رأس المال: الفصل الثاني والعشرون (80)


كارل ماركس
الحوار المتمدن - العدد: 6754 - 2020 / 12 / 7 - 09:41
المحور: الارشيف الماركسي     



تحول فائض القيمة إلى رأسمال
3) تقسیم فائض القيمة إلى رأسمال وإيراد، نظرية التقشف

عالجنا في الفصل السابق، فائض القيمة وبالتالي المنتوج الفائض باعتباره رصيداً للاستهلاك الفردي للرأسمالي فقط. أما في هذا الفصل، فقد عالجناه، حتى الآن، کرصيد للتراكم وحسب. الواقع أنه لا هذا ولا ذاك، بل هو الاثنان معا. فثمة جزء من فائض القيمة يستهلكه الرأسمالي كإيراد(1)، وثمة جزء آخر يستخدمه كرأسمال، أي يخصصه للتراكم.

وإذا كانت كتلة فائض القيمة محددة، فإن أحد الجزأين يكون أكبر، كلما كان الجزء الآخر أصغر. وعلى افتراض بقاء جميع الظروف الأخرى على حالها؛ فإن التناسب بين هذين الجزأين يحدد مقدار التراكم. إلا أن مالك فائض القيمة، أي الرأسمالي، هو وحده الذي يتولى هذا التقسيم. فذلك فعل مرهون بإرادته. إن ذلك الجزء من الجزية المنتزعة، الذي يراكمه، هو ما يقال بأنه قد ادّخره، لأنه لم يلتهمه، أي لأنه يؤدي وظيفته بوصفه رأسمالياً، وظيفته في إثراء نفسه.

وليس للرأسمالي أيما قيمة تاريخية، أو أيما حق في هذا الوجود التاريخي الذي “لا موعد تاریخي ليس له”(*) حسب تعبير لبخنوفسكي الطريق، عدا عن كونه رأسمالا في إهاب بشر. وبهذا المعنى فقط فإن ضرورة وجوده العابر، تكمن في الضرورة العابرة لنمط الإنتاج الرأسمالي وبما أنه رأسمال في إهاب بشر، فالغاية التي تحفز أفعاله ليست القيمة الاستعمالية والتمتع، بل القيمة التبادلية وإنماؤها. إنه، وهو النزاع المتعصب إلى إنماء القيمة، برغم الجنس البشري ومن دون أي رادع، على الإنتاج لأجل الإنتاج، فيفرض بذلك تطوير القوى المنتجة في المجتمع، وخلق تلك الشروط المادية للإنتاج، التي بها وحدها تتشكل القاعدة الحقيقية لشكل أرقى من المجتمع، يكون مبدأه الأول التطور الشامل الحر لجميع أفراده. وليس الرأسمالي محترماً إلا لأنه رأسمال بإهاب بشر. وبهذه الصفة، يشاطر المكتنز حبه المطلق للإثراء. ولكن ما يظهر عند المكتنز کھوس في المزاج الفردي، يظهر عند الرأسمالي كفعل لآلية اجتماعية، ليس هو إلا واحدة من تروسها . زد على ذلك، أن نمو الإنتاج الرأسمالي يحتم، دوما، المضي في زيادة مقدار رأس المال الموظف في أي مشروع صناعي، أما المنافسة فتجعل كل رأسمالي مفرد خاضعة للقوانين الكامنة في نمط الإنتاج الرأسمالي كقوانين قسرية مفروضة من الخارج. فهي ترغمه على توسيع رأسماله باطراد، بغية الحفاظ عليه، لكن توسيع رأسماله متعذر بغیر تراكم تصاعدي.

