النضال الفكري والأدبي عند ادوارد سعيد ومحمود درويش


زهير الخويلدي
الحوار المتمدن - العدد: 8374 - 2025 / 6 / 15 - 15:01
المحور: القضية الفلسطينية     

تكونت رفقة نضالية وصداقة شعرية بين ادوارد سعيد ومحمود درويش عبر خوضهما تجربة سياسية مشتركة ولقد تمتع المثقفان بصداقة رائعة امتدت لثلاثين عامًا، اتحدا خلالها في النضال من أجل الاستقلال في وطنهما فلسطين. كان إدوارد سعيد ومحمود درويش من أهم رواد المؤسسة الثقافية الفلسطينية. نشأت صداقة مميزة بين سعيد، الأكاديمي المعروف، ودرويش، أحد أبرز شعراء جيله الفلسطينيين، بعد لقائهما الأول. كان للشاعرين تاريخٌ مشترك، فقد هُجّرا من ديارهما خلال النكبة، ورفعا الصوت الفلسطيني في الشتات طوال حياتهما. غادر سعيد مسقط رأسه القدس الغربية إلى المنفى في القاهرة، ثم إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بينما دُمّرت قرية درويش، مسقط رأسه البروة في الجليل الأعلى، على يد قوات الاحتلال الصهيوني. أمضى درويش حياته متنقلاً بين عواصم عربية مختلفة، منها القاهرة وتونس، قبل أن يستقر في باريس. في عام ١٩٧٤، التقى سعيد ودرويش لأول مرة في نيويورك. كان كلاهما يُقدّر المثقفين، وأصبحا سفيرين ثقافيين لمنظمة التحرير الفلسطينية. صاغ الاثنان خطاب ياسر عرفات التاريخي عام ١٩٧٤ أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث كتب درويش الخطاب بالعربية، وصاغ سعيد ترجمته الإنجليزية الرسمية. برزت مؤهلات كاتبي الخطاب الشعرية عندما أعلن الزعيم الفلسطيني للعالم: "جئتُ حاملاً غصن زيتون في يدي، وبندقية المناضل في الأخرى". أخيرًا، شعر المثقفان بخيبة أمل تجاه القيادة السياسية الفلسطينية خلال توقيع منظمة التحرير الفلسطينية على اتفاقيات أوسلو عام ١٩٩٣، حيث أعلن درويش أن الاتفاقية تُمثل نهاية المؤسسة السياسية الفلسطينية، بينما وصفها سعيد بـ"فرساي فلسطين". أصبح درويش لاحقًا رئيس تحرير مجلة "الكرمل" الأدبية والثقافية القبرصية، حيث كان سعيد ينشر مقالاته الأكاديمية وتعليقاته باستمرار. في عام ٢٠٠٣، توفي سعيد بعد صراع طويل مع سرطان الدم. رثى درويش حياة صديقه القديم، ونضاله من أجل الحرية الثقافية، وهويتهما المشتركة كمهاجرين فلسطينيين في قصيدته "طباق".
انشد درويش
يقول: أنا من هناك،
أنا من هنا،
لكنني لستُ هناك ولا هنا.
لديّ اسمان يلتقيان وينفصلان...
لديّ لغتان، لكنني نسيتُ منذ زمنٍ طويل
أيّهما لغة أحلامي.
لديّ لغة إنجليزية للكتابة،
بعباراتٍ طليقة،
ولغةٌ تتواصل بها السماء والقدس، بإيقاعٍ فضيّ،
لكنها لا تُخضع خيالي.
