ألكسندر كوجيف بين اعادة قراءة فلسفة التاريخ عند هيجل وكتابة فينومينولوجيا الحق


زهير الخويلدي
الحوار المتمدن - العدد: 8452 - 2025 / 9 / 1 - 10:49
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

مقدمة
ألكسندر كوجيف (1902-1968)، الفيلسوف الفرنسي من أصل روسي، يُعدّ أحد أبرز المفكرين الذين أعادوا إحياء الفلسفة الهيجلية في القرن العشرين، خاصة من خلال محاضراته في باريس بين عامي 1933 و1939 حول كتاب هيجل "فينومينولوجيا الروح". أسهم كوجيف في تقديم تفسير جديد ومبتكر لفلسفة هيجل، مركزًا على مفهوم التاريخ وجدلية السيد والعبد، مع دمج تأثيرات من المادية التاريخية لماركس وأنطولوجيا هيدجر الزمنية. كما قدم كوجيف مساهماته الخاصة في كتابه "موجز فينومينولوجيا الحق"، الذي يعكس رؤيته الفلسفية لمفهوم الحق في سياق التاريخ والسياسة. تهدف هذه الدراسة إلى تحليل دور كوجيف في إعادة قراءة فلسفة التاريخ عند هيجل وتطويره لمفهوم الحق في إطار فينومينولوجي.
سياق حياة كوجيف وتأثيره الفلسفي
وُلد ألكسندر كوجيف في موسكو عام 1902، وغادر روسيا بعد الثورة البلشفية عام 1917 ليستقر في ألمانيا، حيث درس الفلسفة في برلين وهايدلبرغ تحت إشراف كارل ياسبرس. أكمل أطروحته حول الفيلسوف الروسي فلاديمير سولوفيوف، الذي تأثر بهيجل بعمق. في باريس، ألقى كوجيف محاضراته الشهيرة حول "فينومينولوجيا الروح" في المدرسة العملية للدراسات العليا بين عامي 1933 و1939، والتي جمعت نخبة من المفكرين الفرنسيين مثل جان بول سارتر، جاك لاكان، موريس ميرلو-بونتي، وريمون آرون. هذه المحاضرات، التي نُشرت لاحقًا في كتاب "مدخل إلى قراءة هيجل" (1947)، شكلت نقطة تحول في استقبال الفكر الهيجلي في فرنسا.
إعادة قراءة كوجيف لفلسفة التاريخ عند هيجل
فلسفة التاريخ عند هيجل
يرى هيجل في "فينومينولوجيا الروح" و**"محاضرات في فلسفة التاريخ"** أن التاريخ هو عملية ديالكتيكية تتطور من خلال صراع الأفكار والوعي نحو تحقيق الحرية والروح المطلقة. يُعبر هيجل عن ذلك بقوله: "تاريخ العالم ليس إلا التقدم في وعي الحرية". يعتمد هيجل على جدلية ثلاثية (أطروحة، نقيض، تركيب) لتفسير تطور التاريخ، حيث تتجلى الروح من خلال الصراعات التاريخية، مثل جدلية السيد والعبد، التي تُعدّ محورًا مركزيًا في فهمه للعلاقات الاجتماعية والسياسية.

