هل الإعلام مرآة للواقع أم أداة لتشكيله؟


حميد كوره جي
الحوار المتمدن - العدد: 8368 - 2025 / 6 / 9 - 01:24
المحور: الصحافة والاعلام     

يشير اللغوي والمفكر السياسي نعوم تشومسكي إلى أن الإعلام لا يقدم صورة محايدة للواقع، بل يعيد تشكيله بطرق منظمة من خلال الانتقاء والتأطير والتفسير. فوسائل الإعلام ليست مجرد انعكاس للأحداث، بل هي منشئ للروايات التي تُوجه فهمنا للعالم. هذه الفكرة هي أساس كتاب تشومسكي وإدوارد هيرمان الشهير "تصنيع الموافقة"، " الاقتصاد السياسي لوسائل الإعلام الجماهيرية"، الذي يوضح كيف أن وسائل الإعلام في الأنظمة الديمقراطية لا تخدم بالضرورة مصالح الشعوب، بل تميل لخدمة النخب القوية المتمثلة في الحكومات والشركات الكبرى. يتم ذلك من خلال عملية مدروسة لتوجيه الرأي العام باستخدام "فلاتر" تحدد نوعية الأخبار ومحتواها وطريقة عرضها، بما يتماشى مع أهداف السلطة.

تعتمد وسائل الإعلام عدة استراتيجيات لتشكيل الرأي العام، منها:
التكرار: إعادة سرد رسائل محددة بشكل متواصل حتى يُنظر إليها كحقيقة بديهية.
التضخيم: التركيز غير المبرر على جوانب معينة من القصص لإثارة مشاعر كالخوف أو الغضب.
الإلهاء: صرف الانتباه عن القضايا الرئيسية عبر تغطية مواضيع أقل أهمية لكنها مثيرة للجدل.
الانتقائية: اختيار الأحداث والقصص التي تلائم روايات محددة مع تجاهل أو التقليل من شأن ما يخالفها.

هذا النهج يجعل الأفراد يدركون العالم من خلال منظور تم تشكيله مسبقًا من قبل القوى المسيطرة. وهنا يأتي السؤال الجوهري الذي يطرحه تشومسكي: هل قراراتنا واستجاباتنا وحتى مشاعرنا هي بالفعل نتاج وعي ذاتي، أم أنها نتيجة تصورات وبرمجيات تم تلقينها عبر الإعلام؟ وهل نحن أحرار حقًا في تفكيرنا؟

في ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، حصل الأفراد على أدوات جديدة للنشر والتعبير، إلا أن الهيمنة المالية ما زالت تلعب دورًا محوريًا في التأثير الإعلامي. إذ تسيطر شركات التكنولوجيا العملاقة التي تدير هذه المنصات على البيانات والخوارزميات التي تحدد ما يراه المستخدمون. تمتلك هذه الشركات المال اللازم لتطوير بنية تحتية ضخمة، إضافة لتعزيز الرسائل الدعائية واستهداف الجماهير بدقة عبر الإعلانات الممولة. وهذا يمكن الجهات ذات الإمكانات المادية من التأثير الواسع على النقاش العام، سواء من خلال نشر محتوى يخدم مصالحها أو تمويل حملات لتشويه وجهات النظر المعارضة. حتى "الجيوش الإلكترونية" باتت وسيلة تتبناها جهات قادرة ماديًا لتوجيه الرأي العام أو تحطيم مصداقية الخصوم.

كما يستخدم المال للتأثير على القوانين والتشريعات المرتبطة بالإعلام والتكنولوجيا بما يضمن استمرار الهيمنة. لذا رغم ظهور وسائل تتيح حرية التعبير للفرد، يبقى النفوذ الإعلامي في قبضة القوى القادرة على التحكم بالموارد الاقتصادية.

في سياق العصر الحديث، تظل نظرية تشومسكي صامدة أمام التحولات التي طرأت مع دخول وسائل التواصل الاجتماعي إلى المشهد الإعلامي. ورغم أن هذه المنصات فتحت المجال **للإعلام المواطن** ونشر روايات بديلة وحتى حشد الحركات الاجتماعية، فإن الإشكاليات لم تتبدد، بل اتخذت أشكالًا جديدة.

