جبر الحداثة: خلاصة القول (4/4)


السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن - العدد: 6270 - 2019 / 6 / 24 - 16:38
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

في عصر أصبحت الموارد غير الملموسة، المتمثلة في كل ما ينتجه الانسان من معارف علمية وتكنولوجية وابداعات ثقافية، هي المورد الرئيسي الذي ينشئ ثروة المجتمعات في مثل هذا العصر تصبح مسألة "تمكين الانسان" هي قضية وجود المجتمع نفسه. فإنسان عصر المعرفة هو وحدة الإنتاج الأساسية لهذا المورد بما يكتشفه من نظريات وينشئه من تطبيقات وينتجه من ابداعات. والانسان في هذا السياق هو كل فرد من افراد المجتمع بغض النظر عن جنسه ولونه ودينه ووضعه الاجتماعي او انتماءه السياسي. وتمكين الانسان هو ببساطة تعزيز قدرته على:
1. انتاج أفكار ورؤى عقلانية، (اقتصادية، سياسية، اجتماعية، ثقافية)، تتعلق برفاه المجتمع الذي يعيش فيه ويمكن التحقق من صحتها ومراجعتها،
2. تنفيذ، او متابعة تنفيذ، ما ينتجه من رؤى وافكار على ارض الواقع.