إذن، بحدود ما تكون حرکات وسکنات الرأسمالي مجرد وظيفة لرأس المال الذي حُبْيَ في شخص الرأسمالي، بالوعي والإرادة – فإنه يرى في استهلاكه الشخصي تطاولا لصوصياً على التراكم، تماما مثلما تقتضي أصول المحاسبة الإيطالية أن يسجل الرأسمالي إنفاقه الشخصي في دفتر الحسابات في حقل ديون على الرأسمالي لحساب رأسماله. إن القيام بالتراكم، يعني غزو عالم الثروة الاجتماعية. فهو يزيد كتلة المادة البشرية المستغلة، فيوسع بذلك سطوة الرأسمالي، المباشرة وغير المباشرة (2).
بيد أن الخطيئة الأصلية ترتكب في كل مكان. فمع تطور النمط الرأسمالي للإنتاج والتراكم والثروة يكف الرأسمالي عن أن يكون مجرد تجسيد لرأس المال. فيتملكه “عطف بشري”(**) على آدم الذي يسكن جسده، ويبلغ من الثقافة مستوى يدفعه إلى أن يهزأ بحمى التقشف التنسّكي، باعتباره هوس المكتنزين الذي فات أوانه. على حين كان كل رأسمالي من الطراز الكلاسيكي يصم الاستهلاك الشخصي بأنه خطيئة وخروج على الواجب و «امتناع» (تقشف Enthaltung) عن التراكم، فإن الرأسمالي الحديث يرى في التراكم «زهدا» (Entsagung) في اللذة. و«آسفاه! ثمة روحان تسكنان [تصطرعان] في قلبه، وكل واحدة تنزع إلى الافتراق عن الأخرى»(***).

في الأيام الأولى من تاريخ نمط الإنتاج الرأسمالي – ولا بد لكل مستجد (Parveni) رأسمالي من أن يمر، شخصياً، بهذه المرحلة التاريخية – تهيمن حمى الإثراء والجشع کھوس مطلق. بيد أن تقدم الإنتاج الرأسمالي لا يخلق عالماً جديداً من المسرات فحسب، بل يفتح، مع تطور المضاربة ونظام الائتمان، ألف باب للإثراء السريع. وعند بلوغ درجة معينة من التطور، ينشأ عُرف يفرض على الرأسمالي و”المنكود” قدراً من الإسراف، وهو نوع من التباهي بعرض الثروة، وبالتالي وسيلة للحصول على القروض، بل يغدو ضرورة من ضرورات الأعمال. ويدخل البذخ المترف في باب مصاريف تمثيل رأس المال. زد على ذلك، أن الرأسمالي، على خلاف المكتنز، لا يثرى بمقدار ما يبذل من عمله هو وبمقدار ما يتقشف في استهلاكه الشخصي، بل بمقدار ما يعتصر من قوة عمل الغير، وبمقدار ما يرغم العمال على الزهد في كل متع الحياة. إلا أن إسراف الرأسمالي لا يتّصف قط بطابع حسن النية (bona fide) الذي يلازم إسراف السيد الاقطاعي المنفلت، بل يتصف بأحط أنواع الجشع وأكثر الحسابات حرصاً. ومع ذلك فإن إسراف الرأسمالي ينمو بنمو تراكمه، دون أن يعرقل هذا الأخير البتة. وبموازاة هذا النمو، يعتمل في روح الفرد الرأسمالي النبيلة صراع فاوستي بين الرغبة الشديدة في التراكم، والتوق إلى المتعة.

ويقول الدكتور أيكن، في مؤلف له نشر عام 1795: ينقسم تاريخ الصناعة في مانشستر إلى أربع مراحل. في الأولى كان الصناعيون مرغمين على العمل بدأب لتأمين عيشهم. وقد أصابوا الثراء، أساسا، بنهب الآباء الذين أعطوهم أطفالهم بصفة صبيان متمرنين (apprentices) مقابل أتاوة ترهق الآباء، في حين يتضور المتمرنون جوعا. من ناحية أخرى كان متوسط الربح منخفضاً فتطلب التراكم تقتيراً كبيراً. لقد عاش الصناعيون عيشة المكتنزين، وكانوا لا يستهلكون حتى ما يعادل الفائدة المئوية من رأسمالهم.

