رأس المال: الفصل الثالث عشر (62) د) العمل المنزلي الحديث


كارل ماركس
الحوار المتمدن - العدد: 6635 - 2020 / 8 / 3 - 23:27
المحور: الارشيف الماركسي     


الآلات والصناعة الكبرى
8) دور الصناعة الكبرى في تثوير المانيفاکتورة والحرفة اليدوية والعمل المنزلي
د) العمل المنزلي الحديث
نأتي الآن إلى ما يسمى بالعمل المنزلي. وبغية تكوين فكرة عن مجال الاستغلال هذا الذي يقوم به رأس المال في الفناء الخلفي للصناعة الكبرى، وعن الفظاعات المرتكبة في هذا المجال، يمكن أن نتناول مثلا حرفة صنع المسامير التي تبدو في الظاهر رغيدة تماما والتي تُزاول في بعض القرى النائية في إنكلترا (1). حسبنا أن نتوقف، هنا، عند بضعة أمثلة مستقاة من فروع مثل إنتاج المخرّمات والقش المضفور، وهي فروع لا تستخدم الآلات البتة ولا تنافس الإنتاج الآلي والمانيفاکتوري. يسري مفعول قانون المصانع لعام 1861 على حوالي 10,000 من أصل 15,000 شخص يعملون في إنتاج المخرّمات في إنكلترا. وتؤلف النساء والأحداث والأطفال من كلا الجنسين الغالبية الساحقة من الباقين البالغ عددهم 140,000 شخص، علما بأن نسبة جنس الذكور متدنية تماما. وتتضح الحالة الصحية لمادة الاستغلال الرخيصة، هذه من الجدول التالي الذي وضعه الدكتور ترومان، الطبيب في المستوصف العمومي للفقراء (General Dispensary) في نوتنغهام. فمن أصل 686 عاملة مخرّمات مريضة، تتراوح أعمار غالبيتهن بين 17 – 24 سنة، كانت المصابات بالسل منهن (2):

السنة | الإصابة | السنة | الإصابة
_______________________
1852 | 1 من 45 | 1875 | 1 من 13
_______________________
1853 | 1 من 28| 1858 | 1 من 15
_______________________
1854 | 1 من 17| 1859 | 1 من 9
_______________________
1855 | 1 من 18| 1860 | 1 من 8
_______________________
1856 | 1 من 15| 1861 | 1 من 8

ومن شأن هذا الاطراد المتصاعد في نسبة الإصابات بالسل أن يكفي أشد دعاة التقدم تفاؤلا وأكثر مروجي نظرية التجارة الحرة الألمان كذباً.

إن قانون المصانع لعام 1861 يشمل صنع المخرّمات بمقدار ما يجري بواسطة الآلات، وهذه هي القاعدة العامة في إنكلترا. وإن الفروع التي نعالجها هنا بإيجاز – علما أن ذلك يتعلق بالعمال المنزليين، لا بأولئك المتركزين في المانيفاکتورات والمخازن وإلخ – تنقسم: 1) إلى “المعالجة النهائية” (Lace finishing) للمخرّمات التي تصنع بالآلات؛ وهذه الفئة تشمل بدورها أقساماً فرعية عديدة؛ 2) نسج المخرمات. وتجري المعالجة النهائية للمخرمات (lace finishing) في إطار العمل المنزلي، أما في ما يسمى «بيوت الست» (mistresses houses)، أو في بيوت سكن النساء اللواتي يعملن لوحدهن أو مع أطفالهن. وإن مالكات «بيوت الست» نساء فقيرات أصلا. ويقع المشغل في جانب من منزل سكنهن. فهن يستلمن الطلبيات من الصناعيين وأصحاب المخازن وسواهم، ويستأجرن نساء وفتيات وأطفالا صغاراً بأعداد تتناسب مع سعة الحجرة وتقلبات الطلب في المهنة. ويتراوح عدد العاملات المشتغلات بين 20 و40 في بعض هذه المشاغل وبين 10 و20 في بعضها الآخر. ويبلغ متوسط أدنى عمر لعمل الأطفال 6 سنوات، إلا أن بعضهم يبتدىء العمل حتى قبل سن الخامسة. ويستمر وقت العمل عادة من الثامنة صباحا حتى الثامنة مساء مع توقف لمدة 1/2، 1 ساعة لتناول الطعام الذي لا يجري بصورة منتظمة وغالبا ما يتم في جحور العمل النتنة تلك. وعندما تزدهر الأعمال يتواصل العمل في الغالب من الثامنة صباحا (وأحيانا من السادسة) حتى العاشرة أو الحادية عشرة أو الثانية عشرة ليلا. إن الثكنات العسكرية الإنكليزية تخصص لكل جندي 500 – 600 قدم مكعب، وفي المستشفيات العسكرية 1200 قدم مكعب. أما في جحور العمل هذه فلا تعدو حصة الشخص الواحد 67 – 100 قدم مكعب. وفي الوقت نفسه تستنفذ مصابيح الغاز أوكسيجين الهواء. وللحفاظ على نظافة المخرّمات ينبغي على الأطفال خلع أحذيتهم، حتى في الشتاء رغم أن الأرض مبلطة بالأحجار أو الآجر.

