مقدّمة ل«أسس نقد الاقتصاد السياسي» (١٨٥٧) جزء ٢/١


كارل ماركس
الحوار المتمدن - العدد: 6959 - 2021 / 7 / 15 - 08:43
المحور: الارشيف الماركسي     

ترجمة فواز طرابلسي

بعد هزيمة ثورات ١٨٤٨ الأوروبية التي سمّيت «ربيع الشعوب»، وخصوصًا الثورة العمالية في فرنسا في تموز/ يوليو ١٨٥٠، أدرك ماركس وإنغلز أن لا إمكانية لثورة في الأفق القريب فقرّرا إعطاء الأولوية للبحث وبلورة النظرية الثورية. قررت «العصبة الشيوعية» التي باسمها صدر «البيانُ الشيوعي» أن تحلّ نفسها. انسحب ماركس وإنغلز من النضال الثوري المباشر، فسافر إنغلز إلى مانشستر للعمل في مصنع والده وإعالة صديقه وأخذ ماركس طريقه اليومي إلى «المتحف البريطاني» لبداية أبحاثه الاقتصادية.

«أسُس نقد الاقتصاد السياسي» Grundrisse هي الثمرة الأولى لشغل ماركس على الاقتصاد السياسي. تقع المسوّدة، التي لم تكن معدّة للنشر، في سبعة دفاتر دوّنها ماركس لتوضيح أفكاره في شتاء ١٨٥٧ و١٨٥٨. نشر كارل كاوتسكي المخطوطة في العام ١٩٠٣. وصدرت طبعة محدودة التوزيع في موسكو في العامين ١٩٣٩ و١٩٤١ لم يصل منها إلا بضع نسخ إلى خارج الاتحاد السوفييتي. ثم أعيد نشرها كاملةً في برلين عام ١٩٥٣.

1 – الإنتاج، الاستهلاك، التوزيع،
التبادل (التداول)
أ- الإنتاج
الافراد المستقلّون. أفكار القرن الثامن عشر.

الموضوع الذي لا بد من الانطلاق منه هو الإنتاج المادي.

بالطبع، يوجد انطلاقًا، أفراد ينتجون في المجتمع، ويوجد بالتالي إنتاج محدّد اجتماعيًّا. إنّ القنّاص المعزول أو الصياد المعزول، الذي ينطلق منهما سميث وريكاردو، ينتميان إلى أوهام القرن الثّامن عشر الباهتة، وما هما إلا ضرب من ضروب الروبنسونيات1. وهذه لا تعبّر بأي حال من الأحوال عن ردّة فعل ضد الرقي البالغ ولا عن عودة إلى حالة طبيعيّة أُسيء تفسيرها حتى الآن، كما يتخيّل مؤرّخو الحضارة. حتى «العقد الاجتماعي» لروسو الذي يقيم علاقات وواجبات بين أفراد مستقلّين استقلالاً طبيعيًّا، لا يرتكز على مثل هذا المذهب الطبيعي. فهو لا يعدو كونه المظهر الجمالي للروبنسونيات الصغيرة والكبيرة. والواقع أننا أمام إرهاصات «المجتمع البرجوازي» الذي نشأ في القرن السادس عشر وأخذ يتقدّم بخطواتٍ سريعة نحو النضوج خلال القرن الثامن عشر. في مثل هذا المجتمع الذي تسوده المنافسة الحرّة، يبدو الفرد متحرّرًا من الروابط الطبيعيّة التي كانت تجعل منه جزءًا من تجمّع بشري معيّن ومحدّد المعالم خلال الحقبات التاريخيّة السالفة. إنّ فرد القرن الثّامن عشر هو نتاج انحلال قوى الإقطاع الاجتماعية من جهة، وانبثاق قوى إنتاج جديدة منذ القرن السادس عشر، من جهة أخرى. ويبدو هذا الفرد في نظر أنبياء القرن الثامن عشر، الذين ما زالوا يستلهمون أفكار سميث وريكاردو، على أنه كائن مثالي من كائنات الماضي. ليس الفرد عندهم نتاج التاريخ، إنما هو منطلقه. ليس صنيعة التاريخ وإنما هو معطى طبيعي مطابق للفكرة المكوّنة في ذهنهم عن الطبيعة البشرية. مثل هذا الوهم خاصّةٌ من الخواصّ التي طبعت كل حقبة من حقبات التاريخ الماضية إلى يومنا هذا. وحده ستيوارت الذي عاكس الروح السائدة في القرن الثامن عشر، في أكثر من وجه، والذي يقف على أرضٍ تاريخيّةٍ صلبة بحكم منشئه الأرستقراطي تمكّن من تفادي هذه الولدنة.

بقدر ما نتوغّل في الماضي بقدر ما يظهر لنا أنّ الفرد - وبالتالي الفرد المنتج خصوصًا - ينتسب إلى وحدة أوسع منه ويعتمد عليها. في البدء كانت هذه الوحدة هي الأسرة طبعًا، ثمّ توسعت الأسرة لتصير العشيرة. ومن بعد هذه، بات الفرد ينتسب إلى جماعات ذات تركيبات مختلفة، تولّدت من الاصطدام والالتحام بين العشائر. مع إطلالة القرن الثامن عشر فقط، أي مع نشوء «المجتمع البرجوازي»، بدت مختلف أشكال الترابط الاجتماعي على أنها تواجه الفرد كمجرّد وسائط لبلوغ أهدافه المعيّنة، أي بدت كضرورة خارجيّة. ولكنّ الحقبة التي أنتجت هذه النظرة للفرد المعزول هي بالتحديد الحقبة التي بلغت فيها العلاقات الاجتماعيّة (وقد باتت علاقات اجتماعيّة عامة) أعلى درجة من درجات تطوّرها. الإنسان حيوان سياسي بكل ما لهذه العبارة من معنى، أي أنه ليس مجرد حيوان اجتماعي، وإنما هو أيضًا حيوان لا يتحوّل إلى فرد إلا داخل المجتمع.

