رأس المال: الفصل الثالث عشر (57) 6) نظرية تعويض العمال الذين تزيحهم الآلات


كارل ماركس
الحوار المتمدن - العدد: 6611 - 2020 / 7 / 6 - 09:34
المحور: الارشيف الماركسي     

رأس المال: الفصل الثالث عشر (57)


الآلات والصناعة الكبرى
6) نظرية تعويض العمال الذين تزيحهم الآلات
يؤكد عدد من الاقتصاديين البورجوازيين، أمثال جيمس ميل وماکلوخ وتورنز وسنيور وجون ستيوارت میل وغيرهم، أن سائر الآلات التي تزيح العمال تحرر في الوقت نفسه بصورة دائمة وبالضرورة رأسمالا مناسباً يقدم العمل لهؤلاء العمال المزاحين (1).

لنفترض أن الرأسمالي يستخدم 100 عامل، في مانيفاکتورة لورق الجدران على سبيل المثال، وأن كلا منهم يحصل على 30 جنيه استرلينياً في السنة. وعليه، فإن رأس المال المتغير الذي يشغله الرأسمالي سنوياً يبلغ 3000 جنيه استرليني. ولنفترض أيضا أنه يسرّح 50 عاملا، ويستخدم الخمسين الباقين على آلات تكلفه 1500 جنيه استرليني. وبغية التبسيط نترك المباني والفحم وغير ذلك جانبا. ولنفترض من ثم إن المواد الأولية المستهلكة سنويا تكلف كالسابق 3000 جنيه استرليني (2). فهل “تحرر” أي رأسمال بمثل هذه الاستحالة؟ ففي ظل النمط القديم كان مجمل المبلغ الموظف وقدره 6000 جنيه استرليني يتألف بنصفه من رأسمال ثابت وبنصفه الآخر من رأسمال متغير. أما الآن فهو يتألف من 4500 جنيه استرليني (3000 جنيه استرليني في المواد الأولية الخام و1500 جنيه استرليني في الآلات) رأسمالا ثابتاً و1500 جنيه استرليني رأسمالا متغيراً. وإن الجزء المتغير من رأس المال، أي المحول إلى قوة عمل حية، لم يعد يشكل نصف بل ربع إجمالي رأس المال. وبدلا من أي تحرير يجري هنا تقييد رأس المال بشكل يكفّ معه عن التبادل مع قوة العمل، أي أنه يجري تحول رأس المال المتغير إلى رأسمال ثابت. والآن، وفي حالة بقاء الظروف الأخرى على حالها، لا يمكن لرأس المال البالغ 6000 جنيه استرليني أن يستخدم أكثر من 50 عاملاً. وبموازاة كل تحسین للآلات يقل عدد العمال الذين يستخدمهم. ولو أن الآلات الجديدة تكلف أقل من قوة العمل وأدوات العمل المزاحة بسببها، كأن تكلف مثلا 1000 جنيه استرليني بدلا من 1500 جنيه استرليني، لتحول إذن رأس المال المتغير البالغ 1000 جنيه استرليني إلى رأسمال ثابت، أي لأصبح مقيداً، ولتحرر رأسمال بمبلغ 500 جنيه استرليني. وبافتراض أن الأجور السنوية تبقى على حالها فإن رأس المال هذا يشكل رصيداً لتشغيل 16 عاملاً تقريبا – بينما جرى تسريح 50 عاملاً – وحتى أقل من 16 عاملاً بكثير لأن تحويل هذه الجنيهات الاسترلينية الخمسمائة إلى رأسمال، يقتضي تحويل جزء منها إلى رأسمال ثابت، وبالتالي لا يمكن أن يحول إلى قوة عمل سوى الجزء الباقي.