«في المرحلة الثانية، أخذ الصناعيون يجنون ثروات صغيرة، ولكنهم ظلوا يعملون بمثابرة كالسابق – لأن الاستغلال المباشر للعمل يقتضي هو نفسه عملا، مثلما يعرف كل ناظر عبيد – وعاشوا على نحو بسيط، كالسابق … وفي المرحلة الثالثة انطلق عنان البذخ، وجرى توسيع المؤسسات الصناعية بإرسال وكلاء (جوالين على ظهور الخيل Commis voyageurs) بحثا عن الطلبات في كل مدن الأسواق بالمملكة. وعلى الأرجح أن رؤوس الأموال البالغة 3 أو 4 آلاف جنيه استرليني، والمكتسبة في الصناعة، لم يكن لها وجود قبل عام 1690، أو أنها كانت قليلة جدا. ولكن ابتداء من هذا التاريخ على وجه التقريب أو بعده بفترة وجيزة، تراكمت لدى الصناعيين وفرة من المال، وشرعوا في إشادة منازل حديثة من الأجر عوضا عن بيوت الخشب والطين … وحتى في العقود الأولى من القرن الثامن عشر كان أي صناعي من مانشستر يتعرض لانتقادات واستهجان جيرانه إذا قدم لضيوفه قدحاً من خمرة أجنبية».

وقبل ظهور الإنتاج القائم على الآلات كان الصناعي لا ينفق في سهرته، في الحانة، حيث يلتقي أقرانه، أكثر من 6 بنسات لكأس من الشراب، وبنس واحد ثمن علبة تبغ. ولم يشهد أحد «صناعياً في عربة خاصة!»، إلا بحلول عام 1758، وهذا يشكل عهدة بحاله. «المرحلة الرابعة»، أي الثلث الأخير من القرن الثامن عشر، تتسم بالإنفاق والبذخ إلى حد كبير، مدعومين بتوسع الصناعة(3). ترى ماذا يقول أيكن الطيب لو نهض من قبره ورأى مانشستر اليوم؟

راكموا، راکموا! هذا هو موسى والأنبياء! (*4)«الصناعة تقدم المادة التي يراكمها الادّخار» (4). إذن، فادخروا، أدخروا، نعني حولوا أعظم شطر ممكن من فائض القيمة أو المنتوج الفائض إلى رأسمال من جديد! التراكم لأجل التراكم، الإنتاج لأجل الإنتاج:

بهذه الصيغة عبّر الاقتصاد السياسي الكلاسيكي عن المهمة التاريخية للحقبة البورجوازية من دون أن يخدع نفسه، لحظة واحدة، حول آلام مخاض ولادة الثروة(5). فما جدوى النواح حول الضرورة التاريخية؟ فإذا كان البروليتاري، بنظر الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، مجرد آلة لإنتاج فائض القيمة، فإن الرأسمالي، في نظره، ليس سوى آلة لتحويل فائض القيمة هذا إلى رأسمال إضافي. فالاقتصاد السياسي الكلاسيكي يأخذ الوظيفة التاريخية للرأسمالي مأخذ الجد حقاً. ولكي يعطيه تعويذة تنتزع من صدره النزاع المرير بين الرغبة في التمتع بالأطايب والركض وراء الإثراء، دافع مالتوس، في مطلع العشرينات من قرننا، عن نوع خاص من تقسيم العمل يسند وظيفة التراكم إلى الرأسمالي المنخرط في الإنتاج فعلا، ويسند مهمة الإسراف إلى بقية الشركاء في اقتسام فائض القيمة، من الأرستقراطية العقارية، والمنتفعين من الدولة والكنيسة، وإضرابهم. ويقول مالتوس بهذا الصدد إن من الأهمية بمكان «فصل حمية الإنفاق عن حمية التراكم» (the passion for expenditure and the passion for accumulation) (6). أما السادة الرأسماليون، وقد تحولوا من زمان إلى مسرفين ودنیویین، فقد أطلقوا صيحات الاستهجان. واعترض أحد الناطقين بلسانهم، وهو من أتباع ریکاردو، قائلا إن السيد مالتوس يعظ بزيادة الريع وزيادة الضرائب، وما إلى ذلك، حتى يستطيع المستهلكون غير المنتجين أن ينخسوا بالمهماز ظهور الصناعيين! حقا إن الإنتاج، بل والإنتاج على نطاق متسع، دائما وأبدا، هو شعارنا، ولكن
«وضع كهذا سيعيق الإنتاج بدل أن يحفزه. فليس من الانصاف تماما (nor is it quite fair) أن ندع عددا من الناس يعيشون في خمول وراحة، لمجرد أن نحفز غيرهم ممن يرجح، كما يبدو من طباعهم (who are likely, from their characters)، أن يعملوا بنجاح فيما لو استطعنا ارغامهم على العمل (7). ومع أن هذا الكاتب يرى أن ليس من الانصاف حفز الرأسمالي الصناعي على التراكم بسرقة السمن من حسائه، فإنه يؤمن بضرورة تقليص أجور العامل إلى أدنى حد «بغية الإبقاء على مثابرته». كما أنه لا يخفي، للحظة واحدة، حقيقة أن تملك العمل غير مدفوع الأجر هو سر كسب المغانم.

