صناعة الابداع


السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن - العدد: 6162 - 2019 / 3 / 3 - 06:37
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

"لا توجد ذرة شك في أن الابداع هو أهم مورد متاح للإنسان. فلولاه لما عرف الانسان التقدم"
دي بونو،
طبيب بريطاني ومفكر وله العديد من المؤلفات حول الابداع

تمثال من حجر الديوريت الاسود للملك خفرع، معلقة "قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ ..." لإمرؤ القيس، لوحة الـ "جورنيكا" للفنان الاسباني بابلو بيكاسو، نظرية النسبية الخاصة لألبرت أينشتين، التليفون الذكي المحمول. كانت هذه أمثلة لبعض ابداعات الانسان في مجالات الفن والادب والعلم والتكنو لوجيا (*).
وقد ظلت عملية انتاج الابداعات (العملية الإبداعية) بشتى صورها، ومنذ ان وجد الانسان وحتى عهد قريب، عملية تلقائية تحركها رغبة المبدع في التعبير عما يدور في داخله من مشاعر واحاسيس او عما يشغل عقله من رؤي وأفكار. ولم يكن هناك ما يحكم هذه العملية سوي القواعد التي تفرضها طبيعة الوسيط المستخدم في التعبير عما يدور بداخله. فان كان هذا الوسيط شعرا فان على المبدع احترام البحور، وان كان رسما كان عليه الالتزام بقواعد المنظور، وان كان في مجال العلوم كان عليه احترام منهج البحث العلمي السائد. الا ان العبارة السابقة ينبغي التعامل معها بحذر شديد. فالعملية الإبداعية في نهاية المطاف هي كسر للعادة وخروج عن المألوف سواء كان هذا المألوف متعلقا بمضمون العمل الإبداعي او كان متعلقا بالشكل (طبيعة الوسيط). ويزودنا التاريخ بأمثلة على ابداعات تمردت على القيود التي تفرضها طبيعة الوسيط وهكذا رأينا الشعر المنثور يتحرر من الوزن الموضوع والقافية، ورأينا السريالية والتكعيبية وهي تتحدى قواعد التصوير الكلاسيكي.
وقد أدى التطور الذي شهده المجتمع البشرى في العقود الاخيرة الى ظهور ما يعرف بـ "مجتمع المعرفة". وهو المجتمع الذي أصبحت الموارد الذهنية، المتمثلة في مجمل الإنتاج الثقافي للمجتمع سواء كان هذا الإنتاج مجالات العلوم والتكنولوجيا أو الفنون أو الآداب، مصدرا لإنتاج الثروة. وهكذا لم تعد تلقائية عملية الابداع، او تركها لمبادرة الافراد، كافية لمواكبة الحاجات المعرفية المتزايدة للمجتمع الحديث وأصبح من الضروري إقامة "بنى مؤسسية" تتعامل مع الابداعات بوصفها مورد يمكن ادارته.
وتتطلب إقامة هذه الـ "بنى مؤسسية" توفر ثلاثة عناصر: تعريف لمفهوم "الابداع"، وصف للمبدع، ونموذج لعملية الابداع. وبالنسبة للعنصر الأول، وعلى الرغم من تعدد التعريفات، الا اننا نجد التعريف التالي (Robinson, 1999) ، الذي جاء في تقرير اللجنة القومية الاستشارية للمملكة المتحدة من اكثرها دقة وعمومية:
"الابداع هو أي نشاط تخيلي مُسْتَحْدَث يهدف الى الحصول على نتائج أصيلة وذات قيمة" متعلقة بموضوع ما.
ولعل اهم ما انفرد به هذا التعريف هو استخدام صفة "تخيلي" لوصف النشاط الابداعي. فالخيال هو العالم الذي لا توجد فيه قيود تعوق العقل عن التفكير في اللا "مألوف". هذا بالإضافة الى تأكيده الى ان الابداع نشاط هادف وأن نتائجه هي بالضرورة غير مسبوقة (*).
وبالطبع يشكل الفرد المبدع العنصر الرئيسي في أي منظومة لإدارة الابداع. وطبقا لأحدث النظريات فان العمل الإبداعي في مجال بعينه هو محصلة التفاعل بين خبرة المبدع في هذا المجال مع ما يتمتع من مهارات التفكير الإبداعي (مثل: القدرة على اكتشاف النظام فيما يبدوا عشوائي، التوفيق بين مفاهيم تبدو متعارضة، ...). وهو تفاعل تحركه وتحافظ على مسيرته رغبة المبدع على الإنجاز (Amabile, 2012).

