رأس المال: الفصل الثالث عشر - 3) التأثيرات المباشرة للإنتاج الآلي على العامل


كارل ماركس
الحوار المتمدن - العدد: 6598 - 2020 / 6 / 20 - 10:50
المحور: الارشيف الماركسي     




الآلات والصناعة الكبرى


3) التأثيرات المباشرة للإنتاج الآلي على العامل



كان تثوير وسائل العمل، كما رأينا، نقطة انطلاق الصناعة الكبرى، أما وسائل العمل التي تعرضت للانقلاب فتكتسب شكلها الأكثر تطورا في تمفصل منظومة الآلات في المصنع. وقبل أن نعاين سبل اندماج المادة البشرية بهذا الكيان العضوي الموضوعي دعونا نطلع على بعض التأثيرات العامة لهذه الثورة على العامل نفسه.

ج) تشديد العمل

إن التمديد المفرط ليوم العمل، الذي تحققه الآلات بين يدي رأس المال، يؤدي فيما بعد، كما رأينا، إلى رد فعل من المجتمع الذي يتهدد الخطر جذوره الحيوية، وإلى إقرار يوم عمل عادي محدد قانونا. وانطلاقا من هذا الأخير تكتسب تلك الظاهرة التي صادفناها سابقا وهي زيادة شدة العمل، أهمية حاسمة. فعند تحليل فائض القيمة المطلق تركز الانتباه أصلاً على مقدار العمل من حيث مدّته، في حين افترضنا أن درجة شدته هي مقدار معين. وعلينا الآن أن نعالج تحول مقدار المدة إلى مقدار الشدة، أو الدرجة.

من البديهي أنه بمقدار ما يمضي تطور نظام الآلات قُدماً وتتكدس خبرة فئة خاصة من عمال الآلات، فإن سرعة العمل تتزايد تماما، كما تتزايد شدته أيضا بصورة طبيعية.
وهكذا، ففي إنكلترا اقترن تمديد يوم العمل مع نمو شدة العمل في المصانع اقترانا وثيقاً على مدى نصف قرن. ولكن من المفهوم أنه في ظل مثل هذا العمل، حيث لا يتعلق الأمر بنوبات توتر عابرة، بل بنمط رتيب منتظم يتكرر يوما بعد آخر، ستحل حتما تلك النقطة التي يتنافى فيها تمديد يوم العمل وشدته مع بعضهما بعضا، بحيث لا يتوافق تمديد يوم العمل إلا مع خفض درجة شدته، وعلى العكس لا يتوافق رفع درجة الشدة إلا مع تقليص يوم العمل. وما إن يفضي استياء الطبقة العاملة المتنامي بالتدريج إلى إرغام الدولة على تقليص وقت العمل بالقوة، وبالدرجة الأولى فرض يوم عمل عادي على المصنع الفعلي، أي منذ اللحظة التي يستحيل فيها، مرة وإلى الأبد، رفع إنتاج فائض القيمة بتمديد يوم العمل، حتى يندفع رأس المال بكل طاقته وبكامل وعيه إلى إنتاج فائض القيمة النسبي عبر التعجيل بتطوير منظومة الآلات. وهنا يطرأ تغير مواز على طابع فائض القيمة النسبي. وتتلخص طريقة إنتاج فائض القيمة النسبي بصورة عامة في أن العامل يتمكن، بفضل ازدياد قوة إنتاجية العمل، من إنتاج المزيد بإنفاق المقدار السابق نفسه من العمل خلال الوحدة الزمنية السابقة عينها. إن وقت العمل السابق يضيف إلى المنتوج كله بشكل عام القيمة ذاتها كما من قبل، لكن هذه القيمة التبادلية التي بقيت بلا تغير تتمثل الآن في كمية أكبر من القيم الاستعمالية، ولذلك تنخفض قيمة الوحدة السلعية الواحدة. ولكن الوضع يتغير إثر التقليص الإلزامي ليوم العمل فهو يعطي دفعة قوية لتطوير القدرة الإنتاجية والتوفير في شروط الإنتاج، ويُرغم العامل في الوقت ذاته على زيادة إنفاق العمل في الوحدة الزمنية الواحدة، وزيادة توتر قوة العمل، وملء مسامات وقت العمل تماما، أي تكثيف العمل إلى درجة لا يمكن بلوغها إلا في إطار يوم عمل أقصر. وتحتسب هذه الكتلة الأكبر من العمل المضغوطة والمكثفة في حدود فترة زمنية معينة، تُحتسب الآن بما هي عليه، أي كمية أكبر من العمل. وإلى جانب قياس وقت العمل “من حيث مقدار السعة” يبرز الآن قياس درجة كثافته (1). فساعة واحدة أكثر شدة من يوم العمل المؤلف من عشر ساعات تتضمن الآن عملا، أي قوة عمل منفقه، تساوي أو تفوق ما تتضمنه ساعة واحدة أقل شدة من يوم عمل مؤلف من اثنتي عشرة ساعة.
ولذلك يملك منتوجها قيمة مساوية أو أكبر مما يملكه منتوج 1/5، 1 ساعة ذات شدة أقل. وفضلا عن زيادة فائض القيمة النسبي بفعل ازدياد قوة إنتاجية العمل، فإن نسبة 1/3، 3 ساعة من العمل الفائض إلى 2/3، 6 ساعة من العمل الضروري مثلا، تقدم للرأسمالي الآن كتلة من القيمة تعادل ما كانت تقدمه 4 ساعات من العمل الفائض إلى 8 ساعات من العمل الضروري.

