سرد الدكتورة ايمان الرازي يؤشر على اندماجها في ركاب الأقوياء


مليكة طيطان
الحوار المتمدن - العدد: 6110 - 2019 / 1 / 10 - 21:22
المحور: الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية     

بسرد اكتملت شروط الخطاب السلس المخترق لدواخل المتلقي اتحفتنا الرائعة صاحبة القلم الواعد بما نحسه انبعاثا من رماد النسيان وأظهرت لنا العزيزة دكتورة علم اللغة الحديث ببداهة حيوية الصحافة الجادة وتأثيرها على الذات النضالية قبل تدوير وتحريف تاريخ اليسار ...الشهيد عبد السلام الموذن واحد من كوكبة التنظير سيل القلم وترتيب الأفكار أكثرها تأثيرا وتغذية للعقل تلك القادمة من سراديب المعتقلات ...الراحل جسدا الحاضر فكرا عبد السلام فتح نوافذ الفكر اليساري آملين حينها أن تتغير بنية العقل المغربي عند نخبة اليسار ....للأسف سيد ة يسار جديدة تتأرجح الان بين الرفض والسكوت لسان حالها يردد نحن فقط اليسار فهل تعامل أو أشر سي عبد السلام الموذن على أن الفكر الممنهج بوظيفة بيداغوجية قوية وصفنا باننا نحن الاتحاديين كلام آخر لا علاقة له باليسار .؟..ابدا ابدا ما علق في ذاكرتي ذات مناسبة من مناسبات حلم الزواج وفجيعة بآليات التدمير ..اقول ما زلت أتذكر وهو في ضيافة بمنزلي والإقامة آنذاك باسفي ولم يمض على معانقته الحرية الا ما يقارب ثلاثة أشهر والمناسبة تأطير لقاء بمقر حزبهم منظمة العمل بعد وجبة غذاء اخترت لها الحوت الحر بشتى الأنواع عبر عن إعجابه وانه لم يسبق له أن تناول مثل هذا الغذاء مادته بنت البحر ...حينما علم بانني اتحادية التفت إلى والد وحيدي ابتسم خاطبه بالحرف نحن الاقرب الى بعضنا البعض كل يناضل في زاويته الموزعة اجرائيا لكن المشترك الأساسي نستحضر وإلى حد الحلول اقتحامها بنية واحدة ...
للاشارة كنت حامل في شهري السابع .

