كيف ستعمق القضية الأوكرانية ازمة النظام الرأسمالي؟


توما حميد
الحوار المتمدن - العدد: 7176 - 2022 / 2 / 28 - 18:05
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

من الواضح جدا بان أمريكا والناتو لم ولن تريد الدخول في مواجهة عسكرية مع روسيا في أوكرانيا، والأسباب واضحة جدا وقد تحدثت عنها في مقال سابق. كما تبين الدلائل بانهم يعرفون جيدا بان انضمام أوكرانيا الى الناتو، او وضع أسلحة الناتو في أوكرانيا او امتلاك أوكرانيا للأسلحة النووية او أي أسلحة من اسلحة "الدمار الشامل" كان خط احمرا لروسيا. فحسب الوثائق الذي سربها وكيليكس، يوضح تقرير كتبه وليم بيرنز، مدير السي أي اي، والسفير الأمريكي السابق في روسيا في 2008 الى إدارة أوباما بشكل واضح مخاوف روسيا بان انضمام أوكرانيا الى الناتو سوف يؤثر على استقرار المنطقة واستقرار روسيا حيث سيؤدي الى انقسام داخل أوكرانيا مما سيتسبب في عنف وحتى حرب اهلية مما قد يجبر روسيا على التدخل وهو قرار لا ترغب روسيا ان تواجهه. وحذر بوتين في مؤتمر ميونخ في ،2008 بان توسع الناتو مع التخلي عن اتفاقات منع التسلح يزيد الخطر وسوف يجبر روسيا على الرد. ففي عهد إدارة جورج بوش الابن، تخلت أمريكا عن معاهدة الحد من أنظمة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية بحجة حماية اوروبا من الصواريخ الإيرانية. في حين ان الهدف كان بناء أنظمة في دول مثل بولندا لمحاصرة روسيا. وانسحبت أمريكا تحت إدارة ترامب من معاهدة القوى النووية متوسطة المدى ومعاهدة السماء المفتوحة. كل هذا يسمح لأمريكا بنشر أسلحة هجومية بالقرب من حدود روسيا. وفي 2008، أي بعد سنة من تحذير بوتين، وعدت أوكرانيا وجورجيا بعضوية في حلف الناتو. وقام الغرب وامريكا بالذات في 2014 بتدبير انقلاب في أوكرانيا ضد الحكومة التي ارادت ان تكون أوكرانيا محايدة وان يكون لها علاقات مع روسيا والغرب في نفس الوقت، واستمرت الحكومات التي أعقبت الانقلاب في اوكرانيا بالتأكيد على نيتها في الانضمام الى الناتو.
في ظل هذا الوضع بدأت روسيا بحشد القوات على الحدود الاوكرانية في 2021 وقامت روسيا بتقديم طلباتها للغرب واوكرانيا والحديث عن خطوط حمراء. رغم ان أمريكا كانت تدعي بانها كانت تمتلك ادلة بان في نية روسيا غزو أوكرانيا، الا انها امتنعت عن الدخول في مفاوضات مع روسيا حول أوكرانيا، بل استمرت في تأجيج الوضع. هذا يعني بان أمريكا، رغم عدم نيتها الدخول في حرب مع روسيا في أوكرانيا، الا انها دفعت الأمور الى وضع تجبر روسيا على التدخل العسكري، أي قامت بجعل الجماهير في أوكرانيا كبش فداء لأهداف جيوسياسية وهي الإبقاء على الغرب موحد تحت قيادة أمريكا، ومنع التعاون الاقتصادي بين روسيا وأوروبا وخاصة المانيا وإدغام روسيا في اوروبا، وإيجاد توتر يبرر الانفاق العسكري وتامين مصالح المجمع الصناعي العسكري. بل حتى بعد نشوب الحرب، يسعى الغرب الى إيصال كميات ضخمة من الأسلحة الى اوكرانيا واطالة امد هذه المواجهات العسكرية. من جهة أخرى لقد تبين بان روسيا كانت قد خططت لهذا التدخل العسكري منذ وقت.
وقد رافقت العملية العسكرية الروسية حملة إعلامية لنشر الكذب من قبل الجانبين، ولكن بشكل خاص من قبل الغرب، يشمل نشر دعايات تصل حد الاساطير عن بسالة الجيش الاوكراني وقساوة القوات الروسية وفشل حملتها على أوكرانيا. ان الغالبية العظمى من الصور ومقاطع الفيديو التي تنشر هي مفبركة واغلبها لأحداث قديمة، ليس لها ربط بأوكرانيا. ان تأكيد الاعلام الغربي على فشل الغزو الروسي، وشراسة مقاومة الجيش الاوكراني هي امنيات اكثر من كونها حقائق. لقد استغرقت القوات الامريكية ثلاث أسابيع للوصل الى بغداد في غزو 2003 رغم ان الغزو سبقه قصف وفق سياسة الارض المحروقة، في حين ان القوات الروسية وصلت الى كييف في ثلاث أيام ورغم ان الجيش الروسي لحد الان يحاول قدر المستطاع الحد من الضحايا بين المدنيين وتدمير البنية التحتية. ان تغلب الجيش الروسي هو مسالة وقت.

