محمد الإنسان والزوج ج2


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 6780 - 2021 / 1 / 6 - 00:56
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

لم تنتهي الإساءة عند هذا الحد من الأنتقاد والعبث بل ظل هم الكثير من المؤرخين والرواة المزيد من الإساءة والتشويه لمرامي في الغالب منها سياسية وعقديه أحيانا، لينالوا من خلاله الإساءة إلى النبي محمد وإلى الإسلام الثورة والتغيير من خلال الدس والتشويه وأختلاق الروايات والأحاديث الكثيرة ونسبتها للسيدة عائشة بما فيها من إنحرافات وأخبار كاذبة وأحيانا حتى تتعارض مع نصوص وأحكام الإسلام، فضلا عن معارضتها للعقل والمنطق والعرف الأجتماعي السائد في فترة النبوة، ويمكن للجميع أن يرى ويلتمس هذا المنهج المزيف في بطون وروايات الصحاح والمسانيد وكتب الحديث عند كل المسلمين، فمن يروي تلك الأحاديث والقصص أما مدفوعا بأثر النزاع الفكري والسياسي الذي نشأ بعد عهد طويل من حياة النبي والسيدة عائشة أو تحت عناوين مذهبية أملتها دواعي التنافس والتنازع بين المسلمين أنفسهم.



3. محمد السيدة زينب.
قصة أخرى من قصص المؤرخين والرواة أشبعوها خيالا وتشويها وتزييفا، حينما أوردوا وقائعها وكأن النبي محمد أرتكب الآثم والخطيئة وهو يعلم أو لا يعلم، القصة في مجملها مما أشاعه أولئك الرواة أن محمدا كان في طلب أبنه بالتبني زيدا فمر بداره فرأى زوجته زينب بنت جحش وهي في غاية الجمال والروعة، فوقع في نفسه ما وقع، ولما علم زيد بذلك طلب من أبيه أن يتركها له ويطلقها، فتظاهر النبي بعدم القبول وقال له أمسك عليك زوجك، ولكن ما في قلب النبي غير ما في لسانه حتى جاء بأية التزويج من ربه، فطلقها من أبنه ليتزوجها هو دون أن يأخذ في أسباب التحريم والتحليل التي جاء بها بنفسه في أحكام الدين.
هذه الرواية التي أشيعت عند من كانوا على خلاف وكره معه ومع الإسلام كدين، أما عند غالبية الرواة المسلمين ففيها تلطيف وتحسين حيث أراد الله أن يثبت للناس عدم ممانعة وعدم حرمة التزوج بمطلقات الأبناء بالتبني، بعدما أبطل الله مفهوم التبني ورد الأبناء لأباءهم جرى ما جرى بين زيد وزوجته والنبي محمد، ليكون مثالا عمليا لما يجب أن يتحول له الناس من إيمان بالنسب الحقيقي والبناء عليه في موضوع التحليل والتحريم *.
لو عدنا إلى قواعد الدين الجديد والذي تميز بكونه موضوعيا وزمنيا من ناحية التشريع، فهو لم يكن كما يظن الكثير بأنه مجموعة متكاملة من الأحكام المسبقة والمؤطرة بوحدة موضوعية قبل إتمام نوله، فقد راعى في التشريع ضمن الرؤية الكلية موضوعية التدرج والمناسبة بين ما هو صالح وما هو أصلح فضلا عن كونه راعى في التنزيل التدرج في بناء أحكامه وفقا للتجربة الحياتية المعايشة، فقد كان من العرف التقليدي الأجتماعي عند العرب مسألة التبني بأعتبارها عقدا بين طرفين يهدف إلى بناء علاقة أسرية وأجتماعية له حدودها ومفهومها المقبول، ولكن عندما جاء التحديد لاحقا بعدة نصوص منها (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) ثم جاء النص الأخر (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ۚ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ) الأحزاب (5)، ثم عززت هذه النصوص بحكم أخر هو (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً") أنهى بذلك الحكم الأجتماعي بحكم ديني متوافق في وحدته ومراع للواقع الجديد ليكون الحكم النهائي في التحريم فيما يخص الأبناء والأبناء مبني على القاعدة العلمية والمنطقية والواقعية وتحديده فقط في الأبناء من الأصلاب (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ ... وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ ) النساء(23).
هذا التدرج في وضع الأمور في نصابها أخرج زيدا من مفهوم الأبن ومحمد من مفهوم الأب الشرعي وبالتالي أصبحت العلاقة بينهما كما أي علاقة بين فردين من المجتمع لا تربط بينهما سوى رابطة الإنسان، هنا ومع ما عرف ونأكد منه وصرح به من أن هناك أختلاف وعدم تفاهم وإنسجام وتشكي من قبل طرفي العلاقة زيد وزينب نتيجة العلاقة الزوجية، وبالرغم من نصبحة النبي لزيد من أن يمسك عليه زوجه ويحاول أن يمضي في بناء علاقة سليمة، لكن الأمور كانت تجري نحو الأنفصال المؤكد ولأسباب عديدة أنتهت بالانفصال الفعلي بينهما وفقا لمراسيم الشريعة والدين.
