مراحل تطوير التاريخ البشري


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7019 - 2021 / 9 / 14 - 22:42
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

كثيرا ما يركز علماء الدراسات التأريخية وكتاب التأريخ المتخصصين على أن التأريخ البشري مر بمراحل تطورية، أو بالأحرى أن المجتمعات البشرية التي تم دراستها قد مرت بمراحل تطورية بحكم قانون السياق العلمي لكل عصر أو مرحلة، فمنهم من أعتمد على عنصر الظاهرة التأريخية التي ميزت حياة البشر، بدأ من العصر لجليدي ثم العصر الحجري وتلاه العصر البرونزي وأخيرا العصر الحديدي، هذا التقسيم أعتمد على مفهوم القوة المادية المسيطرة على تنظيم حياة البشر أو لعبت دورا في أضفاء طابع مميز عليها، ولكل عصر أو مرحلة تأريخية شواهد أركيولوجية تؤرشف للمرحلة وتصبغ عليه ميزة منفردة، كما أن لكل عصر ملامح تختلف بينها على أساس علاقات العمل وطرق الأنتاج وطبيعة القيم الأجتماعية الحاكمة، حيث أدى تطوير أدوات العمل والأنتاج إلى تطور وتحسين النظام الغذائي للإنسان، الأمر الذي سمح بيولوجيا بتطوير عمل الدماغ وتضخم مادي في أكتساب المعرفة العقلية المباشرة وبالتجريب والتي من خلالها أُعيدت الكرّة بتطوير أدوات جديدة مهدت لتطور غير متناهي وإن كان بطيئا في أول الأمر، لكنه كان مستمرا وعلى تسارع وتعجيل محكوم بالحاجة وقوانينها.
يرى أخرون وهم من أنصار المدرسة المادية في التاريخ ان البشرية اجتازت سلسلة من المراحل التي يمكن تمييزها بوضوح على أساس سياق نمطي محدد، حيث تقوم كل مرحلة على نمط إنتاج محدد يعبر بدوره عن نفسه في نظام محدد للعلاقات الطبقية بدأ من نواة المجتمع الأسرة وصولا لمفهوم الدولة الكبرى، ويتجلى ذلك أيضا في نظرة اجتماعية محددة تنشأ نتيجة التناقض الجدلي المنبثق من طبيعة النسق الإنتاجي ذاته وحتمية لتغيير التأريخية، فنشأ التطور من داخل الحاجة لتلك الحتمية التي تخضع بدورها لمؤثرات ومحركات مادية تؤثر بشكل جبري في طبيعة وتركيب وعلاقات وقواعد المجتمع، لتنتج بعدها أشكالا محددة من السيكولوجيا والأخلاق والقوانين والدين لتتناغم مع الواقع التطوري والمتطور بلا توقف .
عند ماركس هناك تفريق مهم وهو أساسي لفهم طبيعة كل مرحلة تأريخية بقوانينها وسياقاته، التفريق يقوم على عنصر مادي فيما يضيفه على قدرة المجتمع أولا على التطور والتجديد وثانيا على قدرته في أشباع الحاجات والرغبات المتجددة والمتولدة، هنا يقسم ماركس التأريخ لمرحلتين او يميز تأريخ الإنسان بمرحلتين أساسيتين وفقا لمفهوم الأقتصاد المجتمعي، ونمط وطريقة تدخله في تأمين الحاجات تلك، فالأقتصاد الذي يعتمد على علاقات أجتماعية أساسها علاقات مثالية أو تعتمد على الروابط الأجتماعية فقط كالدين والسحر لا يمكنها أن تنتج تطورا ماديا منتجا لبواعث تطور في الحاجات أو تجديد في قيم العمل وسماها بمرحلة الأقتصاد السلبي.
هذه المرحلة يمكن وضعها في خانة الأيديولوجية البدائية التي سماها هراء والتي أنتهت وتضعضعت بمجرد أن خرج الإنسان من المعبد ومن تأثير السحرة والكهان نتيجة إنسداد تأريخي وقع فيه المجتمع عندما لم يعد هناك قدرة على البقاء في أطار تلك العلاقات الرأسية بين السيد والعبد، بين الكاهن والمؤمن وبين الساحر والناس، قد تكون أحد أسباب هذا الخروج هو الحاجة لأبتكار أدوات للسحرة أو للكهنة أو تلبية متطلبات تخصصية قادت بعض الناس للتخصص بها ليشكلوا أول طبقة من العمال والأجراء للغير، عندها بدأت إرهاصات مرحلة الأنتاج الإيجابي التي تطورت من تلبية الحاجات الخاصة إلى الإبداع لتأمين حاجات عامة (فائض أنتاج) تهم المجتمع وتساهم في قدرته على المزيد من الأنتاج.
