رحيل مبروك .. رحيل عصفور الكناريا


فؤاد قنديل
الحوار المتمدن - العدد: 4628 - 2014 / 11 / 9 - 20:49
المحور: الادب والفن     


رغم مرضه الطويل فقد رأيته آخر مرة في أفضل حالاته الذهنية والنفسية وكأنه ليس على فراش المرض القابض عليه منذ عام ، لذلك أشعر بالصدمة لأننا كنا على تواصل وكان يبدى صلابة غير عادية ، ويبدو راضيا كما كان دائما .

فجأة رحل الكاتب المختلف .. النسخة الأدبية من السيد سعيد .. أنا حزين لا لموته بل لأن المصريين لا يعرفون أقدار النابهين منهم ويعرفون جيدا الأصفار والمهرجين والتافهين والتجار .. رحلت ماسة بشرية صغيرة .. رحل محمد إبراهيم مبروك الغالي رفيق العمر ، الذي كنت أراه بين الأدباء مثل عصفور الكناريا بين الزهور .

مبروك لمن لا يعرفه نموذج لأصحاب الخلق الرفيع .. متواضع ونبيل وزاهد في الدنيا وقليل الكلام جدا ومختلف لكنه ذا آراء رصينة وسديدة .. عشق الفكر والثقافة والوطن والأدب منذ صباه وهو مثل كثيرين ابن المدرسة السوفييتية

وأنا مثله من عشاق ديستوفسكى ولما عرف كل منا ذلك عن صاحبه أخذنا نلتقى كى نتذكر ناظر مدرسة القصة والرواية، وانتقل مثلنا إلى بقية كتاب روسيا الأعلام مثل تشيكوف وجوركى ثم كتاب أوروبا وفي مقدمتهم كافكا ثم كاتبى أمريكا الشمالية هيمنجواى وفوكنر إلى أن اكتشف كتاب أمريكا اللاتينية.

مبروك لفت الأنظار بقصته الطالعة من بئر مسحور وكان عنوانها " نزف صوت صمت نصف طائر جريح " فألقت حجرا كبيرا من الدهشة في بحيرة الإبداع الموحلة ، ولفت الأنظار وتناقل النقاد و الأدباء القصة كصرخة جديدة ولغة سردية لافتة و أدرك الكثيرون أن هذه القصة لها سبابة وقلب وخنجر وسوف تسهم في إعادة بعض الحياة إلى الجثة الممددة على فراش الغروب.

لم يكن مبروك يرى في معظم ما يكتب إلا قشا وحكايات بلا طعم أو لون ولابد من العصف بكل هذا الميراث وإنتاج قصصا تليق بالتجربة العربية العارمة والصادمة .

كانت تعاسة مبروك في أوجها إبان السبعينيات بينما السياسة الحمقاء تعصف بالمصريين وترتكب الخطايا في كل مجال وهو كيسارى راسخ تمور أعماقه بالغضب واللاحيلة من التخبط الذي يجتاح مسيرة الوطن الذي كان بالإمكان أن يتخذ بعد انتصار أكتوبر دربا آخر وأن يتطلع إلى أهداف أرقى وأكثر اتساقا مع المنجز التاريخى لكنه انتظر دون جدوى ولم يكن من محبى السفر فبقى على مضض مستوحشا وفاقدا للحماسة حتى القصة المدوية التى أدخلته دائرة الذيوع انطفأ إحساسه بها مع مر السنين وانكسار الأفق. لذلك قام بجمع قصصه في مجموعة " عطشى لماء البحر" التى صدرت عام 1984

كانت مطالعته لأدب أمريكا اللاتينية هي المنقذة له فقد اجتذبه هذا العالم وعانق روحه الباحثة عن الأصالة والتجديد والجمال ، فأقبل يقرأ بنهم وانزوى تقريبا عن الساحة الثقافية والمنتديات يدقق في صمت ويلتهم ويهضم حتى تعرف على ماركيز فعزم أن يتعلم الإسبانية خصيصا من أجل الأدب اللاتينى الذي انسجم مع رؤيته الفنية والجمالية . قرأ معظم ما أنتجته مواهب عشر دول ولم يقبل على ترجمة نص إلا بعد أن أحس إتقانه للغة الإسبانية حتى ضغطت عليه النصوص الجميلة واحتشدت بها روحه فترجم قصصا كثيرة لكتاب من أمثال خوان رولفو وبورخيس وإيزابيل الليندى وغيرهم إلى أن شجعه المترجم الكبير الدكتور محمد أبو العطا على نشرها فصدرت منها المجموعة الأولى وهى " وسم السيف " ، وأعقبتها " رقص الطبول " ثم صدرت له مجموعة "حين تقطعت الأوصال " " و " بيت مسكون " وصدرت له مجموعة " حكايات خرافية وأساطير " كما لم يمنعه حبه لأدب الكبار من ترجمة مجموعة قصص للأطفال بعنوان " الأصابع الساحرة للأميرة الصغيرة " ، وأخيرا " الروح الحلوة لدون دميان "
مبروك إذن خسارة فادحة بكل المقاييس .. نسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته ويلهم أسرته الصبر والسلوان ويعوض الساحة الثقافية بمن كانوا مثله في النبل والثقافة والزهد والوطنية ..ومثله في البعد عن الضجيج والصخب . في إيثار الإبداع كتابة وقراءة قبل التعلق بأحبال العلاقات العامة والترويج للذوات الخاوية