ماركس وباكونين: الدولة والكومونة -3/3


أنور نجم الدين
الحوار المتمدن - العدد: 4040 - 2013 / 3 / 23 - 08:30
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

فى ذكرى ثورة الكومونة

مما سبق نتوصل إلى أنه لا بد أن يتقاسم ماركس أو باكونين أفكار عصرهم مع معاصريهم بجميع أوهامها، ضمن سلطويتها ولاسلطويتها وديمقراطيتها. ومن الطبيعي جدًّا أن يستعيض ماركس أو باكونين وقائع تاريخية غير ناضجة، بالتأملات الفلسفية عن المستقبل. وأن أكثر الموضوع إثارة هنا هو الاشتراكية بوصفها وحدة فيدرالية لدى باكونين، وهو يقول:

"إن الاشتراكية هي وحدة فيدرالية .. وعلى العموم أعلنت الكومونة صراحة في بيانها بانها لا تريد أن تحل الوحدة الوطنية في فرنسا- بل على العكس من ذلك أنها كانت تعيد الحياة اليها وتقويها وتنتج الحرية الكاملة والحقيقية للشعب. وأنها -أي الكومونة- كانت تريد الوطن، الشعب، وحدة المجتمع الفرنسي، وليست الدولة" (مختارات باكونين، باللغة السويدية - Centralism eller självförvaltning – المركزية أم الإدارة الذاتية).

ولكن السؤال هنا هو: هل يوجد وطن دون الدولة؟ هل هناك وحدة قومية -فرنسية- دون دولة قومية؟ أما الفيدرالية فتوجد في عصرنا، عصر الرأسمالية، بدرجة من الكمال، والفيدرالية -الأمريكية كانت أم الإماراتية- ليست سوى اتساع حدود الأمة الرأسمالية.
وثم هل ممكن أن نتخيل حكم الشعب دون الدولة، والشعب دون الوحدة السياسية، والوطن دون الرأسمال؟ وهل تعني معارضة الدكتاتورية بالديمقراطية، معارضة الدولة بالدولة أم لا؟ هل إبدال كلمة الدولة بالديمقراطية، أو الديمقراطية الشعبية، أو الديمقراطية المباشرة، أو الديمقراطية من تحت، أو حكم الشعب، أو الاشتراكية الحرة -التحررية، يغير شيئًا من طبيعة الأشياء؟
لا يرى باكونين في الكومونة سوى تحقيقًا للديمقراطية الخالصة. أما الديمقراطية، أي حكم الشعب –وكل شعب يتكون من طبقتين-، فتتناقض كليًا مع ما كان تستهدفه الكومونة، أي هدم الدولة مع ديمقراطيتها السياسية مثل دكتاتوريتها السياسية. والديمقراطية الأوروبية المعاصرة هي في الواقع حكم الشعب أنتجتها البرجوازية بدرجة من الكمال. ولا يمكن تاريخيًا أن نتخيل ديمقراطية أخرى غير الديمقراطية التي موجودة أمام أعيننا وتعبر تاريخيًا عن الحياة الليبرالية للمجتمع الحديث، المجتمع البرجوازي، فالديمقراطية مظهر ليبرالي لحياة المجتمع السياسية وحقوق الإنسان، أي حق التملك الخاص والحرية الفردية منبعها المزاحمة الليبرالية. ورغم ان ماركس كان يحمل أيضًا نفس الملامح والنواقص لعصره، ولكن مع ذلك فهو يقول:

"ويترتب على ذلك ان جميع الصراعات داخل الدولة، الصراع بين الديمقراطية والارستقراطية والملكية، والصراع من أجل حق الاقتراع، إلخ، إلخ، ليست سوى الأشكال الوهمية التي تجري فيها الصراعات الفعلية للطبقات المختلفة فيما بينها" (ماركس، الايديولوجية الألمانية، ص 42).

