حوار حول مجتمع المعرفة


السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن - العدد: 5957 - 2018 / 8 / 8 - 22:03
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

في أول محاضرة من محاضرات سمينار "إدارة المعرفة"، المخصص لطلبة الدكتوراه، دار الحوار التالي بين أحد الطلبة والأستاذ.
الطالب: الا تتفق معي في ان أي مجتمع بشري لا بد وان يعتمد على المعرفة، أيا كان مصدرها، في تسيير اموره.
الأستاذ: متفق معك فإقامة مجتمع ما والحفاظ على استمراره يتطلب توفر حد من أدنى من المعرفة.
الطالب: في هذه الحالة يصبح وصف مجتمعنا المعاصر بانه "مجتمع معرفي" غير دقيق فالمجتمع البشري، أيا كانت درجة تطوره، هو بالضرورة "مجتمع معرفي".
الأستاذ: قبل الإجابة على هذا السؤال علينا التعرف على المقصود من كلمة "معرفة" وكبداية يمكن القول بأن المعرفة بشيئ ما هي تصورنا عن خصائصه وقدرتنا على التنبؤ بسلوكه.
الطالب: لعلى لا أكون مخطئا ان اعتبرت ان "الأسطورة" كانت أولى الوسائل التي استخدمها الانسان لتفسير ما يدور حوله من احداث.
الأستاذ: هذا صحيح ولا تنسى ايضا "التجربة والخطـأ".
الطالب: في هذه الحالة يتوقف فهم الانسان للواقع على اساطير الحضارة التي ينتمي اليها وهكذا تتعدد الرؤي وتتباين التفسيرات من مجتمع لآخر.
الأستاذ: وهنا تبرز أهمية "منظومة العلم الحديث" التي قدمت للإنسان أدوات تمكنه من فهم ما يدور من احداث في كلا من الواقع الطبيعي والواقع الاجتماعي، وتمكنه أيضا من التحقق من صدق ما يتصوره عن تلك الاحداث، وذلك بغض النظر عن ثقافته او انتمائه الحضاري. وفي اطار هذه المنظومة تُعَرَف المعرفة بأنها أي "تصور او اعتقاد صادق ومبرر".
الطالب: ما الفرق بين صدق التصور وتبريره؟
الأستاذ: صدق التصور، او الاعتقاد، يعني ان ما جاء به (مضمونه) اما "يطابق" الواقع، او "يتسق (لا يتناقض)" مع الحقائق المستقرة، او بما يوفره من حلول ناجحة لمشاكل عملية. فالقول، على سبيل المثال، أن "رفاه مجتمع ما في تزايد مستمر" يظل مجرد رأي او تصور مالم تؤكده إحصاءات دقيقة. في هذه الحالة يمكن القول ان ما جاءت به الفكرة "يتطابق" مع الواقع لذا فهي صادقة ومن ثم تصبح "حقيقة". اما الفكرة القائلة بـ "تماثل مواصفات شبكة الطرق المحلية مثيلاتها العالمية" فهي بالضرورة غير صادقة لكونها غير متسقة مع الارتفاع المستمر في عدد حوادث الطرق.
الطالب: وماذا عن التبرير؟
الأستاذ: يتعلق ثاني عناصر صلاحية الاعتقاد، "متانة التبرير"، بطبيعة "البينات (الشواهد)" Evidences التي تدعمها، والتي من أهمها: "البينات الإحصائية، " و "البينات الحكائية". والنوع الأول من البينات، "البينات الإحصائية"، هي تلك تنتجها الملاحظة المنهجية لظواهر الواقع والتحليل العلمي لهذه الملاحظات. أما "البينات الحكائية " فهي مجرد حكايات متعلقة بموضوع الفكرة المطروحة يرويها الآحاد بالأصالة عن أنفسهم او نقلا عن الآخرين (العنعنات). وفى الحقيقة لا يقدم هذا النوع من البينات دعما قويا للفكرة نظرا لانتفاء صفة "التواتر" أو "التكرار" عنه.
الطالب: أفهم من هذا أن أي تصور أو اعتقاد لا يستوفي هذين الشرطين، الصدق والتبرير، لا يمكن اعتباره معرفة؟
الأستاذ: بالضبط وهذا يعني أيضا ان "المعرفة العلمية" قابلة للتفنيد فما لا يمكن تفنيده لا يمكن اعتباره معرفة.
الطالب: والآن وبعد ان امتلكنا تعريف دقيق للمعرفة ماذا عن "مجتمع المعرفة"؟
الأستاذ: انه المجتمع الذي ينظر الى المعرفة بوصفها مورده الرئيسي لإنتاج "الثروة" فيعمل على انتاجها وعلى استخدامها في إدارة كافة انشطته للارتقاء برفاه مواطنيه. يعرف مجتمع المعرفة بأنه: ذلك المجتمع الذي يقوم أساساً على نشر المعرفة وإنتاجها وتوظيفها بكفاءة في جميع مجالات النشاط المجتمعي: الاقتصاد، والمجتمع المدني، والسياسة، والحياة الخاصة، وصولاً لترقية الحالة الإنسانية باطراد، أي إقامة التنمية الإنسانية" (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، 2003، ص 39).
