أن تختار دينك!


إلهام مانع
الحوار المتمدن - العدد: 6691 - 2020 / 9 / 30 - 22:28
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     


غريب كيف تمر الأعوام؟
سريعة.
نلحق وراءها ونحن نلهث. وهي تجري غير عابئة. تعرف تعلقنا بها، تعرف أيضاً أننا في النهاية سطور تُكتب في لوح غير محفوظ.
مسألة وقت، ونمضي.
نمضي كما مضى غيرنا.
وننتبه و الشيب يزحف متثائبا على مفارق ُشعُورنا. ومعها تجاعيد تبتسم على صفحات وجوهنا.
ليست شكوى. أو تذمر وتأفف.
فالسنين يجب ان تمر، تماما كما أن الشيب يجب أن يُرى، كما التجاعيد. ولكل مرحلة زمنية حلاوتها وطراوتها.
وأنا والعرفان صديقان. ممتنة لحياتي ولسنين عمري. ولازلت إلى يومنا هذا أحتفل بعيد ميلادي بنفس الفرحة التي كان يحتفل بها والدي وأخي معي. عام مضى، وأخر قادم، ومعها حياة اعيشها.
إذن ليست شكوى.
لكن هذه العبارة تحديداً، "غريب كيف تمر الأعوام؟"، خطرت ببالي وأنا اتابعها بعيني في الكنيسة. تلك الفتاة الرائعة، رائعة بذكائها، بحكمتها، حسها الفني المرهف، وبجمالها.
في السادسة عشرة من عمرها، شامقة، رشيقة، ترتدي فستانا يليق بهذه المناسبة الهامة، ومن يراها يُدرك ان مثل هذا الجمال لا يأتي إلا مع إختلاط الدماء، وفي هذه الحالة، دمائها السويسرية العربية.
وهي، هي تقف مع زميلاتها وزملائها في وسط الباحة الرئيسية للكنيسة. في إنتظار لحظة تعميدهن/ن الجمعي.
الم تكن طفلة رضيعة عندما وقَفتُ بجانب والديها في مراسم تعميدها في الكنيسة؟
قبل اكثر من خمسة عشرة عاماً، اليس كذلك؟
سألت نفسي.
وقف القسيس يومها ليمسح بالماء رأسها، ونحن حوله. أول تعميد. تعميد مبدأي. ليس نهائياً.
المحك في التعميد الثاني، ذاك الذي يحدث وهي في السادسة عشرة من عمرها.
المحك هنا، لأنه اختيار.
دخولها إلى المسيحية سيكون قراراً متعمداً من جانبها.
وهذا ماحدث اليوم، عندما أتت إلى الكنيسة من جديد، بعد فترة طويلة من التثقيف ديني، كي يتم تأكيد تعميدها الطوعي كمسيحية.
تدخل بذلك الدين المسيحي طوعاً. بقرارها. بإختيارها. عامدة متعمدة. كان يمكنها أن ترفض فعل ذلك. كان يمكنها أن تقول لا أريد هذا الدين، اريد ديناً اخراً. كان ذلك ممكنا. وكانت قادرة على فعل ذلك. لكن الحرية التي تعيشها جعلتها تختار ما تريد. وأختيارها شأنها. يخصها هي. وحدها. بينها وبين الرحمن.
اختارت. وقررت. وكان الدين بالنسبة لها حباً. هكذا جاءت كلماتها وهي تحدثنا. كان الدين بالنسبة لها عملاً من أجل الغير. خير. وحب. هكذا تبدت لي وهي تحدثنا.
_____

