الكتابة الفلسفية في الثقافة السياسية فعل مقاومة والتزام وجودي ومقاربة كفاحية


زهير الخويلدي
الحوار المتمدن - العدد: 8419 - 2025 / 7 / 30 - 12:21
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية     

مقدمة
تُعتبر الكتابة الفلسفية في سياق الثقافة السياسية فعلًا معقدًا يتجاوز مجرد التعبير عن الأفكار إلى فضاء يجمع بين المقاومة، الالتزام الوجودي، والكفاح من أجل المعنى. في عالم مشبع بالصراعات السياسية والاجتماعية، تصبح الكتابة الفلسفية أداة لتحدي الهيمنة، تفكيك الأنساق السلطوية، وإعادة صياغة الوجود الإنساني في مواجهة الاغتراب والقمع. هذه الدراسة تستكشف الكتابة الفلسفية كفعل مقاومة وكفاحي، مع التركيز على بعديها الوجودي والسياسي، وذلك من خلال مقاربة تحليلية تستند إلى أعمال فلاسفة مثل مارتن هيدجر، جان بول سارتر، ميشيل فوكو، وإدوارد سعيد. ستنقسم الدراسة إلى ثلاثة أقسام رئيسية: أولاً، الكتابة الفلسفية كفعل مقاومة ضد الهيمنة السياسية والثقافية؛ ثانيًا، الالتزام الوجودي كجوهر للكتابة الفلسفية؛ ثالثًا، المقاربة الكفاحية كاستراتيجية لإعادة تعريف الذات والمجتمع. سنختم الدراسة بتقييم أهمية الكتابة الفلسفية في مواجهة التحديات السياسية المعاصرة.
القسم الأول: الكتابة الفلسفية كفعل مقاومة ضد الهيمنة السياسية والثقافية
المقاومة الفلسفية في سياق الثقافة السياسية
الكتابة الفلسفية، بطبيعتها، هي فعل تأملي يسعى إلى فهم الحقيقة، لكنها في السياق السياسي تصبح أداة مقاومة ضد الأنساق المهيمنة التي تسعى لفرض رواية واحدة على الواقع. يرى ميشيل فوكو أن السلطة ليست مجرد قوة سياسية أو اقتصادية، بل هي أيضًا خطاب يشكل المعرفة ويحدد ما يُعتبر "حقيقيًا" أو "مقبولًا"[1]. في هذا السياق، تتحول الكتابة الفلسفية إلى فعل مقاومة عندما تتحدى هذه الخطابات المهيمنة، سواء كانت أيديولوجيات قومية، استعمارية، أو رأسمالية. على سبيل المثال، قدم إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق (1978) نقدًا فلسفيًا للخطاب الاستعماري الغربي، مُظهرًا كيف شكّل الاستشراق صورة نمطية عن "الشرق" لخدمة المصالح الاستعمارية[2]. من خلال كتابته الفلسفية، لم يكن سعيد يقاوم فقط التمثيلات المغلوطة، بل كان يسعى إلى استعادة الذاتية الثقافية للشعوب المستعمَرة. هذا النوع من الكتابة يُظهر أن الفلسفة ليست مجرد تأمل نظري، بل هي فعل سياسي يتحدى بنى السلطة.
الكتابة الفلسفية وتفكيك السلطة
تستمد الكتابة الفلسفية قوتها المقاومة من قدرتها على تفكيك الأنساق السلطوية. يرى فوكو أن المعرفة والسلطة متشابكتان، وأن الفيلسوف، من خلال الكتابة، يمكنه أن يكون "مثقفًا نوعيًا" يتحدى السلطة في سياقاتها المحلية[3]. على سبيل المثال، كتابات سارتر خلال الحرب العالمية الثانية، مثل الوجود والعدم (1943)، لم تكن مجرد تأملات وجودية، بل كانت أيضًا تعبيرًا عن المقاومة ضد الاحتلال النازي، حيث دعا إلى حرية الفرد في مواجهة القمع السياسي[4].
القسم الثاني: الالتزام الوجودي كجوهر للكتابة الفلسفية
الوجودية والالتزام
في الفلسفة الوجودية، خاصة عند جان بول سارتر، يُعتبر الالتزام (engagement) جوهر الوجود الإنساني. يرى سارتر أن الإنسان "محكوم عليه بالحرية"، وأن الكتابة الفلسفية هي تعبير عن هذه الحرية والمسؤولية تجاه العالم[5]. في مقالته ما الأدب؟ (1947)، يدافع سارتر عن فكرة أن الكاتب يجب أن يكون ملتزمًا سياسيًا واجتماعيًا، حيث تُصبح الكتابة وسيلة لتحقيق الحرية ليس فقط للكاتب، بل للقارئ أيضًا[6].في هذا السياق، تُعدّ الكتابة الفلسفية فعلًا وجوديًا لأنها تنبع من اختيار الفيلسوف مواجهة العالم بعقل نقدي وإرادة للتغيير. هذا الالتزام يتجاوز الحدود الأكاديمية ليصبح فعلًا سياسيًا وثقافيًا يسعى إلى تحرير الإنسان من الاغتراب.
هيدجر والكتابة كتفكير في الوجود
