صديقي الضخم بحجم عصفور


فؤاد قنديل
الحوار المتمدن - العدد: 4673 - 2014 / 12 / 26 - 08:07
المحور: الادب والفن     


قصة
فجأة وبدون أي مقدمات قفز اسمه إلي ذاكرتي . توقفت عن الجري وراء أولادي الذين خطفوا الكرة وهم يتضاحكون من خيبتي .عشر سنوات أو يزيد مرت دون أن أراه . منذ أيام الصبا كان رفيق " تختة " ومن أعز الأصدقاء .
عمل في الخليج عدة سنوات ، انقطع خلالها الاتصال ، ولما عاد ظل الاتصال منقطعا ربما بسبب زواجه أو لتبديد ما اكتسب ، وربما لاستثماره .
لماذا تذكرته في هذه الساعة بالذات ؟.. تكرر هذا مع آخرين ، فذاكرتي مثل موج البحر ، تفور أحيانا وتقلب أعماقها وتطرح على الشاطئ أشياء غريبة
. أغلب الظن أن الرجل الضخم الذي رأيته منذ دقائق يشبهه. كان يهلل مرحبا بصديق وهو يفتح ذراعيه فيكاد يحتضن العالم ، تبدو علي وجهه كل علامات البهجة والصحة أيضا .. نسخة طبق الأصل من زياد ، لولا أن عينيه ضيقتان لاعتقدت أنه صديقي الحميم. كان شكله مثل زياد يشع فرحا . هل لا تزال في حياتنا أشياء وكائنات تشع فرحا ؟ .
تنفست بعمق وأطلقت نظراتي إلى مساحات الخضرة البديعة في حديقة الأزهر .. تجاوزت نظراتي حدود الحديقة لتطل على المدينة الضخمة العجوز التي تتعالى أنفاس ساكنيها دخانا وأبخرة تحيل القاهرة إلى مدينة من الضباب الخانق .
كم هائل من البيوت يلتصق بعضها بالبعض كأنها خائفة من البرد أو من العفاريت أو من شيء تجهله . عمارات ومدارس ومساجد وكنائس ومستشفيات وشركات وتلال من القمامة دون أن يمر من بينها شارع .. مبان كالحة ترتسم على أسطحها مع الكراكيب ملامح من عدم الرضا ، فقد عصفت بها طويلا رياح التاريخ وحط عليها صدأ الماضي المرير بينما عيونها تنظر صوب المستقبل في توجس .

نبهتني ضربة قوية للكرة التي حالفها التوفيق فأصابت مؤخرة رأسي بدقة . اختل توازني لحظة والتهبت دماغي بالغضب ، ولما استدرت هلل الأولاد فرحا ، وكانت زوجتي أعلاهم صوتا وابتهاجا بالنصر ، فمع أنى نسبيا طيب إلا أن زوجتي ككل الزوجات يردن توجيه ضربات مؤثرة لظهورنا وأكتافنا .. ألا يكفى الزمن وهن قبله ؟!!
أقبلوا علىّ جميعا مسرعين فأخذتهم بين أحضاني تسبقهم أمهم. . أبقيتهم لحظات حتى تناهى إلى أسماعنا صوت الموسيقى الحنون والناعم القادم متهاديا من أقرب برجولة .
شاب كفيف يعزف على كمانه أغنية جميلة لأم كلثوم . تحركت أقدامنا نحوه رغما عنا ودون اتفاق وتبعنا الآخرون . التففنا حوله وقد اختفى الجوع والتعب ، ومضت الأرواح تنتشي بندى الموسيقى الذي يرطب أعماقنا ويحملنا إلى آفاق غير منظورة ونحن في حالة من السعادة مفعمة برغبة عميقة ألا تنتهي هذه الأنغام .