وكما اوضحنا في المقالات السابقة ان انتاج الرؤى والافكار، البعد الأول لمفهوم "تمكين الانسان"، لا يتأتى الا بـ "تحرير عقل" الانسان ليس فقط من الفكر الخرافي بنصوصه المقدسة التي استعصت على التأويل، بل أيضا من عقلانية عصر الحداثة بفكرها، "فكر البساطة"، الذي تجاوزته الاكتشافات العلمية في القرن العشرين. ولا يكتفي البعد الأول من التمكين بإزالة ما استقر في العقول من افكار ورؤى تجاوزتها مستجدات الواقع بل يعمل على تقديم منظومة فكرية جديدة، "فكر التعقد"، تتأسس على ما جاءت به علوم القرن العشرين من حقائق ونظريات تأخذ في اعتبارها الواقع الذي يزداد تعقده بصورة غير مسبوقة.
الا ان "تحرير العقل"، بلغة الرياضيات، هو شرط ضروري لـ "تمكين الانسان"، ولكنه ليس كافيا لتفعيله فالأفكار أيا كانت أصالتها وجدتها لابد ان تتجسد في أرض الواقع. وهو التجسيد الذي تتعدد اشكاله فهو قد يكون على هيئة منتج جديد او خدمة مستحدثة، وهو قد يأخذ شكل استراتيجية عمل او سياسة تنفيذ، وهو في النهاية قد يكون على هيئة بنى اجتماعية تتابع التنفيذ (أحزاب، منظمات مجتمع مدني، ...).
وهنا تبرز أهمية البعد الثاني لـ "تمكين الانسان" وهو "تيسير الفعل" الذي يعني بتهيئة المجتمع للاستفادة من قدرات افراده. ولا تتحقق هذه الاستفادة دون "تعظيم مشاركة" افراد المجتمع في كافة أنشطة عملية التنمية هذا بالإضافة الى "تعزيز قدراتهم على متابعة وتقييم نتائج هذه الأنشطة". فنجاح عملية التنمية تتوقف على قدر اسهام افراد المجتمع في صياغة أهدافها وبقدر إسهاماتهم الفعالة في مختلف أنشطتها. وهو الامر الذي يؤكده تعريف الأمم المتحدة التنمية لها بوصفها:
"عملية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية شاملة تستهدف التحسين المستمر لرفاهية السكان بأسرهم والأفراد جميعهم على أساس مشاركتهم، النشطة والحرة والهادفة في التنمية وفى التوزيع العادل للفوائد الناجمة عنها"
الا ان هناك عقبتان رئيسيتان ومتلازمتان تحدان من مشاركة افراد المجتمع مشاركة فاعلة وفعالة: بنية اجتماعية هي "البنية الهرمية" Hierarchy الصارمة، وأسلوب إدارة (حكم) هو "المركزية" Centralization المفرطة.
واولى العقبات هي "البنية الهرمية"، او باختصار "الهرمية"، هي الهيئة التي تنتظم عليها العناصر المكونة لأي كيان، بشرا ووظائف وتنظيمات إدارية، فتتراص على شكل طبقات يعلوا بعضها البعض الآخر ويسيطر أعلاها على أدناها بما يحوزه من عناصر قوة ونفوذ. وهي العناصر التي تتنوع أشكالها ما بين سلطة لاتخاذ القرار وامتلاك لأدوات تنفيذه وقدرة التوصل إلى المعلومات. ويتدرج توزيع هذه العناصر على طبقات الهرمية فيزداد تمركزها كلما صعدنا إلى أعلى نحو القمة ويقل تواجدها كلما اتجهنا نحو القاعدة. وتتعدد أشكال هذه الهرميات فهي قد تتجسد فى "الفضاء" لتكون على هيئة هياكل تنظيمية كتلك التي نراها في المؤسسات الحكومية أو الشركات، أو على هيئة قواعد وأعراف تحكم سلوك وعلاقات البشر بعضهم بالبعض الآخر. وهي قد تتجسد في "الزمان" وذلك عندما تتحكم مرحلة زمنية سابقة في مرحلة زمنية لاحقة فيؤمن المعاصرون إيمانا أعمى بما قد يكونون قد توارثوه عن الأقدمين ويعتقدون أنه كلما تقادم الشيء وتعتق كلما ازدادت صحته ومصداقيته.
الا ان تعقد الواقع المعاصر، بتعدد مكوناته وتشابك علاقاته وتسارع احداثه، اظهر أوجه قصور الهرميات، الفضائية منها والزمانية، وعجزها عن مواكبة مستجدات الواقع المتسارعة والتكيف معها وذلك بحصرها ميزة المبادأة والقدرة على اتخاذ القرار وإمكانيات تنفيذه على قلة منتقاة، وبقصرها اتجاه الحوار على اتجاه واحد من أعلى إلى أسفل (اتجاه نزولي) وعلى موضوع وحيد هو الأوامر والنواهي والممنوعات والمسموحات. وهي بذلك تحرم المجتمع من الطاقات الكامنة لأبنائه وتكرس فيهم حالة اللا مبالاة. وهنا تكمن خطورة تبني "الهرمية الصارمة" كبنية حكم وإدارة. فهذا التعقد لا يمكن مواجهته وإدارته إلا بتنشيط روح المبادأة لدى الإنسان الفرد وتفعيل الدور الذي يلعبه في إطار الكيان الذي يحتويه. فبدون هذا الدور الفعال والنشط يتحول الكيان إلى كيان متيبس الأطراف يفتقد القدرة على تحقيق ما يسعى إليه من أهداف ولا يتمتع بالمرونة الضرورية للتكيف مع مستجدات واقعه.
وقد دفعت أوجه القصور هذه العديد من علماء الإدارة والمستقبليات، من أمثال جون نيسبت Naisbitt مؤلف الكتاب الشهير "التوجهات الكبرى" Megatrends و دوجلاس ماكجرجور McGergor صاحب "نظرية Y" (McGregor, 1960) وويليام أوشى Ouchi صاحب "نظرية Z" (Ouchi, 1981)، إلى المناداة بضرورة إعادة في تركيب الهرميات ونادوا بضرورة العمل على تسطيحها، أي تقليل عدد طبقاتها، وبالتأكيد على ضرورة فتح قنوات الاتصال والتحاور من أسفل لأعلى (اتجاه صعودي) وعلى أهمية التوزيع المتكافئ لعناصر القوة على كافة مكونات المجتمع وكياناته.
لا يمكن الحديث عن بنية اجتماعية هي" الهرمية الصارمة" دون الحديث عن متلازمتها وهي "المركزية المفرطة" كأسلوب إدارة (حكم). والمركزية هي اقتصار صناعة القرارات المتعلقة بالمجتمع ككل وحيازة أدوات تنفيذها على فئة من فئات المجتمع. وإذا كان تسطيح الهرميات، أي تقليل عدد طبقاتها، هو من وسائل تخفيف حدة آثارها السلبية فان تبنى "اللامركزية"، كأسلوب حكم وإدارة، يفعل نفس الشيئ بالنسبة للمركزية. وفي مجال الإدارة، على سبيل المثال، تعنى اللامركزية تقليل درجات السلم الإداري ومنح المستويات الإدارية الأدنى سلطات أوسع لاتخاذ القرارات وحرية أكبر لتنفيذ ما يرونه في صالح الهيئة التي ينتمون إليها وذلك بدون الرجوع إلى المستويات الإدارية الأعلى. وبهذا توفر لامركزية الإدارة درجة أعلى من الاستقلالية للمرؤوسين مما يحفزهم على إبداع الحلول لما يقابلهم من مشاكل في عملهم اليومي. كما تتمتع الكيانات التي تتبنى "اللامركزية" كفلسفة إدارة بدرجة عالية من المرونة تمكنها من التكيف مع مستجدات بيئتها المتتالية.
وإذا كانت البنية الاجتماعية المصاحبة لـ "المركزية" هي "الهرمية" فإن لـ "اللامركزية" هي الأخرى بنية تصاحبها هي "البنية الشبكية" Network. وتتألف "البنية الشبكية" من مكونين. المكون الأول هو الـ “عقد" Nodes التي يمثل كل منها شيئا ما في عالم الواقع كالأفراد أو المجموعات أو المؤسسات أو حتى أي مكونات تكنولوجية. أما المكون الثاني فتشكله الـ "وصلات" Connections التي تربط بين عقد الشبكة. وتأخذ هذه الوصلات (أو العلاقات المتبادلة) أشكالا عديدة مثل الصداقة أو النسب أو المكانة الاجتماعية أو التبادلات المالية أو المعلوماتية. وعلى عكس البنية الهرمية فإن العلاقات بين عقد الشبكة هي علاقات "أفقية" بين العقدة والعقد الأخرى. كما تتميز هذه البنية بعدم وجود مركز مسيطر وبتفاوت أهمية العقد الداخلة في تكوينها.