القول بأنّ اللغة قادرة على التّطوّر بدون أفراد يعيشون معًا ويتحادثون هو بسخافة القول بإنتاجٍ يقوم به الفرد المعزول خارج المجتمع (وقد يحدث ذلك استثنائيًّا لفرد متمدّن ترمي به الأقدار في بلد متوحّش تتوافر فيه أصلاً قوى الاجتماع). ولا جدوى من المزيد من الإطالة حول هذه النقطة…

ب- تأبيد علاقات الإنتاج التاريخية -
الإنتاج والتوزيع بشكل عام- الملكيّة

عندما نتكلّم عن الإنتاح إذًا، فإننا نعني دائمًا الإنتاج في حقبة معيّنة من التطوّر الاجتماعيّ وإنتاج أفراد يعيشون في مجتمع. لذا يبدو أنه لكي يحقّ التكلّم عن الإنتاج بشكل عامّ يجب أن نتتبّع مختلف مراحل تطوّره التاريخيّ، أو الإعلان مسبقًا عن عزمنا على التكلّم عن هذه الحقبة التاريخية أو تلك - عن الإنتاج البرجوازي الحديث مثلاً، الذي هو موضوعنا هنا بالتأكيد.

لكن ثمّة سمات وتحديدات مشتركة بين جميع حقبات الإنتاج. «الإنتاج بشكل عام» مقولة تجريديّة، ولكنّه تجريد عقلاني بالقدر الذي يسمح لنا بالتقاط وتحديد هذه السمات المشتركة، وتفادي التكرار. إلا أنّ هذه السمات العامة والتحديدات المشتركة، التي نتبيّنها بواسطة المقارنة، تعبّر عن نفسها في الواقع بطريقةٍ بالغة التفاوت وتسلك سبلاً متباينة. سوف تلقى بعض هذه السمات في كلّ الحقبات، أما البعض الآخر فينحصر في بعضها فقط. وقد تكون إحدى السمات مشتركة بين أكثر الحقبات حداثةً وأكثرها تخلّفًا. فبدونها لا يكون الإنتاج. وإذا كان صحيحًا أنّ اللّغات الأكثر تقدّمًا تشترك مع أكثرها تأخّرًا بعددٍ من القوانين والتحديدات - وهذه هي مقوّمات نموّها وتطوّرها - فذلك بالتّحديد ما يميّز بينها من حيث السمات العامّة والمشتركة. لذا، لا بدّ من استخلاص السمات المشتركة للإنتاج بشكلٍ عامّ، على الأقلّ حتى لا تنسينا الوحدةُ — النّاجمة عن ثبات هويّة الذات (البشريّة) أو ثبات الموضوع (الطبيعة) — وجودَ التمايز الأساسي بينهما.

إنّ كلّ حكمة الاقتصاديين الحديثين، الذين يؤكّدون أنّ العلاقات الاجتماعيّة الراهنة هي علاقات متناغمة وخالدة، إن هي إلا ضربٌ من ضروب هذا النسيان. فمثلاً، لا يوجد إنتاج بدون أداة إنتاج حتى ولو كانت تلك الأداة هي يدُ الإنسان. ولا يوجد إنتاج أيضًا بدون عملٍ متراكمٍ في الماضي، حتى ولو كان هذا التراكم مهارة مكتسَبة ومخزونة في يد الإنسان البدائيّ من جرّاء تكرار الحركات. ورأس المال هو، في ما هو، أداة إنتاج. ورأس المال هو أيضًا عمل متموضع بُذِل في الماضي. من هنا يصحّ القول إن رأس المال علاقة طبيعيّة شاملة وخالدة، ولكن شريطة ألا نهمل ما هو خاصّ به: أي العنصر الذي يحوّل «أداة الإنتاج» و«العمل المتراكم» إلى رأس مال…

ومهما يكن من أمر، فإذا كان لا يوجد إنتاج بشكلٍ عامّ، فلا يوجد أيضًا إنتاج عامّ. فالإنتاج إمّا أن يكون فرعًا إنتاجيًّا مخصوصًا (كالزّراعة مثلاً، أو تربية المواشي أو المانيفاتورة، إلخ) وإما أن يكون كلّاً متكاملاً. غير أنّ الاقتصاد السياسي ليس صنوًا للتكنولوجيا.

ولا بدّ لنا من أن نتطرّق (في مكانٍ آخر) للعلاقة بين السمات العامّة للإنتاج في مرتبةٍ معيّنةٍ من مرتبات التطوّر الاجتماعي، وبين أشكال الإنتاج المخصوصة.

أخيرًا، ليس الإنتاج فرعًا إنتاجيًّا معيّنًا وحسب، إنما هو أيضًا كائنٌ اجتماعيٌّ محدّد على الدوام، أي أنه فاعلٌ اجتماعي يفعل فعله ضمن مجموعة واسعة ومتنوّعة إلى حدّ ما من فروع الإنتاج. ثم إننا لم نتوصّل هنا بعد إلى العلاقة بين التحليل العلميّ وبين حركة الواقع. الإنتاج بشكل عام. فروع الإنتاج المخصوصة. الإنتاج في شموله.

جرت العادة أن تبدأ كل دراسة من دراسات الاقتصاد السياسي بمقدّمة عامة عن الإنتاج تعالج الشّروط العامّة لكل إنتاج (راجع مثلاً جون ستيوارت مِلْ في كتابه «مبادئ الاقتصاد السياسي»). وتشمل هذه المقدمة العامّة، أو يفترض فيها أن تشمل، ما يلي:

أولاً: الشروط التي بدونها لا يكون إنتاج. وهي مجرّد تعداد للعوامل الأساسية لكل إنتاج. لكنّنا سوف نرى لاحقًا أن الاقتصاد السياسي يكتفي في الواقع ببعض التعريفات البسيطة التي سرعان ما تتقلّص إلى طوطولوجيا سطحيّة2.

ثانيًا: الشروط التي تساعد على تطوّر الإنتاج بشكلٍ أو بآخر- كما هي موجودة في تحليل آدم سميث مثلاً للمجتمعات المتقدّمة والمجتمعات الراكدة. ولكي يكتسب ما يعتبره سميث مجرّد جردة شروط، قيمةً علميّة، ينبغي البحث والاستقصاء في درجات الإنتاجيّة المتباينة التي بلغها كلّ شعبٍ من الشعوب خلال تطوّره.

إنّ مثل هذه الدراسة تتعدّى إطار موضوعنا هنا. لكنّ القسم منها الذي يدخل ضمن هذا الإطار يجب عرضه في الفصل الذي يحلّل المنافسة والتراكم وما شابه. أما الخلاصة العامّة فتؤدّي بنا إلى التعميم الآتي: إنّ شعبًا صناعيًّا يبلغ ذروة إنتاجه لحظة بلوغه ذروة تاريخه. والواقع أنّ شعبًا يبلغ ذروته الصناعية عندما يكون غرضُ الإنتاج ليس الربح وإنما السعي وراء الربح. وهذا ما يفسّر تفوّق اليانكيّين على الإنكليز3 أي إننا قد نخلص إلى خلاصة ثانية: إنّ بعض الأجناس البشريّة أو الكفاءات أو المناخات أو الظروف الطبيعية كالقرب من البحر وخصوبة الأرض، إلخ. أكثر تشجيعًا على الإنتاج من غيرها. فنعود بذلك إلى الطوطولوجيا الآتية: إنّ تراكم الثروات يتمّ بسهولة أكبر حيث يتوافر أكبر عددٍ من العناصر الذاتية والموضوعية المشجّعة على هذا التراكم.