ولكن لنفترض، فضلا عن ذلك، أن إنتاج الآلات الجديدة يقدم العمل لعدد أكبر من الميكانيكيين؛ فهل يمكن أن يشكل ذلك تعويضاً لعمال مانیفاكتورة ورق الجدران الذين ألقي بهم عرض الحائط؟ في أفضل الحالات يتطلب صنع الآلات عددا من العمال أقل مما يزيحه استخدام هذه الآلات. فمبلغ الـ 1500 جنيه استرليني الذي لم يكن يمثل في السابق سوى أجور العمال المسرحين، يمثل الآن بشكل آلات: 1) قيمة وسائل الإنتاج الضرورية لصنع الآلات؛ 2) أجور الميكانيكيين الذين يصنعونها؛ 3) فائض القيمة الذي يعود إلى «رب عمل» هؤلاء الأخيرين. وفيما عدا ذلك: وبعد اكتمال الآلة، لن يصار إلى تجديدها حتى تهلك تماما. إذن، فمن أجل أن يستطيع عدد إضافي من الميكانيكيين الحصول على أشغال دائمة لا بد من أن يقوم أصحاب مصانع ورق الجدران، الواحد تلو الآخر، بإحلال الآلات محل العمال.

على أي حال لا يقصد التبريريون المذكورون حتى مثل هذا النوع من تحرير رأس المال. فهم يقصدون وسائل عيش العمال المحررين. فلا يمكن مثلا إنكار واقع أن الآلات في الحالة التي ذكرناها لا تقتصر على تحرير 50 عاملاً وتجعلهم بذلك “زائدین” (disponibel)، بل إنها تقطع في الوقت نفسه صلتهم بوسائل العيش البالغة 1500 جنيه استرليني وبذلك “تحرر” هذه الوسائل. وهكذا، فإن الواقع البسيط وغير الجديد إطلاقا، وهو أن الآلات تحرر العامل من وسائل العيش، إنما يعني بلغة الاقتصاديين أن الآلات تحرر وسائل العيش للعامل، أو أنها تحولها إلى رأسمال يقوم باستخدام العامل. وكما نرى فالقضية كلها تنحصر في أسلوب التعبير. “تخفيف الشر بمعسول الكلام” (Nominibus mollire licet mala) (*).

وبموجب هذه النظرية فإن وسائل العيش البالغة 1500 جنيه استرليني كانت رأسمالا أنمى قيمته بواسطة عمل العمال الخمسين المسرّحين. وعليه يفقد رأس المال هذا شغله عند تسريح هؤلاء الأشخاص الخمسين ولن يهدأ له بال حتى يجد «توظيفا» جديداً يتمكن هؤلاء العمال الخمسون في ظله من الحصول على إمكانية استهلاكه مجدداً بصورة إنتاجية. وهكذا، يجب على رأس المال والعمال أن يتحدوا من جديد عاجلا أم آجلا، وعندئذ يصبح التعويض واضحاً للعيان. وبالتالي، فإن آلام العمال، الذين تزيحهم الآلات، زائلة، شأن ثروات هذا العالم.

إن وسائل العيش البالغة 1500 جنيه استرليني لم تقف أبدأ إزاء العمال المسرّحين بصفة رأسمال. أما ما وقف إزاءهم كرأسمال فهو الـ 1500 جنيه استرليني المحولة الآن إلى آلات. وعند إمعان النظر في الأمر يتضح أن هذا المقدار البالغ 1500 جنيه استرليني لم يكن يمثل سوى تلك الحصة من ورق الجدران التي كان العمال الخمسون المُسرّحون ينتجونها سنوياً والتي كانوا يحصلون عليها من رب عملهم كأجور، ليس عيناً بل نقداً. وبورق الجدران هذا المحول إلى 1500 جنيه استرليني كانوا يشترون وسائل عيش بالمبلغ ذاته. لذلك لم تكن هذه الأخيرة موجودة بالنسبة إليهم كرأسمال بل كسلع، ولم يكونوا هم أنفسهم بالنسبة إلى هذه السلع عمالا مأجورين، بل كانوا شراة. وإن كون الآلات قد حررتهم، من وسائل الشراء، يعني حولتهم من شارين إلى لا شارين. ومن هنا هبوط الطلب على السلع المعنية. هذا كل ما في الأمر (Voila tout). وإذا لم يتعرض هذا الهبوط في الطلب بازدياده من مصدر ما آخر فستنخفض أسعار السلع في السوق. وإذا استمر ذلك لوقت طويل نسبياً وبمقادير كبيرة فسيجري تسريح العمال المشتغلين في إنتاج هذه السلع. وإن ذلك الجزء من رأس المال، الذي كان ينتج في السابق وسائل العيش الضرورية، سيتجدد إنتاجه الآن في شكل آخر. وفي أثناء هبوط أسعار السوق وانتقال رأس المال فإن العمال المشتغلين بإنتاج وسائل العيش الضرورية “يتحررون” كذلك من قسم معين من أجورهم. وهكذا، فبدلا من البرهنة على أن الآلة، تحرر العمال من وسائل العيش وتحول هذه الأخيرة في الوقت ذاته إلى رأسمال يستخدم هؤلاء العمال، يبرهن السيد التبريري باعتماد قانونه المجرب، الخاص بالعرض والطلب، على الأمر المعاكس، وهو أن الآلة تلقي بالعمال عرض الحائط ليس فقط في ذلك الفرع الإنتاجي الذي دخلته، بل في فروع الإنتاج التي لم تدخلها أيضا.