أنوال والماريو الأحمر
في الغرفة الأولى كنت أنا وأخوييْ، وفي الغرفة الثانية أبي وأمي. أما في الفناء الصغير المفتوح كان الماريو الأحمر الصغير زينة الفضاء وعروس المكان. كان اللون الأحمر يغطيه كاملا ببهاء يحمل بين دفتيه حقيبة الزمن المر، يتأبط ذراع التاريخ القريب دون اهتمام بما تضعه الأم فوقه من قطعة كروشي مغزولة بإتقان وديكورات بسيطة من آسفي دأب أهل عبدة وأحمر على التأثيث بفخاريات الطين الجميل الملون المزركش في أركان بيوتهم البسيطة والتي تبدو كتماثيل طينية تؤرخ للمسات بساطة ولتاريخ لم يحن وقت كتابته بعد.
يفتح الأب الخزانة الخشبية الحمراء كلما عاد من عمله كل مساء. وقتما سنحت له فرصة ذلك كلما انتهى من جريدته حتى يلفها بعناية ويضعها بالماريو مقفلا عليها وعلى ما فيها بحرص وحزم شديد... كان حريصا جدا ألا نلمس أعداد أنوال أو أن نجعل منها كرات أوراق ملفوفة أو أن نقطعها كأنما نريد بناء ملاعب من ورق.
يدور الأب حول الماريو الأحمر حيث يهبط برأسه نحو المفتاح بليونة... يئن الباب كأنه يصرخ كقطة اختطف الاطفال صغارها الجياع، كأنه يحتج على محتوياته تماما كما كان يحتج عبد السلام المودن بأسلحة فتاكة من قلم وورق وكتابة... يتصفح الوالد أعداد أنوال ويحسبها كل مرة كبقال حينا لعوينة والمسمى لعسيلية الذي يحترف حساب الدراهم كترانيم مسائية بمحله في كل مساء... يتردد أبي قليلا كأنما يريد أن يقول لنا شيئا.. ثم يلوح بيديه الباردتين بعد أن عاد مساء من عمله.."تعالي ابنتي.. يبتسم.. يغلق الماريو ويخرج منه الجريدة ثم يضعها فوقه بين تماثيل أمي الفخارية.. يقرأ ما تيسر له من أنوال يطالعها بنهم واهتمام شديدين.. كان مدمنا على مقالات عبد السلام المودن وطليمات وآخرين كثر .. استهواه فكرهم المتقد ومسار كتابتاتهم الحداثي المتقدم.. كان يعتبر أنوال واجبا ثقافيا مقدسا وجب القيام به باستقامة.
ذات مرة دخل علينا غاضبا بعد أن قضى يومه مضربا عن العمل داخل مقر الشغل بكامل بساطته ودقته وحزمه وابتسامته يفتش بين رفوف الماريو الأحمر عن أحد الأعداد السابقة من عشيقته أنوال.. وحين انتهى من محكمة التفتيش تلك عاد ألينا منفوش الشعر الأسود المخضب بخصلات من البياض وهو يصيح فينا: " شكون قطع أنوال.. أجابته أمي: لا أحد يفتح خربتك الورقية إلا أنت.. وحدك من يفتحها ويقفلها وقتما شئت.. الأطفال يلعبون نعم لكنهم لا يقتربون من خربتك... ايمان مشغولة بمونيكتها وقشاوش عيشورا وأقلامها المائية الملونة الثمانية.. والدراري يلعبان الكرة أمام الدار الآن مع ولاد الدرب".
نظرت أمي إلى الفتاة التي كانت تساعدها في ترتيب بيتنا الصغير.. جحظت عيناها وازبدت شفتاها بعد أن غادر أبي المكان دون أن يعثر على عدده المفقود مخاطبة إياها بنبرة من هزل: "يكما الصكعة مسحتي الشراجم لي وصيتك بشي جورنال من هنا.. كنقوليك ديما الماريو الأحمر متحليهش".. فترتعد فرائص الفتاة حتى قدمت نفسها ضحية الأرشيف المقدس وأجابتها: "فعلا مسحت بشي جورنال الشراجم".. تجيب الأم: "معمرك تعاوديها عطا الله الشرويط.. خلي عليك كواغطو فتيقار ومتقوليش ليه أنك انت لي هزيتي جورنال راه غيطليني أنا.. ولأنه في غمرة انشغاله بالتفتيش بين كلماتك المبعثرة سيكتشف أنني صاحبة القرار وأنا لم أقل لك امسحي بجورنال".. ثم تقول لي أمب بوقار وبابتسامة ساخرة ساحرة: "يا ابنتي سيري تقراي القصص ديالك وعنداكي تقولي لباباك شي حاجة".
نعم القصة، كنت أحسبها نوعا من الحياة في البداية، قبل أن تعلمني معلمتي أن القصص حيوات من خيال مؤلفيها ليس كما كنت أظنها سفرا متنقلا بين الازمنة أو أن كل جزء منها لابد لي أن أعيشه.. أحيانا تهزني أحداثها وتقشرني تفاصيلها ويأسرني شخوصها.. يا ليتني كنت أنسانا من ورق يتنقل بين الرفوف ويعيش في كل لحظة ألف حياة وحكاية في العدم.. لا شيء أطهر من العدم.
وأنا أنهي قصتي "جميلة والوحش" كان أبي قد تغير مزاجه وابتسمت سحنته دون أن يحتج مجددا عن عدده الضائع ولا حتى عن أوراقه التي صارت عدما.. دخل الغرفة وهو يردد : "أيمانو.. أيمانو.. تعالي إلي ونامي".
طرح فكرة الجريدة المفقودة جانبا وانحنى نحوي وضم كتفي الصغيرين نحوه وحضنني واتكأ على السداري بالركن القصي من الغرفة.. غطاني لا مباليا واسترخى بجانبي وقال لي: "أنوال ابنتي حينما تكبرين وتصيرين صحفية أو كاتبة أو معلمة ستكتشفين أني تركت لك إرثا ستفخرين به".. لم أكن أدري بعد عن متاهات اليسار المتشظي وفرقه المنشطرة وتاريخه الكبير.. لم أكن أعرف حينذاك أنني أنتمي لقلعة السراغنة لنفس الرقعة الجغرافية التي ينحدر منها عبد السلام المودن الذي كنت أعرفه فقط في أعداد أنوال التي يحتفظ بها أبي.. كانت أنوال بالنسبة لأبي مدرسة متنقلة موغلة في أهداب الثقافة ودروب السياسة.. كانت معركة من أجل البقاء منذ ذلك الزمن البعيد... كان أبي وكانت أنوال وكانت الصحافة صحافة وكان اليسار يسارا يوما ما.. كان الصراع قد اشتد واحتدم لكن كان لذلك الزمن دولة ورجال وأقلام.. لكم زمنكم ولنا زمننا.. لكم كل المجد ولنا كل الفجيعة.