لكنّ الاقتصاديين لا يحصرون اهتمامهم بهذه النقطة في القسم العام من كتاباتهم. فهم يزعمون (ستيوارت مِل مثلاً) أنّ الإنتاج- تمييزًا له عن التوزيع- يخضع لقوانين طبيعيّة خالدة، مستقلّة عن التاريخ. وهم يستغلّون هذه الفرصة للتّلميح بأنّ العلاقات البرجوازيّة إنّما هي قوانين طبيعيّة لا تحول ولا تزول من قوانين تشغيل المجتمع إذا نظرنا إليه على نحو تجريدي. وذلك، على كل حال، هو الهدف الواعي للمناورة كلها. وهي تسمح للبشر في المقابل، بأن يتصرّفوا على كيفهم في ما يختصّ بالتوزيع.

معنى هذا هو البتر القاطع بين الإنتاج والتوزيع وتمزيق العلاقة الحقيقيّة القائمة بينهما. ومهما يكن من أمر، فقد تبيّن لنا أنّه مهما تباينت أشكال التوزيع في مختلف المستويات الاجتماعيّة، يبقى بالإمكان أن نستخلص سماتٍ مشتركة تجمع بينها، تمامًا مثلما فعلنا بالنسبة للإنتاج. كما هو بالإمكان أن نمحو ونطمس كلّ التمايزات التاريخية بالإعلان عن قوانين تتحكّم بالإنسان بشكل عام.

على سبيل المثال، فإنّ الرقيق والقِنّ والعامل المأجور يتلقّون كميةً من الغذاء تسمح لهم بالاستمرار في الحياة كرقيق وقِنّ وعامل مأجور. أما الغازي والموظّف والمالك العقاري والكاهن والراهب الذين يعيشون على التوالي على الجزية والضريبة والريع العقاري والإكراميّات، فهم يتلقّون أيضًا حصّةً من الإنتاج الاجتماعي، لكنّها تتحدّد حسب قوانين مختلفة كلّ الاختلاف عن القوانين التي تتحكّم بالرق والقنانة والعمل المأجور.

تحت هذا العنوان العريض، يضع جميع الاقتصاديّين نقطتين فرعيّتين:

1. الملكيّة.
2. حماية الملكيّة على يد القضاء والشرطة، إلخ.
وهذا جوابنا باقتضاب على ما قيل:

أولاً: كل إنتاج هو عمليّة استملاك للطبيعة من قبل الفرد بواسطة تكوين مجتمعي معيّن وضمن إطاره. بهذا المعنى نقول إنّ التوكيد على أنّ الملكيّة شرط من شروط الإنتاج إن هو إلا تعريف الشيء بالشيء نفسه (طوطولوجيا). ومن السخف بمكانٍ أن ننطلق من هنا لنقفز منه إلى شكل محدّدٍ من أشكال الملكيّة، كالملكيّة الفرديّة مثلاً (التي تفترض، إلى ذلك، وجود شكل مناقض لها: اللاملكيّة). والواقع أنّ التّاريخ يبيّن لنا أنّ الملكيّة الجماعيّة (عند الهنود والسلافيّين والسلتيّين القدامى، مثلاً) هي الشكل البدائي للملكيّة الذي لعب دورًا هامًّا في التشكيلات الجماعيّة طوال فترة مديدة من الزمن. أمّا معرفة ما إذا كانت الثروة تنمو وتتراكم بسرعةٍ أكبر في ظلّ هذا الشكل من أشكال الملكيّة أو ذاك، فتلك مسألة لا تُطرَح أساسًا على هذا الصعيد. لكن القول إن لا إنتاج، وبالتالي لا اجتماع، حيث لا يوجد شكل من أشكال الملكيّة إنّما هو قول طوطولوجي صرف، ذلك أن استملاكًا لا يستملك شيئًا إنما هو تناقض في معطيات المحاجّة4.

ثانيًا: حماية الملكيّة المكتسبة، إلخ. إذا ما أرجعنا هذه السخافة الى معناها الحقيقي، فإنّها تعلمنا أكثر بكثير ممّا يدرك القائلون بها. إنّها تعلمنا أنّ كل شكل من أشكال الإنتاج يولّد العلاقات القانونيّة الخاصّة به، ونمط الحكم الخاصّ به، إلخ. أمّا فظاظة هذا المفهوم وتهافته فكامنان في رؤيته للعلاقات الطارئة حيث يوجد كلٌّ عضويٌّ متكامل، واقتصاره على معالجة انعكاسات هذه العلاقات. ويلاحظ الاقتصاديّون أنّ حماية الشرطة الحديثة أكثر ملاءمة لتطوّر الإنتاج من «شريعة الغاب» مثلاً. لكنهم يغفلون أن «شريعة الغاب» هذه كانت أيضًا قانونًا، وأن هذا القانون ما زال قائمًا، ولو بأشكال مستحدثة، في دولتهم القائمة على «سيادة القانون».

عندما تكون الظروف الاجتماعيّة المقابلة لمرتبة معيّنة من مراتب الإنتاج في طور التكوّن أو الاضمحلال، فمن الطبيعي أن تحدث الاضطرابات في مجال الإنتاج. علمًا بأنها تتفاوت في ما بينهما من حيث القوّة والوقع.

تلخيصًا نقول إنّ مراتب الإنتاج تشترك في ما بينها بعددٍ من السمات يضفي عليها الفكر طابعًا عامًّا. أما ما يسمّى الشروط العامة لكلّ إنتاج فما هي إلا عوامل مجرّدة، لا تقابلها حقبة تاريخيّة حقيقيّة من حقبات الإنتاج.



2 – العلاقة العامة بين الإنتاج والتوزيع
والتبادل والاستهلاك
قبل مواصلة تحليلنا للإنتاج، لا بدّ من التركيز على مختلف المقولات التي يرصفها الاقتصاديون الى جانبه.

