الماسونية (البنّاؤون الأحرار) / 3-3


حسين علوان حسين
الحوار المتمدن - العدد: 6543 - 2020 / 4 / 22 - 15:22
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

رابعاً / الدور السياسي للماسونية
مثلما سبقت الإشارة إليه ، فقد تزامن نشوء الحركة الماسونية في القرن الثامن عشر مع بزوغ نجم الرأسمالية في إنجلترا أولاً و من بعدها في فرنسا و ألمانيا و بلجيكا و هولندا و إيطاليا ، و كلها كانت إما دول استعمارية أو أنها ذات تطلعات استعمارية . لذا ، فقد كانت الماسونية (و ما زالت و ستبقى) واحدة من عديد التنظيمات النخبوية للبرجوازية الوطنية التي تلتزم عموماً بالدفاع عن المصالح الرأسمالية سواء كانت داخل بلدانها الأوربية أم خارجها في المستعمرات التابعة لها في الأميركيتين وأسيا و أفريقيا . و هذا يقتضي من الماسونية في البلد المستعمِر بريطانيا أن تدافع عن مصالح البرجوازية البريطانية ، في حين أن الماسونية في البلد المستعمَر – أمريكا مثلاً – مضطرة للدفاع عن المصالح البرجوازية الأمريكية لحاضنتها الاجتماعية . و لما كانت المصالح الاقتصادية بين الناهب و المنهوب متناحرة على الدوام ، فقد تحولت الحركة الماسونية داخل بريطانيا إلى حركة رجعية تتمسك بالمصالح الاستعمارية لبلدها عبر المناداة بالحفاظ على الوضع القائم ، في حين أصبحت الحركة الماسونية في أوربا القارية و إيرلندا والأميركتين فصيلاً تقدمياً من مصلحته مساندة ثورات التحرر الديمقراطي من حكم الملكيات المطلقة و من سلطة الكنيسة الكاثوليكية في بلدان أوربا الغربية و مساندة حروب الاستقلال في الأميركتين ، فانعكس هذا التناقض في المصالح الطبقية بانقسامها إلى مجموعتين : الماسونية المنتظمة التقليدية البريطانية ، و الماسونية القارية التحررية . ففي فرنسا ، أسهمت الماسونية فكرياً في نشوب الثورة الفرنسية (1789-99) ، على الأقل بفضل كتابات وخطب الماسونيين فولتير و روسو و ميرابو . كما لعبت نفس هذا الدور التقدمي في ألمانيا خلال حرب التحرير الألمانية (1813-14) التي أسست الاتحاد الألماني الشمالي بقيادة بروسيا ، و من ثم في ثورة الألمانية عام (1848) التي أجبرت ملك بروسيا فريدريك وليم الرابع على التحول للمكية الدستورية ، و كذلك في الحركة اللاحقة لتوحيد ألمانيا المنتهية عام (1871) . و كذا الحال في اسهام الماسونية بالثورات الإيطالية للأعوام (1820) و (1830) و (1848) و التي أفضت إلى توحيد إيطاليا عام 1861 و التي لعب فيها الماسوني غاريبالدي دوراً مجيداً ، و إن ارتبط هذا الدور بجمعية "الفحّامين" (الكاربوناري) التي أسسها و ليس بالماسونية . كما لعبت الماسونية نفس هذا الدور التقدمي في بلدانها المستعمَرة ، فأسهمت في إشعال حرب الثورة الأمريكية (1775-1783) و نيل أمريكا استقلالها النهائي من بريطانيا عام (1783) ، حيث تشير الأدلة على أن (13) من مجموع ألشخصيات ألـ (56) الموقعة على "إعلان الاستقلال" الأمريكي عن التاج البريطاني عام (1776) كانوا من الماسونيين . و في أمريكا اللاتينية ، عمل الثائر سيمون بوليفار ضمن الحركة الماسونية لفترة ، و هو الذي قاد حرب التحرير من الاستعمار الإسباني خلال الأعوام (1816-1824) و التي انتهت باستقلال فتزويلا و بوليفيا و الاكوادور و كولومبيا و بيرو عن التاج الإسباني ، و لكنه منع نشاط المنظمات السرية ويضمنها الماسونية بعدئذ ، مثلما فعل معاصره الماسوني الرجعي القيصر الروسي الكسندر الأول (1801-1825). و يمكن أن يُقال نفس الشيء بصدد التضاد التقدمي/الرجعي بين الماسونية التابعة و المتبوعة في كندا التي حصلت على الحكم الذاتي عام (1867) و على استقلالها الناجز عن بريطانيا عام (1931) .