كما قامت الكثير من الدول الاوربية بغلق القنوات التلفزيونية ووسائل الاعلام الروسية الاخرى.
ولكن الأهم من هذا لقد قام الغرب بما فيه أمريكا والاتحاد الأوربي وبريطانيا وأستراليا وكندا ونيوزيلندا واليابان بوضع حصار على روسيا وصل الى طرد بعض البنوك الروسية من نظام "سويفت" العالمي للمدفوعات وهو نظام مرن للخطابات بين البنوك حول نقل الأموال، وفرض الحصار على البنك المركزي الروسي مما يعني مصادرة ودائع هذا البنك في البنوك الغربية. ان الهدف هو تدمير قيمة العملة الروسية من خلال تلك الإجراءات ترافقها حملة للتلاعب بهذه العملة في الأسواق تؤدي في النهاية الى خلق تضخم كبير في روسيا وتدمير معيشة الجماهير على امل ان تنتفض تلك الجماهير ضد الحكومة وبالتالي الإطاحة بها.
وقد خسر الروبل ثلث قيمته اليوم وهو شيء متوقع. ولكن بنظري سوف تفشل خطة الغرب في النهاية بشكل مزري. فقطاع الطاقة والغذاء الروسيين هي مستثنية من العقوبات والطرد من نظام سويفت لان روسيا لاعب كبير جدا في هذا المجال ومهم لصحة الاقتصاد العالمي. من جهة أخرى ان هذه الازمة تؤدي الى ارتفاع اسعار الغاز والنفط التي تدر على روسيا أموال طائلة تبلغ الان 700مليون دولار يوميا. وتدخل هذه الاموال الى الاقتصاد الروسي بالعملات الغربية، فانخفاض في سعر الروبل يزيد دخل روسيا الداخلي. ولكن ستجعل هذه الإجراءات مسالة السفر بالنسبة للروسيين صعبة للغاية. من جهة أخرى فان روسيا دأبت منذ 2008، على التحضير لوضع مثل هذا، اذ سعت على خلق فائض تجاري وللبنك المركزي الروسي 630 مليار دولار من المدخرات ومعظمها مودعة داخل روسيا، وروسيا هي من بين دول قليلة ليس للحكومة أي ديون. كما قامت روسيا بتنويع الواردات وتقليص اعتمادها على الغرب، ولذلك فان تعامل روسيا سوف يكون في العملات الأخرى بشكل رئيسي. كما يمكن لروسيا الاعتماد على الصين والى حد اقل على الهند للخروج من هذه الازمة وخاصة ان كل من الصين والهند توافق على التجارة مع روسيا في العملات المحلية بدلا من الدولار. وسف تلجا الى أنظمة مالية بديلة لل"سويفت". في النهاية، سوف يفقد الروبل الكثير من قيمته، ولكن سوف تكون مسالة وقتية وسيكون بإمكان روسيا تحمل هذه الإجراءات والخروج من هذا الوضع.
من جهة أخرى سوف يكون لهذه الخطوة الغربية تأثير مزلزل على الهيكل والنظام المالي العالمي. لقد وضعت أمريكا من قبل الحصار على البنك المركزي في العراق و كوبا وفنزويلا وكوريا الشمالية وسوريا وايران ولكن ان يصل الحد بان تفرض حصار على البنك المركزي في روسيا التي هي من ضمن مجموعة العشرين وعضو دائم في مجلس الامن، فهذا امر مقلق جدا للكثير من الدول. لهذا، الكثير من الدول سوف تفكر في تنويع خياراتها. النظام المالي الذي يعتمد على الدولار الأمريكي ونظام سويفت الذي يسمى بالنظام المالي العالمي هو في الحقيقية نظام مالي غربي تقوده أمريكا. لحد الان لم يكن للدول الأخرى من خيار، ولكن الان الصين تقدم بديل مالي للدول الأخرى فهي أكبر مصدر للقروض في العالم وهي تبرز كدولة موضع ثقة ولا تستحوذ على ودائع الدول الأخرى وهي تسعى الى إيجاد أنظمة مالية موازية لل"سويفت". في حال فشل هذه الخطوة ضد روسيا وهو امر وارد جدا، سوف تؤدي الى تسريع عملية بناء هياكل مالية بديلة وسوف يقوض نظام سويفت وبقاء الدولار كالعملة الاحتياطية في المستقبل.

بنظري ان اقدام أمريكا والغرب على هذه الخطوة وإيصال الأمور الى هذا الحد، كان اجراء غير رزين وخطير جدا. ان هذه الإجراءات سوف تؤدي الى تضخم هائل في الغرب نفسه. ففي بعض الدول أعلنت شركات الطاقة بالفعل بان أسعار الطاقة سوف ترتفع بشكل هائل وسيشمل التضخم تقريبا كل البضائع الأخرى، لان ارتفاع أسعار الطاقة يؤدي الى ارتفاع أسعار معظم البضائع والخدمات الأخرى. ان غزو روسيا لأوكرانيا قد يضر بمصالح أمريكا واوروبا أكثر من مصالح روسيا وسوف يعمق من ازمة كل النظام الرأسمالي. وهناك توقعات بان يدخل الاقتصاد العالمي في ازمة عميقة.
فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية يجب إيقاف العمليات العسكرية وانسحاب القوات الروسية بأسرع وقت وهذا سيتم من خلال تقديم الغرب او على الأقل اوكرانيا تعهدات بان تبقي دولة محايدة لا تسعى الى الدخول الى الناتو او وضع أسلحة الناتو على أراضيها او الحصول على الأسلحة النووية. يجب ان تصبح القضية الاوكرانية فرصة لفرض تراجع على الغرب لوقف توسع الناتو والتصعيد العسكري مع روسيا وانفاق المليارات على التسليح في وقت تمر الجماهير في الغرب نفسه بوضع معيشي صعب. لقد بدأت المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا ونتمنى ان تصل الى نتيجة وهو امر وارد جدا اذا توقف الغرب من الضغط على أوكرانيا.