عقل في خطر: الحالة المصرية (2/2)


السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن - العدد: 6598 - 2020 / 6 / 21 - 17:00
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

يشكل شيوع التفكير اللاعقلاني، بشتى صوره، بين افراد المجتمع المصري، عقبة تحد من قدرة هذا المجتمع على الارتقاء بمستوى رفاه افراده. والتفكير اللاعقلاني في هذا السياق هو أي شكل من أشكال التفكير لا يأخذ في اعتباره واحدة او أكثر من مبادئ التفكير العقلاني الثلاث التي عرضنا لها في الجزء الأول وهي: "مرجعية الواقع"، "طبيعية الأسباب" و"إمكانية المعرفة". فأي فكر لا يحتكم للواقع للتثبت من صحة مقولاته واستنتاجاته، أو يفترض وجود مسببات غير طبيعية لما يحدث من ظواهر مادية او اجتماعية، او يعتبر وجود مصادر للمعرفة غير عقل الانسان هو بالضرورة فكر لا عقلاني. وهنا ينبغي التأكيد على أن إطلاق صفة "لا عقلاني" على فكر بعينه لا تنطوي على اية احكام قيمية فهي مجرد صفة مرتبطة بمدي صلاحية الفكر الموصوف وبقدرته على فهم الواقع ومستجداته ومن ثم على تغييره. فالفكر العقلاني، الذي تعتبر "منظومة العلم الحديث"، بمبادئها وأدواتها، هي التجسيد الحي له، هو الفكر الوحيد القادر على تغيير الواقع لصالح الانسان. وهو الامر الذي تؤكده تجارب الأمم الذي تبنته وغرسته في صلب ثقافة شعوبها.

وعلى مدى الخمسمائة سنة الأخيرة (1517- 2020) سيطر أحد اشكال الفكر اللاعقلاني، "منظومة الفكر الديني التقليدي"، على ذهنية المجتمع المصري سيطرة شبه مطلقة. وإذا اخذنا في الاعتبار التوجه العام لهذا الفكر (وسطي/متشدد) ومدى انفراده بالساحة لأمكننا تمييز ثلاث مراحل. المرحلة الأولى هي "مرحلة العزلة والانغلاق" (1517-1805)، وهي المرحلة التي واكبت الاحتلال العثماني لمصر وانتهت بتولي محمد على حكم البلاد. وقد أدى الاحتلال العثماني الى عزل المجتمع المصري عما يدور في المجتمعات الأخرى مما ادى الى انفراد "منظومة الفكر الديني التقليدي" بالسيطرة على عقول المصريين دون منازع. وكانت النتيجة مجتمع حكمت عقول أفراده منظومة ذهنية تجمدت عند لحظة تاريخية بعينها وانغلقت على نفسها فتوقفت عن التجدد والتطور. وإذا كانت هذه الفترة بالنسبة للمجتمع المصري هي فترة جمود وتحجر فإنها كانت بالنسبة للمجتمعات الغربية فترة تحولات جذرية على رأسها حركة التنوير الأوروبية (1700-1800) وفى القلب منها منظومة العلم الحديث التي حررت فكر الانسان من جمود التقليد و"خنقة" الإتباع ودفعته لاستخدام عقله في إنتاج المعرفة وتدبير الأمور. ولا أجد عبارة تصف هوة التفاوت اصدق من عبارة: "ولهم فها أمور وأحوال وتراكيب غريبة، ينتج عنها نتائج لا تسعها عقول أمثالنا" التي قالها مؤرخنا الشهير عبد الرحمن الجبرتي يوم الأربعاء الموافق 5 ديسمبر 1798 بعد زيارته مقر المجمع العلمي الذي أقامه جيش الاحتلال الفرنسي في قلب القاهرة (الجبرتى, 1998) (ص. 285 – 286).... !؟

والمرحلة الثانية هي "مرحلة التحول المنقوص" (1805-1967)، وهي المرحلة التي تميزت بوجود منظومة فكرية اخري، بجانب منظومة الفكر الديني التقليدي، هي منظومة فكر الحداثة. وقد بدأت هذه المرحلة بإقامة محمد على، حاكم مصر الذي اختاره شعبها، "منظومة تعليم مدني" في موازاة "منظومة التعليم الديني" التي كانت قائمة والمتمثلة في الكتاتيب والأزهر ومؤسسات الكنيسة القبطية المماثلة، وأرسل بعثات دراسية الى الدول الأوروبية. وقد حاول رواد الحداثة الذي أنتجتهم منظومة التعليم الجديدة تقديم الفكر العقلاني للمجتمع المصري سواء كان ذلك بإقامة نظم حديثة (سياسية، اقتصادية، تعليمية) او بنشر مبادئه. الا انهم في غمرة انهماكهم بإقامة النظم الجديدة لم يولوا الاهتمام الكافي لتحديث الكيانات القديمة القائمة فعلا فبقيت تفعل فعلها كـ "أجهزة مناعة حضارية" تفرز مضادات التغيير وتكبح عمل آلياته.