«إن تزايد الطلب من جانب العمال، لا يعني أكثر من استعدادهم لأن يأخذوا حصة أقل من منتوجهم هم، وترك حصة أكبر من هذا المنتوج لأرباب عملهم، وإذا ما قيل إن ذلك يولد فيضة «glut» (فيضاً في السوق وفي الإنتاج) بسبب انخفاض الاستهلاك (من جانب العمال) فجوابي الوحيد أن الفيض (glut) هو المرادف للأرباح الكبيرة» (8).

إن هذا الجدال الفكري حول سبل توزيع الغنيمة المعتصرة من العامل، بين الرأسمالي الصناعي، والمالك العقاري الخامل، بما يخدم التراكم على خير وجه، إن هذا الجدال قد همد باندلاع ثورة تموز/ يوليو. فبعد فترة وجيزة أطلقت بروليتاريا مدينة ليون نفير الهجوم، وشرعت بروليتاريا الريف في إنكلترا بإضرام النيران في الحقول وأهراء الحبوب. وأخذ مذهب أوين ينتشر على هذا الجانب من المانش، فيما انتشر مذهب سان – سیمون وفورييه على الجانب الآخر. لقد دقت ساعة الاقتصاد السياسي المبتذل. فأعلن ناساو و. سنيور، قبل عام من اكتشافه في مانشستر بان ربح رأس المال (بما في ذلك الفائدة المئوية) هو نتاج الساعة الأخيرة، غير المدفوعة من الإثنتي عشرة ساعة عمله، أعلن للعالم اكتشافا آخر يقول فيه بافتخار: إنني استعيض عن اصطلاح رأس المال، باعتباره أداة إنتاج، باصطلاح: التقشف Abstinenz (أي بالألمانية Enhaltung) (9). إنه لنموذج لا يباری من نماذج “اكتشافات” الاقتصاد السياسي المبتذل أن يستعيض عن مقولة اقتصادية، بعبارة مديح ذاتي متملق وهذا كل ما في الأمر (Voila tout). ويقول سنيور “حين يصنع البدائي أقواساً، فهو يقوم بصناعة، لكنه لا يمارس تقشفاً”. وهذا يفسر لنا كيف ولماذا كانت وسائل العمل، في المجتمعات الغابرة، تُصنع «دونما حاجة إلى تقشف» الرأسمالي. ولكن كلما تقدم المجتمع أكثر، زادت الحاجة إلى التقشف (10) وخصوصا عند أولئك الذين يقتصر عملهم على امتلاك عمل الغير ومنتوجه. إن جميع الشروط اللازمة لعملية العمل تتحول فجأة إلى عدد مناسب من ممارسات التقشف [الزهد] عند الرأسمالي. فإذا لم يؤكل القمح وحسب، بل وزرع أيضا. قيل إنه زهد الرأسمالي! وإذا اقتضى النبيذ وقتا للتعتيق – تقشف [زهد] الرأسمالي أيضا (11). إن الرأسمالي يسرق آدمه، أي نفسه كلما «أعار (!) أدوات الإنتاج للعامل»، يقصد كلما دمج قوة العمل بهذه الأدوات، مستخدماً إياها كرأسمال، عوضا عن أن يأكل هذه الأدوات من محرکات بخارية، وقطن، وسكك حديد، وأسمدة، وخيول الجر، وما شاكل ذلك، أو كما يقول الاقتصادي المبتذل بسذاجة طفولية: عوضا عن تبديد “قيمة هذه الأدوات” على مواد الترف وغيرها من وسائل الاستهلاك (12). أما كيف يحقق الرأسماليون، كطبقة، هذه المأثرة، فذلك سر يحجم الاقتصاد السياسي المبتذل بإصرار عن الخوض فيه. يكفيه أن العالم لا يعيش إلا بفضل هذا العقاب الذاتي، الذي يقوم به الرأسمالي، هذا التائب المعاصر أمام الإله فيشنو. فليس التراكم وحده، بل مجرد “الحفاظ على رأس المال يقتضي جهدا متصلاً لمقاومة مغريات استهلاكه”(13). وعليه فمن البديهي أن أبسط مبادئ الإنسانية تقتضي إنقاذ الرأسمالي من هذه التضحية بالنفس وتخليصه من هذه المغريات، على نحو ما أنقذ الغاء العبودية مالك العبيد في جورجيا مؤخراً، من حيرته المضنية إزاء تحويل كل المنتوج الفائض، المنتزع من الزنوج الأرقاء بالسياط، إما إلى شمبانيا، أو تحويل بعضه إلى مزيد من الزنوج والأرض.