و بحلول العقد الأخير من القرن التاسع عشر ، و حتى منتصف القرن العشرين ، فقد هيمنت المصالح الرأسمالية المتنمرة على الحركة الماسونية في كل بلدان أوربا و أمريكا الشمالية و اليابان ، و باتت الماسونية فيها حركة رجعية تسير في ركاب المصالح الإمبريالية العليا ، باستثناء إيرلندا التي تأخر استقلالها الجزئي عن بريطانيا حتى عام 1921 . لذا ، فقد انتقلت نفس ظاهرة هذا النمط من التضارب السابق بين مصالح الحركة الماسونية في البلدان الواقعة تحت الاستعمار الأوربي في آسيا و أفريقيا و أمريكا اللاتينية و تتطلع للاستقلال ، و بين مصالح نفس الحركة في البلدان الأوربية المستعمِرة التي سبق لها و أن عَبَرت المرحلة التقدمية للبرجوازية الوطنية و باتت تقتضي مصالحها الإمبريالية استمرار هذا الاستعمار لنهب الثروات الطبيعية . و مع بدء الاستعمار الاقتصادي الجديد لبلدان العالم الثالث منذ منتصف القرن العشرين و لحد الآن ، فقد بقيت ثنائية التضارب الفاعلة المفعول بين مصالح البرجوازية الوطنية – و معها الحركة الماسونية المحلية – في البلدان النامية من جهة ، و بين مصالح قوى الامبريالية العالمية – و معها حركتها الماسونية – في أوربا و الولايات المتحدة الأمريكية و اليابان ، من جهة أخرى . لذا نجد أن شهيد حكومة الوحدة الوطنية في تشيلي سلفادور الليندي كان ماسونيا تقدمياً ، و مثله كان نلسن مانديللا في جنوب أفريقيا ، و جيري رولنغز في غانا ؛ في حين كان الماسونيان البريطاني ونستن تشرتشل و الرئيس الأمريكي هاري ترومن أفظع جزّارين عرفتهما البشرية . الثابت بين كل هؤلاء هو الانتماء للماسونية ، أين إذن يكمن المتغير الصانع للفرق ؟
الفرق هو رباعي الأبعاد : الزمان و المكان و ضرورات المصلحة للبرجوازية المحلية و التركيبة الشخصية لكل واحد من القياديين الخمسة أعلاه ، و أهمها مدى الإيمان و التطبيق الحقيقي للقيم الرفيعة في الإخلاص و الحب و الإخاء و الحرية و العدالة و المساواة و التزام بالقانون .. و هي ذات القيم التي تدّعي الحركة الماسونية أنها تشترطها و تنمّيها عند كل أعضائها طراً على نحو تلفيقي تنفيه الكثير من الوقائع التاريخية الثابتة . لماذا ؟ لكون الرأسمالية لا تعترف إلا بمثل أعلى واحد يسمو فوق كل شيء آخر : النهب ، ثم المزيد من النهب ، ثم النهب الأكبر .. إلى الأبد .
ما الذي يمكننا استنتاجه من كل ما سبق ؟
خامساً / الاستنتاجات
1- أن الماسونية ليست حركة عالمية موحدة ، بل هي عشرات الحركات المحلية ؛ لذا ، لا يجوز الكلام عن الماسونية العالمية الواحدة ، بل عن الماسونية في هذا البلد أو ذاك لوجود ماسونيات متعددة و متنافسة و متعارضة أحياناً حتى داخل البلد الواحد باعتبارها حركة مرتبطة بالبلدان العاملة فيها ، و بالتالي فإن توجهاتها الاقتصاسياسية تُجاري على الدوام خدمة مصالح قواعدها وفق مقتضيات الوضع القائم في البلد المعني .
