رأس المال: الفصل الرابع والعشرون (93) ما يسمى بالتراكم الأولي


كارل ماركس
الحوار المتمدن - العدد: 6983 - 2021 / 8 / 9 - 09:47
المحور: الارشيف الماركسي     



ما يسمى بالتراكم الأولي
1) سر التراكم الأولي
لقد رأينا كيف يتحول النقد إلى رأسمال، وكيف ينجب رأس المال فائض القيمة وكيف ينجب فائض القيمة رأسمالاً أكبر. غير أن تراكم رأس المال يفترض سلفاً فائض القيمة، وفائض القيمة يفترض سلفاً الإنتاج الرأسمالي، والإنتاج الرأسمالي يفترض سلفا وجود كتل كبيرة من رأس المال وقوة العمل بين أيدي منتجي السلع. وتبدو هذه الحركة، إذن، وكأنها تدور برمتها في حلقة مفرغة لا يسعنا الفكاك منها إلا بافتراضنا أن تراكماً «أولياء» (أو «تراكماً سابقا» «previous accumulation» حسب تعبير آدم سميث) قد سبق التراكم الرأسمالي، وهو ليس نتيجة نمط الإنتاج الرأسمالي، بل نقطة انطلاقه.

ويلعب هذا التراكم الأولي في الاقتصاد السياسي دوراً يماثل، على وجه التقريب، الدور الذي تلعبه الخطيئة الأصلية في اللاهوت: لقد قضم آدم التفاحة، فحلت الخطيئة في الجنس البشري. ويفسر هذا التراكم بحكايات عنه كقصة من نوادر الماضي. ففي قديم الزمان، كان هناك نوعان من الناس، فمن جهة، كانت هناك نخبة، مثابرة، ذكية، وقبل كل شيء، مقتصدة؛ ومن جهة أخرى، كان هناك صعاليك كسالى يبددون كل ما عندهم، بل أكثر، في حياة مستهترة. حقا إن الأسطورة اللاهوتية عن الخطيئة الأصلية تحكي لنا كيف حلت على الإنسان لعنة أن يأكل خبزه بعرق جبينه، أما تاریخ الخطيئة الاقتصادية الأصلية فيكشف لنا كيف ظهر أناس لا حاجة بهم إلى مثل ذلك، بأي حال.

لا بأس! هكذا حدث أن راكم الطرف الأول الثروة، ولم يبق لدى الطرف الثاني، آخر المطاف، شيء للبيع، غير جلده بالذات. فبهذه الخطيئة الأصلية يبدأ تاريخ فقر الأغلبية العظمى، التي لا تملك حتى الآن ما تبيع غير نفسها بالذات، رغم كل ما تبذل من عمل، كما يبدأ تاريخ ثراء القلة الذي يتنامى باطراد، رغم أنها كفت عن العمل منذ أمد بعيد. ويكرر السيد نبير، مثلا، مثل هذه السخافات المبتذلة على مسامع الفرنسيين، الذين كانوا يوما على قدر بالغ من الذكاء، دفاعا عن الملكية (propriété)، وهو يجترها بوقار رجال الدولة. ولكن ما إن تبرز مسألة الملكية إلى الميدان حتى يقضي الواجب المقدس دعم وجهة نظر کتب تهجي الأطفال باعتبارها الشيء الوحيد المناسب لجميع الأعمار، وجميع مراحل النمو. ومن المعروف، أن الفتح والاستعباد والنهب والقتل، وباختصار العنف، تلعب دورا كبيراً في التاريخ الفعلي. أما تاريخ الاقتصاد السياسي الوديع فقد سادت فيه منذ سحيق الزمان أنشودة البساطة والطمأنينة. فهو يدعي أن الحق و «العمل» کانا، في كل زمان، الوسيلة الوحيدة للاغتناء، وبالطبع، فإن العام الحالي، يستثنی دائما. أما في الواقع فإن طرائق التراكم الأولي قد تكون أي شيء عدا البساطة والطمأنينة.

