العلم نور ولكن


السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن - العدد: 5692 - 2017 / 11 / 8 - 15:11
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

في حديث عام ومتلفز دعا رئيس احدى الجامعات المصرية العريقة جمهور الحاضرين، واغلبهم من أعضاء هيئة التدريس، دعاهم الى إعطاء "الأولوية" للبحوث التطبيقية ومن ثم للعلوم التطبيقية (انظر الملحق 1). وهي دعوة قد تبدو، للوهلة الأولى، انها دعوى صحيحة فالعلم، بما ينتجه من معارف هو وسيلتنا الوحيدة للارتقاء برفاه الانسان. وكلمة "الأولوية"، في هذا السياق، تعني تخصيص الجزء الأكبر من الموارد المتوفرة، مالية وبشرية، لدعم الكيانات المسؤولة عن العلوم التطبيقية مثل كليات الهندسة والطب والصيدلة. الا ان نظرة فاحصة للعلاقة بين العلوم التطبيقية والعلوم الأساسية ستوضح ان نجاح العلم في الارتقاء برفاه الانسان لابد وان يرتكز على النظر الى العلم كمنظومة واحدة تعمل مكوناتها من علوم أساسية وتطبيقية سويا على قدم المساواة ولا أولوية فيها لعلم تطبيقي على علم أساسي، ولا لعلم أساسي على علم تطبيقي. من هنا تبرز خطورة هذه الدعوة بتهميشها الدور الذي تلعبه العلوم الأساسية في الارتقاء برفاه الانسان سواء كان ذلك بطريقة مباشرة او بطريقة غير مباشرة عبر العلوم التطبيقية بما تقدمه لها من مفاهيم ومن مناهج بحث ومن أدوات لتقييم النتائج.

ولتوضيح الدور الذي تلعبه العلوم الأساسية في تطوير المجتمع سنأخذ "الليزر"، الذي يعتبر واحدا من اهم عشر إنجازات تكنولوجية في القرن، كمثال. وهو ايضا يعتبر من أبرز امثلة تحول الاكتشاف العلمي مجرد وصف رمزي، معادلات رياضية على سبيل المثال، الي منتج يسهم في تحسين رفاه افراد المجتمع. هذا بالإضافة انه يقدم مثالا نموذجيا لكيفية تفاعل الاكتشافات العلمية مع بعضها البعض. وهو التفاعل الذي يأخذ عدة صور فهو قد يكون تمهيدا لكشف جديد او تعزيزا لكشف موجود او حتى نفيا له.

كانت البداية، في حالتنا هذه، فكرة غير مألوفة استخدمها ماكس يلانك (1947-1858)، عالم الفيزياء الألماني، لتفسير ظاهرة طبيعية تتعلق بالإشعاع. وكان الفيزيائيون قبل بلانك يعتبرون الاشعاع كالسائل الذي يتدفق مستمرا بلا انقطاع. الا ان هذا التصور فشل في تفسير العديد من الظواهر الطبيعية. وفي سنة 1900 قدم بلانك تصورا أخر مؤداه ان أي اشعاع، الضوء على سبيل المثال، يتكون من تدفق حزم من الطاقة يطلق عل كل منها اسم "كوانتا". ونجحت الفكرة في تفسير الظاهرة التي حير تفسيرها السابقون. وفي سنة 1917 نشر ألبرت اينشتين ورقة علمية حول الطبيعة الكمية للإشعاع مرتكزة على اعمال بلانك. ولم يكن أيا منهما يتوقع ان نظرياتهما ستتجسد بعد 43 سنة على هيئة شعاع من الضوء المركز. ففي سنة 1960 نجح الفيزيائي الأمريكي ثيودور مايمان في بناء اول ليزر بناءا على الاعمال النظرية ل تشارلز هارد تاونز والتي كانت استئنافا لعمل أينشتين. وهي الأعمال التي اهلته للحصول على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1964. وحتى هذه اللحظة كانت البحوث التي اجراها العلماء بدءا من بلانك وانتهاءا ب تاونز مرورا بأينشتين بحوثا أساسية تهدف فقط الى فهم الظاهرة موضوع الدارسة دون الاخذ في الاعتبار إمكانية استخدام في بل حتى من شاركوا في بناء اول جهاز ليزر لم يتوقعوا اي تطبيقات عملية فالجميع كانوا ينظرون الي الليزر بوصفه "حلا ينتظر مشكلة"! واليوم من الصعب ان تجد مجالا من المجالات لا يوجد فيه تطبيق أو أكثر لليزر بدءا من استخدامه كمؤشر ضوئي وانتهاءا باستخدامه كسلاح مضاد للصواريخ ومرورا بتطبيقاته المختلفة في مجال الطب.