2- أنها ارتبطت و ترتبط في كل بلد بمصالح الطبقة البرجوازية الوطنية فيه ، و هذا ما جعل منها حركة تقدمية في البلدان التي احتاجت لإنجاز مهام التحرر الديمقراطي و الوطني الضروري لتطور البرجوازية الوطنية ؛ لتتحول بعد إنجاز هذه المهمة إلى حركة رجعية انتهازية في نفس تلك البلدان ، و هذه السمة لازمتها منذ التأسيس و لحد الآن .
3- و تتجلى الانتهازية بسعيها المحموم على الدوام لتأسيس و إدامة الصلات الوثيقة مع أعلى شرائح الطبقات الحاكمة في كل بلد عملت فيه ، وخصوصاً الملوك (و منهم من العرب : فؤاد و فاروق في مصر، و الحسين في الأردن) و الأمراء و القادة السياسيين و العسكريين و رجال الفكر ؛ و تتجلى كذلك في الأفضليات الاقتصاسياسية و الوظيفية التي توجبها و تتيحها لأعضائها سراً و حصراً كائناً ما كانت إمكانياتهم و مؤهلاتهم و ذلك على حساب مبدأ التكافؤ في الفرص مع غالبية الناس غير المنتمين لها ـ بل و أحياناً بالضد من القانون مثلما أعلن مدير شرطة السكوتلاند يارد السابق عن حصول حالات تواطأ فيها ضباط الشرطة في تحقيقاتهم بالجرائم حال اكتشافهم عبر حركات المتهمين فيها بكونهم "إخوانهم في الماسونية" ..
4- و بسبب سريتها و انتهازيتها ، فقد تعرضت للضربات القاصمة في مختلف أرجاء العالم كلما توجّس القادة في بلدها الخطر من توجهاتها الاقتصاسياسية الوصولية ، و لم تنجح سريتها في منع ضربها و تفكيكها قط في أي بلد من البلدان العاملة فيه .
5- يجب التفريق تماماً بين الحركة الماسونية و بين الماسونيين أنفسهم الذين يمثلون بزينهم و شينهم أنفسهم بالذات ، و ليس الحركة الماسونية التي انتموا إليها في وقت من الأوقات ، رغم أن الماسونية تتبع الشعار القائل بأن "الماسوني في أحد الأوقات هو ماسوني في كل الأوقات" حتى بالنسبة لمن استقالوا منها ليهاجموها علنا مثلما فعل ليسنغ و هيردر و غوته في ألمانيا ، أو لمن منعوا نشاطها المحلي و فككوها مثل سيمون بوليفار .
6- أن المثل العليا التي تتغنى بها الماسونية في الحرية و الإخاء و المساواة و السلام و الإخلاص و التعاون و احترام القانون و غيرها ليست أكثر من مجرد حبر على ورق لتلميع الذات على نحو تلفيقي ؛ أما القيم العليا مثل "النور" و "المجد" التي تضفيها على رموزها و طقوسها السرية فهي مفبركة و سخيفة و لا قيمة حقيقية لها . و يبين إصرارها على التمسك الطرائقي بها و بالسرية مدى عجزها عن إصلاح نفسها بسبب رجعيتها الطاغية حتى باتت تعيش على "مجد" ماضيها و ليس حاضرها .
7- و بسبب ما هو وارد في (6) أعلاه ، وبفضل الانتشار الواسع و المتزايد للإنترنيت كأسلوب في التنظيم ، وتنامي صرخات الاحتجاج ضد سرّيتها في أوربا و أمريكا الشمالية ، فإنها إما ستجبر على رفع السرية بهذا الشكل أو ذاك في الأمد القريب ، أو أن المياه ستجري من تحت أقدامها فيتخطفها المتربصون من الذباب الإلكتروني و غيره فتهزل كثيراً شيئاً فشيئاً .

تمت .