إن النقود والسلع ليست بالضرورة رأسمالا في حد ذاتها، شأنها في ذلك شأن وسائل العيش ووسائل الإنتاج. فهي بحاجة إلى أن تتحول إلى رأسمال. ولكن هذا التحول لا يجري إلا في ظل ظروف معينة تتركز في الأمر التالي: ينبغي أن يلتقي نوعان مختلفان جدا من مالكي السلع، وأن يعقدا الصلة بينهما؛ من جهة أولی، مالكو النقد ووسائل الإنتاج ووسائل العيش، المتلهفون إلى شراء قوة عمل الغير بغية إنماء قيمة مقدار القيمة الذي يملكون؛ ومن جهة ثانية، عمال أحرار، يبيعون قوة عملهم الخاصة، وبالتالي يبيعون عملا. وهم عمال أحرار بمعنی مزدوج، فلا هم أنفسهم يعدون جزءا مباشرة من وسائل الإنتاج، كما هو حال العبيد والأقنان، إلخ، ولا هم ممن يملكون وسائل الإنتاج کالفلاحين الذين يديرون استثمارات خاصة بهم، إلخ. بل هم متحررون من وسائل الإنتاج، خاليو الوفاض منها، محرومون منها. بهذا الاستقطاب في سوق السلع تنشأ الشروط الأساسية للإنتاج الرأسمالي. إن العلاقة الرأسمالية تفترض سلفاً فصل العمال عن ملكية الشروط التي يحققون بواسطتها عملهم. وعندما يقف الإنتاج الرأسمالي على قدميه بالذات، فإنه لا يحافظ على هذا الفصل فحسب، بل يجدد إنتاجه على نطاق يتسع باستمرار. إذن، فالعملية التي تولد العلاقة الرأسمالية، ليست سوى عملية فصل العامل عن ملكية شروط عمله؛ وهي عملية تحويل وسائل الإنتاج الاجتماعية ووسائل العيش إلى رأسمال، من جهة، وتحويل المنتجين المباشرين إلى عمال مأجورين من جهة أخرى. وعلى هذا فإن ما يسمى بالتراكم الأولي، ليس سوى العملية التاريخية لفصل المنتج عن وسائل الإنتاج. وهي تبدو «أولية»، لأنها تؤلف مرحلة ما قبل تاريخ رأس المال ونمط الإنتاج المطابق له.

إن البنية الاقتصادية للمجتمع الرأسمالي قد ولدت من أحشاء البنية الاقتصادية للمجتمع الاقطاعي. وانحلال هذا الأخير حرر عناصر الأول.

ولم يكن بوسع المنتج المباشر، أي العامل، أن ينصرف بشخصه، إلا بعد أن ينقطع الرباط الذي يقيده بالأرض، ويكفّ عن كونه قنا ومملوكاً لشخص آخر. ولكي يغدو بائعاً حرا لقوة العمل، يحمل سلعه إلى حيث تجد سوقاً، فقد كان ينبغي عليه، أيضا، أن يتحرر من سيطرة الطوائف الحرفية المغلقة، ونظمها المتعلقة بالمتمرنين والصناع، ومن القواعد المفيدة الأخرى الخاصة بالعمل. وهكذا، فإن الحركة التاريخية التي تحول المنتجين إلى عمال مأجورين، تبدو، من ناحية أولی، كتحرير لهم من القنانة ومن أغلال الطوائف الحرفية، وهذه الناحية هي وحدها الموجودة بنظر مؤرخينا البورجوازيين. ولكن هؤلاء المحررين تواً، لا يصبحون، من ناحية ثانية، باعة أنفسهم إلا بعد أن نهب منهم وسائل إنتاجهم كافة، وتنهب منهم جميع ضمانات العيش التي كانت توفرها المؤسسات الاقطاعية القديمة. وتاريخ انتزاع ملكية هؤلاء مسجل في مدونات البشرية بحروف من دم ونار.