“لا يندر أن يرى المرء في نوتنغهام 15 – 20 طفلا محشورين في حجرة صغيرة واحدة قد لا تزيد مساحتها عن 12 قدماً مربعاً، وهم يقومون على مدى 15 ساعة في اليوم بعمل منهك لما فيه من عناء ورتابة، علما بأنه يجري في ظل أسوأ ما يمكن تخيله من شروط منافية للصحة… ويعمل حتى الأطفال الصغار بانتباه متوتر وبسرعة مذهلة، ولا يسمحون لأصابعهم على الإطلاق تقريبا بالتوقف أو التباطؤ. وإذا توجه إليهم أحد بسؤال فإنهم لا يحيدون بنظرهم عن العمل خشية أن يضيعوا لحظة واحدة”.
. وتخدم “العصا الطويلة” بمثابة أداة بيد «الست» لحث الأطفال كلما استطال وقت العمل.

“يصاب الأطفال بالإعياء تدريجياً، فيتململون كالطير، في نهاية ذلك الحبس الطويل في عمل رتيب منهك للعيون، عمل منهك من تيبس الجسم في وضع واحد” «إن عملهم كالعبودية(3).

وحيثما تعمل النساء مع أولادهن في بيوتهن، أي بالمعنى الحديث في غرفة مؤجرة في علية على الأغلب، يكون الوضع أسوأ بعامة. وينتشر هذا النوع من العمل على مدار 80 ميلا حول نوتنغهام. وعندما يغادر الطفل المخزن الذي يعمل فيه حتى الساعة 9 أو 10 مساء يعطى في كثير من الأحيان رزمة أخرى للعمل في البيت. وبالطبع، فإن الرأسمالي الفريسي، ممثلا بشخص أحد أتباعه المأجورين، ينطق عند ذلك بجملة معسولة قائلا: “هذا من أجل أمك”، رغم أنه يعلم علم اليقين أن على الطفل المسكين أن ينكب على العمل لمساعدة الأم (4).

تنتشر صناعة المحرمات بصورة رئيسية في منطقتين زراعيتين في إنكلترا: مقاطعة هونیتون للمخرمات على امتداد 20 – 30 ميلا بمحاذاة الشاطىء الجنوبي لدیفون شایر وأماكن متفرقة من ديفون الشمالية، وفي منطقة أخرى تشمل قسماً كبيراً من مقاطعات باكينغهام وبدفورد نورثهامبتون والمواضيع المجاورة من أوكسفورد شایر وهانتينغدون شایر. وتستخدم «أكواخ» (Cottages) الأجراء الزراعيين عادة كمشاغل. ويستخدم بعض أصحاب المانيفاکتورات أكثر من 3000 من أمثال هؤلاء العمال المنزليين، غالبيتهم من الأطفال والأحداث من الإناث تحديدا. ونلاحظ هنا من جديد الأوضاع التي ورد وصفها بصدد انجاز المخرّمات (lace finishing). وليس ثمة سوى فارق واحد هو أنه بدلا من «بيوت الست» (mistresses houses) تظهر “مدارس المخرّمات” (lace schools) المزعومة التي تديرها نساء فقيرات في أكواخهن. يعمل الأطفال في هذه المدارس من سن الخامسة، بل أقل من ذلك أحيانا، وحتى سن 12 – 15 سنة ما يناهز 4 – 8 ساعات بالنسبة لأصغرهم في السنة الأولى، وبعد ذلك من السادسة صباحا حتى الثامنة أو العاشرة مساء.

“إن هذه الغرف، عموما، هي غرف جلوس عادية في أكواخ صغيرة: يسد الموقد لمنع تيارات الهواء، ويترك الموجودون لالتماس الدفء في الشتاء من حرارة أجسادهم. وفي حالات أخرى تكون الغرف المدرسية المزعومة عبارة عن حجرة صغيرة بلا نوافذ أو تدفئة … وإن ازدحام هذه الجحور وفساد الهواء الناشئ منها كثيرا ما يصلان إلى أقصى حد. يضاف إلى ذلك التأثير الضار للمجاري والمراحيض والمواد المتفسخة وغير ذلك من الأقذار التي تكثر عادة في جوار الأكواخ الصغيرة”.. أما بخصوص المكان:

“في إحدى مدارس نسيج المخرّمات ثمة 18 فتاة مع المعلمة، وهناك 33 قدم مكعبة لكل شخص؛ وفي مدرسة أخرى، حيث النتانة لا تطاق، يعمل 18 شخصا لكل منهم 1/2، 24 قدم مكعبة. ونجد في هذه الصناعة أطفالا يعملون وهم في سن الثانية أو الثانية والنصف”(5). وحيثما تنتهي صناعة المخرّمات في مقاطعتي باكينغهام وبدفورد الزراعيتين يبدأ ضفر القش. وينتشر هذا العمل في قسم كبير من هيرتفوردشایر وفي النواحي الغربية والشمالية من إيسيكس. ففي عام 1861 كان يعمل في إنتاج ضفائر القش وقبعات القش 48,043 شخصا، بينهم 3815 ذكراً من مختلف الأعمار، والباقي من الإناث بينهن 14,913 فتاة دون سن العشرين، منهن حوالي 7000 طفلة. وبدلا من مدارس نسيج المخرمات تظهر هنا “مدارس ضفر القش” (straw plait schools). يبدأ الأطفال تعلّم ضفر القش من سن الرابعة عادة، وأحيانا في عمر يتراوح بين 3 و4 سنوات. وبالطبع فإنهم لا يتلقون أي تربية مدرسية. وهؤلاء الأطفال أنفسهم يسمون المدارس الابتدائية والمدارس الطبيعية (natural schools) تمييزاً لها عن هذه المؤسسات مصاصة الدماء التي يحشرون فيها للعمل من أجل أن ينفذوا المهمة التي تعهدها إليهم أمهاتهم المتضورات جوعاً والبالغة في غالبية الحالات 30 یاردة في اليوم. وغالبا ما تقوم هاته الأمهات أنفسهن بدفع الأطفال إلى العمل لاحقا في البيت أيضا حتى الساعة 10 أو 11 أو 12 ليلا. ويحز القش أصابعهم، كما يحز أفواههم حين يبللونه بلعابهم باستمرار. وبموجب الرأي الموحد للمفتشين الطبيين في لندن، والذي أجمله الدكتور بالارد، فإن 300 قدم مكعب للشخص الواحد تمثل الحد الأدنى من أجل غرف النوم والعمل. ولكن المكان في مدارس ضفر القش أضيق مما في مدارس نسيج المخرمات: 123، 17، 18 وأقل من 22 قدما مكعبا للشخص.

يقول المفوض وايت: “إن أصغر هذه الأرقام يشير إلى مكان أصغر من نصف ذلك الحيز الذي يشغله طفل يحشر في صندوق مکعب طول ضلعه 3 أقدام”.
وينعم الأطفال بمثل هذه السعادة في الحياة حتى سن 12 – 14. أما الأهل التعساء فلا يكلون عن التفكير في سبل امتصاص أكثر ما يمكن من أولادهم. وطبيعي عندما يكبر الأولاد أن لا يكترثوا بالأهل بل يهجرونهم.

“لا عجب في استشراء الجهل والرذيلة وسط أناس ترعرعوا على هذه الصورة … فأخلاقهم في الحضيض… ولدى كثرة من النساء أطفال غير شرعيين في عمر مبكر يثير حفيظة أكثر الخبراء اطلاعاً على الإحصائيات الجنائية” (6). وموطن هذه الأسر النموذجية هو بلد مسيحي نموذجي في أوروبا كما يقول الكونت مونتالامبرت المتبحّر من دون شك في شؤون المسيحية!

إن الأجور المزرية على العموم في فروع الصناعة التي وصفناها للتو (الحد الأقصى لأجور الأطفال في مدارس ضفر القش يبلغ في حالات استثنائية 3 شلنات فقط)، تنخفض دون مقدارها الإسمي بنتيجة نظام دفع الأجور بالسلع (trucksystem) الذي انتشر انتشارا شاملا في مناطق إنتاج المخرمات على وجه الخصوص (7).

_____________
(1) المقصود هنا المسامير المطروقة خلافة للمسامير المقطوعة التي تصنع بواسطة الآلات. أنظر: لجنة استخدام الأطفال، التقرير الثالث ص 11 و19، رقم 125-130، ص52، رقم 11؛ ص 113-114 رقم 487؛ ص137، رقم 674.
(2) لجنة استخدام الأطفال، التقرير الثاني، ص XXII، رقم 166.
(3) لجنة استخدام الأطفال، التقرير الثاني، 1864، ص XX1 – XXXIX.
(4) المرجع نفسه، ص XXII- XXL.
(5) المرجع نفسه، صXXX , XXIX.
(6) المرجع نفسه، ص XL- XLI.
(7) لجنة استخدام الأطفال، التقرير الأول، 1863، ص185.