هذه هي الفكرة كما تعرض نفسها: في الإنتاج، يكيّف أفراد المجتمع (أي ينتجون، يقولبون) منتجات الطبيعة تلبيةً للحاجات البشريّة. ويقرّر التّوزيعُ الحصّةَ التي ينالها الفرد من هذه المنتجات. أما التبادل، فيمدّ الإنتاج بالمنتجات التي يرغب في الحصول عليها مقابل الحصّة العائدة له من التوزيع. وأخيرًا، تصبح المنتجات، في الاستهلاك، مواضيع استمتاع (استعمال) واستملاك فرديين.

يخلق الإنتاج الأشياء الملبّية للحاجات، ويتولّى التوزيع توزيع هذه الأشياء بحسب القوانين الاجتماعية. أما التبادل، فيعيد توزيع ما قد جرى توزيعه أصلاً، ولكن وفق الحاجات الفرديّة هذه المرة. وأخيرًا، في الاستهلاك، ينفلت المنتوج من هذه الدورة الاجتماعية ليصبح مباشرةً موضوعًا لحاجة الفرد وخادمًا لها عبر عملية الاستمتاع (استعمال). هكذا يبدو الإنتاج كنقطة الانطلاق والاستهلاك كخاتمة المطاف. ويبدو التوزيع والتبادل كصلة وصلٍ بينهما ذات طبيعة مزدوجة. فالتوزيع عملية يطلقها المجتمع، في حين أن التبادل منطلقه الفرد.

في الإنتاج، يتموضع الإنسان، وفي الإنسان5 يتجسّد الشيء (يتحوّل إلى ذات). وفي التوزيع يتولّى المجتمع الوساطة بين الإنتاج والاستهلاك بواسطة قواعد عامة لا مناص منها. أما في التبادل، فتتم الوساطة بالارتكاز إلى تكوين الأفراد العرَضي.

يحدّد التوزيعُ نسبة (كمية) المنتجات التي يحصل عليها الأفراد، ويحدد التبادلُ المنتجات التي يطالب بها كل فرد بوصفها الحصة التي عيّنها التوزيعُ له. وهكذا فإنّ الإنتاج والتوزيع والتبادل والاستهلاك تشكّل (وفق عقيدة الاقتصاديين6) حجّة تستخلص نتيجتها من عدة موضوعات. الإنتاج هو العامّ، والتوزيع والتبادل هما الخاصّ، والاستهلاك هو المفرد وبالتالي المحصّلة والمجموع. لا شكّ في أن ذلك ينطوي على تسلسل منطقي، لكنّه تسلسل ضحل. يخضع الإنتاج لقوانين طبيعية عامة، ويخضع التوزيع للصدفة الاجتماعية وهو قادر على حفز الإنتاج إلى حدٍّ ما، بينما يقع التبادل بين الإنتاج والتوزيع بوصفه دورة اجتماعية شكلية. أما الاستهلاك، وهو العملية الأخيرة التي ينظر إليها ليس كنهاية المطاف وحسب بل وكهدف نهائي أيضاً، فيقع خارج نطاق الاقتصاد، إلا بالقدر الذي يفعل فعله على نقطة الانطلاق [أي الإنتاج- المترجم] فيعيد إطلاق العمليّة كلّها من جديد.

إنّ خصوم الاقتصاديين السياسيين- أكانوا داخل نطاقهم أم خارجه- يتهمونهم بتمزيق وحدة عضويّة قائمة بذاتها، بطريقةٍ بربريّة. لكنّهم يضعون أنفسهم بذلك على الأرضيّة ذاتها التي يقف عليها الاقتصاديون بل حتى دونها. جرت العادة أن يؤخذ على الاقتصاديين نظرتهم للإنتاج كغاية بحدّ ذاته، ليقال من ثم إن التوزيع يقع على نفس الدرجة من الأهمية. يرتكز هذا الاتهام على مفهوم اقتصادي يقول إن قطاعَي التوزيع والإنتاج جاران يتمتّعان بالاستقلال الذاتي واحدهما عن الآخر. كذلك يؤخذ عليهم [على الاقتصاديين السياسيين- المترجم] أنهم لا يدركون الترابط الذي يسكب هاتين المرحلتين في وحدةٍ متكاملة. فكأنّما القطع لم ينتقل من الواقع إلى الكتب، بل من الكتب إلى الواقع، وكأننا هنا إزاء توازن جدليّ بين المفاهيم، وليس إزاء عمليّة اكتناه7 للعلاقات الحقيقيّة.

أ-الإنتاج والاستهلاك

الإنتاج هو استهلاك مباشر أيضًا. الاستهلاك المزدوج: ذاتيّ وموضوعيّ. فخلال الإنتاج ينمّي الفرد كفاءاته ويستنفدها في آن معًا، أي أنه يستهلكها خلال عملية الإنتاج، تمامًا مثلما تستهلك الطبيعةُ الطاقاتِ الحيوية خلال عملية التوالد. ومن جهة ثانية، في الإنتاج يستهلك الفرد وسائل الإنتاج التي يستخدمها، إذ تُهتلك وتتآكل، وتعود جزئيًّا إلى مقوّماتها الطبيعية (كما في عملية الاحتراق مثلاً). كذلك الأمر فالمواد الأولية لا تحتفظ بشكلها ولا بتركيبها الطبيعيين، وهذا أيضًا ضربٌ من ضروب الاستهلاك.

وهكذا، فإنّ عملية الإنتاج، في كل أوجهها، عملية استهلاك أيضًا. وهذا على كلّ حال ما يعترف به الاقتصاديون أنفسهم. فإنهم يطلقون تسمية الاستهلاك الإنتاجي على الإنتاج المماثل مباشرةً للاستهلاك، كما يطلقونها على الاستهلاك المماثل مباشرةً للإنتاج، وتعيدنا وحدة وتماثل الإنتاج والاستهلاك إلى مقولة سپينوزا: «كل تعريف هو نفي».

لكن هذا التعريف للاستهلاك الإنتاجي لا يوجد إلا لتمييز الاستهلاك المتماثل مع الإنتاج عن الاستهلاك بمعناه الحَرفيّ الذي يعتبر بمثابة نفي للإنتاج وتحطيم له. فلننظر الآن في الاستهلاك بمعناه الحَرفيّ.