وفي أشد التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية تبايناً، لا يجري تجديد الإنتاج البسيط وحسب، بل أيضا تجديد الإنتاج على نطاق أوسع، وإن يكن ذلك بدرجات متفاوتة. ويجري إنتاج المزيد، واستهلاك المزيد باطراد، ولا بد بالتالي من زيادة كمية المنتوجات التي تتحول إلى وسائل إنتاج. بيد أن هذه العملية ليست تراكماً لرأس المال، وليست بالتالي، وظيفة يؤديها الرأسمالي، ما دام العامل لا يواجه وسائل إنتاجه، سوية مع منتوجه ووسائل عيشه، بهيئة رأسمال (14). ويبحث ريتشارد جونز، الذي توفي مؤخراً وخَلَف مالتوس في كرسي الاقتصاد السياسي بكلية الهند الشرقية في هایلبوري، هذه القضية بحثا موفقا في ضوء اثنتين من الحقائق الهامة. وهي أن الغالبية العظمى من الشعب الهندي فلاحون يزرعون أرضهم بأنفسهم، لذا فإن منتوجاتهم وأدوات عملهم ووسائل عيشهم لا تتخذ قط شکل، (in the shape) رصيد مدخر من “إيراد الغير”(15) (saved from revenue)، ولا تمر إذن بعملية تراكم مسبقة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن العمال غير الزراعيين في المقاطعات، التي لم يبدل الحكم الإنكليزي نظامها القديم إلا قليلا، إنما يستخدمهم على نحو مباشر أصحاب المقامات العليا، الذين يتلقون جزءا من المنتوج الزراعي الفائض بهيئة أتاوة أو ريع عقاري. ويستهلك أصحاب المقامات جزءا أولاً من هذا المنتوج بشكله العيني، فيما يحول لهم العمال الجزء الثاني إلى مواد ترفٍ وغيرها من وسائل الاستهلاك، أما المتبقي من المنتوج فيؤلف أجور العمال الذين يمتلكون أدوات عملهم. إن الإنتاج وتجديد الإنتاج على نطاق أوسع، يمضيان هناك قدماً دونما تدخل ذلك القديس غريب الأطوار، ذلك الفارس الحزين، ذلك الزاهد، الرأسمالي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سيلاحظ القارئ اننا نستخدم تعبير الإيراد (Revenue) بمعنى مزدوج: الأول للدلالة على فائض القيمة بوصفه منتوجاً يدرّه رأس المال بصورة دورية، والثاني للدلالة على ذلك الجزء من هذا المنتوج الذي يستهلكه الرأسمالي دورياً، أو يضيفه إلى رصيده الاستهلاكي. لقد احتفظنا بهذا المعنى المزدوج لأنه ينسجم مع لغة الاقتصاديين الإنكليز والفرنسيين المعتادة.
(*) [حرفياً Keinen Datum nicht hat ليس عنده ليس موعد. ن. ع] عبارة وردت في خطاب الضابط البروسي ليخنوفسكي في الجمعية الوطنية بمدينة فرانكفورت في 31 آب/ أغسطس 1848، معارضاً مطلب البولونيين بالاستقلال، مكرراً في خطابه عن حق بولونيا التاريخي بالاستقلال أن “ليس للحق التاريخي “ليس” موعد تاريخي واحد”، مخالفاً قواعد النحو الألماني الذي لا يجيز استخدام (nicht , keine) صيغتي نفي مع فعل واحد، فأثار ضحك جمهور الحاضرين. [ن. برلین].