كانت هذه لمحات خاطفة من قصة ولادة الليزر التي استغرقت أكثر من 40 سنة تم اثناءها "تحويل" ما انتجته البحوث الأساسية من معرفة الى منتج ملموس. وإذا كانت "فترة التحويل" (انظر الملحق 2)" قد تجاوزت الأربعين سنة في حالة الليزر فإن هذه الفترة في تناقص مستمر. فعلى سبيل المثال نشرت عام 1937 ورقة علمية تحتوي على نموذج رياضي لآلة تقوم بإجراء عمليات حسابية ومنطقية طبقا لقواعد محددة سلفا (برنامج). وهي الآلة التي عرفت بألة تيورنج نسبة لمؤلف هذه الورقة عالم الرياضيات الإنجليزي آلان تيورنج. وبعد 9 سنوات، وفي سنة 1946، تجسدت هذه الآلة في الواقع بظهور اول كمبيوتر رقمي. وفي سنة 1956 تم بناء أول كمبيوتر تعتمد دوائره على الترانزستور الذي ام يكن مضى على اكتشافه في معامل بل بالولايات المتحدة سوى ثماني سنوات فقط. وقد تقلصت هذه الفترة منذ خمسينات القرن العشرين إلى أقل من عشرة سنوات. واليوم يتراوح زمن دورة التغيير والتجديد في التكنولوجيا والمؤسسات الاجتماعية ما بين 6 و 8 سنوات. فعلى سبيل المثال تطرح شركة سوني اليابانية منتجا جديدا كل 20 دقيقة بينما تقدم شركة ديزني الأمريكية منتجا جديدا كل 3 دقائق ...! وطبقا لدراسة حديثة فإن معدلات التغيير خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين تبلغ خمسة أضعاف متوسط معدلات التغيير في القرن العشرين (Kurzweil, 2005)

ان تزايد "المكون المعرفي" (او المعرفة التي تنتجها العلوم الأساسية) في أغلب المنتجات والخدمات في عالمنا المعاصر، والتقلص المستمر في "فترة التحويل" يجعلا من الاهتمام بالعلوم الأساسية شرطا ضروريا أولا لاستيعاب ما نستورده من تكنولوجيات واستخدامه الاستخدام الأمثل وثانيا لتوفير البنية التحتية الفكرية اللازمة لإنتاج الجديد.

ان دعوة رئيس الجامعة تمثل احدى اشكال ظاهرة مرضية في فكرنا المعاصر والتي أطلق عليها اسم "الاخذ بالنتائج واهمال الأسباب". نقيم مؤسسات حديثة ونهمل منظومة القيم اللازمة لتشغيلها بفعالية وكفاءة ... ندعو الى الاهتمام بالعلوم التطبيقية ونهمل العلوم الأساسية المؤسسة لها ... انها الظاهرة التي عبر الشاعر نزار قباني عندما قال: "خلاصةُ القضيّهْ توجزُ في عبارهْ ... لقد لبسنا قشرةَ الحضارهْ والروحُ جاهليّهْ".

ملحق (1): العلوم الأساسية (البحتة) والعلوم التطبيقية
العلوم التطبيقية هي تلك العلوم التي تستخدم المنهج العلمي والمعرفة العلمية المتوفرة لحل مشاكل عملية وهي بذلك تسهم في الارتقاء برفاه الانسان. ومن امثلة هذه العلوم علم ميكانيكا الموائع الذي يدرس حركة السوائل والغازات وعلم الالكترونيات الذي يهتم بمكونات ودوائر الأجهزة الكهربائية وعلم هندسة البرمجيات الذي يعني بتطوير برامج الكومبيوتر.
العلوم الأساسية (البحتة) هي العلوم التي تستخدم المنهج العلمي لفهم الظواهر الطبيعية والاجتماعية بصورة عامة. ومن امثلة هذه العلوم علم الفيزياء الذي يدرس خصائص بنية وسلوك المادة غير الحية وعلم الكيمياء الذي يهتم بدارسة التفاعلات بين المواد المختلفة وعلم البيولوجي الذي يهدف لفهم تركيب واحوال المادة الحية.
ملحق (2): فترة التحويل
هي الفترة الزمنية اللازمة لتحويل المعرفة التي أنتجتها العلوم الأساسية الى منتج ملموس او خدمة محسوسة او في رفع كفاءة وفعالية ما هو موجود منها.
المراجع
Kurzweil, R. 2005. The Singularity is Near: When Humans Transcend Biology. London: Binguin Books.