الاستهلاك هو أيضًا إنتاج بشكل مباشر. ذلك أن استهلاك العناصر والمواد الكيميائية في الطبيعة هو إنتاجٌ للمزروعات. كذلك الأمر في التغذية، التي هي شكلٌ مخصوصٌ من أشكال الاستهلاك حيث الإنسان ينتج جسده ذاته. ويصحّ هذا القول على كلّ نوعٍ من أنواع الاستهلاك يساهم في إنتاج الإنسان بطريقةٍ أو بأخرى. الإنتاج الاستهلاكي. ولكن يقول الاقتصاديون إنّ هذا الإنتاج المماثل للاستهلاك نوعٌ ثانٍ من الإنتاج، لأنه متولّد من تحطيم المنتوج الأول. ففي الإنتاج الأول يتموضع المنتج، أما في الإنتاج الثاني، فبالعكس، فالشيء الذي أنتجه هذا المنتج يتجسّد. وهكذا فهذا الإنتاج الاستهلاكيّ مختلفٌ في الأساس عن الإنتاج بمعناه الحَرفيّ، على الرغم من أنّه الوحدة المباشرة الناجمة عن التقاء الاستهلاك والإنتاج. غير أن هذه الوحدة المباشرة- حيث يتقاطع الإنتاج بالاستهلاك والاستهلاك بالإنتاج- تحافظ على الثنائيّة بينهما على حالها.

الإنتاج إذًا هو استهلاك في الآن ذاته، والاستهلاك هو إنتاج في الآن ذاته. وكل منهما هو النقيض المباشر للآخر. ولكن بين هذا وذاك حركة توسط. فالإنتاج هو وسيط الاستهلاك لكونه يوفّر له شروطه، ويمدّه بموضوعه. والاستهلاك هو أيضًا وسيط الإنتاج لأنه يوفر لمنتجات الإنتاج الفاعل [الأفراد- البشر- المترجم] الذي يجعل من هذه المنتجات منتجات فعليّة. ذلك أن المنتوج لا يكتمل فعلاً إلا في الاستهلاك، فسكة الحديد التي لا يمرّ عليها قطار، فلا تُستخدَم ولا تُهتلك، ليست سكة حديد في حكم الواقع، وإنما هي سكة حديد في حكم الإمكان فقط. لا استهلاك بدون إنتاج، ولكن لا إنتاج بدون استهلاك أيضًا، وإلا فقدَ الإنتاج غايته. فالاستهلاك ينتج الإنتاج بطريقتين اثنتين:

أوّلاً: لا يصير المنتوج منتوجًا فعليًّا إلا عند الاستهلاك. فالثوب مثلاً ليس ثوبًا فعليًّا إلا عندما يرتديه المرء، والبيت المهجور ليس بيتًا فعليًّا. وبالتالي فالمنتوج يبرّر وجوده كمنتوج- أي أنه لا يصير منتوجًا - إلا عند الاستهلاك. وهذا ما يميّزه عن الأشياء الطبيعية. فقط عند تفكيكه المنتوج يضع عليه الاستهلاكُ اللمسةَ الأخيرة لأنّ المنتوج لا ينتج بما هو نشاط متموضع، وإنما فقط من حيث هو موضوع لذات فاعلة.

ثانيًا: لأن الاستهلاك يوفّر الحاجةَ لإنتاج جديد، أي أنه يخلق السبب المثالي والحافز الداخلي للإنتاج الذي هو شرطه المسبق، فالاستهلاك يخلق حافز الإنتاج؛ وهو يخلق أيضًا الموضوع الفاعل في الإنتاج بما هو غايته المحكومة. وإذا كان الإنتاج يمدّ الاستهلاك بموضوعه الخارجي، فالواضح بالتوازي أنّ الاستهلاك يمدّ الإنتاج بموضوعه المثالي على شكل صورة داخلية وحاجة وحافز وغاية. الاستهلاك يخلق إذًا مواضيع للإنتاج وهي بعدُ في شكلها الذاتي. فلا إنتاج بدون حاجة. لكنّ الاستهلاك يعيد إنتاج الحاجة. وتنطبق هذا الطبيعة المزدوجة على الإنتاج ذاته أيضًا.

أولاً: يوفّر الإنتاج للاستهلاك مادته وهدفه. فالاستهلاك دون موضوعه ليس استهلاكًا. بهذا المعنى نقول إنّ الإنتاج يولّد الاستهلاك، ينتجه.

ثانيًا: الإنتاج لا يمدّ الاستهلاك بموضوعه وحسب، وإنما يضفي عليه طابعه النهائي، اللمسات الأخيرة. ومثلما يضفي الاستهلاكُ اللمسات الأخيرة على المنتوج، كذلك يضفي الإنتاجُ اللمسات الأخيرة على الاستهلاك. ذلك أنّ الموضوع هنا ليس مطلق موضوع، وإنما هو موضوع مخصوص يجري استهلاكه بطريقةٍ يمليها الإنتاج. الجوع جوع. لكنّ الجوع الذي يُسدّ باللحم المطبوخ ويؤكل بالشوكة والسكين يختلف عن الجوع الذي يسدّ بالتهام اللحم النيء باليد والأظافر والأسنان. والإنتاج لا ينتِج موضوع الاستهلاك وحسب، وإنما ينتج طريقة الاستهلاك. أي أنّ الإنتاج ينتج الاستهلاك ذاتيًّا وموضوعيًّا. فالإنتاج إذًا هو الذي ينتج المستهلكين.

ثالثًا: لا يكتفي الإنتاج بأن يمدّ الحاجةَ بمادّتها [مادة إشباع الحاجة- المترجم] وحسب، وإنما يمدّ الحاجة بالحاجة إليها. وعندما يتخلّص الاستهلاك من طور الفظاظة الطبيعية ويفقد طابعه المباشر- وما استمراره في هذا الطور إلا لأنّ الإنتاج لم يخرج هو ذاته من ذاك الطور- يصبح الموضوع هو وسيط هذه الغريزة الاستهلاكيّة. وحاجة الاستهلاك لهذا الموضوع ناجمة عن رؤيتها له. فالعمل الفنّي، كغيره من المواضيع، يخلق جمهورًا يتذوّق الفنّ ويستمتع بالجمال. وبهذا المعنى نقول إنّ الإنتاج لا يخلق للذّات موضوعها وحسب، وإنما يخلق للموضوع ذاته أيضًا.

إذن فالإنتاج ينتج الاستهلاك: أوّلاً بتوفيره مادّة هذا الاستهلاك، وثانيًا، بتقريره نمط الاستهلاك، وثالثًا، باستثارته الحاجة إلى المنتجات القابلة للاستهلاك في نَفس المستهلِك، هذه المنتجات التي اكتفى الإنتاج بإنتاجها على شكل مواضيع فقط. الإنتاج ينتج إذن موضوع الاستهلاك ونمطه وغريزته. والاستهلاك، من جهته، ينمّي كفاءة المنتج بتوفيره الحاجة التي يهدف الإنتاج إلى إشباعها.