نشوء طبقة العمال والأجراء الذين فرضت الأحوال الأجتماعية عليهم أن يكونوا طبقة مميزة لها خصائصها وعلاقاتها والتي كانت في الأول محدودة بنطاق الحاجات الضرورية للمجتمع، إلى نشوء طبقة جديدة هي خليط بين طبقة الكهنة والسحرة طالبي الحاجات أو أصحاب المتطلبات المنتجة لتتشكل منه الطبقة المتحكمة بطبقة العمال والأجراء وحتى العبيد والفلاحين، حيث كانوا كل هؤلاء لا يملكون وسائل أنتاج التي يملكها فقط في أول الأمر كهنة المعبد بشكل أساسي بأعتبار أن كل ما في المجتمع هو ملك الأرباب والآلهة وهي من توزع ذلك بين من تختار أو من يقدم لها الخدمات التعبدية أو يحارب من أجلها أو حتى من يدعي انه من سلالة الآلهة ليمارس وظيفتها في المجتمع، هذه الطبقة الجديدة حاولت أن تخضع كل المجتمع لقانونها ولقيمها التي سطرتها وأنتجتها في مرحلة تطورها والنشأة.
يقول الماديون الماركسيون أن تحول المجتمع بعلاقاته وروابطه من مرحلة الأيديولوجية البدائية إلى مرحلة الطبقية الأولى هي بداية التأريخ الإنساني التطوري الأساسي، لأن هذا التحول وإن كان بطيئا ومعقدا شكل أول تمايز حقيقي بين مرحلتي الأقتصاد السلبي والإيجابي الذي وسع من قدرة المجتمعات القديمة من أن تطور في وسائلها المادية وتحسن من فرص بقائها وتزيد من قدرتها على مواجهة الصراع مع قوى الطبيعة وقوانينها، لكنها ايضا ساهمت في نشأة صراع أخر صراع جانبي بين المنتجين (العمال والفلاحين وحتى الرعاة) مع مالكي وسائل الأنتاج، هذا الصراع الذي بد أولا مكبوتا بمزاعم عقيدية ودينية لينفجر في فترة لاحقة إلى صراع أكثرية وأقلية، صراع طبقي شديد الوطأة على المنتجين نتيجة غياب الأيديولوجية الموحدة قبال أتفاق شبه أفتراضي ومصلحي بين المالكين بمختلف أنحداراتهم السابقة .
فالصراع الطبقي عند الماركسيين صراع حتمي تفرضه السياقات القياسية للتاريخ أو ما يسمى الحتمية التأريخية التي تنتهي بأنتصار العمال والفلاحين على الطبقة المالكة التي ستجد نفسها في مواجهة غير متكافئة مع التطور، خاصة مع بروز ظاهرة تطور التعليم والتنظيم وبداية عصر لا يتماهى مع قوانين الملاك وقيم الملكية الفردية نتيجة التضخم في وسائل الأنتاج من جهة وتحكم العمال والفلاحين في توجيه وإدارة وسائل النتاج ليتحول المجتمع تدريجيا أو بالثورة إلى المجتمع الشيوعي القائم على مشاعية راس المال وتحوله من اداة صراع إلى وسيلة تؤمن فقط الحاجة للتطور المادي للمجتمع.
فلاسفة التأريخ من غير الماديين يميزون بين التأريخ بوصفه كم هائل من الفعل وردة الفعل بين الإنسان والإنسان الأخر، وبالتالي فهي نتاج حركة هذا الإنسان في المجتمع دون أسباب وعلل قياسية حتمية، بمعنى أن التاريخ ليس أكثر من فعل تلقائي تمليه وقائع ذات شان شخصي وإن تطورت وتمنذجت وتضخمت لتبدو في النهايات أنها محكومة بحتمية قياسية، وهناك من يدعي أن التأريخ ليس أكثر من فرص تتهيأ بدون موعد أو حتى بدون أسباب لتحول لحظة ما إلى نقطة تاريخية دالة، فأكتشاف النار مثلا بالرغم من حدوث أسبابه الفعلية مرات عديدة قبل ان يلتفت اليه في لحظة غير موعودة، سجل لحظة تاريخية وعلامة بارزه في حياة الإنسان، تماما كما حدث مع نيوتن وأكتشاف قانون الجاذبية، فالتاريخ من هذه الوجهة مجرد تجميع لأبرز الفرص التي أقتنصها الإنسان ليغير من مفاهيمه وتفكيره السابق، بمعنى ان عنصر المعرفة لعب دورا مهما في تأسيس جوهرية التأريخ وليس بالضرورة أن يكون محكوما بعلل وأسباب.