والسؤال الآن: كيف يجري تشديد العمل؟

إن النتيجة الأولى المتمخضة عن تقليص يوم العمل ترتكز على ذلك القانون البديهي وهو أن كفاءة نشاط قوة العمل تتناسب تناسب عكسيا مع مدة هذا النشاط. لذلك يحصل في حدود معينة، أن ما يضيع بتقليص مدة النشاط، يكتسب بزيادة درجته. أما أن العامل ينفق بالفعل قوة عمل أكثر فذلك ما يحرص عليه رأس المال في طريقة دفع الأجور(2). وفي المانيفاکتورات، التي لا تضطلع الآلات فيها بأي دور أو تضطلع بدور ضئيل وحسب، مثل معامل الفخار، أثبت تطبيق قانون المصانع بشكل ساطع أن مجرد تقليص يوم العمل، يزيد انتظام العمل واتساقه واستمراريته وطاقته بصورة مذهلة (3). ولكن يصعب أن تتولد النتيجة ذاتها أيضا في المصنع الفعلي، نظرا لأن تبعية العامل إلى الحركة المتواصلة والرتيبة للآلات قد أرست منذ أمد بعيد انضباطاً صارماً للغاية. لذلك عندما نوقشت مسألة تقليص يوم العمل إلى ما دون 12 ساعة في العام 1844 أعلن أصحاب المصانع بما يشبه الإجماع أن

“مراقبي العمل في مختلف الأقسام يحرصون على ألا يهدر العمال دقيقة واحدة من الوقت، وأن من المتعذر زیادة مدى يقظة وانتباه العمال the extent of vigilance and attention on the part of the) (workmen وعليه، فبإفتراض بقاء كافة الظروف الأخرى على حالها، كسرعة الآلات مثلا، فإنه من غير المعقول أن يتوقع المرء في المصانع الحسنة التجهيز والترتيب أي نتيجة ملموسة من زيادة انتباه العمال، إلخ” (4).

ثم دحضت التجارب هذا الادعاء. فالسيد ر. غاردنر طبق في مصنعيه الكبيرين في بریستون يوم عمل من 11 ساعة بدلا من 12 ساعة اعتبارا من 20 نيسان/ إبريل عام 1844. وبعد مرور ما يقارب السنة جاءت النتيجة

«إنه تم الحصول على الكمية السابقة من المنتوج بالتكاليف السابقة وإن العمال كسبوا عموما خلال 11 ساعة ما كانوا يكسبونه بالضبط خلال 12 ساعة من قبل»(5).
ولا أقصد هنا التجارب في حجرات الغزل والتمشيط لأنها اقترنت بزيادة سرعة الآلات (بنسبة 2%). أما في قسم النسيج، حيث كانت تنتج أنواع متباينة من الأقمشة المضلّعة، فلم تطرأ أي تغيرات على شروط الإنتاج الموضوعية. لكن النتيجة كانت كما يلي:

“ابتداء من 6 كانون الثاني / يناير وحتى 20 نیسان/ إبريل عام 1844 كانت الأجور الوسطية للعامل الواحد في يوم عمل مؤلف من 12 ساعة تبلغ 10 شلنات و1/2، 1 بنس في الأسبوع، وابتداء من 20 نيسان/ إبريل وحتى 29 حزيران/يونيو عام 1844 باتت الأجور الوسطية ليوم عمل من 11 ساعة تبلغ 10 شلنات و1/2، 3 بنس في الأسبوع» (6).
في هذه الحالة جرى خلال 11 ساعة إنتاج أكثر مما أنتج في 12 ساعة من قبل، وكان ذلك بالتحديد نتيجة اتساق مزاولة العمل على نحو أكبر والتوفير في استخدام العمال للوقت. وعلى حين أن العمال حصلوا على الأجور نفسها وربحوا ساعة فراغ، حاز الرأسمالي على الكتلة السابقة نفسها من المنتوجات ووفر الفحم والغاز وغيرهما من النفقات اللازمة لساعة واحدة. وجرت تجارب مماثلة أدت إلى نتائج مشابهة في مصانع السيدين هوروکس وجاكسون (7).

إن تقليص يوم العمل يخلق في البداية شرطاً ذاتياً لتكثيف العمل، أي يتيح للعامل إنفاق قوة أكبر خلال وقت معين، وحين يجري هذا التقليص ليوم العمل بتشريع ملزم تصبح الآلة بين يدي رأس المال وسيلة موضوعية نظامية لاعتصار أكبر كمية من العمل خلال وقت معين. ويتحقق ذلك على نحو مزدوج: زيادة سرعة الآلات وزيادة عدد الآلات الخاضعة لرقابة عامل واحد، أي توسيع نطاق عمل هذا الأخير. وإن تطوير تصميم الآلات ضروري، من جانب، لأجل تشديد الضغط على العامل، وهو يقترن تلقائياً، من جانب آخر، بتشديد العمل لأن تحديد يوم العمل يحفز الرأسمالي على توفير أدق في تكاليف الإنتاج. فتطوير المحرك البخاري زاد من سرعة حركة مكبسه وأتاح في الوقت نفسه، بفضل توفير أكبر في القوة، إمكانية تدوير أوسع نطاقا بمحرك من الحجم القديم، علما أن استهلاك الفحم يبقى على حاله، بل ينخفض. وإن تطوير آلية نقل الحركة يقلل الاحتكاك ويخفض قطر ووزن المحاور، صغيرها وكبيرها، إلى حد أدنى يتناقص باستمرار – وهذا ما يميز بصورة أخاذة الآلات الحديثة عن القديمة – وأخيراً، فإن تطوير آلات تنفيذ العمل، أدى إلى تصغير حجمها مقابل زيادة سرعتها وتوسيع نطاق فعلها كما هو الحال مع النول البخاري الحديث، أو زيادة حجم هيكلها مقابل زيادة عدد ونطاق فعل أدواتها كما في آلة الغزل، أو زيادة سرعة هذه الأدوات بفضل تغييرات طفيفة في الأجزاء، مثلما حصل في أواسط الخمسينات عند زيادة سرعة المغازل في آلة المول الأوتوماتيكية بنسبة الخمس.

يرجع تقليص يوم العمل في إنكلترا إلى 12 ساعة للعام 1832. وفي عام 1836 قال أحد أصحاب المصانع الإنكليز:

“نما العمل في المصانع كثيراً بالمقارنة مع الأيام السالفة نظرا لأن سرعة الآلات التي ازدادت إلى حد كبير تتطلب من العامل انتباهاً ونشاطاً مشددين” (8).
وفي العام 1844 أورد اللورد آشلي، وهو اليوم الكونت شافتسبري، في مجلس العموم معطيات مدعمة بالوثائق وهي التالية:

“إن عمل المشتغلين في عمليات المصانع يزيد اليوم ثلاث مرات عما كان عليه عند بدء هذه العمليات. لا شك في أن الآلات قد نفذت عملا يعوض عن أعصاب وعضلات الملايين من البشر، ولكنها ضاعفت على نحو مذهل (prodigiously) عمل أولئك الذين أخضعنهم لحركتها الرهيبة … وإن العمل اللازم لمتابعة اثنين من المغازل الآلية خلال 12 ساعة يتطلب قطع 8 أميال سيرا على الأقدام عند غزل الغزول رقم 40 في عام 1815. أما في عام 1832 فقد أصبحت المسافة اللازمة خلال 12 ساعة لمتابعة مغزلين آليين ولبرم الغزول من الرقم نفسه نحو 20 ميلاً بل أكثر في أحيان كثيرة. في عام 1825 كان على الغازل أن يقوم بـ 820 حركة مد وسحب على كل مغزل آلي خلال 12 ساعة، أي ما مجموعه 1640 حركة مد وسحب خلال 12 ساعة. أما في عام 1832 فكان على الغازل أن يقوم خلال يوم عمله المؤلف من 12 ساعة بـ2200 حركة مد وسحب على كل مغزل آلي، أي ما مجموعه 4400 حركة؛ وفي عام 1844 أصبح عدد الحركات 2400 والمجموع 4800 حركة؛ ويتطلب الأمر في بعض الحالات مقداراً أكبر من العمل (amount of labour) … وبين يدي هنا وثيقة أخرى من عام 1842 تبين أن العمل يتزايد باطراد ليس فقط لأن الأمر يقتضي اجتياز مسافة أكبر، بل ولأن كمية السلع المنتجة تزداد أيضا، في حين أن عدد العمال يتناقص قياساً إلى ذلك؛ زد على هذا أن نوعية القطن المغزول أردأ، مما يزيد العمل صعوبة … ولقد نما إنفاق العمل في قسم التمشيط إلى حد كبير أيضا. فالواحد ينفذ الآن عملا كان يوزع في السابق على اثنين … وفي قسم النسيج، حيث يعمل عدد كبير من الأشخاص، هم في الأغلب من النساء، نما إنفاق العمل في السنوات الأخيرة بنسبة % 10 نتيجة لازدياد سرعة الآلات. وفي عام 1838 كان يجري في الأسبوع غزل 18،000 لفيفة (hanks)، وازداد هذا العدد في عام 1843 إلى 21,000 لفيفة. في عام 1819 كان عدد ضربات ((picks المكوك في النول البخاري يبلغ 60 ضربة في الدقيقة، وفي عام 1842 بلغ هذا العدد 140، مما يدل على ازدياد العمل بصورة هائلة (9). وإزاء هذه الشدة المذهلة التي كان العمل قد بلغها في عام 1844 في ظل سيادة قانون يوم العمل من 12 ساعة، بدا وكأن لدى أصحاب المصانع الإنكليز مبرراً صحيحاً للقول بان من المستحيل مواصلة التقدم في هذا الاتجاه، وأن أي تقليص لاحق لوقت العمل إنما يعني تقليص في الإنتاج. لقد كانت حجتهم صحيحة ظاهرياً ليس إلا، وهذا ما يدل عليه، على أفضل نحو، البيان الذي أصدره وقتذاك، مفتش المصانع ليونارد هورنر، رقيب الصناعيين النابه:

“بما أن كمية المنتوجات تتحدد، عموما، بسرعة الآلات، يتوجب على صاحب المصنع أن يحرص على دوران الآلات بأقصى درجة من السرعة، على أن يراعي الشروط التالية: الحفاظ على الآلات من العطب المتسارع، والحرص على نوعية المادة المصنعة، وقدرة العامل على اللحاق بحركة الآلات من دون أن يتجاوز ذلك قدرته على المواصلة. وإن أكبر مشكلة يتعين على صاحب المصنع أن يحلها، هي أن يجد حد السرعة القصوى الموائم للشروط المذكورة أعلاه. وكثيرا ما يجد الصناعي أنه تجاوز هذا الحد، وأن انقطاع الآلات وتدهور نوعية المنتوج تفوق مزايا السرعة، فيضطر إلى الاعتدال في سير الآلات. وقد خلصت إلى الاستنتاج بأن صاحب المصنع، الحصيف، الذكي، سوف يتوصل إلى السرعة القصوى المأمونة، وأن من المحال أن ينتج في 11 ساعة ما ينتجه في 12 ساعة. وافترضت أيضا أن العامل الذي يتلقى أجوره على أساس العمل بالقطعة، سوف يبذل أقصى ما يمكن من طاقة تتواءم مع قدرته على مواصلة هذا البذل بالمعدل نفسه” (10).
ولذلك توصل هورنر، خلافا لتجارب غاردنر وسواه، إلى الاستنتاج بأن مواصلة تقليص يوم العمل المؤلف من 12 ساعة ستقلل بالضرورة من كمية المنتوج (11). ولكنه عاد بعد 10 سنوات ليراجع هذا الرأي الذي عبر عنه عام 1845 ويؤكد قلّة إدراكه آنذاك لمدى مرونة الآلات وقوة العمل البشرية اللتين تتوتران بدرجة واحدة إلى الحد الأقصى نتيجة للتخفيض الإلزامي ليوم العمل.

دعونا نتناول الآن الفترة التي أعقبت عام 1847، إثر تطبيق قانون يوم العمل المؤلف من 10 ساعات في مصانع القطن والصوف والحرير والكتان الإنكليزية.

“ازدادت سرعة المغازل في آلات الغزل التي تدار بالطاقة المائية بـ 500 دورة في الدقيقة، بينما ازدادت في آلات المغازل الآلية بـ 1000 دورة، أي أن سرعة المنازل التي تدار بالطاقة المائية والبالغة 4500 دورة في الدقيقة عام 1839 وصلت الآن (عام 1862) إلى 5000 دورة، وسرعة المغازل الآلية التي كانت تبلغ 5000 دورة وصلت الآن إلى 6000 دورة في الدقيقة؛ وهذا يسفر عن ازدياد السرعة بنسبة 1/10 في الحالة الأولى وبنسبة 1/6 (*) في الحالة الثانية” (12).
وفي رسالة موجهة إلى ليونارد هورنر عام 1852 يعالج جیمس ناسميث، المهندس المدني المشهور من باتریكروفت الواقعة بالقرب من مانشستر، التحسينات التي أجريت على المحرك البخاري بين عامي 1848 و1852. وبعد أن يشير إلى أن الحصان البخاري، الذي لا يزال يحتسب في الاحصاءات الصناعية الرسمية وفقا لطاقته القديمة عام 1828 (13)، هو قياس إسمي بحت ولا يمكن اعتباره أكثر من مؤشر اصطلاحي على الطاقة الفعلية، يمضي إلى القول:

“لا ريب إطلاقا في أن المحركات البخارية من الوزن السابق، وهي في الغالب الآلات نفسها مع فارق واحد لا غير وهو أنه أدخلت عليها تحسينات حديثة، تنفذ بالمتوسط عملا يزيد بنسبة 50% على السابق، وأن تلك الآلات ذاتها التي كانت قوتها تناهز 50 حصاناً بخارياً عندما كانت السرعة القصوى تبلغ 220 قدما في الدقيقة، تزيد قوتها الآن في أكثر الحالات عن 100 حصان بخاري، علما بأنها تستهلك مقداراً أقل من الفحم… وإن المحركات البخارية الحديثة، رغم احتفاظها بالعدد الإسمي السابق للأحصنة البخارية، تعمل بقوة أكبر من السابق نتيجة للتحسينات في تصميمها وتصغير حجمها والتغييرات في تركيب المرجل البخاري وما إلى ذلك. لذلك، وعلى الرغم من أن نسبة الأيدي العاملة الآن إلى الحصان البخاري الإسمي ما تزال هي نفسها كما في السابق، إلا أن عدد الأيدي بالنسبة إلى آلات تنفيذ العمل قد تقلص في الوقت الحاضر”(14).
وفي عام 1850 استخدمت المملكة المتحدة 134,217 حصاناً بخارياً إسمياً لتحريك 25,638,716 مغزلاً و 301,445 نولا. وفي العام 1856 بلغ عدد المغازل والأنوال 33,503,580 و 369,205 على التوالي. ولو بقي عدد المغازل والأنوال التي يحركها حصان بخاري واحد على ما كان عليه عام 1850 لاقتضى الأمر 175,000 حصان بخاري في عام 1856. ولكن عدد هذه الأحصنة لم يبلغ، كما تدل الاحصاءات الرسمية، سوى 161,435 حصاناً، أي ما يقل بـ 10,000 حصان بخاري ونيف عما كان يقتضيه الأمر على أساس حسابات عام 1850(15).

