القوة الناعمة وعالمنا الافتراضي


السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن - العدد: 6397 - 2019 / 11 / 2 - 13:40
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

ظهر مصطلح "القوة الناعمة" Soft Power لأول مرة عام 1990 في ورقة علمية نشرها جوزيف ناي Joseph Nye، أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد الامريكية، في مجلة "السياسة الخارجية" بعنوان "القوة الناعمة" (*) وعالجها باستفاضة في كتابه الصادر في 1991 بعنوان "مُلزَمَة بالقيادة: الطبيعة المتغيرة للقوة الأمريكية" (+). وأكد ناي في طرحه للمفهوم على وجود نوع ثالث من القوة غير ملموس قوامه الجاذبية المستمدة من ثقافة الدولة وقيمها السياسية ومصداقيتها الناشئة من ممارساتها المتسقة مع هذه القيم. وإذا كان النوع الأول، "القوة الخشنة"، يقوم على "الإجبار" من خلال استخدام العنف أو التهديد باستخدامه، والنوع الثاني، "القوة اللزجة"، يقوم على "الإغواء" من خلال تقديم المنح والعطايا فإن النوع الثالث، "القوة الناعمة"، يقوم على "الاستيعاب (الاستمالة)" من خلال جعل الآخرين (موضوع القوة) يرغبون ما يرغبه حائز القوة.
واليوم وبعد مرور حوالي 30 سنة على ظهور هذا المفهوم شهد العالم أثناءها العديد من التغيرات الجوهرية التي كان سببها توجهان كبيران هما: ظهور وتنامي "العالم الافتراضي (الرقمي)" Virtual (Digital) World وانتشار "البنية الشبكية" Network Structure. وهما التوجهان اللذان عملا ويعملان سويا على إعادة تشكيل مسرح الاحداث أو فضاء السياسة الدولية بالعناصر الفاعلة فيه والعلاقات فيما بينها. وهو الامر الذي يقتضي مراجعة لمفهوم القوة الناعمة وتعديله ليتلاءم مع مستجدات الواقع.
I. العالم الافتراضي
يقضى اليوم أكثر من 4.4بليون انسان (حوالي 57% من سكان الأرض) جزءا لا يستهان به من وقتهم في "العالم الافتراضي" ويستخدم 2.8 بليون منهم برمجيات التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك والتويتر. ولا تقتصر أنشطة الفضاء الافتراضي على البحث عن المعلومات والتواصل بل امتدت الى مجال الاعمال فقد بلغت قيمة التجارة الالكترونية في أوائل سنة 2019 حوالي3.45 ترليون دولار.
والعالم الافتراضي هو عالم غير مرئي وغير ملموس تلاشت فيه المسافات، ولا يتطلب التجوال فيه استخدام وسائل المواصلات، ولا تتطلب زيارة انحائه تأشيرات دخول، ولا تحد حرية الانتقال بين أماكنه عوائق جغرافية أو حدود سياسية، وتتاح لرواده الحصول على المعلومات والتواصل مع الآخرين بالصوت والصورة أيا كان موقعهم الجغرافي. انه عالم بوابة دخوله متاحة للجميع فهي اما كمبيوتر أو تليفون محمول متصلان بشبكة الانترنت..
ويرجع الفضل في انشاء هذا العالم الى "منظومة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات" التي قدمت المكونان الرئيسيان لهذا الفضاء: الـ "رقمنة" Digitization والـ "شبكات الكمبيوتر" Computer Network. والمكون الأول، "الرقمنة"، هو إمكانية تمثيل أي شيئ مادي على هيئة رقمية، أو "بنية معلوماتية" Information Structure، يمكن اختزانها في ذاكرة الكمبيوتر ومن ثم إمكانية تعديل وتحوير تلك البنية في أي وقت نشاء. فعلى سبيل المثال "البروفيل" الخاص بك على الفيس بوك هو البنية الرقمية التي تمثلك في هذا الفضاء الافتراضي. أما المكون الثاني، "شبكات الكمبيوتر"، فهي مجموعة من الكمبيوترات المتصلة مع بعضها البعض لتتمكن من تبادل المعلومات المختزنة فيها. ولقد بلغت تكنولوجيا تشبيك الكمبيوترات قمتها بظهور الإنترنت، شبكة الشبكات، التي تغطى الكرة الأرضية بأسرها وتتيح للكمبيوترات المتصلة بها التواصل بغض النظر عن اختلافات التوقيت أو تباعد المسافات. ولقد أدى التقدم الهائل في تكنولوجيا نقل البيانات بكافة اشكالها (مسموعة او مرئية) الى زياد سرعة انتقالها من مكان لآخر الى الحد الذي يجعلها "حية" او كأنها بث مباشر على الهواء مباشرة.
ويوفر العالم الافتراضي لرواده العديد من الأدوات مثل محركات البحث التي تساعدهم على التوصل الى المعلومات أيا كان موقعها، برمجيات التواصل الاجتماعي التي تتيح لهم نشر أفكارهم وإقامة حوارات حولها، وبرامج تنظيم المجموعات التي تساعدهم على انشاء مجموعات ذات اهداف محددة. وبهذا يكون العالم الافتراضي قد زود رواده بقدرات معرفية وإعلامية وتنظيمية هائلة.
II. البنى الشبكية