إن الواقع الفعلي الذي شوهه التفاؤل الاقتصادي هو هذا: إن العمال الذين تزيحهم الآلات يقذفون من الورشة إلى سوق العمل ويزيدون هناك عدد قوى العمل الصالحة للإستغلال الرأسمالي. وسنرى في الجزء السابع من هذا المجلد أن تأثير الآلات هذا، الذي يصوّر لنا هنا بمثابة تعویض للطبقة العاملة، هو في الواقع أفظع بلوى. ونكتفي هنا بالقول: بوسع العمال المطرودين من أحد فروع الصناعة أن يفتشوا بالطبع عن عمل في فرع آخر. فإن وجدوا مثل هذا العمل وأعادوا على هذا النحو، الصلة بينهم وبين وسائل العيش التي كانت قد تحررت معهم، فإن ذلك يجري بتوسط رأسمال جديد، إضافي يبحث عن استخدام له، وليس أبدا بتوسط رأس المال السابق الذي تحول الآن إلى آلات. ولكن حتى لو كان الأمر كذلك فما أضأل الفرص أمامهم! فهؤلاء التعساء الذين شوههم تقسيم العمل لا يتمتعون إلا بقيمة ضئيلة خارج مجال نشاطهم القديم بحيث لا يدخلون إلا إلى القليل من فروع العمل المتدنية، والطافحة على الدوام، والمنخفضة الأجور (3). وفيما عدا ذلك فكل فرع من فروع الصناعة يجتذب، سنوياً تياراً جديداً يقدم الفريق اللازم للتعويض عن الشواغر والنمو بصورة منتظمة. وما إن تحرر الآلات نسمة من العمال المشتغلين أصلا في فرع صناعي معين، حتى يعاد توزيع الاحتياطي الجديد واستيعابه في فروع عمل أخرى، بينما يتهاوي الضحايا الأوائل ويهلكون على الأغلب في الفترة الانتقالية.

وليس من شك على الإطلاق في واقع أن الآلات، في ذاتها، غير مسؤولة عن “تحرر” العامل من وسائل العيش. فهي ترخص المنتوج وتزيده في الفرع الذي تشمله، ولا تغير كتلة وسائل العيش المنتجة في فروع الصناعة الأخرى، بادئ الأمر. إذن، فبعد إدخال الآلات، كما قبل ذلك، تتوافر لدى المجتمع، بهذا القدر أو ذاك، كمية من وسائل العيش للعمال المحررين، هذا إذا تركنا جانباً ذلك القسم الضخم من المنتوج السنوي الذي يبدده غير العاملين. وفي ذلك إنما تكمن حجة (Pointe) التبريرية الاقتصادية! فالتناقضات والتناحرات التي لا تنفصم عن الاستخدام الرأسمالي للآلات لا وجود لها لأنها لا تنجم عن الآلات نفسها، بل عن استخدامها! وبما أن الآلة في ذاتها (an sich) تقلص وقت العمل بينما يؤدي استخدامها الرأسمالي إلى إطالته؛ وبما أنها، في ذاتها، تسهل العمل بينما يزيد استخدامها الرأسمالي شدته؛ وبما أنها في ذاتها ترمز إلى انتصار الإنسان على قوى الطبيعة، بينما يؤدي استخدامها الرأسمالي إلى استعباد الإنسان بقوى الطبيعة؛ وبما أنها في ذاتها تزيد ثروة المنتج بينما يحوله استخدامها الرأسمالي إلى فقير مدقع وإلخ، فإن الاقتصادي البورجوازي يكتفي بالقول إن دراسة الآلة في ذاتها تبرهن بأبلغ صورة أن كافة هذه التناقضات الواضحة للعيان ما هي إلا مظهر خارجي لواقع مبتذل، أما في ذاتها، وبالتالي في النظرية، فلا وجود لها إطلاقا. وعلى هذا النحو يجنّب نفسه عناء مواصلة التفكير، ويعزو، علاوة على ذلك، إلى خصمه غباء معارضة الآلة، لا معارضة استخدامها الرأسمالي.