الرواية المدسوسة والتي أعتمدت رسميا وشاعت بين أواسط المسلمين ومن بعدها تضخمت ونقلت إلى خارج الواقع الإسلامي، ترتكز في طعنها على أمرين في نص التزويج وهما كلمتي (تخفي وتخشى) وكأن النبي محمد كان يخفي حبه المسبق للسيدة زينب ويخشى أن يتعرض للكلام من الناس إن أباح بذلك، والحقيقة ومن خلال قراءة النص (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ۖ)، والإخفاء هنا ليس وردا عن رغبته هو ولكن عن مصارحة زيد في الحقيقة من أن لا إمكانية للاستمرار في الزوجية مع السيدة زينب بدليل سبق الجملة بجملة نصيحة أراد بها تغطية ما كان وجوبا أن يخبر بها الزوج (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ)، هنا السر في معنى الإخفاء بأن الله سيبدي هذا الامر برغم من خشيتك وخيفتك يا محمد وسيتحقق أمر الإنفصال وهو ما كان يعلم به محمد مسبقا عن ربه ويخشى من وقوعه، لذا قال النص (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ۖ)، فالتوجيه هنا كان للنبي محمد أن يصارحهما ويصارح المجتمع بما سيكون عليه الحال في أنتهاء العلاقة بين الزوجين وهو واقع لا محال فيه، لذا فالأمر لا يتعلق برغبة محمد الشخصية كما تزعم الرواية من أنه كان يضمر حبا دفينا لزينب ويخاف ويخشى أن يبوح به لأعتبارات متوارثة كونه كان متبنيا لزيد وهو مثل أبيه وهكذا.
أما أمر التزويج اللاحق لم يكن كما يتصور البعض نتيجة رسوخ الرواية التاريخية المترسبة في الذهن عند الكثيرين من أن محمدا تزوج السيدة زينب مباشرة بعد أن طلق زيدا زوجته، فليس لنبي وهو الخاضع بالكلية لأحكام النص الديني في الحلال والحرام أن يخرق هذه القواعد، فقد أنقضت عدتها من هذا الطلاق وأصبحت حرة كما باقي النساء يصلح له التزوج بها أو بغيرها جاء النص ليؤكد حلية الزواج وإن كان البعض يرجع في أمر الإخفاء والخشية إلى هذه النقطة وإن كانت صحيحة فهي من الأوامر والأمور التي يحسب لها أي عاقل حساب طالما أن هناك لبسا ولغطا في الموضوع، فكان النص مشجعا وفاتحا لطريق جديد ليس لمحمد فقط ولكن لكل من أرتبط بحالة تبني قد تكون مشابه لهذه الحالة.
من هنا فتفكيك القضية وإعادتها للحكم الشرعي وإخراجها من الحكم العرفي والأجتماعي التقليدي هو جزء من بيان الحكم العام ليكون دليلا للناس وأمرا مسلما به كونه جاء من أعلى مصدر ديني، وسيحظى بالقبول والموافقة من الناس أفضل وأكثر أستحسانا لو جاء من أحد من العامة أو من باقي المسلمين وإن شجعه أو أثنى عليه النبي بأنه أمر شرعي صحيح لا غبار عليه، ومن هنا فالتحولات الكبرى بأشكال العلاقات بين الناس تكون أكثر قوة وأجدر بالأتباع إن جرت بنفس طريقة زواج النبي محمد من السيدة زينب بنت جحش، خاصة وأنها ترتبط معه برابطة النسب والقربى والموالاة وهو من زوجها أصلا لزيد وأنعم بها عليه نزولا عند ضرورة رفع الحواجز الأجتماعية القبلية بين أفراد المجتمع، وهنا تحديدا نظرة الناس لزيد المولى والسيدة زينب أبنة عمة الرسول ومن بيوتات سادات قريش، وكلا الدرسين ينضويان تحت باب التعليم والتهذيب ونشر ثقافة أنكم مجتمع المسلمين سواسية عند الله وأكرمكم عند الله أتقاكم.


4. محمد وتعدد الزوجات.
تزوج الرسول في حياته البالغة تقريبا ثلاث وستون عاما أحد عشر مره، ابتدأها مع السيدة خديجة وهي الأطول والأكثر أستقرارا، إذ بلغت حوالي ربع قرن من عام 28 قبل عام الإخراج من مكة أو ما يعرف لاحقا بالهجرة وحتى قبل ثلاث سنوات منها، أثمرت هذه الزيجة عدد لا يتفق عليه المؤرخون ولكن الغالب هما فاطمة بنت محمد والقاسم وعبد الله ومنهم من قال زينب ورقية وأم كلثوم، في هذه الفترة لم يتزوج النبي محمد أخرى ولم يكن راغبا أو حريصا على التعدد، حتى جاء عام الأحزان وأنتقال السيدة الأولى إلى جوار ربها فحلت بعد فترة الزوجة الثانية السيدة سوده بنت زمعه وهي من أوائل المسلمات ومن أكثرهن تضحية وكانت أرملة لشخصية قيادية في دعوة محمد ومن المسلمين الأوائل.