ولا تكتمل عملية إقامة البني المؤسسية اللازمة لإدارة العملية الإبداعية دون بناء نموذج يصف مراحلها. ومن أول النماذج التي تصدت لهذا الامر النموذج الذي طوره جراهام ولاس ونشره في كتابه الشهير "فن الفكر" Art of Thought سنة 1926 وهو نموذج مؤسس اشتقت عدة منه عدة نماذج (Arendse & Campus, 2013). وطبقا لهذا النموذج فإن عملية الابداع تتكون من أربعة مراحل هي (*):
1. "الإعداد" Preparation
2. "الاحتضان" Incubation
3. "الاستنارة" Illumination
4. "التحقق" Verification
وطبقا لهذا النموذج فإن أولى مراحل عملية الابداع هي مرحلة "الإعداد" التي يقوم المبدع فيها بتحديد الباعث الذي دفعه لبدء هذه العملية او الهدف المنشود منها. ويتنوع الباعث فقد يكون "مشكلة تتطلب حلا" أو "حاجة تتطلب اشباعا" أو "رغبة تتطلب إرضاء". وبمجرد انتهاء الباحث من تحديد الباعث يبدأ بجمع البيانات المتعلقة به ويقوم بوضع المعايير التي سيستخدمها في الحكم على مدى تحقيق نتائج عملية الابداع للهدف المنشود منها.
"الاحتضان" هو ثاني مراحل عملية الابداع والتي يدع فيها المبدع أفكاره وما جمعه من معلومات "تتفاعل" سويا، بكل ما تعنيه كلمة "تفاعل" من علاقات محتملة بين الأفكار بدءا من علاقات "التضاد" بين الفكرة ونقيضها وانتهاءا بعلاقات "التآلف" بين الأفكار المتشابهة. ويشكل عقل الانسان الباطن الساحة الرئيسية التي تحدث فيها هذه التفاعلات. انها باختصار مرحلة "اختمار الأفكار" التي تهيئ البيئة المواتية لظهور الأفكار الجديدة.
وثالث المراحل هي مرحلة "الاستنارة" التي تظهر فيها الأفكار الجديدة في العقل الواعي للمبدع. وتتميز هذه المرحلة بقصرها مقارنة ببقية المراحل اذ تتدفق الرؤي الثاقبة insights في فترة قصيرة قد تستغرق بضع دقائق ولا تتجاوز عدد محدود من الساعات.
وآخر مراحل نموذج ولاس هي "التحقق" التي يتم فيها استخدام المعايير التي تم تطويرها في المرحلة الأولى تقييم نتائج عملية الابداع باسرها.
وهكذا تحولت عملية انتاج الابداعات من عملية تلقائية وغامضة يقوم بها ابطال غريبوا الاطوار وتخضع لأهوائهم الى عملية واضحة ومحددة الملامح يمكن إدارتها وتعظيم مردودها.

(*) للاطلاع عل الاشكال المصاحبة يرجي الضغط على الرابط التالي:
https://www.facebook.com/elsayed.nasreldein/media_set?set=a.10155715433227282&type=3
المراجع
Amabile, T. 2012. Componential Theory of Creativity: Harvard Business School Working Paper.
Arendse, S., & Campus, N.-W. U. P. 2013. Evaluating and Implementing a Deliberate Creativity Framework to Enhance Retail Business Performance.
Robinson, K. 1999. All Our Futures: Creativity, Culture and Education. London: DFEE: National Advisory Committee on Creative and Cultural Education (NACCCE).