من أبرز تلك التحديات ظهور "فقاعات الفلترة"، حيث يحاط المستخدم بمحتوى يوافق قناعاته المسبقة ويعزله عن الآراء المخالفة، مما يزيد الاستقطاب ويصعب التمييز بين الحقائق والأكاذيب. بالإضافة إلى ذلك، تعتمد منصات التواصل خوارزميات مصممة لجذب الانتباه ومنح الأولوية للمحتوى الجدلي أو العاطفي، ما يعزز انتشار المعلومات المضللة.

هذه التحولات تجعل من التفكير النقدي ضرورة قصوى لمواجهة البيئة الإعلامية المتشابكة التي نعيشها اليوم، وتحليل الكم الهائل من المعلومات التي نتعرض لها يوميًا. وبالتالي، تظل أفكار تشومسكي ذات أهمية كبيرة، ولكن بمفاهيم وأدوات تتماشى مع الطبيعة المعقدة للإعلام الحديث وتركيزه المتزايد على تحقيق المكاسب التجارية والسياسية.

على الرغم من القوة الهائلة التي يمتلكها المال وتأثيره الكبير في صياغة الفضاء الإعلامي الرقمي، يمكن للأفراد العاديين اتخاذ خطوات فعالة تهدف لمواجهة هذا التأثير وتعزيز استقلاليتهم الفكرية. إليكم بعض الاستراتيجيات التي يمكن للأفراد تبنيها:

تنمية التفكير النقدي: هذا الجانب هو الأكثر أهمية. يجب على الأفراد **اعتماد نهج التشكيك المستمر** في المعلومات التي يتلقونها، بغض النظر عن مصدرها. اسأل دائمًا:
* من المستفيد من نشر هذه المعلومة؟
* ما هي الأجندة المحتملة الكامنة خلف هذه الرسالة؟
* هل تحتوي طريقة عرض الخبر على تحيز، سواء كان ظاهريًا أو ضمنيًا؟
* ما هي الأدلة التي تدعم صحة هذه المعلومات؟

لا تعتمد على مصدر واحد أو نوع محدد من وسائل الإعلام. احرص على متابعة الأخبار من مجموعة متنوعة من المصادر الموثوقة، سواء كانت إعلامًا تقليديًا مستقلًا، منصات إعلام المواطنين، أو تحليلات يقدمها خبراء محايدون. هذا التنوع يساهم في الحصول على رؤية أكثر شمولية وتوازنًا. وقبل تصديق أي معلومة أو مشاركتها، تأكد من البحث عنها في مواقع متخصصة للكشف عن الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة. هذه المنصات المستقلة تقدم خدمة مهمة في تعزيز الوعي والمعرفة.
كن مدركًا أن هذه الخوارزميات صممت لعرض محتوى يتماشى مع اهتماماتك، مما يخلق ما يعرف بـ "فقاعات الفلترة" التي تعزلك عن آراء مختلفة. لمواجهة هذا التحدي، ابحث بشكل متعمد عن وجهات نظر متنوعة وتابع حسابات ومصادر تحمل رؤى مخالفة لما اعتدت عليه.
إذا كنت تؤمن بأهمية الإعلام غير المنحاز والمستقل، قدم دعمك للصحفيين المستقلين والمنظمات الإعلامية التي لا تعتمد بشكل كبير على التمويل من الشركات أو الحكومات. يمكن أن يكون هذا الدعم من خلال الاشتراكات المدفوعة أو التبرعات المباشرة.
وقبل أن تقوم بنشر أي محتوى، فكر بعمق في مدى تأثيره. تجنب أن تكون جزءًا من انتشار الشائعات أو المعلومات الخاطئة، وساهم بدلًا من ذلك في مشاركة المحتوى المدروس والموثوق.
عليك التعلم المستمر حول محو الأمية الرقمية، فكلما زادت معرفتك بآليات عمل الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وكيف تُستخدم الأدوات الرقمية للتأثير على الرأي العام، تمكنت أكثر من مقاومة أي محاولات للتلاعب.
إن مواجهة التأثير المالي في المشهد الإعلامي الرقمي ليست أمرًا بسيطًا، لكنها ممكنة عبر الوعي والعمل الجاد. التغيير الحقيقي يبدأ من داخل الأفراد ومن قدرتهم على التفكير النقدي ومواكبة المتغيرات دائمًا.