عن محاكم الشريعة في بريطانيا


إلهام مانع
الحوار المتمدن - العدد: 6663 - 2020 / 8 / 31 - 22:21
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

صورة وقضية
عن محاكم الشريعة في بريطانيا

ثلاث سنوات مرت على تلك الصورة.
ثلاثة كنا.
نقف مبتسمات.
في صيف 2017.
خلفنا نافورة وقصر مهيب. كارترايت هول في مدينة برادفورد. معرض للفنون المدنية، في غرب يوركشاير، إنجلترا، ويتمتع بإطلالات خلابة على المدينة.
ونحن ننظر إلى الكاميرا. مبتسمات، واثقات.
هي ناشطة حقوقية نسوية وموظفة مجال العمل الاجتماعي في إنجلترا. بريطانية من أصل آسيوي مسلم. والأخرى منتجة برامج تلفزيونية. بريطانية هي الأخرى.
وأنا بينهما. خبيرة استشارية، يمنية سويسرية، لبرنامج وثائقي عرضته القناة الرابعة الإنجليزية في نوفمبر 2017 بعنوان "المشكلة في الزواج الإسلامي".
جمعنا العمل على البرنامج، وعلى الهدف... إيجاد حل لقضية.
والتقينا في هذا المكان لعقد ورشة عمل مع مجموعة من الناشطات البريطانيات المسلمات، اسُتخدمت بعض وقائعها في البرنامج.
قفزت الصورة أمامي عندما فتحت هذا الأسبوع صفحتي على الفايس بووك.
فايس بوك لديه تقليد يعرفه وتعرفه من يستخدمه و تستخدمه.
من وقت إلى آخر، يُذكَرنا بصورة أو منشور وضعناه على حائطنا قبل سنوات. لعلنا نكرر وضعه من جديد.
وأنا في المقابل، لدي تقليد أيضا. انظر إلى الصورة او المنشور، ثم اقرر، هل انشره من جديد أم لا. بعض المنشورات او الصور فات وقتها. بعضها الأخر يذكرنا بمواقفنا، وغيرها بحزننا.
هذه المرة، نظرت إلى الصورة، وابتسمت، ابتسامة فيها حرقة. مرارة.
قلت لنفسي انشريها من جديد... وذكري من لا يريد أن يتذكر بالموضوع.
ثم أكتبي عنه... من جديد.
________

الموضوع هو قضية.
لازالت قائمة.
تؤرقني إلى يومنا هذا.
أكثر من ستين في المائة (61%) من زيجات البريطانيات المسلمات تتم بشكل ديني فقط. أي أنها غير موثقة رسمية.
هذه نتيجة استطلاع للرأي عمل عليه الفريق البحثي ونشرته القناة في البرنامج الوثائقي.
بعضكم سيتساءل، وأين المشكلة؟ كلنا نتزوج زواجاً دينياً.
صحيح.
ليس الكل بالطبع.
لكن في منطقتنا الشرق الأوسطية، لا نعرف الزواج المدني، لكن هذا موضوع أخر، اعود إليه في مقال قادم.
ما يهمنا هنا هو أن الزواج الديني وحده لا يحمي حقوق المرأة في بريطانيا. يجب أن يكون موثقاً مدنياً.
الزواج الديني لا يحمي حقوق المرأة.
ولذا تجد الكثيرات من البريطانيات المسلمات يضطررن إلى اللجوء إلى محاكم شريعة في بريطانيا.
محاكم تشبه محاكم قبلية. بعضها يكاد يكون طالبانياً.
وهناك يخضعن لقوانين الشريعة في الطلاق والزواج.
قوانين دينية تم وضعها بين القرنين السابع والعاشر الميلادي.
مجحفة.
ويجب تغييرها.
وفي حين ان تغييرها يأخذ وقته في البلدان العربية والمسلمة، يبدو لي من الغريب أن يتم تطبيقها في بريطانيا، والأغرب أن تغض الحكومة البريطانية عن المعاناة المأساوية لهذه النساء!
ولذا تجدوني إلى اليوم غاضبة.
________

في سويسرا، وطني الثاني، تم سن قانون مدني يعود تاريخه إلى العام 1874 يحمي المرأة ويدفع بمدنية الدولة في الوقت ذاته.
الفقرة 3 من المادة 97 ، وهي في الواقع مربط الفرس، تحدد بصورة لا لبس فيها أن "عقد الزواج الديني لا يجوز قبل الزواج المدني".
الزواج المدني هو الإساس. بعدها يتزوج من يريد بأية صورة دينية.