(2) يتخذ لوثر من المرابي، هذا النموذج البالي والمتجدد أبدا للرأسمالي، موضوعاً له، فيبين بجلاء أن حب السلطان هو أحد دوافع التوق إلى الثراء. لقد توصل الوثنيون، بنور العقل، إلى الاستنتاج بأن المرابي قاتل ولص، مضاعف. أما نحن المسيحيين فنسبغ على المرابين من الشرف ما يحملنا على أن نعبدهم لأجل أموالهم… إن كل من ينهب ويسلب ويسرق لقمة غيره إنما يرتكب إثماً كبيراً (على قدر ما يكون الفعل صادراً عن إرادته) شأن الذي يميت إنساناً من الجوع أو يدمر حياته. كذلك يفعل المرابي، وهو جالس في غضون ذلك، سالما منعماً على كرسيه بدل أن يتدلى من حبل المشنقة لتنهش لحمه جوارح بعدد ما سرق من الغولدنات [عملة المانية قديمة. ن. برلين]، وليت أن في جسده من اللحم ما يكفي هذا العدد من الطير لكي تغرز مناقيرها وتنهش منه. أما صغار اللصوص فیشنقونهم… إن صغار اللصوص يقيدون بالأصفاد، أما كبارهم فيختالون في الذهب والحرير … أفيوجد إذن، على الأرض، عدو للإنسان (من بعد ابليس) أكبر من كانز النقود والمرابي، الذي يبتغي أن يكون إلها على البشر كلهم. إن الأتراك والمعتدين والطغاة أناس فاسدون أيضاً، مع ذلك فإنهم مضطرون إلى أن يدعوا الناس تعيش، وأن يقروا بأنهم فاسدون واعداء، وقد يبدون، لا بل يضطرون أحيانا إلى إبداء بعض الشفقة. أما المرابي، آكل النقود، فلا يكترث لو أن العالم كله مات جوعاً وظمأً وبؤساً وعوزاً، فهو يتوق، بمقدار ما تكون هذه إرادته، لأن يستحوذ على الأشياء كلها لنفسه، ويتلقى الكل منه الهبة كما من إله، ويكونوا له عبيداً إلى الأبد… إنه يرتدي حلة قشيبة، ويتقلد أساور وخواتم من ذهب، ويمسح فمه ويتباهى، لكي يرى الناس إليه ويحسبوه ورعاً سامي المقام… الربا وحش هائل، ضخم، كالغول الذي يأتي على كل شيء، وهو أسوأ من أي كاكوس وجيريون وآنتوس. ومع ذلك فإنه يتزيّن ويتظاهر بالتقوى والورع، كي لا يرى الناس أين مضت الثيران التي ساقها خفية إلى حظيرته. إلا أن هرقل سوف يسمع خوار الثيران، واستغاثة سجنائه، ويبحث عن الكاكوس بين الصخور والأكمات، وينقذ الثيران من مخالب هذا السافل. لأن كلمة کاکوس تعني السافل، الذي هو مرابٍ يدعي الورع ويسرق وينهب ويفترس كل شيء. إلا أنه ينكر ما جنت يداه، ويتوهم أن أحداً لن يفضح فعلته، لأن الثيران التي ساقها القهقرى إلى حظيرته يجعلها تبدو من آثار حوافرها وكأنها خرجت من الحظيرة. وهكذا