وهكذا يظهر التماثل بين الاستهلاك والإنتاج بشكل مثلّث:

أوّلاً: التماثل المباشر. الإنتاج استهلاك. والاستهلاك إنتاج. أو فلنقل: إنتاج استهلاكي. واستهلاك إنتاجي. ويطلق الاقتصاديّون السياسيون على هذا وذاك تسمية الاستهلاك الإنتاجي. لكنّهم يعتبرون الأوّل إعادة إنتاج والثاني استهلاكًا إنتاجيًّا. وكلّ الأبحاث المختصّة بالأول تتناول العمل المنتج والعمل غير المنتج. أما الأبحاث المختصّة بالثاني، فهي تعالج الاستهلاك الإنتاجي والاستهلاك غير الإنتاجي.

ثانيًا: كلّ من الاستهلاك والإنتاج واسطة للآخر. وعلى الرغم من أنّ واحدهما يظلّ خارجيًّا بالنسبة للآخر. إلا أنّ هذه الوساطة تعبّر عن نفسها بالاعتماد المتبادل بينهما، وهذا ما يربط واحدهما بالآخر ويجعله لا غنى له عنه. إنّ الإنتاج يمدّ الاستهلاك بمادّته بوصفه موضوعًا خارجيًّا، في حين أنّ الاستهلاك يمدّ الإنتاج بالحاجة بوصفها موضوعًا داخليًّا وهدفًا. لا استهلاك بدون إنتاج، ولا إنتاج بدون استهلاك. وتلقى هذه مقولة في الاقتصاد السياسي بأشكال شتّى.

ثالثًا: ليس الإنتاج استهلاكًا مباشرًا فقط، ولا الاستهلاك إنتاجًا مباشرًا فقط. ليس الإنتاج مجرّد أداة يستخدمها الاستهلاك، ولا الاستهلاك هدفًا للإنتاج وحسب، ذلك أنّ كلًّا منهما يمدّ الآخر بموضوعه: فالإنتاج يمدّ الاستهلاك بموضوعه الخارجي. والاستهلاك يمدّ الإنتاج بموضوعه الغائيّ. والواقع أنّ الواحد ليس مباشرةً الآخر ولا هو وسيط الآخر وحسب. بل إنه أيضًا، في صيرورته، يخلق الآخر، وينخلق على شاكلته.

إن الاستهلاك يستكمل عمليّة الإنتاج إذ يضفي اللمسات الأخيرة على المنتوج، يذيبه، ويستهلك الشكل الموضوعيّ المستقلّ الذي يكتسبه. وإذا بالمهارة التي استحصل عليها المنتج، من خلال فعل الإنتاج الأوّل، مهارة مكتسبة فعلاً عبر التّكرار. بذلك يكون الاستهلاك هو الفعل الأخير الذي يتحوّل به المنتوج إلى منتوج حقيقي، كما يتحوّل به المنتج نفسه إلى منتج حقيقي. وبالإضافة لذلك، فالإنتاج يولّد الاستهلاك بتوليده نمطًا معيّنًا من الاستهلاك، وبإضفائه على شهيّة الاستهلاك والقدرة عليه صفة الحاجة. وكثيرًا ما يتناول الاقتصاد السياسي التماثل سالف الذكر من خلال معالجته للعلاقات بين العرض والطلب، والمواضيع والحاجات، والحاجات التي يثيرها المجتمع وتلك التي تثيرها الطبيعة.

لذا فليس أيسر على أحد أتباع الهيغليّة من أن يماثل بين الإنتاج والاستهلاك. وهذا ما قام به ليس مفكّرونا الاشتراكيّون وحسب وإنّما أيضًا اقتصاديّون لامعون من أمثال ساي على الشكل الآتي: عندما نعالج شعبًا ما، أو حتّى البشريّة جمعاء، على نحوٍ مجرّد، نكتشف أنّ ما تنتجه هو ما تستهلكه. ولقد بيّن ستورش خطأ ساي على النّحو الآتي: إنّ شعبًا ما، مثلاً، لا يستهلك إنتاجه هكذا بكلّ بساطة، لكنّه ينتج أيضًا وسائل إنتاج، ورأسمال ثابتًا وما شابه.

كذلك يخطئ من ينظر إلى المجتمع وكأنّه ذات وحيدة. فهذا منظار تأمّليّ. عند الفاعل، يبدو الإنتاج والاستهلاك كوجهين من عمليّة واحدة. ومن الضروري أن نشدّد هنا على أنّه إذا اعتبرنا الاستهلاك والإنتاج نشاطين يمارسهما فاعل واحد، أو جملة أفراد (معزولين8) يبدوان على كلّ حال كطورَين من أطوار عمليّةٍ واحدة يكون الإنتاج منطلقها الفعلي والعنصر الغالب فيها، ويكون الاستهلاك، بوصفه ضرورة وحاجة، مقوّمة داخليّة من مقوّمات النشاط الإنتاجي. لكن هذا النشاط نفسه هو نقطة انطلاق عمليّة التحقّق وبالتالي عنصرها الغالب، أي الفعل الذي يسمح للعمليّة بأن تتجدّد. ينتج الفرد منتوجًا ما، وباستهلاكه له يعود إلى النقطة التي انطلق منها. لكنّه يعود إلى هذه النقطة بوصفه فردًا منتجًا يعيد إنتاج نفسه. وبذلك يبدو الاستهلاك كطورٍ من أطوار الإنتاج.

أما في المجتمع، فالعلاقة بين المنتج والمنتوج علاقة خارجيّة. وعودة المنتوج للفاعل [المنتج- المترجم] مرهون بعلاقات هذا الفرد مع الأفراد الآخرين. إنه لا يستحوذ على المنتوج مباشرةً. وعلى كل حال، فالمُنتج عندما يُنتج داخل المجتمع لا يهدف إلى الاستحواذ المباشر على المنتوج. فبين المنتج والمنتجات، أي بين الإنتاج والاستهلاك- ينحشر التوزيع الذي يقرر، بمقتضى قوانين اجتماعيّة معيّنة، الحصّة العائدة لكل فردٍ من مجموع المنتجات المتوافرة.