جاء القانون المدني السويسري ليوحد القوانين المتعددة المتداولة والمعمول بها في الكانتونات الست والعشرين فيها، في قانون مدني واحد، يسري على الجميع بغض النظر عن انتماءاتهم/ن الدينية. قوانين الطلاق والزواج تندرج ايضاً ضمن القانون المدني.
فعندما يحدث الطلاق يُطّبق القانون المدني على الزوجين، والذي يحمي الطرفين بشكل متساو وعادل، وتحديداً منذ التعديلات التي دخلت حيز التنفيذ عام 1988.
نحترم كافة الأديان، لكن القانون الموحد، الذي يحترم كرامة والحقوق المتساوية للزوجين، يسري على الجميع.
الوضع مختلف في بريطانيا.
الوضع مختلف.
هي لا تعرف قانوناً شبيها يُصر على عقد الزواج المدني قبل الديني.
في الواقع ما تعرفه هو قانون للزواج صدر عام 1949 اعتبر ان عقد الزواج الديني للمسيحيين واليهود والكويكرز (وهي طائفة دينية بروتستانتية مسيحية عُرفت بتسامحها وإنسانيتها ودورها الأساسي في إلغاء العبودية)، هذا العقد هو في نفس الوقت عقد لزواج مدني مسجل.
ولذا يسرى القانون المدني في الزواج والطلاق على هذه المجموعات الدينية.
كان القانون يعكس الوضع السكاني لبريطانيا حينها، والمجموعات الدينية المتواجدة فينها.
لكن الوضع تغير مع العقود التي تلت الخمسينات من القرن. وفد عليها العديد من سكان دول الكومنولث، الدول التي استعمرتها بريطانيا سابقاً. ومعها تغيرت التركيبة السكانية والدينية للمجتمع البريطاني، لتنضّم إليها أديان أخرى، من بينها الديانة الإسلامية.
يعيش اليوم في بريطانيا ما يزيد على أربعة ملايين شخص من اتباع ديانة الإسلام، أي نحو 6.3% من عدد سكان بريطانيا (إحصائية مركز بيو للبحوث لعام 2017).
في العقود الأولى من وصولهم التزم المهاجرون والمهاجرات بالقوانين المعمولة في بريطانيا. وعند حدوث طلاق كانوا يلجئون إلى القانون المدني للطلاق. مثلهم مثل غيرهم.
لكن أسباب عديدة، من بينها انتشار المد الديني الأصولي المتطرف في صورته الديوباندية والجماعة الإسلامية الباكستانية، أدت إلى انغلاق بعض هذه الجاليات، وتحولها إلى غيتوات منعزلة.
كأنهم يعيشون في مجتمعات موازية بتقاليد خانقة، وقوانين دينية لا تطبق حتى في بلدانهم الأصلية.
والأهم أن أكثر من تعاني هي المرأة، التي يحّملونها مفاهيم الشرف والتقاليد، والويل لمن تسول لها أن تعيش حياتها كما تريد.
هذا الوضع انعكس أيضاً على قضايا الزواج والطلاق.
فمن جانب، انتشر خطاب يدعو المسلمين إلى عدم إتباع "قوانين أهل الكفر" والالتزام بقوانين الشريعة. رغم أن قوانين ما يسمونهم ب"أهل الكفر"، هي التي حمتهم ووفرت لهم الأمان والكرامة والضمان الاجتماعي.
ومن جانب أخر، كان هناك عدم إدراك من قبل الكثير من الأسر المسلمة بطبيعة القوانين القائمة في بريطانيا. فالكثيرون والكثيرات اعتقدن أن الزواج الديني معترف به أمام القانون البريطاني.
