غسان كنفاني والأدب المقاوم والقضية الفلسطينية، مقاربة مابعد كولونيالية


زهير الخويلدي
الحوار المتمدن - العدد: 8413 - 2025 / 7 / 24 - 09:59
المحور: القضية الفلسطينية     

مقدمة
يُعتبر غسان كنفاني (1936-1972) أحد أبرز الأدباء الفلسطينيين الذين ارتبطت أعمالهم بالقضية الفلسطينية، حيث شكّل أدبه صوتًا مقاومًا ضد الاحتلال الصهيوني وسردية الاستعمار. من خلال رواياته وقصصه القصيرة ومقالاته، استطاع كنفاني أن يجسد معاناة الشعب الفلسطيني، ويبرز هويته الوطنية، ويواجه الروايات الاستعمارية التي سعت إلى طمس هذه الهوية. تتناول هذه المقالة أعمال غسان كنفاني من منظور ما بعد كولونيالي، مستكشفة كيف ساهم أدبه في مقاومة الهيمنة الاستعمارية، وإعادة صياغة السردية الفلسطينية، مع التركيز على مفاهيم مثل الهوية، المقاومة، والتمثيل. تستند هذه الدراسة إلى الإطار النظري لما بعد الكولونيالية، الذي يركز على تحليل العلاقات بين المستعمِر والمستعمَر، وكيفية مقاومة الخطابات الاستعمارية من خلال الأدب والثقافة. من خلال مقاربة ما بعد كولونيالية، يتم النظر إلى أعمال كنفاني كأداة لتفكيك الروايات الصهيونية وإعادة بناء الهوية الفلسطينية، مع إبراز دور الأدب المقاوم في استعادة الصوت المسلوب.
الإطار النظري: ما بعد الكولونيالية ومفاهيمها الأساسية
تعتمد الدراسات ما بعد الكولونيالية على تحليل العلاقات الثقافية والسياسية التي تنشأ في سياق الاستعمار وما يعقبه من تداعيات. يركز هذا الإطار على مفاهيم مثل الهوية، التمثيل، الهيمنة، والمقاومة. وفقًا لإدوارد سعيد، أحد رواد هذا المنهج، فإن الاستعمار لا يقتصر على السيطرة السياسية والاقتصادية، بل يشمل أيضًا الهيمنة الثقافية التي تسعى لتشويه صورة "الآخر" وإسكات صوته[1]. في هذا السياق، يُعد الأدب أداة مقاومة فعالة، حيث يتيح للشعوب المستعمَرة استعادة روايتها وتعزيز هويتها. في حالة فلسطين، تتجلى الهيمنة الاستعمارية في محاولات الاحتلال الصهيوني طمس الهوية الفلسطينية من خلال السرديات التي تصور فلسطين كـ"أرض بلا شعب"[2]. يواجه الأدب المقاوم، كما في أعمال كنفاني، هذه السرديات من خلال تأكيد الوجود الفلسطيني وتجسيد معاناة اللاجئين والمقاومة.
غسان كنفاني والأدب المقاوم
1. السيرة الذاتية وتأثيرها على الأدب
وُلد غسان كنفاني في عكا عام 1936، وعاش تجربة النكبة عام 1948، حيث أُجبرت عائلته على النزوح إلى لبنان. هذه التجربة الشخصية شكلت جوهر أدبه، حيث عكست أعماله معاناة اللاجئين الفلسطينيين، وشوقهم إلى العودة، ومقاومتهم للاحتلال. كما ارتبط كنفاني بالعمل السياسي، حيث كان ناطقًا باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، مما جعل أدبه امتدادًا لنضاله السياسي.
.2. الأدب كسلاح مقاوم
في رواياته مثل رجال في الشمس (1963) وعائد إلى حيفا (1969)، يقدم كنفاني صورة حية للواقع الفلسطيني. في رجال في الشمس، يروي قصة ثلاثة لاجئين فلسطينيين يحاولون الهجرة إلى الكويت بحثًا عن حياة أفضل، لكنهم يموتون مختنقين داخل خزان ماء. هذه القصة ترمز إلى مأساة اللجوء والعجز أمام القيود الاستعمارية، كما تنتقد صمت المجتمع العربي إزاء القضية الفلسطينية. من منظور ما بعد كولونيالي، يمكن قراءة الرواية كتفكيك للخطاب الاستعماري الذي يحرم الفلسطيني من حقه في الحياة والحركة[3].في عائد إلى حيفا، يستكشف كنفاني قضية الهوية والذاكرة. يروي الرواية قصة زوجين فلسطينيين يعودان إلى حيفا بعد النكبة ليجدا أن منزلهما أصبح يسكنه مهاجر يهودي، وأن ابنهما الذي تركاه خلفه أصبح جنديًا إسرائيليًا. تعكس الرواية صراع الهوية بين المستعمِر والمستعمَر، وتبرز مقاومة الفلسطيني لمحاولات طمس هويته الثقافية والتاريخية.
.3. الرمزية واللغة في أدب كنفاني
يستخدم كنفاني الرمزية واللغة بطريقة تعزز من قوة أدبه المقاوم. على سبيل المثال، في قصة أرض البرتقال الحزين (1958)، يصبح البرتقال رمزًا للأرض الفلسطينية المسلوبة، بينما تعكس لغته البسيطة والمؤثرة عمق المعاناة الإنسانية. هذه الرمزية تتماشى مع مقاربة ما بعد الكولونيالية التي ترى في الأدب وسيلة لإعادة تمثيل "الآخر" بعيدًا عن الصور النمطية التي يروجها المستعمِر[4].