وبالطبع، لا ينفي الاقتصادي البورجوازي إطلاقا حصول منغصات مؤقتة في هذا الشأن؛ ولكن لكل ميدالية قفاها! فهو لا يتصور أي استخدام للآلة عدا استخدامها الرأسمالي. وبالتالي، فإن استغلال الآلة للعامل يماثل، برأيه، استغلال العامل للآلة. لذا، فإن كل من يكشف عن حقيقة الاستخدام الرأسمالي للآلات إنما يرفض استخدامها بعامة، بل هو عدو للتقدم الاجتماعي! (4) وإن هذا لشبيه تماما بقول قاطع الرؤوس الشهير بيل سایکس:

“سادتي المحلفين، بالطبع حززت عنق هذا التاجر الجوال. إلا أن الذنب ليس ذنبي بل ذنب السكين. فهل نلغي استعمال السكين بسبب مثل هذه المنغصات المؤقتة؟ فلتمعنوا الفكر جيداً! فما الذي سيحدث للزراعة والحرف بدون سكين؟ أفلا تحمل السكين الإنقاذ في الجراحة، أولا تخدم أداة للعلم في يدي المُشرِّح؟ ومن ثم أفليست السكين معينة طيبة في مائدة العيد؟ أقضوا على السكين فتعودوا بنا القهقرى إلى أعماق البربرية» (5).
رغم أن الآلات تزيح العمال، لا محالة، من فروع العمل التي تدخلها، إلا أن باستطاعتها أن تؤدي إلى زيادة العمالة في فروع عمل أخرى. ولكن ليس لهذا جامع مع ما يسمى نظرية التعويض. فبما أن أي منتوج من منتوجات الآلات، کیاردة واحدة من قماش مصنوع آلياً مثلا، هو أرخص من منتوج العمل اليدوي المماثل المزاح، ينجم عن ذلك القانون المطلق التالي: إذا بقيت الكمية الإجمالية للسلع المنتجة آلية مساوية للكمية الإجمالية لما حلت محله من سلع تنتج حرفيا أو مانيفاکتورياً، فإن المقدار الإجمالي للعمل المبذول يتناقص. وإن تلك الزيادة في العمل التي يشترطها إنتاج وسائل العمل نفسها – الآلات والفحم وإلخ – لا بد أن تكون أقل من ذلك العمل الذي يتوافر بنتيجة استخدام الآلات، وإلا لما كان منتوج الآلات أرخص من المنتوج اليدوي، بل لربما كان أغلى منه، ولكن الكتلة الإجمالية للسلع، التي ينتجها عدد متناقص من العمال بواسطة الآلات، لا تقتصر على بقائها بلا تغير بل، على العكس، تنمو إلى مقادیر تتجاوز إلى حد بعيد الكتلة الإجمالية لسلع الحرفيين المزاحة. فلنفترض أن عدد العمال الذين ينتجون 400,000 ياردة من قماش الآلات أقل من عدد الذين ينتجون 100,000 ياردة من القماش اليدوي. ففي المنتوج المتضاعف أربع مرات ثمة أربعة أضعاف كمية المواد الأولية. وعليه، يجب أن يزداد إنتاج المواد الأولية أربعة أضعاف. أما ما يتعلق بوسائل العمل المستهلكة، كالمباني والفحم والآلات وغير ذلك، فإن الحدود، التي يمكن أن يزداد ضمنها العمل الإضافي الضروري لإنتاجها، تتغير طبقا للفرق بين كتلة المنتوج الآلي وكتلة المنتوج اليدوي حين يتولى إنتاج هاتين الكتلتين عدد متماثل من العمال.