وهكذا يصبح التحول من ثنائية ("البنية الهرمية"، "المركزية") الى ثنائية ("البنية الشبكية"، "اللامركزية") هو أمر ضروري لتعظيم المشاركة.

ولا يكتمل الحديث عن "تمكين الانسان" دون التطرق لكيفية "تعزيز قدراته على متابعة وتقييم نتائج تطبيق أفكاره ورؤاه". والاجابة العاجلة هي الديموقراطية وهي إجابة تقودنا الى سؤال آخر عن نموذج الديموقراطية المتسق مع مفهوم التمكين والذي يؤكد على ضرورة اشتراك افراد المجتمع في عملية اتخاذ القرارات المتعلقة بشئونهم. والنموذج الذي يتفق مع هذا التوجه هو نموذج "ديموقراطية التمكين التشاورية" Empowered Deliberative Democracy (السيد, 2015).
ويقدم الشكل التالي صورة بانورامية لجبر الحداثة
https://www.facebook.com/elsayed.nasreldein

المراجع
McGregor, D. 1960. The Human Side of Enterprise. New York: McGraw-Hill.
Ouchi, W. 1981. Theory Z: How American Management Can Meet the Japanese Challenge. New York: Addison-Wesley.
السيد, ا. ن. ا. 2015. الديموقراطية من تحت لفوق. الحوار المتمدن, 4704(29 يناير ): http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=452793.