أنا والحكيم والسقف


فؤاد قنديل
الحوار المتمدن - العدد: 4726 - 2015 / 2 / 20 - 10:23
المحور: الادب والفن     



توفيق الحكيم واحد ممن تصدروا المشهد الأدبي والفكري طوال القرن العشرين مع العميد طه حسين والعملاق العقاد ونجيب محفوظ ثم يأتي بعدهم العشرات من المواهب الكبرى أصحاب الإبداعات المؤثرة في الأجيال التالية . وقد ولد في التاسع من أكتوبر عام 1898، ورحل عن عالمنا في السادس والعشرين من يوليو عام 1987، وأثري المكتبة العربية بنحو ستين عملا في الرواية والقصة القصيرة والسيرة الذاتية والرؤى الفكرية لعل من أهمها : عودة الروح. عصفور من الشرق . الأيدي الناعمة . الرباط المقدس . سجن العمر وزهرة العمر . ليلة الزفاف . السلطان الحائر . شمس النهار . شهر زاد . الطعام لكل فم . بنك القلق . مصير صرصار . يا طالع الشجرة . أهل الكهف . إيزيس . رصاصة في القلب. الورطة . الصفقة . بيجماليون . أوديب. مدرسة المغفلين وتحت شمس الفكر وغيرها ، وكلها تتسم بالجدة والطرافة والذكاء والسخرية والجسارة ورحابة الأفق. وكثيرا ما كنت أتوقع أن يفوز بنوبل بعد أن ينالها بجدارة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين . تلك الشخصية المتفردة.
في عام 1982 سألني على شلش : هل أهديت الأستاذ توفيق روايتك "السقف "؟ فأجبته بالنفي ، قال : أنا على ثقة أنها ستعجبه . قلت : أنا لا أميل إلى الاقتراب من كل من الكبار جدا.. أشعر بأني سأكون مقيدا ولن أكون على راحتي وقد اضطر إلى قول ما لا أود قوله. تناقشنا طويلا واتفقنا على أن أهديه الرواية التي ظهرت في الأسواق عام 1978 وحظيت باهتمام النقاد مثل لويس عوض وشكري عياد والراعي وصبري حافظ وغيرهم . مضيت إلي الحكيم في مكتبه بجريدة الأهرام ودخلت على استحياء وعرفته بنفسي ، فهز رأسه ونظر إليّ بنصف اهتمام وعزمت على الرجوع ، لكنه قال : لم تقل لي ماذا تريد .. قدمت له الرواية القصيرة ، وقلت له : أريدك أن تقرأها .. يعنيني جدا رأيك . قلبها ثم وضعها على المكتب ووافق بهزة من رأسه وهو يقول : نتكلم بعد أسبوع ، فاستأذنت وأنا أشعر بأني أخطأت فقد ترسخ في خاطري إحساس بالتجاهل وكرامتي لا تقعد دائما إلا على طرف أنفي وجاهزة لدفعي للاستغناء.