لذلك، فإن اتساع المشروع الآلي في فرع صناعي يزيد على نحو مباشر الإنتاج في تلك الفروع التي تقدم له وسائل إنتاجه. أما إلى أي مدى يؤدي ذلك إلى زيادة كتلة العمال المستخدمين فذلك يتوقف، في ظل طول يوم العمل وشدة العمل المعينين، على بنية رؤوس الأموال المستخدمة، أي على التناسب بين الجزء الثابت والجزء المتغير. ويتغير هذا التناسب بدوره تغيراً كبيراً اعتمادا على مدى تغلغل الآلات في الفرع الصناعي المعني، كليا أو جزئياً. فعدد العمال المحكوم عليهم بالكدّ في مناجم الفحم والمعادن ازداد بصورة هائلة مع نمو استخدام الآلات في إنكلترا، على الرغم من أن هذه الزيادة أخذت تتباطأ في العقود الأخيرة بسبب استخدام آلات جديدة في التعدين (6). وبظهور الآلة يولد نوع جديد من العمال – منتجو الآلات. ولقد سبق أن رأينا أن الإنتاج الآلي يستولي على نحو متنام على هذا الفرع الإنتاجي أيضا (7). أما ما يتعلق بالمادة الأولية (8)، فليس ثمة شك على الإطلاق، مثلا، في أن التطور العاصف لغزل القطن لم يقتصر على حفز زراعة القطن في الولايات المتحدة ومعها تجارة الرقيق الأفريقية، كما لو في دفيئة، بل جعل من تكاثر الزنوج المهنة الرئيسية لما يسمى ولايات الرق الحدودية (**). وفي عام 1790، جرى في الولايات المتحدة أول إحصاء للعبيد، فاتضح أن عددهم 697,000 بينما وصل عددهم عام 1861 إلى ما يقارب الأربعة ملايين. ومن جهة أخرى فإن من الصائب أيضا القول إن ازدهار مصانع الصوف الآلية، والتحويل المتزايد للأراضي المحروثة إلى مراع للأغنام، قد أدى إلى طرد العمال الزراعيين وتحويلهم إلى «أعداد فائضة» على نطاق واسع. ولا تزال هذه العملية جارية حتى الآن في إيرلندا التي تقلص عدد سكانها بعد عام 1845 إلى النصف تقريبا، ويواصل التقلص إلى مستويات تتناسب تماما مع حاجات كبار ملاك الأرض الإيرلنديين والسادة أصحاب مصانع الصوف الإنكليز.

حين تستولي الآلة على المراحل الأولية أو الوسيطة التي يجتازها موضوع العمل قبل أن يكتسب شكله النهائي، فإن مادة العمل تزداد ويزداد معها الطلب على العمل في فروع

الإنتاج تلك التي لا تزال تعمل بالأسلوب الحرفي أو المانيفاکتوري والتي يرد إليها منتوج الآلات. وعلى سبيل المثال قدم الغزل الآلي غزولاً رخيصة ووفيرة حيث كان بوسع النساجين اليدويين في البداية أن يعملوا طيلة الوقت دون أي زيادة في النفقات. ولذلك ازداد دخلهم (9). أدى ذلك إلى تدفق البشر على مهنة نسيج القطن حتى قضى النول البخاري آخر الأمر على 800,000 نساج من الذين كانت آلات الغزل – جيني (Jenny)، والمغزل المائي، وآلة الغزل الأوتوماتيكي، المول – قد أوجدتهم في إنكلترا. وعلى هذا النحو أيضا يؤدي ازدياد وفرة الأقمشة الآلية المخصصة للباس إلى زيادة عدد الخياطين وعاملات الأزياء والخياطات قبل ظهور ماكينة الخياطة.

وبمقدار ما تزداد كتلة المواد الأولية والمصنوعات شبه الجاهزة وأدوات العمل وغيرها، التي يقدمها الإنتاج الآلي باستخدام عدد ضئيل نسبياً من العمال، فإن معالجة هذه المواد الأولية والمصنوعات شبه الجاهزة تتشعب إلى فروع عديدة فينمو بذلك تنوع فروع الإنتاج الاجتماعي. وإن الإنتاج الآلي يدفع التقسيم الاجتماعي للعمل قُدماً، بما لا يقاس حتى مع ما أنجزته المانيفاکتورة، ذلك لأنه يزيد، بدرجة أكبر، القدرة الإنتاجية في الصناعات التي يستولي عليها.

