عندما فكرت في رمي نفسي أمام شاحنة


إلهام مانع
الحوار المتمدن - العدد: 7534 - 2023 / 2 / 26 - 14:59
المحور: سيرة ذاتية     

عندما فكرت في رمي نفسي أمام شاحنة
عن الصحة النفسية

"لا أعتقد أن المسألة تتعلق بدرجاتك"!
في السابعة والعشرين من عمري. في الفصل الدراسي الثاني من ماجستير في العلوم السياسية المقارنة. في منحة فولبرايت إلى الولايات المتحدة. وأعيش في واشنطن د.س. العاصمة في المنزل الدولي للطلاب والطالبات.
وحدي.
والعبارة قالها لي المشرف علي في الجامعة.
في منتصف الفصل الدراسي. كنت اعاني من قلق شديد.
شديد.
كاد يمزق صدري.
وسببه غريب.
اعتدت أن أكون الأولى في دراستي. منذ الطفولة. في كل بلد ذهبت إليه مع أسرتي. طبيعة عمل والدي كانت تتطلب السفر من بلد إلى أخر. وقصة حياته وحياة أمي، وطموحي، رسخوا أهمية التعليم في وجداني. أعود إلى قصتهما في مقال قادم.
كأني ولدت وفي داخلي ترنيمة. "لا تقبلي بأنصاف الطرق". شقي طريقك بنفسك ولو اضطررتِ إلى حفره بأظافر يديك.
ولذا كنت جادة في حياتي. في دراستي. وفي عملي.
ومرض والدتي العقلي وأنا في الثانية عشرة من عمري، وحياتنا الأسرية، ساهما في تركيزي.
كنت اداوي الألم بالتركيز.
وأصبحت المسألة طبع.
في كل أزمة أو حزن مررت بها وبه في حياتي كنت أَوَاجَههُما بالتركيز على الدراسة، العمل، أو الكتابة.
كان التفوق في الدراسة نتيجة طبيعية لهذا التركيز والمثابرة.
عندما سافرت إلى الولايات المتحدة وجدت نفسي وحدي.
لأول مرة.
كنت في كل سفر إلى دولة جديدة، دوما مع أبي وأمي، وتوأم الروح أخي.
أخي سافر للدراسة بعيداً وهو في الخامسة عشرة.
فغاب تؤامي عني.
وأنا أصبحت لهما الأبن والأبنة. عماد وسند.
أرعى والدتي في مرضها مع أبي.
ونمر معاً بأزمات كثيرة، ليس وقت الحديث عنها الان.
وعندما عدنا إلى اليمن، بعد حصولي على البكالوريوس في العلوم السياسية بامتياز مع مرتبة الشرف، عملت ثلاث سنوات في الجامعة. وبفضل رعاية الدكتور محمد زبارة، تقدمت بطلب منحة فولبرايت أمريكية، وحصلت عليها.
وسافرت.
وحدي.
لأول مرة.
في الفصل الدراسي الأول كنت أعيش حالة يسمونها "يوفوريا". تعريفها الحرفي " إحساس مبالغ فيه من السعادة والشعور بالذات".
لم أعش في حياتي مراهقة بالمعنى الصحيح. في الواقع لم يكن لدي حياة اجتماعية أيضا. كنت دوماً جادة في الدراسة والعمل. ووحيدة، مع أسرتي ومرض أمي.
وعندما وصلت إلى الولايات المتحدة، شعرت فجأة وكأني أصبحت حرة.
فقررت، وكعادتي في التفكير عقلانية، أن اخذ مواد "سهلة" في الفصل الدراسي الأول، لإتقان اللغة الإنجليزية، كي أتمكن من الاندماج في الحياة الاجتماعية الجديدة التي وجدتها في السكن الدولي للطلاب والطالبات. شعرت أن روحي تتوق إلى البعد عن التركيز والمثابرة، فأتحت لها الفرصة في ذلك الفصل.
عشت فصلا جميلاً. تعرفت فيه على أصدقاء وصديقات من دول عديدة.
خرجت فيه كثيرا، وعشت فيه الحياة كما يجب لها ان تعاش من قبل انسانة شابة في مقتبل الحياة. ومع الوقت حصلت على ثقة الطلاب والطالبات في المنزل (نحو 80 شخصا) وتم انتخابي كرئيسة للمجلس الطلابي.
ثم انتهى الفصل الأول بدرجات عالية، ودخلت في الفصل الدراسي الثاني.
هنا أخذت مواد في صلب الماجستير.
كانت هذه هي المرة الأولى التي ادرس بها مواد من هذا النوع باللغة الإنجليزية.
وقائمة القراءات المفروضة كانت تتطلب قراءة كتب ومئات الصفحات من المقالات الأكاديمية. إسبوعياً!
حالة ال"يوفوريا" تلاشت. ذلك الإحساس المبالغ فيه من السعادة والشعور بالذات تبعثر، تناثر، ثم اختفى.
وبدأت اقلق. أقلق كثيرا.
لم يكن قلقي مرتبط بمقدرتي على النجاح او الفشل. كان خوفي مرتبط تحديداً هل سأحصل على درجة تفوق في موادي أم لا.
والمشرف علي يستمع إلي على مدى الفصل الدراسي. ويتابع تدهور حالتي النفسية. ذاك القلق. ذاك الألم نهش في روحي ونفسي. وتبدى على حناياي.
ثم قال لي يوماً تلك العبارة: "لا أعتقد أن المسألة تتعلق بدرجاتك"!
وأنا نظرت إليه مصدومة. "ماذا تعني؟ بالطبع المسألة متعلقة بالدرجات."
هز رأسه، وأصر. "اعتقد أنكى في حاجة إلى الحديث مع أخصائية نفسيه للحديث عن جذور هذا القلق. "
ثم بحث في ملف ما، وكتب لي اسم اخصائية نفسية، ورقم هاتفها. وأكد على ان اتصل بها.
لم اقتنع. اخذت القصاصة. دسستها في جيبي. وخرجت. وعدت إلى غرفتي في المنزل الطلابي. والغريب أني لم أرم الورقة. وضعتها في درج مكتبي.
بقرف.
ثم زارني أخي.
زارني في وقت كنت اعاني فيه نفسياً. لا أفهم ما أمر به من الم نفسي.
كل من يراني يعتقد أني سعيدة. ابتسامتي لا تفارق وجهي، إلى أن أكون وحيدة.
وزيارة اخي لم تتح لي المجال كي أكون وحيدة. كان يريد ان يستغل الوقت كي يكون معي. عليكما ان تفهما عزيزتي القارئة عزيزي القارئ طبيعة علاقتنا. هو اخي الأكبر الوحيد. وانا أخته الصغيرة الوحيدة. والحب عقدنا.
رغم ذلك، فوجوده المستمر أرهقني. كنت ابحث عن تلك اللحظة التي انزع فيها تلك الابتسامة عن وجهي. ولا أجدها.
فكدت اختنق. من ذاك الألم في روحي.
ثم خرجنا معاً أنا وهو مرة، وعند عبور الشارع، نظرت إلى شاحنة قادمة، ووجدت نفسي أتساءل، "لو رميت نفسي أمام هذه الشاحنة، سأرتاح من هذا الألم."
ذهلت من تلك الفكرة. ذهلت كما لو كنت قد قفشت نفسي وأنا أرتكب مصيبة.
وتذكرت عبارة مشرفي النبيل.
"لا أعتقد أن المسألة تتعلق بدرجاتك"!
عبرنا الشارع وعدت إلى غرفتي. وقبل أن اخلع جاكيتي، فتحت درج المكتب واخذت الورقة ورفعت سماعة التلفون واتصلت بها. الدكتورة ماريا.
لحسن الحظ ردت علي هي. قلت لها "اسمي إلهام مانع، واعتقد أني في حاجة إلى مساعدتك."
حددت لي موعدا.
وكان الطوفان. كأن سداً إنهار في داخلي.
في الشهور الثلاثة التي مرت بعد ذلك، كنت اذهب إليها أسبوعيا. أجلس امامها، وأبكي وأنا أحكي.
معها تعرفت على طبيعة حالتي. يسمونها اضطراب ما بعد الصدمة. وهو رد فعل لاحق من معايشة حدث أو احداث مؤلمة، وليس من الضروري ان يكون الشخص نفسه قد تعرض لها، بل شاهدها تحدث لغيره.
كنت قبل وصولي إلى الولايات المتحدة في حالة استنفار دائم للبقاء. استنفار. دائم. لحماية والدتي، لحماية أسرتي. وكنت اشاهد ما يحدث من حولي، ليس بالضرورة في عائلتي، ولكن في النطاق الأوسع لها.
ليس من الصدفة أني أصبحت مدافعة عن حقوق المرأة وحقوق الإنسان. فما رايته في حياتي كان ينحر الإنسان في.
وعند وصولي إلى الولايات المتحدة وأصبحت وحيدة، زالت حالة الاستنفار تلك.
وبدأت روحي تنتبه لنفسها، لجراحها، تلعقها وهي تئن.
-----