ولكن هل يعني ذلك أنّ التوزيع يحتلّ حيّزًا مستقلاً محاذيًا للإنتاج؟

ب- التوزيع والإنتاج

أوّل ما يلفت الانتباه عند مراجعة أدلّة الاقتصاد السياسي المتداولة هو أنها تعالج كلّ المقولات بشكلٍ مزدوج. فمثلاً تلقى الرّيع العقاري والأجور والفائدة والربح مصنفةً في باب «التوزيع» في حين نجد أن الأرض والعمل ورأس المال ترِدُ بما هي عوامل إنتاج. ويتّضح من ذلك أنّ رأس المال معروض هنا بشكلين اثنين: أوّلاً، بوصفه عاملاً من عوامل الإنتاج، وثانيًا، بما هو مصدرٌ للدخل، يتحكم بأشكال مخصوصة من التوزيع. ويرِدُ كلٌّ من الفائدة والرّبح أيضًا في باب «الإنتاج: ذلك أنهما شكلان من أشكال تزايد رأس المال ونموّه، أي أنّهما عاملان من عوامل إنتاج رأس المال. أما الفائدة والربح، بما هما شكلان من أشكال التوزيع، فيفترضان وجود رأس المال بما هو عامل إنتاج. إنهما، إلى ذلك، نمطان من أنماط إعادة إنتاج رأس المال.

كذلك الأمر، فإن فئة الأجور هي تلك الفئة التي جري تفحّصها تحت عنوان آخر هو «العمل المأجور»: فالصفة المميزة التي يمتلكها العمل هنا بما هو عامل من عوامل الإنتاج تظهر بما هي صفة مميزة من صفات التوزيع. فبدون تعريف العمل بما هو عمل مأجور، لن يظهر نمط مساهمته في المنتجات على شكل أجور، كما هو الحال بالنسبة للرقّ مثلاً. وأخيرًا، فالريع العقاري - وهو أرقى أشكال التوزيع، لأنه يسمح للملكيّة العقاريّة بأن تساهم في توزيع المنتجات – يفترض سلفًا لا مجرد توفّر الأرض، بل يفترض وجود الملكيّة العقاريّة الكبيرة (أو أنه، بتعبير أدق، يفترض سلفًا وجود الإنتاج الزراعي الواسع النطاق) كعامل من عوامل الإنتاج؛ تمامًا مثلما الأجر لا يفترض وجود العمل وحسب [وإنّما العمل المأجور تحديدًا أيضًا- المترجم].

وهكذا تظهر علاقات وأنماط التوزيع بكلّ بساطة على أنّها الوجه الآخر لعوامل الإنتاج. والفرد الذي يساهم في الإنتاج على شكل عمل مأجور إنما يساهم في المنتجات، في نتائج الإنتاج، عن طريق الأجور. إنّ بنية التوزيع محكومة كليًّا ببنية الإنتاج. فالتوزيع هو ذاته أحد منتجات الإنتاج ليس من حيث موضوع الإنتاج وحسب (لأنه لا يمكن توزيع إلا ما يصدر عن الإنتاج)، وإنّما من حيث شكله أيضًا. لأنّ نمط المساهمة في الإنتاج يقرّر الأشكال المخصوصة التي يكتسبها التوزيع، أي أنه يقرّر شكل مساهمة المنتج في التوزيع. من هنا، فمن الخطل المبالغ تصنيف الأرض في باب «الإنتاج» والريع العقاري في باب «التوزيع»، إلخ.

إنّ اقتصاديين من أمثال ريكاردو، المتهمين بنوع خاص بأنهم لا يهتمون إلا بالإنتاج، نظروا إلى التوزيع، بناء على ذلك، على أنه موضوع الاقتصاد السياسي دون سواه، لأنهم أدركوا بالغريزة أنّ أشكال التوزيع هي التعبير الأكثر خصوصية عن عوامل الإنتاج في مجتمعٍ معيّن.

طبيعي أن يظهر التوزيع، في عين الفرد، بما هو قانون اجتماعي يقرّر له موقعه في إطار الإنتاج، أي أنه الإطار الذي يمارس الفردُ الإنتاجَ داخله، فيبدو بذلك التوزيع على أنه سابق على الإنتاج. فالفرد يأتي إلى الدنيا وهو لا يملك رأس المال ولا الملكيّة العقاريّة. فيعيّن له التوزيعُ الاجتماعي، عند ولادته، ممارسةَ العمل المأجور. على أنّ هذه التبعية هي ذاتها نتاج وجود رأس المال والملكيّة العقاريّة كعاملين مستقلّين من عوامل الإنتاج.

أما على صعيد المجتمعات بأسرها، فيبدو أن التوزيع سابق على الإنتاج ومتحكّم به من منظار آخر، فكأنّه معطًى من المعطيات قبل الاقتصاديّة. إنّ شعبًا غازيًا يوزع الأراضي على الغزاة، يفرض توزيعًا معيّنًا للأرض وشكلاً معيّنًا من أشكال ملكية الأرض، فيتحكّم بالتالي بالإنتاج. فإمّا أن يحوّل الشّعبَ المغلوبَ على أمره إلى شعبٍ من العبيد الأرقّاء، جاعلاً من الرقّ قاعدةً للاقتصاد، وإما أن يثور الشّعبُ ويفتّت الملكيّة الكبيرة، فيضفي بهذا التوزيع الجديد طابعًا جديدًا على الإنتاج، أو تكرّس منظومةٌ من القوانين سيطرةَ بضع أسر على الملكيّة على أساس وراثي، أو توزع العمل بما هو امتياز وراثي فتحصره في مراتب حصرية. لا يبدو في جميع هذه الحالات المستمدّة من التاريخ أنّ الإنتاج ينظّم التوزيع ويحكمه، بل بالعكس يبدو أنّ التوزيع هو الذي ينظّم الإنتاج ويحكمه.

التوزيع، في أبسط تعريفٍ له، يبدو كتوزيع للمنتجات، ويبدو بالتالي كحيّز مستقلّ، أبعد ما يكون عن الإنتاج. ولكنّ التوزيع، قبل أن يكون توزيعًا للمنتجات، هو أوّلاً توزيع لأدوات الإنتاج وهو، ثانيًا، توزيع لأفراد المجتمع بين فروع الإنتاج المختلفة، أي خضوعهم لعلاقات إنتاج محدّدة (وما هذا إلا تحديد آخر من تحديدات العلاقة ذاتها). وتوزيع المنتجات، بالبداهة، إن هو إلا حصيلة التوزيع آنف الذكر، المنخرط ضمن عمليّة الإنتاج ذاتها والذي يتحكّم ببنيتها. ولا تعني معالجة الإنتاج مغفلين هذا النوع من التوزيع الداخلي المنخرط فيه، إلا تحويله إلى تجريدٍ أخرق.