مقاربة ما بعد كولونيالية لأعمال كنفاني
1. مقاومة الخطاب الاستعماري
إن المقاومة في سياق ما بعد الكولونيالية تتجلى في "الهجنة" و"المحاكاة الساخرة"، حيث يستخدم المستعمَر أدوات المستعمِر لتحدي سلطته[5]. في أعمال كنفاني، نجد هذه المقاومة في استخدامه للغة العربية كأداة لتأكيد الهوية الوطنية، وفي تحديه للروايات الصهيونية التي تصور الفلسطيني كـ"غائب" أو "عدو". على سبيل المثال، في عائد إلى حيفا، يتحدى كنفاني فكرة "الأرض الموعودة" من خلال تصوير معاناة الفلسطينيين وتشبثهم بأرضهم.
.2. إعادة بناء الهوية الفلسطينية
يرى إدوارد سعيد أن الأدب يلعب دورًا حاسمًا في استعادة الهوية الوطنية للشعوب المستعمَرة من خلال إعادة كتابة التاريخ والذاكرة الجماعية[6]. في أعمال كنفاني، تتجلى هذه العملية في التركيز على تجربة النكبة واللجوء. من خلال شخصياته، يعيد كنفاني بناء الهوية الفلسطينية كحركة مقاومة مستمرة، متجاوزًا الصورة النمطية للفلسطيني كضحية سلبية.
.3. التمثيل والصوت المسلوب
تُعد قضية التمثيل من القضايا الأساسية في الدراسات ما بعد الكولونيالية، حيث يسعى المستعمِر إلى التحدث باسم المستعمَر للسيطرة على سرديته. في هذا السياق، يعمل كنفاني على استعادة الصوت الفلسطيني من خلال أدبه. في رواية ما تبقى لكم (1966)، يقدم كنفاني شخصيات فلسطينية معقدة تتحدى التصورات الاستعمارية، مثل شخصية زكريا الذي يقاوم الاحتلال رغم الظروف القاسية.
أثر كنفاني في الأدب الفلسطيني المعاصر
ألهمت أعمال كنفاني جيلًا من الأدباء الفلسطينيين مثل محمود درويش وإميل حبيبي، الذين واصلوا استخدام الأدب كأداة للمقاومة. كما أن تأثيره امتد إلى الأدب العالمي، حيث تُرجمت أعماله إلى عدة لغات، مما ساهم في نشر القضية الفلسطينية عالميًا. من منظور ما بعد كولونيالي، يُعد كنفاني رمزًا للأدب الذي يتحدى الهيمنة الثقافية ويعيد صياغة الهوية الوطنية.
خاتمة
يُظهر تحليل أعمال غسان كنفاني من منظور ما بعد كولونيالي كيف استطاع أدبه أن يكون أداة مقاومة فعالة ضد الخطابات الاستعمارية. من خلال رواياته وقصصه، تمكن غسان كنفاني من استعادة الصوت الفلسطيني، وتفكيك الروايات الصهيونية، وإعادة بناء الهوية الوطنية. إن أدبه ليس مجرد تعبير عن المعاناة، بل هو فعل مقاومة يتحدى الهيمنة ويؤكد على الحق في الأرض والهوية. في النهاية، يبقى كنفاني رمزًا للأدب المقاوم الذي يحمل القضية الفلسطينية إلى العالم، مؤكدًا على أن الأدب يمكن أن يكون سلاحًا في وجه الظلم. فكيف يمكن استعادة رمزية كنفاني للصمود ومواصلة الكفاح ضد المد الصهيوابمريالي؟
الاحالات والهوامش
[1]: سعيد، إدوارد. (1978). الاستشراق. ترجمة كمال أبو ديب. بيروت: دار الآداب.
[2]: Pappé, Ilan. (2006). The Ethnic Cleansing of Palestine. Oxford: Oneworld Publications.
[3]: Harlow, Barbara. (1987). Resistance Literature. New York: Methuen.
[4]: Bhabha, Homi K. (1994). The Location of Culture. London: Routledge.
[5]: Bhabha, Homi K. (1994). The Location of Culture. London: Routledge.
[6]: سعيد، إدوارد. (1993). الثقافة والإمبريالية. ترجمة كمال أبو ديب. بيروت: دار الآداب.
المصادر والمراجع:
كنفاني، غسان. (1963). رجال في الشمس. بيروت: دار الآداب.
كنفاني، غسان. (1969). عائد إلى حيفا. بيروت: دار الآداب.
كنفاني، غسان. (1958). أرض البرتقال الحزين. بيروت: دار الآداب.
سعيد، إدوارد. (1978). الاستشراق. ترجمة كمال أبو ديب. بيروت: دار الآداب.
Bhabha, Homi K. (1994). The Location of Culture. London: Routledge.
Pappé, Ilan. (2006). The Ethnic Cleansing of Palestine. Oxford: Oneworld Publications.
Harlow, Barbara. (1987). Resistance Literature. New York: Methuen
كاتب فلسفي.