديك..تور)ا
- الغجر..أول دروس الحرية
- فضائية الحوار المتمدن
- ملامح من الفكر السوداني المعاصر(6-7):الاسلام والسلام
- ملامح من الفكرالسوداني المعاصر(5-7):آيات الاصول وآيات الفروع ...
- ملامح من الفكر السوداني المعاصر:(4-7)المجتمع العبودي،المراة، ...
- ملامح من الفكرالسوداني(3_7):الفرد والمجتمع
- ملامح من الفكر السوداني المعاصر(2-7) نشاة المجتمع
- ملامح من الفكر السوداني المعاصر(1_7):تطوير شريعة الاحوال الش ...
- ملامح من الفكر السوداني المعاصر:الرق والراسمالية ليستا اصلا ...
- الديمقراطية والاشتراكية والإسلام ((ملامح من الفكر السودانى ا ...
- سيرة مدينة:الخرطوم 1991
- كلاب بابلوف تعاود النباح من جديد
- الغرب والاسلاميين كمثل العنكبوت اتخذت بيتا
- اساطير النزاعات في ميزوبتميا ووادي النيل
- رسالة الى مواطن عراقي
- السيرة الذاتية ل(شجرة الموسكيت)ا
- دارفور...اطفال الزمن الآسن
- سيرة مدينة (8):عم سعد
- سيرة مدينة(7)ا:كلب وحمار وقرد


المزيد.....




- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عادل الامين - حدث في معسكر اللاسلكي