وكان أمر تزوجها إكراما لها ولتضحياتها وصبرها بالرغم من أنها لم تكن غنية ولا حتى من النساء التي يسعى الرجال ورائها، وقد أستمرت العلاقة الزوجية المنفردة والأحادية معها لمدة خمس سنوات حتى جاءت الزوجة الثالثة والتي قبل عنها ما قيل كما مفصل في ما مضى السيدة عائشة بنت أبي بكر الصديق عام 3 للهجرة وكان الزواج منها في المدينة.
أما الزيجات الثمان التي أعقبت زواجه من السيدة عائشة فهي حدثت تحديدا في الأعوام 3 هجرية وهما الزواج من السيدة حفصة بنت عمر بن الخطاب وزينب بنت خزيمة والتي توفيت في نفس العام أو الذي بعده ولم تمكث معه إلا أياما، وفي العام التالي زواجه من السيدة أم سلمة وزينب بنت جحش على أظهر الأقوال، وشهد العام السابع للهجرة أربع زيجات من مارية القبطية وأم حبيبة والسيدة صفية بنت حي والسيدة ميمونة بنت الحارث، لم تثمر أي علاقة زوجية عن أي نسل لمحمد سوى إبراهيم من السيدة ماريا القبطية لم يبقى طويلا ومات وهو رضيع أو طفل، العبرة في هذا التعدد كما يرى البعض من شراح العقيدة ليس تجاوزا على النص الشرعي الذي حدد للمسلم أربعة أزواج كما هو الشائع عندنا ولكنه تطبيقا لمفهوم وجوهر التعدد الوارد في الآية والنص التالي (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ).
فالنص هنا مشروط بحالة تخصيصا وتنصيصا وهي حالة اليتامى من الإماء، فالنهي عنهن وعن أستحقاق حقوقهن ولا يسري على غيرهن من أصناف النساء، هذا أولا وثانيا الواو الواردة في التعدد تفيد الجمع بمعنى يحق لكم الزواج بأثنين وثلاثة وأربع ويكون المجموع تسع من غير اليتيمات تحديدا بشرط العدالة، فكان جمع محمد النبي لتسع أزواج مجتمعات تطبيقا للنص مع تحقق العدل بينهن، فمن يكون أعدل في الوجود منه وهو الذي سعى إرساء نظام العدل المطلق والحارس عليه، وهو الحال لم يتمكن أحد من بعده من تحقيق الشرط الأساس في الإباحة التسعوية غيره، وهذا يفسر عدم إقدام أي مسلم للتعدد ما فوق الأربعة لمحالة تحقيق الشرط وإن كانت المثنى وما بعدها تفتقد في الكثير من الأحيان لتطبيق الشرط اللازم.
فلم يخرق النبي محمد قاعدة دينية وهو من سعى لتطبيقها، ولا أستثنى نفسه من نص بدون علة وحجة، ولا هي رخصة له دون غيره حظي بها من ربه، ولكن في جميع الأحوال أراد وبالدليل العملي شرح قواعد الدين وطرق تطبيقها على الوجه الذي لا يمكن لأحد غيره من شرحها وفعلها وتطبيقها، وهو القسم العملي من الأحكام الشرعية التي جاء بها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* قال ابن كثير:وقوله : ( لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ) أي : إنما أبحنا لك تزويجها وفعلنا ذلك : لئلا يبقى حرج على المؤمنين في تزويج مطلقات الأدعياء [أي : الأبناء من التبني] ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قبل النبوة قد تبنى زيد بن حارثة ، فكان يقال له : " زيد بن محمد " ، فلما قطع الله هذه النسبة بقوله تعالى : (وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ) ، ثم زاد ذلك بياناً وتأكيداً بوقوع تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش لما طلقها زيد بن حارثة ؛ ولهذا قال في آية التحريم : ( وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُم ) النساء/ 23 ؛ ليحترز من الابن الدَّعِي ؛ فإن ذلك كان كثيراً فيهم .
وأوضح منه فيما نريده ما قاله الطاهر بن عاشور رحمه الله حيث قال :
وأشار إلى حكمة هذا التزويج في إقامة الشريعة ، وهي إبطال الحرج الذي كان يتحرجه أهل الجاهلية من أن يتزوج الرجل زوجة دَعِيِّه ، فلما أبطله الله بالقول إذ قال : (وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكَمْ أَبْنَاءَكَم) الأحزاب/ 4 : أكَّد إبطاله بالفعل ؛ حتى لا يبقى أدنى أثر من الحرج أن يقول قائل : " إن ذاك وإن صار حلالاً فينبغي التنزه عنه لأهل الكمال " ، فاحتيط لانتفاء ذلك بإيقاع التزوج بامرأة الدعيّ من أفضل الناس وهو النبي صلى الله عليه وسلم .