مجتمع الإبداع وثقافة الإتباع


السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن - العدد: 6507 - 2020 / 3 / 6 - 23:45
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

شهدت اربعينات القرن العشرين ميلاد " الكومبيوتر " هذه الآلة الجديدة التي احدثت نقلة نوعية في مسيرة حضارة الانسان ومازالت تفعل فعلها حتى يومنا هذا. وإذا كانت آلة جيمس وات البخارية بنجاحها في "ميكنة الفعل" قد انتقلت بحضار ة الانسان من حقبة حضارة الزراعة الى حقبة حضارة الصناعة، فإن الكومبيوتر بنجاحه في "ميكنة الفكر" ادخل حضارة الانسان حقبة جديدة هي حقبة حضارة الما بعد ...! وهي حقبة ما زالت مراحلها تتوالى مما يجعل من الصعوبة بمكان إطلاق اسم عليها. وقبل الحديث عن مراحلها ينبغي الحديث عن طبيعة موردها الرئيسي الذي تستغله لإنتاج الثروة ولتحقيق الرفاه لأبنائها فهو ما يميزها عن الحقب التي سبقتها. وإذا كانت "الموارد الملموسة"، كالأرض وما تنتجه والموارد الطبيعية كالفحم والبترول والمعادن، هي الموارد التي قامت عليهم حقبتي الزراعة والصناعة فإن "الموارد غير الملموسة" كانت عماد حقبة حضارة الما بعد بمختلف مراحلها. وتتمثل "الموارد غير الملموسة" (أو "الموارد الذهنية والثقافية") في مجمل "الإنتاج الفكري والثقافي" للمجتمع سواء أكان هذا الإنتاج في مجالات العلوم والتكنولوجيا أو في مجالات الفنون والآداب، وفي "أدوات" هذا الإنتاج، سواء تمثلت في أفراد مبدعين أو في مؤسسات الإبداع بشتى أنواعها من جامعات ومراكز بحوث ومؤسسات فنية وأدبية.
وفي مرحلتها الأولى كانت "المعلومات" هي المورد الرئيسي الذي اعتمدت عليه مجتمعات هذه الحقبة مما أدى حدوث تغيرات جوهرية في بناها الاجتماعية والاقتصادية وظهرت مفاهيم جديدة عن أوضاعها الجديدة مثل "مجتمع المعلومات". إلا أن "المعلومات" ليست إلا جزءا يسيرا من "الموارد غير الملموسة" التي يمتلكها افراد وكيانات مجتمع ما. لذا كان من الطبيعي أن تسعى المرحلة الثانية لاستخدام المزيد من الموارد غير الملموسة المتوفرة وذلك بإضافة "المعرفة" المتمثلة في ناتج البحوث العلمية من معارف وتفسير افراد المجتمع للمعلومات وخبراتهم المستمدة من تعاملهم مع الواقع. ومرة أخري تظهر مفاهيم مستحدثة مثل "مجتمع المعرفة" و"الاقتصاد المعرفي" لتصف أثر هذا المورد الجديد على المجتمع وعلى اقتصاده.
وتبدأ ملامح المرحلة الثالثة في الظهور سنة 2020 عندما ورد مصطلح "الاقتصاد الإبداعي" عنوانا لمقال للكاتب بيتر روي في مجلة بلومبرج المتخصصة في الاعمال حاول فيها الإجابة على السؤال التالي: ماهي الشركات التي ستزدهر في الأعوام القادمة؟ وكانت اجابته: "تلك التي تقدر الأفكار في المقام الأول". واستطرد موضحا ان " قوة الأفكار المتزايدة " تعيد تشكيل الاقتصاد العالمي بصفة عامة واقتصاديات الدول المتقدمة بصفة خاصة. وطور جون هوكينز الفكرة وضمنها في كتابه "الاقتصاد الإبداعي: كيف يصنع الناس أموالا من الأفكار" الذي صدر 2001. وطبقا له فإن "الابداع"، بالإضافة الى المعلومات والمعرفة، هو حجر الزاوية في الاقتصاد الجديد "اقتصاد الابداع". وهو الاقتصاد الذي يقوم على "المنتجات الإبداعية" (مثل الملكية الفكرية، والعلامات التجارية، حقوق النشر، تصاميم المنتجات، براءات الاختراع، الأعمال الفنية والموسيقية، برمجيات الكومبيوتر) و"الخدمات الإبداعية" (مثل الإعلان، بحوث التسويق، وقياس الرأي العام، الاستشارات الفنية والتقنية، البحوث والتطوير، السياحة الثقافية والترويحية). وبهذا يتسع نطاق "الموارد غير الملموسة" التي يستخدمها المجتمع لتحقيق الرفاه لأعضائه ليشمل الابداع بالإضافة الى المعرفة والمعلومات.
ولكن ما هو المقصود بالإبداع في هذا السياق؟ وهو سؤال ستتيح لنا الإجابة عليه تحديد ملامح الثقافة التي تدعمه. ولعل التعريف التالي، الذي جاء في تقرير اللجنة القومية الاستشارية للمملكة المتحدة، سيفي بالغرض (Robinson, 1999):
"الابداع هو أي نشاط تخيلي مُسْتَحْدَث يهدف الى الحصول على نتائج أصيلة وذات قيمة" متعلقة بموضوع ما.
ولعل اهم ما انفرد به هذا التعريف هو استخدام صفة "تخيلي" لوصف النشاط الابداعي. فالخيال هو العالم الذي لا توجد فيه قيود تعوق العقل عن التفكير في اللا "مألوف". هذا بالإضافة الى تأكيده الى ان الابداع نشاط هادف وأن نتائجه هي بالضرورة غير مسبوقة. ويقودنا هذا التعريف الى رسم صورة للثقافة الداعمة للإبداع فهي ثقافة تسعى وراء "الجِدة" Novelty، وتحتفي بالتغيير وترحب بالمفاجآت، وتتعامل بإيجابية مع الغموض وعدم التيقن.
هذه هي ملامح ثقافة الابداع والتي تتجسد على هيئة قيم من أهمها:
 التسامح مع الأخطاء
 التعلم المستمر
 تقبل المخاطرة
 تشجيع التجريب
 تقبل الخلافات
 الاحتفاء بالتغيير