“يشير التقرير الأخير (الإحصاء الرسمي) لعام 1856 إلى أن نظام المصانع ينتشر سريعاً، وأن عدد الأيدي قد تقلص بالنسبة إلى الآلات، وبنتيجة التوفير في القوة والتحسينات الأخرى يدير محرك بخاري آلات ذات وزن أكبر، وأن ازدياد كمية المنتوجات يتحقق بفضل تطور آلات تنفيذ العمل وتغيير طرائق الإنتاج وزيادة سرعة الآلات والكثير من الأسباب الأخرى (16). إن التحسينات الكبيرة التي أدخلت على مختلف أنواع الآلات قد زادت من قدرتها الإنتاجية كثيراً. وليس هناك أدنى ريب في أن تقليص يوم العمل كان… حافزا على هذه التحسينات. وإن هذه التحسينات وتزايد شدة توتر العامل قد أدت إلى أن يحقق يوم العمل المقلص (بساعتين أو بنسبة 1/6) إنتاج كمية من المنتوج تُعادل على أقل تقدير ما كان ينتج سابقاً خلال يوم عمل أطول”(17).
وتكفي واقعة واحدة للدلالة على مدى تنامي ثروة أصحاب المصانع بفضل استغلال قوة العمل بصورة أشد من ذي قبل، وهي أن النمو السنوي الوسطي لعدد مصانع المنسوجات القطنية الإنكليزية قد بلغ 32 مصنعاً في الفترة من عام 1838 إلى عام 1850، بينما بلغ 86 مصنعاً في الفترة من عام 1850 إلى عام 1856(**).

ومهما يكن تقدم الصناعة الإنكليزية عظيماً في السنوات الثماني من عام 1848 حتى عام 1856 في ظل سيادة يوم العمل من 10 ساعات، فقد تم تجاوزه إلى حد بعيد في فترة السنوات الست التالية، من عام 1856 حتى عام 1862. ففي عام 1856 على سبيل المثال، كانت مصانع الحرير تحوي 1,093,799 مغزلاً بينما وصل هذا العدد إلى 1,388,544 مغزلاً في عام 1862؛ وفي العام 1856 كان هناك 9260 نولا وفي العام 1862 وصل هذا العدد إلى 10,709. وعلى العكس من ذلك، نجد أن عدد العمال في عام 1856 بلغ 56,137 عاملا بينما هبط إلى 429, 52 عام في عام 1862. وهكذا فقد ازداد عدد المغازل بنسبة 26,9% والأنوال بنسبة 15,6%، بينما تقلص عدد العمال في الوقت ذاته بنسبة 7%. وفي العام 1850 كانت مصانع الصوف المغزول تحوي 875,830 مغزلاً قيد العمل، أما في العام 1856 فقد وصل هذا العدد إلى 1,324,549 مغزلاً (أي ازداد بنسبة 51,2%)، وأما في العام 1862 فقد بلغ 1,289,172 (أي انخفض بنسبة 2,7%). ولكن إذا أخذنا في الاعتبار أن مغازل اللف تدخل في حسابات عام 1856 وليس في حسابات عام 1862 لاتضح أن عدد المغازل بقي منذ عام 1856 بلا تغير تقريبا. وعلى العكس من ذلك، تضاعفت سرعة المنازل والأنوال في الكثير من الحالات منذ عام 1850. وكان عدد الأنوال البخارية في مصانع الصوف المغزول في هذا العام نفسه يبلغ 32,617 نولا، ثم ارتفع في عام 1856 إلى 38,956 نولا، وفي عام 1862 إلى 048, 43 نولا. وبلغ عدد العمال الذين يخدمونها 79,737 عاملا في عام 1850 و 87,794 عاملا في عام 1856 و 86,063 عاملاً في عام 1862، بينهم أطفال دون سن الرابعة عشرة يبلغ عددهم 9,956 طفلا في عام 1850 و 11,228 طفلا في عام 1856 و 13,178 طفلا في عام 1862. إذن، وبغض النظر عن الزيادة الكبيرة في عدد الأنوال في العام 1862 بالمقارنة مع العام 1856 فإن العدد العام للعمال المشتغلين قد انخفض بينما ازداد عدد الأطفال المستغلين (18).