قدمت شبكات الكمبيوتر البنية التحتية التكنولوجية اللازمة لإقامة شبكات اجتماعية. والشبكة الاجتماعية هي أي مجموعة من الكيانات (كالأفراد أو المجموعات أو المؤسسات) التي تربطها سويا مجموعة من العلاقات المتبادلة (مثل الصداقة أو النسب أو المكانة الاجتماعية أو التبادلات المالية أو المعلوماتية) وذلك بهدف تسهيل التعاون بينهم او القيام بأعمال مشتركة. وعلى عكس البنية الهرمية فإن العلاقات بين مكونات أي شبكة هي علاقات "أفقية" بين كل مكون والمكونات الأخرى. كما تتميز هذه البنية بعدم وجود مركز مسيطر.
ومن اهم نتائج هذين التوجهين هي ظهور فاعلون جدد على الساحة الدولية فلم تعد الدولة، بمفهومها التقليدي، هي الفاعل الوحيد اذ ظهرت على الساحة كيانات أخرى مثل الشركات متعددة الجنسيات، المنظمات الغير حكومية، ومنظمات المجتمع المدني. ولا نجد مثالا أفضل من مثال "الحركة المناهضة للألغام المضادة للأفراد" لتوضيح الدور الذي يلعبه كلا من العالم الافتراضي والبنى الشبكية كأدوات من أدوات استخدام القوة الناعمة في العلاقات السياسية الدولية. وسنستخدم، في هذا السياق، ابسط تعريفاتها: "القوة الناعمة لكيان ما (دولة، منظمة غير حكومية دولية، تحالف منظمات مجتمع مدني، ...) هي قدرة هذا الكيان على تغيير سلوك الكيانات الاخرى للحصول على النتائج التي تلائمه هو وذلك عن طريق استمالة الاخر الى صفه باستخدام وسائل غير ملموسة كالرؤى ولأفكار".
"والألغام المضادة للأفراد هي عبوات متفجرة مصممة لتزرع تحت الأرض ولتنفجر بمجرد وجود شخص أو اقترابه منها أو ملامسته لها. والنتيجة كارثية بالنسبة للضحية فهي لا تخرج عن خيارين سيئين. الخيار الأقل سوءا هو موت الضحية. اما الخيار الأكثر سوءا فهو بقاء الضحية على قد الحياة وقد فقدت طرف او أكثر من أطرافها. ولقد حركت بشاعة المشاهد الدامية التي بثتها قنوات التليفزيون العالمية للمدنيين الذين فقدوا حياتهم او بترت اطرافهم نتيجة لهذه الألغام الضمير الإنساني وأدت سنة 1992 الى انشاء كيان أطلق عليه "الحملة الدولية لمنع الألغام الأرضية" International Campaign to Ban Landmines (ICBL). وفي البداية تشكل هذا الكيان، الهادف لمنع الالغام الأرضية والعبوات الناسفة، كائتلاف بين ست منظمات غير حكومية تقع أربعة منها في القارة الاوربية (فرنسا، المانيا، المملكة المتحدة) واثنتان في الولايات المتحدة. ولاحقا تحول الإتلاف الى "شبكة" تضم 1300 منظمة غير حكومية من حوالي 100 بلد يسعون جميعا لتحقيق الهدف الذي أنشئ الإتلاف من أجله. وقد كان وراء قيام هذا الإتلاف ناشطة سياسية أمريكية هي جودي وليامز التي تولت منصب منسق عام الإتلاف في الفترة ما بين 1992 و1998. وقد أسفر جهد الاتلاف عن حشد الرأى العام العالمي ضد استخدام هذه الألغام. وفي سنة 1996 اتى هذا الحشد اكله فبدأت مجموعة من الحكومات بقيادة كندا في صياغة أولية لمعاهدة حظر الألغام المضادة للأفراد. وأقرت الصيغة النهائية للمعاهدة تحت اسم "اتفاقية حظر استعمال وتخزين وإنتاج ونقل الألغام المضادة للأفراد، وتدمير هذه الألغام" في أوسلو في 18 سبتمبر 1997 وفتح الباب للتوقيع عليها في أوتاوا في ديسمبر 1997. وفي نفس السنة حصلت الحملة الدولية لحظر الألغام المضادة للأفراد ومنسقتها "جودي ويليامز" على جائزة نوبل للسلام عام 1997 لجهودها في شن حملة من أجل حظر الألغام المضادة للأفراد. ثم دخلت الاتفاقية حيز التنفيذ في أول مارس/آذار 1999 بعد وصول عدد الدول المصدقة عليها إلى أربعين دولة."

وقراءة متأنية لهذا المثال توضح الأدوار التي يلعبها كلا من العالم الافتراضي والبنى الشبكية في تفعيل القوة الناعمة. وفي البداية يتطلب تفعيل القوة الناعمة وجود طرفين: طرف "فاعل" يستخدم القوة الناعمة لتغيير سلوك طرف آخر "مفعول به". والطرف الفاعل في حالتنا هذه هو ائتلاف "الحملة الدولية لمنع الألغام الأرضية" التي ساعدت "البنية الشبكية" على انشاؤه. والطرف الثاني هو مجموعة الدول التي تنتج او تستخدم الألغام المضادة للأفراد. ولتحقيق هدفه كان على الإتلاف حشد الرأي العام العالمي وراء قضية محددة لتشكيل قوة معنوية ضاغطة على صانعوا القرار في الدول المعنية وهنا يبرز دور ما يوفره العالم الافتراضي من أدوات بحث وتواصل وتنظيم.

(*) Joseph S. Nye (Jr.), “Soft Power”, Foreign Policy, no. 80 (Autumn 1990): 153–171
(+) Joseph S. Nye (Jr.), Bound to Lead: The (((Changing Nature of American Power (New York: Basic Books, 1991): 188–220.