وعليه يمكن استخلاص مقولة توزيع المنتجات من التوزيع آنف الذكر الذي هو في الأصل عامل من عوامل الإنتاج. ولأنّ ريكاردو يسعى بخاصّة إلى تحليل الإنتاج داخل بنيته الاجتماعيّة المخصوصة- فكان بذلك منظّر الإنتاج اقتصاديًّا بلا منازع- فهو يؤكّد أنّ التوزيع، وليس الإنتاج، هو الفاعل الحقيقي للاقتصاد السياسي. ومن هنا تهافت الاقتصاديّين الذين يعالجون الإنتاج وكأنه حقيقة خالدة، ويقْصرون التاريخ على مجال التوزيع فقط.

إنّ معرفة نوع العلاقة القائمة بين التوزيع والإنتاج الذي يتحدّد به تنتمي إلى مجال الإنتاج ذاته. أمّا إذا قيل إنّ التوزيع يسبق الإنتاج ويشكّل شرطه المسبق، على الأقلّ لكون الإنتاج لا يبدأ إلا انطلاقًا من توزيعٍ معيّنٍ لأدوات الإنتاج، فيمكن الإجابة على هذا القول بأنّ للإنتاج شروطه ومعطياته المخصوصة التي تشكّل مقوّمات وجوده. وقد تظهر هذه في البدء كمعطياتٍ طبيعيّة. وإذا بعمليّة الإنتاج ذاتها تحوّل هذه المعطيات الطبيعية إلى معطيات تاريخيّة. ولما كانت تبدو، خلال فترة، كمعطيات طبيعية للإنتاج، إلا أنّها تبدو، في فترةٍ لاحقة، كمحصّلة تاريخيّة من محصّلات الفترة الأولى. وبالإضافة لذلك، تتحول هذه المعطيات باستمرار داخل حيّز الإنتاج. فنجد مثلاً أنّ المكننة قد عدّلت من توزيع أدوات الإنتاج ومن نمط توزيع المنتجات على حدّ سواء. كذلك فإنّ الملكيّة العقاريّة الكبيرة الحديثة هي نتيجة التجارة والصناعة الحديثتين بقدر ما هي تطبيق لهذه الأخيرة - الصناعة- على مجال الإنتاج الزراعي.

إنّ المسائل المشار إليها أعلاه تتلخّص في التحليل الأخير بما يلي: ما هو أثر الظروف التاريخيّة على الإنتاج؟ وما الدور الذي تلعبه في التطوّر التاريخي؟ بديهي أنّ الإجابة عن هذه المسألة رهنٌ بنقاش وتحليل الإنتاج نفسه.

إلا أنّ الطريقة الضحلة التي تثار بها المسألة أعلاه تسمح بالبتّ بها سريعًا. في جميع الفتوحات تبرز ثلاثة احتمالات: يفرض الشعبُ الفاتح على الشعب المقهور نمطَ الإنتاج الخاصّ به (كما فعل الإنكليز في إيرلندة حتى الآن، وكما فعلوا بدرجة أقلّ في الهند)، أو يسمح الفتح باستمرار نمط الإنتاج السابق مكتفيًا بتحصيل الجزية (كما فعل الأتراك والرومان)، أو يقوم تفاعل ينجم عنه نمط إنتاج مركّب جديد (وهذا ما حصل نسبةً للفتوحات الجرمانيّة في بعض البلدان). وفي كلّ الاحتمالات يكون نمط الإنتاج هو العامل المقرّر لشكل التوزيع الجديد- أكان نمط إنتاج الشعب الغالب، أم نمط إنتاج الشعب المغلوب أم نمط الإنتاج الناجم عن تفاعلهما. وعلى الرغم من أنّ التوزيع قد يبدو الشرطَ المسبق للفترة الإنتاجية الجديدة، إلا أنها بدورها محصّلة من محصّلات الإنتاج، ليس الإنتاج التاريخي بشكل عام وحسب وإنما أيضًا محصّلة إنتاج هذه الحقبة التاريخية أو تلك.

باجتياحهم لروسيا، كان المغول مثلاً، يلبّون حاجات نمط الإنتاج الخاصّ بهم- القائم على رعي المواشي- الذي يتطلّب مساحات مترامية الأطراف وغير مأهولة بالسكان. كذلك فالبرابرة الجرمان- الذين يقوم نمط إنتاجهم التقليدي على الزراعة بواسطة الأقنان والحياة المعزولة في الأرياف- تمكّنوا من إخضاع المقاطعات الرومانيّة لهذه الشروط بسهولة أكبر لأنّ تمركز الملكيّة العقاريّة كان قد أطاح كليًّا بالنظام الزراعي القديم.

ثمّة صورة مغلوطة للأمور تعتبر أنّ البشر عاشوا على النهب فقط في بعض حقبات التاريخ. ولكن لكي تقوم عملية النهب، أصلاً، لا بدّ من وجود شيء يُنهب. أي لا بدّ من توافر إنتاج ما. هذا يعني أنّ نمط النهب يتحدّد بدوره حسب نمط الإنتاج السّائد. ذلك أنّ أمّة من مضاربي البورصة لا تنهب بالطريقة ذاتها التي تنهب فيها أمّة من رعاة البقر.

إن سرقة رقيق تعني سرقة وسيلة إنتاج مباشرة. ولكن ليكون النهب ممكنًا، يجب أن تكون البنية الإنتاجيّة للبلد المستفيد من هذا النهب قابلة للتكيّف مع العمل بواسطة الأرقّاء، أو أن يكون قادرًا على بناء نمط إنتاج متلائم مع الرق (كما هو الحال في أميركا الجنوبيّة).

تستطيع القوانين أن تديم ملكيّة بعض الأسر لوسيلة إنتاج معيّنة، كالأرض مثلاً، لكن هذه القوانين لا تكتسب أهمية اقتصاديّة إلا عندما تكون الملكيّة العقاريّة الكبيرة منسجمة مع الإنتاج الاجتماعي، كما في إنكلترا مثلاً. أما في فرنسا، فقد مورس الإنتاج الزراعي الصغير على الرغم من وجود الملكيّة العقاريّة الكبيرة، علمًا بأنّ الثورة عام ١٧٨٩ قد فتّتت هذه الملكيّة. ولكن ماذا يحصل إذا حاولنا تكريس تفتّت الملكية الزراعية مثلاً عن طريق سنّ القوانين؟ لا بدّ للملكيّة من أن تتمركز على الرغم من هذه القوانين. ولا بدّ إذن من أن نعالج على حدة أثرَ القوانين في المحافظة على علاقات التوزيع وبالتالي على أثرها في الإنتاج.

١٨١٨-١٨٨٣