وفي 27 نيسان/إبريل عام 1863 أفاد عضو البرلمان فيراند في مجلس العموم قائلا:

«أبلغني مندوبو العمال من 16 منطقة في لانکشایر وتشيشایر، الذين أتكلم نيابة عنهم، أن العمل في المصانع يتزايد باستمرار نتيجة تطوير الآلات. ففي السابق كان عامل واحد مع اثنين من المساعدين يشغلون نولين، أما الآن فعامل واحد من دون مساعد يشغل ثلاثة أنوال، بل أربعة أنوال في أحيان غير قليلة، إلخ. وكما يتضح من الوقائع التي اطلعت عليها فإن 12 ساعة عمل قد ضُغطت الآن في أقل من 10 ساعات عمل. ومن هنا يتضح بالبداهة إلى أي درجة عظيمة تزايد عناء وكدّ عمال المصانع»(19).
ورغم أن مفتشي المصانع لم يكلّوا عن اغداق الثناء، بحق، على النتائج المثمرة لقانوني المصانع لعامي 1844 و1850، إلا أنهم يعترفون مع ذلك بأن تقليص يوم العمل قد أدى إلى زيادة في شدة العمل، زيادة مدمرة لصحة العامل، ومدمرة بالتالي لقوة العمل.

“إن حالة الاهتياج المنهكة الضرورية للعمل على الآلات التي زيدت حركتها بصورة استثنائية في السنوات الأخيرة كانت، على ما يبدو، في غالبية مصانع القطن والصوف المغزول والحرير، أحد أسباب زيادة الوفيات الناجمة عن أمراض الرئة، وهو ما أشار إليه الدكتور غرينهو في تقريره الرائع الأخير” (20).
ولا ريب في أن ميل رأس المال إلى تعويض نفسه، بعد أن ينتزع منه القانون إمكانية تمديد يوم العمل مرة وإلى الأبد، بالزيادة المنتظمة لدرجة شدة العمل وتحويل أي تحسين في الآلات إلى وسيلة لامتصاص قوة العمل بصورة أكبر، سرعان ما يصل إلى نقطة حرجة لا مفر بعدها من تقليص جديد لوقت العمل (21). ومن جهة أخرى فإن التقدم العاصف للصناعة الإنكليزية منذ عام 1848 وحتى الوقت الحاضر، أي في فترة يوم العمل من عشر ساعات، يفوق تقدمها خلال سنوات 1833 – 1847، أي في فترة يوم العمل من اثنتي عشرة ساعة، أي يفوق تقدم هذه الأخيرة على ما حققته الصناعة في النصف الأول من بدء قرن نظام المصانع، أي في فترة يوم العمل غير المحدودة.