أكملنا يوما بهيجا أجّلناه كثيرا واضطررنا لاختطافه قسرا من زمن يجيد حصارنا ، وحياة لا تكف عن المطالب والأعباء . أحسنت الحديقة بزهورها وموسيقاها وسجاد خضرتها غسل أرواحنا المتكلسة ، وحملت أولادي على قلبي عائدا دون أن يفارق خاطري زياد.. كان معي في كل نظرة أو فكرة ومع كل لقمة مذ رأيت الرجل الضخم المبتهج.
مضى شريط الذكريات يتابع عرض صوره ، حتى لاحظت ذلك أم العيال فحدثتها عنه .. زياد يأكل ويضحك بين زملائه . يذاكر معنا في بيتنا ويأكل . يجيب على الأسئلة ويأكل . يحل تمارين المحاسبة والرياضة ويأكل ويضحك وفي أحيان كثيرة يرتب المقالب ، وعندما يغرق في بحر النوم العميق ينادى طالبا بعض السندوتشات بسرعة " في عرض النبي يا ظلمة "، ثم يضحك ويضطرب جسده كأن أحدنا يدغدغ له لحمه الزائد جدا عن الحد.
هذا الرقم غير موجود بالخدمة . لابد تغير الرقم بعد أن انتقل إلى شقة جديدة . بعد سبع مكالمات للأصدقاء توصلت لرقم تليفونه . طلبته . رد علىّ صوت بدا غريبا للوهلة الأولى ، إنه صوته فذاكرتي لا زالت تحتفظ بنبرة صوته والأصوات عموما لا تتبدل مهما تبدل الجسم ووهن أو شاخ ، كان فيما يبدو تحت البطاطين والألحفة .. أخذت منه العنوان وأسرعت إلى الماضي الجميل .

حاولت طوال الطريق تصور مدى التغير الذي يمكن أن يكون قد طرأ عليه . كل التصورات أكدت أنه أصبح في ضعف حجمه الأول بحكم أنواع الطعام الخليجية ، لكن روحه الشفافة المحبة للبشر .. المحلقة أبدا ، فيما أظن لم يطرأ عليها تغيير .
ضربت الجرس . رد عليّ بعد لحظات عبر جهاز " الإنتركم " . عرف أنى الطارق فانفتح الباب آليا . انفتح بما يكفى فقط لمروري واكتشفت بعد دخولي أن وراء الباب مروحتان عموديتان لا يسمحان للباب ولا للداخل بأكثر من هذا .. فكيف يدخل زياد ويخرج وهو في مثل حجمي ثلاث مرات ؟!... هل يعني هذا أن من غير المسموح لمن كان مثله بزيارته ؟ .. طردت هواجسي اللعينة لأن زياد صافى القلب وخال من العقد .
ناديته .. جاءني صوته مؤكدا أنه تحت كل بطاطين العالم :
- تعال يا درش
رغما عني مططت شفتي .. لا أرى الجدران ولا أعرف لونها .. ترتطم الأشياء بنظراتي وتنفذ إلى صدري وتضغط على قلبي .. أنتريه بني في أصفر وأنتريه أخضر في برتقالي . بين الكراسي مناضد وثلاث تليفزيونات محطوطة فوق بعضها على شكل هرمي قاعدته تليفزيون 49 بوصة على الأقل . نجف كثير يتدلى من السقف . في الأركان أباجورات و كونسولات . لابد أن هذا المكان ليس شقة زياد التي يسكنها ولكنها محل العمل والتجارة . فازات عديدة ضخمة فيها ورود جافة ومتجهمة ، ولها رائحة الخشب والرماد أو الزمن المكمور .
لا أرى زياد ولا بابا أدخل منه . سجاد كثير ملفوف ومركون على جنب . في الركن أسد محنط وتمثال شهير لزنجي يحمل شعلة . تكدس مخيف وصادم . ثمة دمدمة تلتقطها أذناي خارجة من الكراتين والأجهزة . الأشياء في صناديقها وتلك التي غادرتها تتمنى لو تتحرك وتمارس حياتها ودورها . تريد أن تثبت ذاتها . حفيف ورق ورقائق البلاستيك الرقيق حول كنب الأنتريه الذي أبقاه زياد لحمايتها من الغبار .
كما كنا ننبه أصحاب البيت في القرية ، قلت بصوت مرتفع نسبيا :
- يا ساتر
جاءني صوته المدفون تحت البطاطين
- أدخل يا رجل
- أين أنت ؟
- في غرفة الطعام
- لا أجد الباب
- علي شمالك خلف الفازة الزهري الكبيرة
- لا يوجد خلفها باب
- وراءها مرآة
- نعم
- هي الباب .. باب جرار وليس بمفصلات