تفسير كوجيف لفلسفة التاريخ
يقدم كوجيف تفسيرًا أصيلًا لفلسفة التاريخ الهيجلية، مدمجًا تأثيرات من ماركس وهيدجر. يركز كوجيف على فكرة "نهاية التاريخ"، التي يراها كتحقيق كامل للحرية والاعتراف المتبادل بين الأفراد في المجتمع. في قراءته لجدلية السيد والعبد، يرى كوجيف أن التاريخ يتحرك من خلال الصراع من أجل الاعتراف، حيث يسعى العبد لتجاوز خضوعه من خلال العمل والثورة، بينما يسعى السيد للاعتراف به كسيد. يقترح كوجيف أن التاريخ يصل إلى نهايته عندما يتحقق الاعتراف المتبادل في دولة كونية متجانسة، حيث يصبح جميع الأفراد مواطنين أحرارًا. على عكس هيجل، الذي رأى نهاية التاريخ في تحقيق الروح المطلقة، يربط كوجيف هذه النهاية بتحقيق الديمقراطية الليبرالية، مستلهمًا أفكار ماركس حول المادية التاريخية. يرى كوجيف أن التاريخ قد انتهى فعليًا في الولايات المتحدة بعد إلغاء العبودية وتأسيس مجتمع يعتمد على الملكية الخاصة والحرية الفردية. كما تأثر كوجيف بأنطولوجيا هيدجر الزمنية، حيث يرى التاريخ كتجربة وجودية مرتبطة بالرغبة والنقص، مما يعكس تأثير هيدجر في إعادة توجيه التاريخ نحو الوجود بدلاً من الوعي العقلاني.
كوجيف وفينومينولوجيا الحق
في كتابه "موجز فينومينولوجيا الحق"، يطور كوجيف رؤيته الفلسفية لمفهوم الحق، مستندًا إلى أفكار هيجل في "أصول فلسفة الحق" (1820). يرى هيجل أن الحق هو تعبير عن الحرية في المجتمع من خلال مؤسسات مثل الأسرة، المجتمع المدني، والدولة. يعتمد كوجيف على هذا الإطار ليصوغ مفهوم الحق كظاهرة تاريخية تتطور من خلال الصراع من أجل الاعتراف.
مفهوم الحق عند كوجيف
يرى كوجيف أن الحق هو نتاج التفاعل الجدلي بين الأفراد في سياق التاريخ. يحدد أربعة أنواع نقية للسلطة: سلطة الأب، سلطة السيد، سلطة القائد، وسلطة القاضي. يركز كوجيف بشكل خاص على سلطة السيد، التي يراها نابعة من الصراع حتى الموت من أجل الاعتراف، وهي فكرة مستمدة من جدلية السيد والعبد عند هيجل. ومع ذلك، يرى كوجيف أن هذه السلطة ليست دائمة، حيث تؤدي الثورات والحروب إلى تحولات في بنية السلطة نحو أشكال أكثر عدالة وكونية.
الفينومينولوجيا في فكر كوجيف
تستلهم فينومينولوجيا الحق عند كوجيف منهج هيجل في دراسة الظواهر كتجليات للوعي أو الروح في العالم. ومع ذلك، يضيف كوجيف بُعدًا وجوديًا مستمدًا من هيدجر، حيث يرى الحق كتجربة مرتبطة بالرغبة الإنسانية والنقص. يعتمد كوجيف على مفهوم هيدجر للدازاين ليربط الحق بالوجود الإنساني في سياق زمني، مما يجعل فينومينولوجيا الحق لديه ليست مجرد تحليل عقلي، بل تجربة وجودية تعكس تطور المجتمع نحو العدالة والحرية.
مقارنة بين هيجل وكوجيف
فلسفة التاريخ: يرى هيجل التاريخ كعملية عقلية تتجه نحو تحقيق الروح المطلقة، بينما يرى كوجيف التاريخ كصراع من أجل الاعتراف ينتهي بدولة كونية متجانسة. يدمج كوجيف تأثيرات ماركس وهيدجر، مما يجعل تفسيره أكثر مادية ووجودية.
مفهوم الحق: يربط هيجل الحق بالحرية في إطار مؤسسات المجتمع، بينما يرى كوجيف الحق كنتيجة لصراعات تاريخية ترتبط بالرغبة والاعتراف.
المنهجية: يعتمد هيجل على الديالكتيك العقلاني، بينما يدمج كوجيف الديالكتيك مع الأنطولوجيا الوجودية لهيدجر والمادية التاريخية لماركس.
تأثير كوجيف على الفكر الفلسفي
أثرت محاضرات كوجيف على جيل كامل من المفكرين الفرنسيين، حيث شكلت أفكاره حول جدلية السيد والعبد ونهاية التاريخ أساسًا لتطور الفلسفة الوجودية والتحليل النفسي عند جاك لاكان، الذي استلهم مفهوم الرغبة والنقص من كوجيف. كما أثر كوجيف على مفكرين أمريكيين مثل ليو شتراوس وفرانسيس فوكوياما، الذي طور فكرة نهاية التاريخ في كتابه "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" (1992). كذلك، ساهم كوجيف في تشكيل السياسة الأوروبية من خلال دوره في تأسيس الاتحاد الأوروبي، مما يعكس تطبيقًا عمليًا لأفكاره الفلسفية.
خاتمة
ألكسندر كوجيف، من خلال إعادة قراءته لفلسفة التاريخ عند هيجل وتطويره لفينومينولوجيا الحق، قدم مساهمة فريدة في الفلسفة المعاصرة. بتأثره بهيجل، ماركس، وهيدجر، أعاد كوجيف صياغة التاريخ كعملية وجودية ترتبط بالرغبة والاعتراف، وربط الحق بالصراعات التاريخية التي تؤدي إلى دولة كونية عادلة. محاضراته لم تُحيِ الفكر الهيجلي في فرنسا فحسب، بل أثرت على تيارات فلسفية وسياسية عالمية. تظل أفكار كوجيف دعوة للتأمل في العلاقة بين التاريخ، الحرية، والحق في سياق الفلسفة المعاصرة.
المراجع
Hegel, G. W. F. (1807). Phenomenology of Spirit. Translated by A. V. Miller. Oxford: Oxford University Press.
Hegel, G. W. F. (1820). Elements of the Philosophy of Right. Translated by H. B. Nisbet. Cambridge: Cambridge University Press.
Kojève, A. (1947). Introduction to the Reading of Hegel: Lectures on the Phenomenology of Spirit. Edited by A. Bloom. Ithaca: Cornell University Press.
Kojève, A. (2000). Outline of a Phenomenology of Right. Lanham: Rowman & Littlefield Publishers.
Heidegger, M. (1927). Being and Time. Translated by J. Macquarrie & E. Robinson. New York: Harper & Row.
Fukuyama, F. (1992). The End of History and the Last Man. New York: Free Press.
Roth, M. S. (1988). Knowing and History: Appropriations of Hegel in Twentieth-Century France. Ithaca: Cornell University Press.
كاتب فلسفي