______________

(1) بالطبع هناك على وجه العموم اختلافات في شدة العمل بين مختلف فروع الإنتاج. وهي تتوازن جزئياً، كما أظهر آ. سميث، بظروف خاصة بكل نوع خاص من أنواع العمل. غير أن هذه الاختلافات لا تؤثر في وقت العمل كمقياس للقيمة إلا بقدر ما يكون مقدار الشدة ومقدار المدة تعبيرين متعارضين وينفيان بعضهما بعضا عن الكمية ذاتها من العمل.
(2) وعلى الأخص بشكل الأجور بالقطعة، هذا الشكل الذي سنعالجه في الجزء السادس من هذا الكتاب.
(3) انظر: تقارير مفتشي المصانع، 31 تشرين الأول/ أكتوبر 1865.
(4) تقارير مفتشي المصانع لعام 1844 وللربع المنتهي في 30 نيسان/إبريل، 1845، ص 20-21.
(5) المرجع السابق، ص 19. بما أن الأجور بالقطعة بقيت بلا تغير، فإن مستوى الأجور الأسبوعية كان يتوقف على كمية المنتوج.
(6) المرجع نفسه، ص 20.
(7) المرجع نفسه، ص 21. لعب العامل المعنوي دوراً كبيراً في التجارب المذكورة. وقال العمال لمفتش المصانع: “إننا نعمل بحماس كبير وننتظر المكافأة على الدوام: الانصراف المبكر ليلا؛ ويمور المصنع كله بروح الهمة والنشاط من أصغر مساعد حتى أقدم عامل، ونحن الآن نساعد بعضنا البعض بصورة أكبر” (المرجع نفسه).
(8) جون فيلدن، John Fielden، المرجع المذكور، ص 32.
(9) اللورد آشلي، Lord Ashley، المرجع المذكور، ص 6 – 9، ومواضع أخرى متفرقة.
(10) تقارير مفتشي المصانع [للربع الأول ونهاية 30 أيلول/سبتمبر 1844، حتى أكتوبر 1844]، 30نيسان/ أبريل 1845، ص 2.
(11) المرجع السابق، ص 22.
(*) في الطبعات 1-4: 1/5. [ن. برلین].
(12) تقارير مفتشي المصانع، 31 تشرين الأول/ أكتوبر، 1862، ص 62.
(13) تغير الوضع منذ التقرير البرلماني لعام 1862. فهنا يرد الحصان البخاري الفعلي للمحركات البخارية والعجلات المائية الحديثة بدلا من الحصان البخاري الإسمي. وكذلك فإن مغازل اللف لم تعد تُخلط بمغازل الغزل (كما كان الحال في تقارير أعوام 1839 و1850 و1856)؛ ولكن جرى بالنسبة لمصانع الصوف إدخال عدد من “آلات الندف” (gigs)، كما جرى تمييز مصانع الجوت والقنب عن مصانع الكتان؛ وأخيرا يرد إنتاج الجوارب في التقرير للمرة الأولى.
(14) تقارير مفتشي المصانع، 31 تشرين الأول/ أكتوبر، 1856، ص 14 و20.
(15) المرجع السابق، ص 14-15.
(16) المرجع نفسه، ص 20.
(17) تقارير مفتشي المصانع، قارن تقرير 31 تشرين الأول/ أكتوبر 1858، ص16، وتقرير 30 نيسان/ ابريل 1860، ص 30 وما يليها.
(**) في الطبعات 1-4 ورد: 32% و 86% وليس 32 مصنعاً و86 مصنعاً، اعتمدنا التصحيح على تقرير مفتش المصانع، تشرين الأول/ أكتوبر 1856، ص 12، الذي اعتمده مارکس حرفياً [ن. برلین].
(18) تقارير مفتشي المصانع، 31 تشرين الأول/أكتوبر 1862، ص 129-100-103-130.
(19) إن نساجاً واحداً يشغل نولين بخاريين حديثين ينتج الآن في أسبوع عمل من 60 ساعة 26 قطعة قماش من نوع معين ذي طول وعرض معينين، بينما لم يكن باستطاعته أن ينتج؛ بالنول البخاري القديم سوى 4 قطع. وقد انخفضت تكاليف نسج قطعة واحدة من هذا النوع من شلنين و9 بنسات إلى 1/8، 5 بنسات، ابتداء من عام 1850.
إضافة للطبعة الثانية. منذ 30 سنة، (في عام 1841) كان على غازل قطن مع 3 مساعدين أن يراقب زوجاً واحداً فقط من المغازل الآلية تحویان 300 – 324 مغزلاً. أما الآن، (نهاية عام 1871) فيجب عليه أن يراقب مع 5 مساعدين آلات غزل آلية تحوي 2200 مغزلاً، وهو ينتج من الغزول سبعة أضعاف ما كان ينتجه عام 1841. ألكسندر ريدغريف، مفتش المصانع في صحيفة جمعية الفنون. .(1872 ,5Journal of the Society of Arts , January )
(20) تقارير مفتشي المصانع، 31 تشرين الأول/ أكتوبر، 1861، ص 25 و26.
(21) ابتدأ عمال المصانع في لانكشاير في الوقت الراهن (عام 1867) التحريض من أجل يوم عمل من ثماني ساعات.