انتظرت أسبوعين وكنت في الأهرام في زيارة ليوسف إدريس الذي كانت تربطني به علاقة وثيقة ، وكان قد صرّح في احدي الصحف أن رواية " السقف " أحسن رواية قرأها في عام صدور الطبعة الثانية. نقرت الباب برقة ثم فتحته مسافة تكفي للنظر فقط. وجدت الأستاذ توفيق يقرأ جريدة ، فتصورت أنه مشغول وهممت بإغلاق الباب فلحقني بنظرة أخيرة وبعد أن أغلقت الباب سمعته يهتف بصوت عال : يا صاحب " السقف " . ابتعدت عن الباب ولم أكن قد تنبهت بالضبط لندائه وبعد خطوات عدت وفتحت الباب بما يكفي ليراني وأراه ، فاندفع يقول : تعال .. ألست أنت صاحب السقف ؟
دخلت بتؤدة وقلت : نعم
فقال بلهفة : تعال واجلس .. ما حكايتك ؟ .. أنا ازاي ماعرفكش
- ما جتش فرصة
- يعنى إيه ما جتش فرصة .. رواية مثل روايتك تحتاج إلى احتفال
- يعني عجبتك يا أستاذ
- عجبتني جدا .. برشامة إبداعية بارعة . رواية قصيرة عبرت عن كل ما يجري في العالم العربي .. رواية تحمل سر خلودها
تنهدت وأطرقت برأسي ، فاستطرد : لو نشرت هذه الرواية في فرنسا كانوا عملوا احتفال كبير وحضره حشد من الأدباء ووكالات الأنباء والصحف .. هي حصلت على جايزة
- لأ
- تستحق جايزة .. مثل هذه الأعمال لا تظهر كل يوم. .. هي اترجمت ؟
- لأ
ضرب كفا بكف وقال : غريبة
شرد قليلا ثم قال : أنا لا أعزم أحدا على فنجان قهوة ، لكنني سأطلب لك قهوة ..أنت تستحق التشجيع .. لا مش التشجيع بس .. تستحق التقدير
غرقت في دهشتي وخجلي .. عبر خاطري أنه يبالغ ، لكنه كان عابس الوجه وشبه غاضب .. أمسك بسماعة التليفون وتحدث إلى البوفيه وطلب قهوة دوبل بسرعة .. أعرف مما أسمع عنه أنه لا يقدم أية مشروبات أو مأكولات لأحد .. قلت له:
- كلامك الطيب عن الرواية يا أستاذ توفيق جائزة سوف أظل أذكره ويرضيني جدا ويدفعني للاستمرار
اندفع يقول : طبعا تستمر .. الأدب العربي ما يزال بحاجة إلى مثل هذه الأعمال . روايتك واللى زيها بلورات مشعة .. العالم محتاج منا الكثير كي يحس بمواهب العرب .. هناك تقصير كبير من أطراف عديدة .
حضرت القهوة وكنت أشك في أن تأتي فلمن طلبها تاريخ شهير في البخل، ربما كان مجرد سوء ظن من بعض من تخلص منهم ، وربما هو صانعه ، فقد كان يحب أن تلصق به بعض العلامات والسمات مثل العصا والقبعة وتقديره للحمار وحواراته معه وموقفه من المرأة وآراؤه الصادمة أحيانا في الشئون العامة.
سمعنا طرقا على الباب وسرعان ما انفتح ودخل رجل تلامس رأسه السقف ويسد عرضه فتحة الباب بأكملها ، وهو رجل لطيف ودود وأديب قدير وصديق حميم للأستاذ توفيق ومحب لي أيضا هو الأستاذ ثروت أباظة .. قال مع أول خطوة :
- ازيك يا توفيق بك ..
ثم تحول إلّ وقال : أهكذا يا سي فؤاد تزور أستاذ الأساتذة ولا تزورني ؟
ابتسمت وأنا أقول : لا أستغني عنك أبدا يا أستاذ ثروت
قال : استغنيت وأمسكتك متلبسا .. أنا أعرفك أكيد قبل ما توفيق بك يعرفك
- فعلا
نظر إلى القهوة أمامي ، ثم قال :
- لو جئتني لطلبت لك قهوة وشاي وكل ما تريد
عندئذ قال الأستاذ توفيق :
- يعني لو زارك ح تجيب له قهوة ؟
اندفع الأستاذ ثروت قائلا : طبعا .
فوجئت بالحكيم يقول :
- طيب أنا طلبت له قهوة اعتبر بقى إنه جالك وادفع أنت ثمنها
ضحكت أنا وثروت بك ، ولم يضحك الحكيم ، فهو لم يقصد أن تكون دعابة وإنما يراها تصحيحا لوضع تسرع في اقترافه و تسللت إلى قلبه الرومانسية التي يقاومها بكل ما يملك . ونسيت الموضوع مع سؤال الحكيم
: كاتب يا ثروت رواية جميلة اسمها "السقف ".. هل قرأتها ؟
قال أباظة : رواية قصيرة .. قرأتها وأعجبني موضوعها وأجمل منه صياغتها الرمزية .
شربت المكافأة ؛ أقصد قهوة الحكيم حتى ما ترسب في القاع ، وتنهدت من كل جوانحي وملأت قلبي ورئتي بالسعادة لكلمات أساتذتنا الكبار وتشجيعهم النبيل ومشاعرهم القلبية العذبة كماء النيل في مبتدأ رحلته .