هناك ميل تاريخي عند البعض من المؤرخين ومتفلسفي التأريخ يعزون النظرية التأريخية لأسباب جنسية أصلها بيولوجي، عندما عاشت البشرية تأريخها الأول على شكل مجاميع من الأفراد في كهوف ومغارات، كان مفهوم الأسرة لم يتبلور بعد، ولم تكن هناك قوانين لتكوين الأسرة أو الزواج، كانت القوانين السائدة مماثلة تماما لما يعرف بقوانين القطيع عند الحيوانات، كانت الغلبة في الحصول على الإناث لمبدأ القوة الجسمانية وحدها، وكانت العلاقات الناشئة بين الذكور والإناث وقتية بحدود الرغبة الجنسية ليعود كل منهم للقطيع، في الوقت الذي بدأ الأقوياء بجمع الإناث الأكثر تميزا ومحاولة الأستحواذ بدوافع الأنانية الفردية وحب التملك، نشأن عندها الصورة الأولى البدائية للعائلة أو الأسرة الخاصة، من هذه النقطة وتطوراتها وصراع القوة على الأستحواذ نشأت الملكية ونشات السلطة الأولى ونشأت علاقات أجتماعية قائمة على التملك الغريزي عند الذكور وأحتمال عند الإناث أيضا، بتأسيس العائلة ومحاولة التفرد والأستقرار عبر حماية هذه العائلة من غزوات الأخرين، أو منع السلب وتأمين موارد وحاجات اكثر لمواجهة أي طار تمظهر مفهوم المجتمع والتعاون على تأسيس نظام أجتماعي سار في منهجه متطورا مع الإحساس الدائم عند رب الأسرة من أنه قد يكون معرضا ومهددا بقلق دائم من نوايا الأخرين، فأسس الكثير من مظاهر السلطة وشرع القوانين وتعلم أن يسد حاجاته بنفسه أو عن طريق الأستعانة بالغير في مبادلة للمنافع بينهما لتأمين هذا القلق** .
لا يمكننا في هذه المقدمة التفسيرية المختصرة التي تمهد لموضوع الكتاب الأساسي أن نأت على كل النظريات والفلسفات والرؤى المعرفية حول مراحل التأريخ البشري، او شرح التصنيفات العلمية لمراحل التطور في حياة الإنسان، إنما قدمنا أمثلة تبين للقارئ أن الإنسان ومع كل هذا التطور المعرفي ما زال يجهل الكثير من الزوايا التأريخية، وقد يبني رؤيته على أساس ما رأى أو يتيقن من أن ما يعتقده هو جزء من الحقيقة التأريخية، لذا فحتى مفهوم التأريخ كمعرفة لم نتفق عليه بشكل أساسي أو معياري، وحتى ذلك الحين علينا أن لا نسلم بوجهة نظر على انها شبه الحقيقة الخالدة ما لم تكتسب مشروعيتها العلمية من المنطق العقلي الذي يمنحها لوحده سلامة النتائج.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*يقول ماركس في شرح هذه النظرية تحديدا ((أما فيما يتعلق بعوالم الأيديولوجية التي ما تزال ترتفع عاليا في الهواء، والدين والفلسفة وما إلى ذلك، فإن لها أصل في ما قبل التاريخ، وقد وُجدت بالفعل وتم الاستيلاء عليها في الحقبة التاريخية، فيجب أن نسميها اليوم هراء. هذه المفاهيم المتنوعة الخاطئة عن الطبيعة، وعن كينونة الإنسان، وعن الأرواح، والقوى السحرية، وما إلى ذلك، لا تقوم في معظمها إلا على أساس اقتصادي سلبي؛ لكن التطور الاقتصادي المتدني في فترة ما قبل التاريخ كانت مكملة ومشروطة جزئيا، بل وناتجة عن التصورات الخاطئة عن الطبيعة. ورغم أن الضرورة الاقتصادية كانت هي القوة الدافعة الرئيسية لتطور المعرفة بالطبيعة، فإنه سيكون من الخطأ أن نحاول إيجاد الأسباب الاقتصادية لكل ذلك الهراء البدائي)).
** . فلسفة التأريخ _ موسوعة ستنافورد للفلفة _ ترجمة طريف السليطي.(أن ندرك أهمية التحليل المعمق للبيئة الاجتماعية والطبيعية اللتان تؤطران خيارات الفاعلين. أما تصورنا عن مسار السلوك البشري فلا بد وأن يخلص إلى الصيرورة التاريخية وأن يأخذ بالاعتبار البيئة المؤسساتية والظرفيات المتغيرة التي وقع فيها الحَدَث. إن جانباً من فهم منعرجات المراحل التاريخية وتغيراتها يعتمد على طبيعة المؤسسات الموجودة في نفس الحقبة، وكذلك علاقات المِلكِية، والمؤسسات السياسية، والبُنى الأُسريَّة، والنشاطات التعليمية، بالإضافة للقيم الدينية والأخلاقية).