أنا عرابتها.
وأفخر بذلك.
والداها صديقان لي.
والدها من اعز أصدقائي، من أصول عربية. ووالدتها صديقة تعرفت عليها منذ قدومي إلى سويسرا قبل خمسة وعشرين عاماً. وعندما رُزقا بها، سألاني أن أكون عرابتها. ووافقت ممتنة.
في مراسم تعميدها وهي طفلة، كنت متواجدة مع زوجي وأبنتي، سلمى، التي كانت في الرابعة من عمرها حينها.
هذه المرة جئت مع زوجي فقط. سلمى أصبحت في العشرين من عمرها. شابة مستقلة.
تابعنا معاً مراسم التعميد الجماعي، ولم يغب عني مغزى ما يحدث في الكنيسة امامي.
فلو كنا في بلد عربي ينص دستوره ان "ديانته هو الإسلام"، ما كان يمكن لهذا الحدث ان يحدث!
محض خيال.
لسببين.
السبب الأول، أن أباها وُلد مسلماً. وفي الواقع هو لا يؤمن بهذه الهوية ونزعها عنه عملياً. لكن القانون لا يفهم هذا الحديث. القانون لدينا، على إختلاف دولنا، ينص على أن الطفل، أو الطفلة في قصتنا هذه، يجب أن تتبع ديانة الأب الإسلامية.
القانون ينص على ذلك. ديانة والدتها المسيحية لا تبدو أكثر من "تفصيل" بالنسبة لهذا القانون. وعلى هذه الأم إذا ارادت ان تحتفظ بحضانة طفلتها في حال الطلاق، او الحصول على الإرث المنصوص من زوجها في حال الوفاة، عليها ان تتحول إلى الدين الإسلامي!
كون والدها في الواقع لا علاقة له بالدين الإسلامي لا من قريب أو بعيد، ترك الإسلام، هذا "التفصيل"، ايضاً، ليس له تأثير على الهوية الدينية لأطفاله.
وُلد مسلماً، أولاده سيولودون مسلمين ايضاً، بالقانون.
وإذا تجرأ وأعلن تركه للإسلام، سيلاحقة نفس هذا القانون، وهو ما يأخذنا إلى السبب الثاني.
السبب الثاني، تعرفونه كما أعرفه، السبب الثاني أن قوانينا في الشرق الأوسط لا تسمح للإنسان أن يختار دينه.
يمكنه بالطبع أن يتحول من الدين المسيحي أو اليهودي أو البهائي أو البوذي إلى الإسلام. في هذه الحالة سنطبل له ونصفق لها، ونغني معه ومعها على سماحة الدين.
لكن العكس غير ممكن.
لايستطيع المسلم ان يغير دينه.
لاتستطيع المسلمة ان تغير دينها.
ولو فعلاً سيواجهان في أحيان كثيرة عواقب وخيمة.
وفي كل الأحوال فأن المؤسسات الرسمية لن تعترف بهذا التغيير، ولذا سترفض تغيير الديانة في أوراق الشخص الرسمية، وستظل تعامل ذلك الشخص، رجلاً كان أو أمرأة، على انهما "مسلمان"، غصباً عنهما، وبمباركة سلطات الدولة.
ونفس السلطات الدينية التي غنت معهما على سماحة الإسلام، ستكشر عن أنيابها وتتهمها با"لردة"، ثم تطالبهما بالإستتابه، ولو كان الأمر بيدها، لأقدمت بنفسها على قتل "المرتد"، كي يكون عبرة لمن يعتبر!
لاحظا العبارة السابقة: "يكونا عبرة لمن يعتبر".
الدين حسب رؤية هذه المؤسسات الدينية المتخشبة ليس إختيار. ليس علاقة روحانية بين الإنسان وربه. لا. هي علاقة قوة، علاقة قهر، تُفرض على الإنسان، وتعاقب من يتمرد عليها.
الدين هو جزء من كيان هرمي يَفرض على الإنسان الطاعة، شاء أو رفض.
_____

ليس هذا هو واقع صبيتنا الرائعة.
تعيش في اسرة محبة، تحترم إرادتها.
ثم في مجتمع متسامح، فهم معنى التعددية الدينية بعد حروب دينية ونزاعات دموية تركت اثرها إلى بداية القرن العشرين.
والأهم هو الدولة. دولة تفصل بين الدين والدولة، تقف على مسافة محايدة من مواطنيها ومواطناتها، وتعتبر الدين شأنا شخصياً.
ولذا لن تجدا قانونا فيها يمنع الإنسان من إختيار الدين الذي يريد.
المسيحية أنواع. ليست كلها متسامحة. بعضها يفعل مثل ما نفعل في الإصرار على رفض التعددية، والتأكيد أن من لا يؤمن بما تؤمن به مصيره جهنم، و"بئس المصير".
وتوجد هنا في سويسرا بعض الكنائس التي تنشر مثل هذا الخطاب.
لكن الكنيسة التي حضرنا فيها هذه المراسم لا تنتمي إلى هذا النوع.
تؤمن بالحب، تؤمن بالخير في الإنسان، وتؤمن بإرادة هذا الإنسان وتحترمه.
وتؤمن أن البشرية تجمعنا كلنا على تعددنا.
تخيلا معي لو إنتشرت لدينا مثل هذه القراءة للدين؟
تخيلا معي لو تغير القانون وترك للإنسان حرية إختيار الدين؟
تخيلا معي لو بدأنا تقليداً يسمح لمن يصل إلى سن معين تأكيد إختياره للدين الإسلامي الذي ولد عليه؟ ثم نحترم ذلك القرار دون أن نلاحق الشخص قانونياً أو مجتمعياً؟
تخيلا معي!
____

إذن أعود إلى حفل تثبيت تعميد صبيتنا الجميلة.
نظّمت وأعدت له قسيسة متدربة.
امرأة.
وكان الحفل مميزاً.
سمعنا فيه غناءا رائعاً، شاركت فيه صبيتنا الحبيبة بصوتها الرخيم.
سمعنا فيه عزفاً للبيانو.
سمعنا فيه مقاطع أدبية.
والمضمون واحد، قرار بالدخول في دين إختارته، ورسالة حب، لا تقتصر على جانب من البشرية. بل تشمل البشرية بأسرها.

------
غريب إذن كيف تمر الأعوام سريعة؟
الطفلة الرضيعة أصبحت فتاة ننظر إليها بفخر.
إختارت الزنبق وشجرة الزيتون في عبارة تأكيد تعميدها.
زهرة زنبق، تفتحت؛ جذورها ضربت بين عوالم وثقافات مختلفة، ورونقها، كشجرة زيتون عتيقة، مس شغاف قلوبنا.
فتاة إختارت.
إختارت دينها.
عامدة متعمدة.
أين المشكلة؟