الطالب: انها اذن المعرفة الذي انتجتها منظومة العلم الحديث وهي منظومة عمرها حوالي 500 سنة وهذا يدفعني للتساؤل لماذا لم تبرز أهمية الدور المتعاظم الذي تلعبه هذه المعرفة في حياة الانسان الا في العقود الأخيرة؟
الأستاذ: الإجابة تكمن في ظهور "تكنولوجيا المعلومات والاتصالات" وتزايد قدراتها بشكل غير مسبوق هذا بالإضافة الى شيوع استخدامها. فلقد خلقت هذه التكنولوجيا فضاء افتراضي (رقمي/الانترنت) يمكن الإنسان التجول فيه بحرية دون الحاجة للحصول على تأشيرات. فضاء يسر من عملية تبادل المعرفة بشتي صورها (كتب، أوراق علمية، ...) وذلك باختزانها في قواعد بيانات يمكن التوصل اليها. وهكذا لم يعد الانسان مضطرا للترحال بالجسد بحثا عن مصادر المعرفة فيكفيه انتقاء بعض الكلمات التي تصف الموضوع ويدع لـ "محرك البحث" مهمة تحديد المواقع التي تحتوي على المعلومات المطلوبة. كما يتيح هذا الفضاء للباحثين تشكيل فرق عمل بحثية عابرة للحدود يتعاون افردها على دراسة مشكلة بعينها. وقد أدى هذا الى زيادة سرعة انتاج المعرفة بشكل غير مسبوق وأصبحنا نعيش حالة "الانفجار المعرفي" فحجم المعرفة التي أنتجها العقل البشرى في الثلاثين أخيرة يفوق كل ما أنتجه الإنسان في الـ 5000 سنة الأخيرة من حضارة الإنسان. وقد صاحب هذا "الانفجار المعرفي" التقلص المتزايد للفترة اللازمة لتحويل الاكتشاف العلمي إلى منتجات ملموسة أو خدمات محسوسة ذات عائد اقتصادي مرتفع ("سرعة التحويل"). فعلى سبيل المثال تطلب كشف العالم الإنجليزي ماكسويل لطبيعة الموجات الكهرومغناطيسية سنة 1864م مرور 31 سنة قبل أن تتم الاستفادة منه في إتمام أول اتصال لاسلكي عبر الأطلنطي سنة 1901م. وقد تقلصت هذه الفترة منذ خمسينات القرن العشرين إلى أقل من عشرة سنوات. ففي سنة 1956 تم بناء أول كمبيوتر تعتمد دوائره على الترانزستور الذي ام يكن مضى على اكتشافه في معامل بل بالولايات المتحدة سوى ثماني سنوات فقط. واليوم يتراوح زمن دورة التغيير والتجديد في التكنولوجيا والمؤسسات الاجتماعية ما بين 6 و8 سنوات (السيد, 2017).
الطالب: هل افهم من ذلك انه هنا ارتباط وثيق بين منظومة "تكنولوجيا المعلومات والاتصالات"، وتنامي قدراتها وشيوع استخدامها، وبين ظهور مجتمع المعرفة.
الأستاذ: ان مفهوم "مجتمع المعرفة" هو مفهوم متعدد الابعاد واحد هذه الابعاد هو البعد التكنولوجي المتمثل في وجود هذه المنظومة. لذا يعتبر وجودها هو شرط ضروري لإقامة مجتمع المعرفة ولكنه ليس كافيا. لذا تتطلب إقامة "مجتمع معرفة" قابل للاستمرار الاهتمام بالأبعاد الأخرى مثل:
 "البعد الثقافي" بما يتضمنه من قيم مثل "التعلم الدائم" (او "ديمومة التعلم)، "العقلانية"، "الابداع".
 "البعد السياسي" الذي يهتم بضمان الحريات التي تشمل حرية التعبير، حرية التفكير، حرية الكلام، حرية التعبير، حرية الوصول للمعلومات وحرية انتقال البيانات والمعلومات، حرية البحث العلمي، حرية الأنشطة الإبداعية.
 "البعد الاجتماعي" الذي يؤكد على ان مكانة الفرد في المجتمع تتوقف فقط على ما يبذله من جهد، وعلى قدر ما يتمتع به من مواهب وما يملكه من قدرات.
المراجع
السيد, ا. ن. ا. 2017. المعرفة والديموقراطية (في البدء كانت الكلمة). القاهرة: دار اكتب.