من منظور مارتن هيدجر، الكتابة الفلسفية ليست مجرد تعبير عن أفكار، بل هي تفكير في الوجود نفسه . في كتابه رسالة في الإنسانية (1947)، يؤكد هيدجر أن الفلسفة هي سؤال عن معنى الوجود، وأن الكتابة الفلسفية هي محاولة لاستعادة هذا السؤال في مواجهة العصر الحديث الذي يهيمن عليه التفكير التقني[7]. في سياق الثقافة السياسية، يمكن قراءة كتابات هيدجر كمقاومة ضد النزعة التقنية التي تُحوّل الإنسان إلى مجرد مورد ضمن نظام الإنتاج الرأسمالي.
القسم الثالث: المقاربة الكفاحية في الكتابة الفلسفية
الكفاح من أجل المعنى
الكتابة الفلسفية، كفعل كفاحي، تتجلى في محاولتها إعادة تعريف المعنى في سياقات القمع والتهميش. على سبيل المثال، قدمت الفيلسوفة حنة آرنت في كتابها الوضع الإنساني (1958) تحليلًا فلسفيًا لمفهوم العمل والعملية السياسية، معتبرة أن الكتابة الفلسفية هي وسيلة لاستعادة الفضاء العام كمكان للحرية والتفاعل الإنساني[8]. هذه المقاربة الكفاحية تتضح أيضًا في كتابات المفكرين المناهضين للاستعمار، مثل فرانز فانون، الذي استخدم الكتابة الفلسفية في معذبو الأرض (1961) للدفاع عن الكفاح المسلح ضد الاستعمار كوسيلة لاستعادة الكرامة الإنسانية[9].
الكتابة كاستراتيجية لإعادة تعريف الذات والمجتمع
في الثقافة السياسية، تُصبح الكتابة الفلسفية أداة لإعادة تعريف الذات الفردية والجماعية. على سبيل المثال، الكتابات الفلسطينية لم تكن مجرد سرد لتجاربها الشخصية، بل كانت محاولة لصياغة هوية مقاومة في مواجهة الاحتلال[10]. هذه الكتابة الكفاحية تعمل على بناء وعي جماعي يتحدى الروايات المهيمنة ويؤكد على الذاتية كأساس للمقاومة.
خاتمة
الكتابة الفلسفية في الثقافة السياسية ليست مجرد نشاط أكاديمي، بل هي فعل مقاومة والتزام وجودي يسعى إلى تحرير الإنسان من القيود السياسية والثقافية. من خلال تحدي الخطابات المهيمنة، تأسيس التزام وجودي، وتبني مقاربة كفاحية، تُصبح الكتابة الفلسفية أداة لإعادة صياغة الواقع واستعادة الكرامة الإنسانية. في عالم يشهد تصاعد الاستبداد واللاّمساواة، تظل الكتابة الفلسفية سلاحًا فكريًا يحمل إمكانيات التغيير والتحرر. فكيف تتحول الثقافة الفلسفية الى سلاح سياسي ثوري ومحرك تغيير اجتماعي؟
الاحالات والهوامش:
[1] Foucault, M. (1980). Power/Knowledge: Selected Interviews and Other Writings, 1972-1977. Edited by Colin Gordon. Pantheon Books, p. 109.
[2] Said, E. W. (1978). Orientalism. Pantheon Books, p. 12.
[3] Foucault, M. (1984). The Foucault Reader. Edited by Paul Rabinow. Pantheon Books, p. 68.
[4] Sartre, J.-P. (1943). Being and Nothingness. Translated by Hazel E. Barnes. Washington Square Press, 1992.
[5] Sartre, J.-P. (1946). Existentialism is a Humanism. Translated by Carol Macomber. Yale University Press, 2007.
[6] Sartre, J.-P. (1947). What is Literature?. Translated by Bernard Frechtman. Methuen, 1967.
[7] Heidegger, M. (1947). Letter on Humanism. In Basic Writings, edited by David Farrell Krell. HarperCollins, 1993.
[8] Arendt, H. (1958). The Human Condition. University of Chicago Press, p. 198.
[9] Fanon, F. (1961). The Wretched of the Earth. Translated by Constance Farrington. Grove Press, 1963.

المصادر والمراجع:
Foucault, Michel. Power/Knowledge: Selected Interviews and Other Writings, 1972-1977. Edited by Colin Gordon. Pantheon Books, 1980.
Said, Edward W. Orientalism. Pantheon Books, 1978.
Sartre, Jean-Paul. Being and Nothingness. Translated by Hazel E. Barnes. Washington Square Press, 1992.
Sartre, Jean-Paul. What is Literature?. Translated by Bernard Frechtman. Methuen, 1967.
Heidegger, Martin. Letter on Humanism. In Basic Writings, edited by David Farrell Krell. HarperCollins, 1993.
Arendt, Hannah. The Human Condition. University of Chicago Press, 1958.
Fanon, Frantz. The Wretched of the Earth. Translated by Constance Farrington. Grove Press, 1963.

كاتب فلسفي