لم أكن أرى من المرآة إلا أعلاها .. حركتها بحذر. واجهتني كراتين . لم أتمكن من المرور إلا بعد أن شفطت بطني تماما ومررت بجانبي . نور شحيح من جهة اليسار قادم على استحياء من الحمام ، وكان بابه الجرار مفتوحا . لفت نظري السقف المنخفض . تبين أنه سندرة مكتظة بالكراتين والحقائب الكبيرة وعلى الأرض إلى جوار الحوض غسالة ملابس تغسل ملابس سكان شارع بكامله .. ناديته :
- أين أنت يا زياد ؟
- أنا هنا أعد لك الشاي
أكملت طريقي الصعب .. كنت أخشى في كل لحظة أن أهشم زجاجا أو أسقط فازة أو طقم صيني .. فوق الكراتين كانت هناك تطل من الغطاء الشفاف أطقم أكواب وكؤوس وسكاكين وملاعق .
بلغت الصالة الفسيحة المفتوح عليها ثلاثة أبواب تغطيها المرايا . أدركت أنها أبواب غرف النوم وحتما هي مغلقة ومهجورة فالظاهر حتى الآن لا يدل على أية حياة . دخلت غرفة الطعام . كانت هناك منضدة سفرة كبيرة يمكن أن تستضيف عشرين شخصا . كراسيها فوقها وعلى اليمين بوفيه كبير على أجنابه أسود خشبية ، ونيش عال يلامس السقف وعدد من الثلاجات ، اثنان مكشوفات تعمل منهما واحدة يزن محركها بأزيز رهيف. واثنان داخل الكراتين عدا "ديب فريزر " ضخم يتسع لبقرة وزوج من الخراف . كراسي الفوتيه ليرتاح عليها من انتهى من تناول طعامه ولا أدرى كيف سيتناول طعامه .
توقعت أن يكون زياد في المطبخ يعد الشاي. استدرت عائدا فوجدت المطبخ خلفي . كان ممتلئا بالبوفيهات إلى السقف .. عمارة خشبية ضخمة والأواني مكدسة و "الميكرويف " فوق البوفيه إلى جانب " الكيتشن ماشين " وغسالة الأطباق ، أما دولاب الأطباق ففوق الحوض .. كراتين أخري متراكبة بعضها فوق بعض . راعني موقد الغاز فهو على الأقل متران في متر ونصف ، تتربع عليه عشر شعلات . يمكن أن ينضج في ساعة كل الطعام اللازم لكتيبة من الجنود .
لا أظن زياد هنا فليس في المطبخ مكان لقدم .. ناديته من جديد
- أنت شخص عجيب . أنا في غرفة الطعام ولم ترني .
عدت إلي غرفة الطعام . سمعته يقول :
- أهلا يا مولانا .. وحشتنا
مسحت بعيني كل ركن في الغرفة التي تحملت فوق ما تحمله مثيلاتها ، ولم أعثر عليه . عدت أقلب عيني وأدقق فيما أري .. أخيرا لمحت شعلة موقد "سبرتو "مثل الذي كان عند جدي في أخريات أيامه عندما نصحه الأطباء بالبعد عن الموقد البلدي حيث تحترق الأغصان وعيدان الحطب فوق القصعة وتؤذي صدره .
فقدت النطق .. ظل فمي مفتوحا وعيناي علي اتساعهما تحدقان في ذهول .

تهاويت علي الأرض بين كرسيين . كان من رابع المستحيلات أن أظل متمالكا أعصابي .. كان صعبا جدا أن أعي ما أراه ، إذا كان ما أراه حقيقيا .. كائن يجلس إلى جوار الشعلة ممسكا بكنكة كبيرة . سمعت طرقعة بالأصابع ، كأنه يلفت نظري .. إنه مصغر زياد .. لا يمكن أن يكون هو .. كائن لا يزيد حجمه عن حجم طفل عمره سنتان على الأكثر .. ضئيل ونحيل .. أسمر كبلحة عجفاء .. كان زياد أبيض مشرق الوجه بالنور والبهاء والجمال .
فقدت النطق .. لا بد أني دخلت بالخطأ أحد المخازن ..

أظنه قال :
- ما رأيك في هذه الجلسة الشرقية ؟
بقيت علي حالي متجمدا وغير مصدق . . قال :
- أنت لم تر طبعا الجراج .. به ثلاث سيارات ودراجتان ومخزن فيه جزء من العفش .. لست أنت الذي أخفي عنه شيئا .. شقتي القديمة التي كنت أعيش فيها مع أمي في مصر عتيقة لم أتصرف فيها لأن بها كراكيبنا
أخيرا رمشت أهدابي دون أن أكلفها بذلك .. قال :

- نورت بيتك يا درش
كم كان زياد جميلا وعذبا ! .. فتشت في ذاكرتي عن أخبار زياد خلال العشر سنوات الماضية .. هل بلغني أي خبر عن صحته .. عن معاناته أو موته ؟ .. هل حقا هذا زياد ؟ ! .. ولماذا لا يكون ؟ .. لا داعي للدهشة أو الانزعاج .. يجب أن أواجه الآن أهم مشكلة وهي البحث عن الطريق إلى باب الشقة .