إن النتيجة المباشرة لاستخدام الآلات تنحصر في أنها تزيد فائض القيمة وتزيد معه كتلة المنتوجات التي يتمثل فيها فائض القيمة هذا؛ إذن، فهي تنحصر في أن الآلات تزيد ذلك الجوهر المادي الذي تستهلكه طبقة الرأسماليين وأتباعها، مثلما تزيد حجم هذه الشرائح الاجتماعية نفسها. وإن تنامي ثروة هذه الشرائح والتضاؤل النسبي المستمر لعدد العمال اللازمين لإنتاج وسائل العيش الضرورية يخلقان، حاجات جديدة إلى مواد الترف، سوية مع وسائل جديدة لإشباعها. وبذا يتحول قسم متعاظم من المنتوج الاجتماعي إلى منتوج فائض ويصار إلى إعادة إنتاج واستهلاك قسم متعاظم من المنتوج الفائض بأشكال مترفة بالغة التنوع. وبتعبير آخر: يزداد إنتاج مواد الترف (10). وإن أناقة المنتوجات وتنوعها المتناميين ينجمان كذلك عن الشروط الجديدة التي تخلقها الصناعة الكبرى في السوق العالمية. ولا يقتصر الأمر على مبادلة كمية أكبر من مواد الاستهلاك الأجنبية بالمنتوج الوطني، بل يتعداه إلى أن الصناعة الوطنية تستقبل كتلة متعاظمة من المواد الأولية والمواد شبه المصنعة الأجنبية وتستخدمها كوسائل إنتاج. وبتطور هذه العلاقات مع السوق العالمية ينمو الطلب على العمل في صناعة النقل. وتنقسم هذه الأخيرة إلى أنواع فرعية جديدة متعددة (11).

إن ازدياد وسائل الإنتاج ووسائل العيش والانخفاض النسبي لعدد العمال يحفز على توسيع العمل في فروع الإنتاج التي لا تؤتي منتوجاتها ثماراً إلا في المستقبل البعيد، كالقنوات وأحواض السفن والأنفاق والجسور وسواها. ويتيح الإنتاج الآلي، إما مباشرة، أو على أساس التحولات الصناعية العامة المقترنة به، نشوء فروع إنتاج جديدة تماما، وبالتالي نشوء مجالات عمل جديدة أيضا. ولكن موقع هذه الفروع الجديدة ما يزال ضئيلا في عموم الإنتاج حتى في أكثر البلدان تطوراً. فعدد العمال الذين تستخدمهم يتناسب طرديا مع تجدد حاجتها إلى العمل اليدوي الأشد بساطة. ويمكن اعتبار مصانع الغاز، وخطوط التلغراف، والتصوير الفوتوغرافي، والملاحة البحرية، وسكك الحديد من ضمن الفروع الرئيسية لهذا النوع من الصناعة في الوقت الحاضر. وبموجب إحصاء عام 1861 (في إنكلترا وويلز) كانت صناعة الغاز (مصانع الغاز وإنتاج الأجهزة الآلية ووكلاء شركات الغاز وإلخ) تستخدم 15,211 شخصا، وخطوط التلغراف 2399 شخصا، والتصوير الفوتوغرافي 2366 شخصا، والملاحة البحرية 3570 شخصا، وسكك الحديد 70,599 شخصا، بمن فيهم نحو 28,000 شخص من الحفارين “غير الماهرين”، يعملون بصورة دائمة بهذه الدرجة أو تلك، وسائر الموظفين الإداريين والعاملين في المكاتب التجارية. وبذا يبلغ العدد الإجمالي للأشخاص المشتغلين في هذه الفروع الصناعية الخمسة الجديدة 94,145 شخصا.
وأخيرا، إن التعاظم الخارق للقدرة الإنتاجية في فروع الصناعة الكبرى، وما يصاحبه من تنامي استغلال قوة العمل من حيث السعة والشدة في سائر فروع الإنتاج الأخرى، يتيح استخدام قسم متزايد من الطبقة العاملة، استخداماً غير منتج، فيتيح بذلك إعادة إنتاج كتلة متعاظمة أبدأ من عبيد المنازل القدامى تحت تسمية “طبقة الخدم”، كالأتباع والوصيفات والسقاة وغير ذلك. وبموجب إحصاء عام 1861 بلغ مجموع سكان إنكلترا وویلز 20,066,224 نسمة بمن فيهم 9,776,259 ذكراً و10,289,965 أنثى. وإذا حذفنا من هذا العدد جميع الأفراد غير القادرين على العمل بسبب الشيخوخة أو يفاعة السن، وكافة الإناث والأحداث والأطفال “غير المنتجين”، ومن ثم الفئات “الإيديولوجية” كرجال الحكومة ورجال الكهنة والحقوقيين والعسكريين وإلخ، وبعد ذلك كل من تتلخص مهنته على وجه الحصر في استهلاك عمل الآخرين بشكل ريع عقاري وفوائد مئوية وإلخ، وأخيرا الفقراء والمشردين والمجرمين وإلخ، فيتبقى ما يقارب 8 ملايين نسمة من كلا الجنسين ومن مختلف الأعمار، بمن في ذلك جميع الرأسماليين المشاركين على هذا النحو أو ذاك في الإنتاج والتجارة والشؤون المالية، إلخ. ومن بين هذه الملايين الثمانية هناك:
– عمال زراعيون (بمن فيهم الرعاة والأجراء والأجيرات الذين يعيشون عند المزراعين)