هذا الشعر السياسي كان تحية محمود درويش المُغيّرة للنوع الأدبي لإدوارد سعيد وفي هذا السياق نقدم تحليلاً لقصيدة "طباق"، وهي قصيدة رثاء كتبها الشاعر الفلسطيني محمود درويش تكريماً لإدوارد سعيد. وإذ أشير إلى أن القصيدة تُظهر جوانب من عدد من الأنواع الأدبية وتُظهر نهج درويش المُبتكر عموماً في التعامل مع الأشكال الأدبية التقليدية، فإنني أتناول كيفية تحويله للمرثية، ذلك النوع الرثائي الذي شكّل جزءاً من التراث الأدبي العربي منذ العصر الجاهلي. وأُجادل بأن درويش استغل مناسبة كتابة المرثية للتعليق على سياسات سعيد، وللاستخدام المُحترم لأساليبه النقدية، ولا سيما استعارته متعددة التخصصات للطُباق، وهو مفهوم يُستخدم عادةً في تحليل الموسيقى. بإعادة صياغة المرثية التقليدية لتمثيل حياة سعيد في المنفى وأعماله المتنوعة، وتطبيق أسلوبه الطُباق في الحوار المُصوّر في القصيدة، يرثي درويش صداقة طويلة الأمد، ويدعم قضية سياسية مشتركة. اما سعيد فقد تحدث عن الاسلوب المتأخر في ادارة المعركة، نتناول هنا نقديًا مفهوم إدوارد سعيد لـ"الأسلوب المتأخر" في ضوء الأحداث الكارثية المستمرة في فلسطين. ويجادل بأن "تأخر البدايات" يمثل أعمق مقاومة للمثقف الفلسطيني ضد الكارثة، والموت الوشيك، والتشريد، والاستعمار. في مواجهة الكارثة المستمرة، تُنعش المقاومة في فلسطين ما بعد الألفية حاليًا بفضل إبداع الأجيال الفلسطينية الجديدة، التي حققت تأخرًا مجازيًا من خلال تكرار الكارثة. يستكشف الفصل إعادة تشكيل مقاومة الأسلوب المتأخر في أعمال إدوارد سعيد ومحمود درويش ومريد البرغوثي، مجادلًا بأن أعمال هؤلاء المثقفين مهمة في إبراز نقد معارض في مواجهة الأجندات الانقسامية في هذه اللحظة الأكثر حرجًا في استمرار النضال الفلسطيني. نحاول هنا التركيز على المثقف السعيدي الذي يؤدي دورًا نموذجيًا في مقاومة التضليل الأيديولوجي الذي تمارسه ثقافة مهيمنة على ثقافة ضعيفة، والذي يؤدي في النهاية إلى الإمبريالية والاستعمار. هذه المقاومة فكرية بامتياز، وترتبط ببعض الممارسات النقدية للمثقف نفسه. هذه المقاومة، غير قسرية في جوهرها، تستلزم منه أسلوبًا نقديًا علمانيًا في معارضته للهوس العقائدي، وهاويًا في تحرره من فخاخ الاحتراف، ومنفيًا في تبنيه وجهات نظر تعددية. تتطلب مهمة المقاومة أيضًا من المثقف، كناقد، أن ينظر إلى عمل ثقافي كالرواية على أنه نتاج ظروف دنيوية، تتأثر بشدة بالموقف الأيديولوجي للمؤلف نفسه. وهذا بدوره يتطلب من الناقد أن ينتقل من النقد البنيوي، الذي يرى أن النصوص متجانسة تقليديًا، إلى النقد التبعي، الذي يرى أنها تحمل بصمات التأثيرات المهيمنة للثقافات، وغالبًا ما تكون إمبريالية. بالاستفادة من كل هذه الرؤى، يمكن للمثقف أن يشارك في نمط مقاومة ثقافي، وخاصة أدبي، من خلال إنتاج خطاب مضاد يُطلق عليه اسم "رحلة في". في نهاية المطاف، تُولّد هذه الممارسات شجاعة أخلاقية لدى الناقد، وتُمكّنه من قول الحقيقة للسلطة بجميع أشكالها ومظاهرها. فكيف مثلت القصيدة الشعرية سياسة مقاومة وسردية ثورية عن الشعب الفلسطيني عند درويش وكانت الأنثربولوجيا عند سعيد معادية للامبريالية ومنتصرة للقضية الفلسطينية؟
كاتب فلسفي