لازلت إلى يومنا هذه ممتنة لمشرفي النبيل وللدكتورة ماريا.
عبارته تلك، وعلاجها النفسي القائم على مواجهة ما حدث في الماضي، مكناني من الخروج من الماضي إلى الحاضر.
ولأن الصمت كان جريمتي في الماضي، أقسمت ألا أصمت بعد ذلك.
لم يكن الطريق سهلاً. ولا زالت هناك أوقات تمر علي، اشعر فيها بتلك الابتسامة تغيب عن وجهي وأنا وحدي.
لكن ذاك الألم، الذي قطع روحي إلى أشلاء، ذاك الصراخ الصامت في أنينه، غاب عني.
ولذا تجداني ممتنة.
ليس هناك ما يخجل من الحديث عن الصحة النفسية.
المخجل هو ان لا نبحث عن العلاج عندما يتوفر.
والمشرف على فكرة كان على حق.
المسألة لا علاقة لها بالدرجات الدراسية.
وفي كل الأحوال، وبعد جهد وسهر، أكملت مواد ذلك الفصل الدراسي كدأبي بمرتبة الشرف.
المسألة كانت تتعلق بحالة نفسية تحتاج إلى علاج.
واليوم، بعد ثلاثين عاما، انظر إليكما وأسألكما.
مع كل الحروب والأزمات التي تمر بها بعض أوطاننا في المشرق،
كم منا يحتاج إلى هذا الدعم؟