والمرحلة الثالثة هي "مرحلة النكوص والانتكاس" (1967 - )، وهي المرحلة التي شهدت انتشار غير مسبوق لشكل اكثر تشددا من اشكال فكر "منظومة الفكر الديني التقليدي" كان من اهم ملامحها على سبيل المثال الاهتمام الفائق بالشكليات الايمانية (حجاب ونقاب النساء، اطلاق اللحية وحف الشارب للرجال) والاقتداء بالسلف وتبني مقولاتهم.

وفى غمرة المواجهة مع أقدم اشكال الفكر اللاعقلاني شهد الاعلام وصفحات التواصل الاجتماعي رواجا لشكلان جديدان من أشكاله هما: "العلوم الزائفة" و"نظرية المؤامرة".
العلم الزائف
"العلم الزائف" (أو شبيه العلم) Pseudoscience هو مجموعة من المقولات والافتراضات يدعي أصحابها انها تساعدنا على فهم وتفسير ما قد يحدث حولنا من ظواهر، وذلك على الرغم من أن أغلب هذه المقولات والافتراضات تفتقد وجود شواهد تؤيد صحتها. وفي العادة يستخدم أصحاب العلم الزائف في دعاويهم المصطلحات المستخدمة في "العلوم الحقيقية" ولكنه استخدام مظهري يقتصر فقط على اللفظ منزوعا منه معناه. كما تتسم صياغاتهم لما يقدمونه من أفكار او ما يتوصلوا اليه من استنتاجات بالغموض وعدم الدقة مما يجعل عملية التحقق من صحتها شبه مستحيلة.
وهم لإثبات دعاويهم واستنتاجاتهم يتبعون منهج انتقائي فيتجنبون ذكر اية امثلة قد تلقي الشك عليها وهو ما يعرف بـ "انحياز التأييد" مخالفين بذلك أحد اهم ركائز منظومة العلم الحديث وهو ضرورة خضوع المعرفة التي ينتجها العلم للنقد الدائم بهدف التأكد من صحتها ولتعديلها عند الضرورة. فالمعرفة العلمية هي تلك المعرفة القابلة لـ "التفنيد" Falsifiability وذلك طبقا لفيلسوف العلم الشهير كارل بوبر. فمنهج العلم، طبقا له هو: "منهج صياغة الفروض الجريئة والمحاولات البارعة والعنيفة لتفنيدها" (Popper, 1965). وبإهمال هذا المبدأ يصبح "شبيه العلم" عاجز عن انتاج معرفة جديدة على عكس "العلم الحقيقي". ومن أشهر امثلة اشباه العلوم "علم التنجيم"!

نظرية المؤامرة
يقوم هذا الشكل من أشكال التفكير اللاعقلاني على مقولة مؤداها ان سبب ما شهده العالم من احداث سياسية او اجتماعية او اقتصادية كبرى وما يشهده منها الآن ما هو الا "مؤامرة" خطط لها وعمل على تنفيذها كيان خفي، حكومة أو جماعة أو تنظيم، بهدف السيطرة على مقدرات العالم وإدارة موارده لصالحه. وهو في سبيل تحقيق هدفه هذا لا يتورع عن القيام بأعمال غير أخلاقية.
وتبني "المؤامرة" كسبب يشكل مخالفة للمبدأ الثاني من مبادئ التفكير العقلاني، "طبيعية الأسباب". فـ "المؤامرة" مفهوم غامض يصعب استخدامه في قانون يربط الأسباب بالنتائج.
وترتكز نظرية المؤامرة على ثلاث مرتكزات:
 لا شيئ يحدث بالصدفة فوراء كل حدث يوجد فاعل،
 لا يعكس ما نشاهده من ظواهر أسبابها الحقيقية بل علينا النظر في الأعماق الخفية لإدراك أفعال من هم وراء هذه الظواهر ومعرفة نواياهم،
 تشكل الكيانات والكائنات الموجودة في الواقع كلا مترابط فأي موجود يؤثر في بقية الموجودات ويتأثر بها.

كان هذا عرضا مختصر لأشكال الفكر اللاعقلاني التي تحاصر عقول افراد مجتمعات الشرق الأوسط ويخفي ضباب مقولاتها الفكر العقلاني أداة التغيير الوحيدة والضرورية لمواكبة مستجدات القرن الواحد والعشرين.

المراجع
Popper, K. 1965. The Logic of Scientific Discovery. New York: Harper Books.
الجبرتى, ع. ا. 1998. المختار من تاريخ الجبرتى. القاهرة: كتاب الشعب.