1,098,261 شخصاً.
– جميع المشتغلين في مصانع القطن والصوف المغزول والكتان والقتب والحرير والجوت، وكذلك المشتغلين بالنسج الآلي وإنتاج المخرّمات 642,607 (12) شخصاً.
– جميع المشتغلين في مناجم الفحم والمعادن 565,835 شخصاً.
– المشتغلون في مصانع التعدين (الأفران العالية ومعامل الصفائح وإلخ) ومانيفاکتورات التعدين من مختلف الأنواع 396,998 (13) شخصاً.
– طبقة الخدم 1,208,648 (14) شخصاً.

وإذا جمعنا عدد كل المشتغلين في مصانع النسيج وعدد العاملين في مناجم الفحم والمعادن لحصلنا على 1,208,442؛ وإذا جمعنا عدد الأولين وعدد العاملين في كافة مصانع ومانيفاکتورات التعدين لحصلنا على 1,039,605، وهذا الرقم في الحالتين أقل من عدد أرقاء المنازل المعاصرين. فيا لها من نتيجة رائعة لاستغلال الآلات رأسمالية!.

______________

(1) كان ریکاردو يعتنق هذا الرأي في البداية إلا أنه تخلى عنه فيما بعد بما يتميز به من تجرد علمي وحب للحقيقة. انظر: [مبادئ الاقتصاد السياسي،] الفصل 31 “حول الآلات”.

(David Ricardo, [Principles of Political Economy], Ch.31 «On Machinery»]).
(2) ملاحظة: إنني أورد هنا مثالا ينسجم تماما مع طريقة الاقتصاديين المذكورين أعلاه.
(*) أوفيد، فن الهوى، المجلد الثاني، البيت 657.Ovid , Artis Amatoriae. [ن. برلین].
(3) يقول أحد أنصار ریکاردو بهذا الصدد في معرض جداله ضد ترهات ج. ب. ساي: في ظل التقسيم المتطور للعمل لا يمكن لمهارة العامل أن تجد ايتخداماً لها إلا في ذلك المجال الخاص الذي اكتسب فيه الكفاءة؛ والعامل نفسه يعد نوعا من آلة. لذلك لا فائدة البتة من التردید کالببغاء بأن الأشياء تتسم بالميل إلى بلوغ مستواها. ويكفي أن نجيل النظر من حولنا لنرى أنها تعجز عن بلوغ مستواها لوقت طويل، وحتى لو وجدته فهو أدنى مما كان في بداية العملية. (بحث في تلك المبادئ المتعلقة بطبيعة الطلب، إلخ، لندن، 1821، ص 72).
(An inquiry into those principles respecting the nature of demand etc., London, 1821, p. 72).
(4) يعد ماکلوخ أحد أساطين هذه البلاهة المتغطرسة. فهو يقول بسذاجة بينة خليقة بطفل في الثامنة من عمره: “إذا كان من المفيد أن يجري تطوير مهارة العامل بصورة متزايدة بحيث يمكنه أن ينتج كمية متزايدة أبدا من السلع بواسطة القدر نفسه من العمل أو أقل، فيجب ألا تقل نفعا عن ذلك استفادته من معونة تلك الآلات التي تساعده في إحراز هذه النتيجة على النحو الأكثر فاعلية”. (ماکلوخ، مبادئ. الاقتصاد السياسي، إدنبرة، 1830، ص182).
(MacCulloch, Principles of Political Economy, Edinburgh, 1830, p. 182).