ويعنى تبنى قيمة "التسامح مع الأخطاء" أن الأخطاء يٌنظر لها بوصفها مصدرا للدروس المستفادة التي تنشأ عنها الأفكار الجديدة. وتعزز هذه القيمة قيمة "التعلم المستمر" بما تنشئه من "نزعة فضولية" تدفع المبدعون للبحث عن كل جديد. أما قيمتي "تقبل المخاطرة" و"تشجيع التجريب" فهما القيمتان اللتان تعززان القدرة على "الخروج عن المألوف" التي تمثل أحد الشروط اللازم توافرها في أي عمل ابداعي. كما يؤدى البحث عن حلول غير مسبوقة للمشاكل إلى إنتاج العديد من الأفكار التي قد يناقض بعضها البعض، وتتباين حولها الآراء. وهنا تبرز أهمية قيمة "تقبل الخلافات" التي لا تقتصر على مجرد التقبل بل تعنى أيضا العمل على تجاوزها بطريقة بناءة. وآخر القيم الداعمة للإبداع هي قيمة "الاحتفاء بالتغيير" التي تعبر عن جوهر عملية الابداع.

وأثناء تصفح الانترنت بحثا عما كتب باللغة العربية عن الابداع تلفت النظر عبارة "وجوب الاتباع وذمُّ الابتداع" عنوانا للعديد من المقالات، وفي الخلفية تسمع ترديدا لعبارتي "وشر الأمور مُحدثاتها، وكل مُحدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" و"لن يُصلِحَ آخرَ هذه الأمة إلا ما أصلَحَ أولَها".

ملحق: البيانات والمعلومات والمعرفة
البيانات هي مجموعة غير مترابطة من الحقائق الموضوعية التي يمكن الحصول عليها عن طريق الملاحظة أو عن طريق البحث والتسجيل ويتم التعبير عنها بالكلمات أو الأرقام أو الرموز أو الصور المتعلقة بموضوع معين.
المعلومات هي البيانات التي اكتسبت معنى نتيجة ربطها مع بعضها البعض بعلاقات محددة لتأخذ شكلا جديدا يفيد متلقيها في أداء عمل ما أو في اتخاذ قرار.
المعرفة: يقول الفلاسفة عن المعرفة أنها "ثمرة التقاء ذات مدركة (بكسر الراء) بموضوع مدرك (بفتح الراء)". وهم بتعريفهم هذا يكونوا قد لمسوا جوهر اختلاف مفهوم "المعرفة" عن كلا من مفهومي "البيانات" و"المعلومات". فخبرة الإنسان وتفسيره للمعلومات ورؤيته لما يدور حوله من أمور والسياق الذي تحدث فيه تعتبر من العناصر الأصيلة التي تشكل المعرفة.
المراجع
Robinson, K. 1999. All Our Futures: Creativity, Culture and Education. London: DFEE: National Advisory Committee on Creative and Cultural Education (NACCCE).