فالمرابي يخدع كل الناس، متظاهراً بأنه رجل نافع بعطيهم الثيران، رغم أنه يحتكرها لنفسه ويلتهمها لوحده … وإذا كنا نحطم ونقطع رؤوس قطاع الطرق والقتلة وسارقي البيوت، فحري بنا أن نفتك ونصطاد ونلعن ونقطع رؤوس كل المرابين ونشدهم إلى عجلة الموت (مارتن لوثر، المرجع المذكور). [نص المقبس كما ورد في الطبعة الرابعة من رأس المال. ن. برلین].
(**) شیللر: الكفالة Die Birgschaft Schiller, [ن. برلین].
(***) تحوير عن كلمات فاوست بطل تراجيديا الشاعر غوته التي تحمل نفس الاسم. الفصل الأول، المشهد الثاني: أمام البوابة. «Goethe, Faust, 1 Teil, «Vor dert Tor. [ن. برلین].
(3) د. أيكن، وصف الريف بقطر 30 إلى 40 ميلاً حول مانشستر، لندن، 1795، ص 181-182 وما يليها و[ص 188].
(*4) يستعمل مارکس هذا التعبير بمعنى: هذا هو الشيء الرئيسي. [ن. برلین].
(4) آدم سميث، الكتاب الثاني، الفصل الثالث، آثروة الأمم، [ص 367].
(A. Smith, [Wealth of Nations), b. II, ch. III, [p.367]).
(5) نجد أن حتى ج. ب. ساي نفسه يقول: إن مدخرات الأثرياء تتحقق على حساب الفقراء، [ج. ب. ساي، أطروحة في الانتصاد السياسي، الطبعة الخامسة، المجلد 1، باريس، 1826، ص 130 – 131. ن. برلين]. “لقد كان البروليتاري الروماني يعيش، كلياً على وجه التقريب، على حساب المجتمع… ويمكن القول بالدرجة نفسها تقريبا إن المجتمع الحديث يعيش على حساب البروليتاريين، يعيش على ما يقتطعه منهم من مكافأة العمل”.
(سیسموندي، دراسات Etudes، إلخ، المجلد الأول، ص 24).
(6) مالتوس، [مبادئ الاقتصاد السياسي]، ص 319، 320.
(7) بحث في تلك المبادىء المتعلقة بطبيعة الطلب، إلخ، ص67.
(An inquiry into those principles respecting the nature of demand etc., p. 67).
(8) المرجع نفسه، ص 59.
(9) سنيور، المبادىء الأساسية للاقتصاد السياسي، ترجمة اریفابینه، باريس، 1836. ,(Senior Principes fondamentaux de l’Économie Politique, trad Arrivabene. Paris, 1836, p. 309)
لقد كانت هذه مغالاة تفوق الحد في نظر اتباع المدرسة الكلاسيكية القديمة. “لقد استبدل السيد سنيور إياه تعبيري العمل ورأس المال بتعبيري العمل والتقشف… إن التقشف هو مجرد إنكار. فمصدر الربح ليس التقشف، بل استهلاك رأس المال المستخدم بصورة منتجة”. (جون كازنوف
في طبعته لكتاب مالتوس، تعريفات في الاقتصاد السياسي، ص 130، الحاشية)