لكن الواقع أن القانون البريطاني لا يعترف بالزواج المدني إلا بعد تسجيله مدنياً.
ومن جانب ثالث، كان بعض الأزواج يتعمدون تضليل زوجاتهم، وعدم تسجيل زيجتهم مدنياً كي لا تحصل على حقوق متساوية في الثروة والملك وحضانة الأطفال في حال الطلاق، أو كي يتمكن الزوج من الدخول في زواج متعدد.
ونتائج هذا الوضع الكارثية تكتشفه المرأة عند طلاقها.
حينها تكتشف ان القانون البريطاني لا يعترف بزواجها. وأن القانون المدني الذي يحميها ويحمي كرامتها لا يُطبق عليها. فتضطر إلى اللجوء إلى محاكم الشريعة. وهنا تدخل في دوامة تعيدها إلى القرون الوسطى.
محاكم تُصر أغلبها على المرأة أن تستمر في زواجها، رغم العنف المنزلي الذي تعاني منه الكثيرات.
في الواقع هذه المحاكم تعتبر ان من حق الرجل تأديب زوجته. بكلمات أخرى ضربها.
وبعضها لا يرى غضاضة من زواج الطفلات. والبعض الاخر لا يعتبر ان غصب الفتاة على الزواج يعتبر مبرراً للطلاق. وفي معظم الأحوال، تضع هذه المحاكم شروطاً مجحفة ومتحيزة على المرأة كي تساعدها على الطلاق. وفي الغالب تضطر المرأة إلى التخلي عن حقوقها المالية وحقوقها في الحضانة كي تفر من جحيم زواجها. أو تقبل بالجحيم من جديد كي تبقى مع أطفالها.
تعرفت على هذا الواقع عن قرب خلال فترة بحث، شملت زيارات ميدانية في بريطانيا، وأثمرت عن كتاب "المرأة والشريعة: آثار التعددية القانونية في بريطانيا"، الذي صدر عام 2016 في لندن بالإنجليزية (تتم ترجمته حاليا إلى الألمانية).
تعرفت على هذا الواقع وقهرني.
لم أتوقع أن أرى مثل هذا الظلم يحدث وسط دولة مثل بريطانيا.
ولذا لم اتردد في الانضمام إلى فريق عمل البرنامج الوثائقي حول هذه القضية.
كل من عمل في هذا البرنامج كان هدفه تغيير هذا الواقع في بريطانيا.
وكان للبرنامج فضل التوعية، من خلال المجموعات النسائية التي عملت على إجراء الحوارات واللقاءات مع الف امرأة مسلمة في عينات مختارة داخل بريطانيا.
نحو ثلث العينة اكتشفت من خلال البرنامج أن زيجاتهم غير معترف بها في بريطانيا. وأكدت أكثر من 78% رغبتهن في تسجيل زواجهن.
كانت هذه حصيلة إيجابية للبرنامج.
لكن الهدف الأساسي، أي تغيير القانون بحيث يتم عقد الزواج مدنياً قبل الزواج الديني، وإنهاء عمل محاكم الشريعة، وحماية حقوق المرأة البريطانية المسلمة، هذا الهدف الأساسي لم يتحقق.
لم يتغير القانون. وظلت محاكم الشريعة تعمل، رغم التحقيقات التي اجراها مجلس العموم ومجلس اللوردات ( والتي شاركت فيها كخبيرة).
وأزداد الوضع سوءا داخل المجتمعات المغلقة.
والحكومة البريطانية ظلت مُصّرة على تجاهل الموضوع.
انشغلت. وكان انشغالها خائفاً ومتعمداً.
________

إذن. ثلاث سنوات مرت على تلك الصورة.
لثلاث نساء.
يعملن من أجل قضية.
وقفن أمام العدسة يبتسمن. واثقات.
الصورة تعكس قضية.
والقضية لازالت دون حل.
أكتب عنها من جديد.
كي أذكر من لا يريد أن يتذكر.