(5) “إن مخترع آلة الغزل قد خرب الهند، وهذا الأمر لا يهمنا على أية حال، آ. تيير، حول الملكية. ([275A . Thiers , De la Propriéte , [ Paris , 1848 , p) والسيد تيير يخلط هنا بين آلة الغزل وبين نول النسيج الآلي وهذا أمر لا يهمنا على أية حال”.
(6) تفيد احصائيات عام 1861 (المجلد 2، لندن 1863) أن عدد العمال المشتغلين في مناجم الفحم في إنكلترا وويلز بلغ 246,613 عاملا بمن فيهم 73,546 عاملاً دون سن العشرين و173,067عاملا فوق سن العشرين. ويندرج ضمن الفئة الأولى 835 شخصية تتراوح أعمارهم بين 5 و10 أعوام، و30,701 تتراوح أعمارهم بين 10 و15 عاما، و42,010 تتراوح أعمارهم بين 15 و19 عاماً. ويبلغ عدد المشتغلين في مناجم الحديد والنحاس والرصاص والقصدير وغيرها 319,222 شخصا.
(7) في عام 1861 كان يشتغل في إنتاج الآلات في إنكلترا وويلز 60,807 أشخاص بمن فيهم أصحاب المصانع مع وكلائهم وكذلك (ditto) جميع وكلاء وتجار هذا الفرع. ولا يندرج هنا منتجو الآلات الصغيرة مثل ماكينات الخياطة وإلخ، وكذلك منتجو الأدوات لآلات تنفذ العمل مثل المغازل وإلخ. وبلغ عدد جميع المهندسين المدنيين 3329 شخصا.
(8) نظرا لأن الحديد هو من أهم المواد الأولية تجدر الإشارة هنا إلى أنه في عام 1861 كان في إنكلترا وويلز 125,771 من عمال صب الحديد، بينهم 123,430 ذكراً و2341 أنثى. وفي عداد الأولين 30,810 دون سن العشرين و620, 92 فوق سن العشرين.
(**) هي الولايات الواقعة بين شمال وجنوب الولايات المتحدة، حيث كان الرق والعمل الحر يتعایشان، مثل: ميريلاند، فرجينيا، كارولينا الشمالية، كنتاكي، تينيسي، میسوري، وأركنساس. [ن. ع].
(9) “إن أسرة مؤلفة من 4 أشخاص راشدین (من نساجي القطن) وطفلين ممن يقومون بلف الخيط على البكرات كانت تكسب في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحالي 4 جنيهات استرلينية في الأسبوع علما أن يوم العمل كان يتألف من 10 ساعات؛ وإذا كان الطلب عاجلا كان بإمكانهم أن يكسبوا أكثر… لقد كانوا في السابق يعانون دائما من عدم كفاية عرض الغزول”. (غاسکیل، Gaskell، المرجع المذكور، ص 34 – 35).
(10) يشير ف. إنجلز في كتابه وضع الطبقة العاملة في إنكلترا إلى الوضع المزري لقسم كبير من منتجي مواد الترف الكماليات هؤلاء بالذات. ونجد أدلة جديدة متعددة على ذلك في تقارير لجنة استقصاء شروط استخدام الأطفال.
(11) في عام 1861 كان يعمل في الأسطول التجاري في إنكلترا وويلز 94,665 بحارة.
(12) بمن في ذلك 177,596 ذكراً فقط ممن تجاوزوا الثالثة عشرة من العمر.
(13) بمن في ذلك 30,501 أنثى.
(14) بمن في ذلك 137,447 ذكراً. وقد حذف من أصل العدد البالغ 1,208,648 كل من لا يخدم في المنازل. إضافة للطبعة الثانية من عام 1861 إلى عام 1870 تضاعف عدد الخدم الذكور تقريبا. وقد وصل إلى 267,671 شخصا. وفي عام 1847 كان عدد حراس الصيد (في غابات الصيد الأرستقراطية) 2694 شخصا، بينما وصل عددهم في عام 1869 إلى 4921. أما الفتيات اللواتي يخدمن لدى المالكين الصغار الأجلاف (Spiess birger) في لندن فإن إسمهن باللغة الشائعة little slaveys””، أي “الإماء الصغيرات”.