أما السيد جون ستيوارت میل، فيستنسخ، على العكس من ذلك، نظرية ريكاردو في الربح من جهة، ويقبل فكرة سنيور عن مكافأة التقشف، (remuneration of abstinence) من جهة ثانية، إنه يشعر وكأنه في بيته حين يواجه تناقضات سطحية تافهة، مثلما يشعر أنه وسط بحر مضطرم حين يواجه “التناقض” الهيغلي، هذا المنبع الأصلي لكل ديالكتيك. إضافة إلى الطبعة الثانية. ولم يخطر على بال الاقتصادي المبتذل أن يقوم بتأمل بسيط ليرى أن كل فعل بشري هو امتناع، [تقشف] من وجهة نظر الفعل النقيض. فالأكل امتناع عن الصيام والحركة امتناع عن السكون، والعمل امتناع عن الخمول، والخمول امتناع عن العمل، وهلمجرا. ويحسن هؤلاء السادة صنعاً لو تأملوا في كلمات سبينوزا القائل: التحديد هو نفي [شاع هذا المفهوم بتفسير هيغل له. وقد ورد في كتاب سبينوزا، الرسائل، الرسالة رقم 50. 50Baruch Spinoza , Briefwechel , Brief وتناول هيغل مقولة “التحديد هو نفسي” في: موسوعة العلوم الفلسفية، ج1، 818، وكذلك في كتابه: علم المنطق، المجلد الأول، الجزء الأول، الفصل الثاني، ب: النوعية؛ وكذلك في كتابه : محاضرات في تاريخ الفلسفة، المجلد الأول، الجزء الأول، الفصل الأول حول بارمنيدس. ن. برلین].
(10) سنیور Senior، المرجع نفسه، ص 342-343.
(11) “ليس ثمة من… يبذر القمح مثلا، ویترکه مطموراً في الأرض 12 شهراً، أو یدع خمرته في القبو سنوات ولا يستهلك هذه الأشياء أو معادلاتها، على الفور، ما لم يكن يأمل في كسب قيمة إضافية، إلخ”. (سكروب، الاقتصاد السياسي، نيويورك، تحرير الونزو بوتر، 1841، ص 133).
(Scrope, Political Economy, Ed. by A. Potter, New York, 1841, p. 133).
[أصدر النص الأصلي لكتاب سكروب في إنكلترا عام 1833، وقد أعاد بوتر نشره عام 1841 مع تعديلات. ن. برلین].
(12) “الحرمان الذي يفرضه الرأسمالي على نفسه حين يقوم بإعارة (الإعارة في التورية التي يستخدمها الاقتصاد المبتذل، حسب أسلوبه المجرب، للمساواة بين العامل المأجور الذي يستغله الرأسمالي الصناعي وبين الرأسمالي الصناعي نفسه الذي يستخدم النقود التي يعيرها رأسماليون آخرون) وسائل الإنتاج للعامل بدلا من أن يكرس قيمتها لاستعماله الشخصي، وذلك بتحويلها إلى أشياء نافعة أو ممتعة”. (غ. دي موليناري، [دراسات اقتصادية، باريس، 1846]، ص 36).
(13) المرجع المذكور نفسه، ص 20.
(14) “إن الأنواع الخاصة للدخل التي تسهم أعظم اسهام في نمو رأس المال الوطني، تتغير بتغير مراحل التقدم، وهي تتباين بتباين الأمم التي تحتل مواقع مختلفة في سلم التطور ذاك والأرباح مصدر لا أهمية له للتراكم بالمقارنة مع الأجور والريع، في المراحل القديمة من تطور المجتمع … وبعد حصول تقدم ملحوظ فعلا في قدرات الصناعة الوطنية يزداد الدور النسبي للربح كمصدر للتراكم”. (ريتشارد جونز، المرجع نفسه، مقرر، إلخ، 16 و21).
(Richard Jones, Text-book etc., p. 16, 21).
(15) [ريتشارد جونز، المرجع نفسه، ص 36 وما يليها. لإضافة للطبعة الرابعة: لا بد أن هذه هفوة، إذ لم نجد لهذا المقتبس أثرا. ف. إنجلز] [المقتبس مائل على الصفحة 36 ولكن مارکس اقتبسه على عادته بصورة مكثفة. ن.ع].