وكان على الرأسماليين الصناعيين، هؤلاء الملوك الجدد، لا أن يزيحوا المعلمين الحرفيين فحسب، بل أن يزيحوا أيضا السادة الاقطاعيين الذين كانوا يملكون مصادر الثروة. وفي هذا الجانب، يتجلى صعودهم بمثابة ثمرة نضال ظافر ضد سلطة الاقطاع وامتيازاتها البغيضة، وضد الطوائف الحرفية وأغلالها المقيدة لحرية تطور الإنتاج وحرية استغلال الإنسان للإنسان. غير أن فرسان الصناعة لم يفلحوا في إقصاء فرسان السيف إلا باستغلال أحداث كانوا براء منها تماما. لقد بزغ نجمهم باستخدامهم وسائل وضيعة كتلك التي مكنت العبيد الرومان المعتقين، من أن يصبحوا سادة مالكيهم (patronus)، فيما مضى من الزمان.

وكان استعباد العامل نقطة انطلاق التطور الذي أدى إلى ظهور العامل المأجور والرأسمالي معا. وتمثل هذا التطور في تبديل شكل استعباد العامل، في تحويل الاستغلال الاقطاعي إلى استغلال رأسمالي. ولفهم مسار هذا التطور، لا حاجة بنا إلى التوغل بعيدا في الماضي. ورغم أننا نصادف أولى براعم الإنتاج الرأسمالي مبعثرة، في بعض مدن البحر المتوسط، منذ القرن الرابع عشر أو القرن الخامس عشر، فإن تاریخ الحقبة الرأسمالية يبدأ في القرن السادس عشر فقط. وحيثما تظهر هذه الحقبة، يكون إلغاء القنانة قد تحقق منذ أمد بعيد، وتكون أروع مراحل تطور القرون الوسطى، أي وجود المدن المستقلة، قد اعتراها الأفول. وفي تاريخ التراكم الأولي نجد أن التحولات، التي تخدم بمثابة روافع للطبقة الرأسمالية في مجری تکونها، هي التي تشكل عصوراً في هذا التاريخ، وتقف في مقدمتها تلك اللحظات التي تقصي فيها جماهير غفيرة، بغتة وعنوة، عن وسائل عيشها، ويلقي بها في سوق العمل بهيئة بروليتاريين شریدین بلا حماية (*). إن انتزاع الأرض من المنتج الزراعي، الفلاح، هو أساس هذه العملية برمتها. ويتخذ تاريخ انتزاع الملكية هذا صورة مختلفة، باختلاف البلدان، ويمر بأطواره المختلفة، في تعاقب مختلف، وفي حقب تاريخية مختلفة. ولم يتخذ شكلا كلاسيكياً إلا في إنكلترا، ولذلك نأخذها مثالا(1).

_________

(*) حرفياً: (Vogelfreie) طريد، شرید أو: مجرد من الحماية. [ن. ع].
(1) في إيطاليا، حيث تطور الإنتاج الرأسمالي قبل أي بلد آخر، تفسخت علاقات الفنانة أيضا قبل تفسخها في أي بلد آخر. لقد انعتق القن في هذا البلد قبل أن يوفر لنفسه أي حق أقدمية في الأرض. لذلك فإن تحرره قد حوله، في الحال، إلى بروليتاري شريد بلا حماية. وعلاوة على ذلك، فقد وجد في انتظاره سيداً جاهزاً في المدن، التي بقيت، في معظمها، موروثة منذ عهد روما. وحين قضت ثورة السوق العالمية على التفوق التجاري لشمال إيطاليا، في نهاية القرن الخامس عشر تقريبا(م)، بدأت حركة في الاتجاه المعاكس. فقد سبق عمال المدن بالجملة إلى الريف، مما أعطى دفعاً، لا نظير له من قبل، لازدهار الزراعة الفلاحية الصغيرة الجارية على شکل بستنة.
(م) ثورة السوق العالمية: إثر الاكتشافات الجغرافية: اكتشاف كوبا وهايتي والجزء القاري من أميركا الشمالية والطريق البحري إلى الهند عبر رأس الرجاء الصالح، تقلص الدور التجاري لجنوه والبندقية ومدن شمال إيطاليا بدءا من القرن الخامس عشر. [ن. برلین].