فالديمقراطية ليست حقيقة أبدية، بل تختفي مع اختفاء شروط وجودها وهي التجارة الحرة، والديمقراطية هي التي تمثل الحياة الحرة لهذه التجارة الحرة، هي الليبرالية ذاتها. وظهر مع التاريخ بأن الديمقراطية لغة البرجوازيين اللبراليين ذاتها، ولم تقدم أي حل طيلة تاريخها للسيطرة على الطبيعة المختلة للاقتصاد الاستغلالي الرأسمالي والمصاعب الاجتماعية الناتجة منه. وفي عصرنا، عصر تعمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للديمقراطية، يحس ببساطة كل فرد إنساني، لا الفقراء والعاطلين عن العمل وحدهم، بالنتائج المأساوية الخطيرة للأزمة التي تمر عبر الدول دون الاستثناء. فالديمقراطية إذن تعبير عن حالة اجتماعية تسودها طبقة سائدة وهي البرجوازية اللبرالية. ولا يمكن للبروليتاريا أن تستخدم هذه الوسيلة - مثلما لا يمكنها استخدام دولة دكتاتورية - للخروج من مجتمع الطبقات. وإن الحرية الشخصية، أي الحرية الاجتماعية لأفراد المجتمع، ليست لها العلاقة بالديمقراطية، فالديمقراطية ليست سوى إذلال الإنسان أمام سيده الإنسان، فهي تعبير في حد ذاتها عن المجتمعات الهرمية. والعالم قد جرب كل الأوهام بخصوص مبادئ الديمقراطية، أي الأخاء الطبقي، وحقوق الإنسان، والمساواة السياسية أمام القانون، والضرائب. ولكن النتيجة هي الاحتدام المستمر للتناقضات الاجتماعية. أما الحرية فهي التحرر من قيود الدولة -الدكتاتورية كانت أم الديمقراطية- وتوحيد البشر لا في وحدات ديمقراطية فيدرالية أو الديمقراطية المباشرة، بل في إخضاع الحركة الاجتماعية عمومًا لإشراف الأفراد الجماعية، يسهمون في تنظيم المجتمع بوصفهم أفرادًا متحدين في جماعة يتشاركون في الثروات الاجتماعية لا أسيادًا متحدين في طبقة لا يمنحون الأفراد أية حرية سوى حرية منافسة بعضهم بعضًا -حرب الجميع ضد الجميع وبصورة أشد قساوة- في ظل الديمقراطية للحصول على لقمة العيش، ففي الديمقراطية لا يظهر التوزيع في الدخل إلا ضمن علاقات الحق للأقوى.

أما فيما يخص الاشتراكية بوصفها اتحادات فيدرالية، فيعبر ماركس عن رأيه على الشكل التالي:

"ان مصير التشكيلات الاجتماعية الجديدة بوجه عام، أن تؤخذ خطأ كرد على أشكال قديمة أو حتى بائدة في الحياة الاجتماعية تشبهها مؤسسات جديدة بعض الشبه. وهكذا فان هذه الكومونة الجديدة التي تحطم سلطة الدولة الحديثة اعتبرت بمثابة بعث لكومونات العصور الوسطى التي سبقت نشوء سلطة الدولة تلك وأوجدت أساسها. –واعتبر البناء الكوموني خطأ، محاولة لاستبدال وحدة الأمم الكبرى باتحاد فيدرالي للدول الصغيرة المطابق لحلم مونتسكيو والجيرونديين" (ماركس، كومونة باريس: الحرب الأهلية في فرنسا، تعريب فارس غصوب، ص 64) (الجيرونديون: حزب البرجوازية الصناعية الكبيرة، التجارية ومالكة الارض، تشكل أيام الثورة البرجوازية الفرنسية 1789، أخذ اسم مقاطعة الجيروند. وقف الجيرونديون ضد الحكومة اليعقوبية والجماهير المساندة لها بحجة الدفاع عن حقوق المقاطعات بالاستقلال الذاتي وبالاتحاد الفيدرالي).

وهكذا، فمما سبق وصلنا إلى أنه لا يمكن أن يعيش المرء في عصر دون تمثيل أوهام عصره، ونظرًا لأن كل من ماركس وباكونين كانو يتحدثون عن ثورة؛ عناصرها غير مكتملة بعد، فلم يكن بمستطاعهم التحرر من الأوهام التي خلفتها وراءها نواقص ثورة الكومونة ذاتها. فإذا أردنا النظر إلى العالم المعاصر من وجهة نظر الاقتصاد الرأسمالي، فسيكون من غير الممكن أن تستعيض البشرية وحدة الأمم الكبرى مثل الأمة البريطانية والأمريكية والأوروبية، بدويلات صغيرة –أو كبيرة- تتحد في اتحادات فيدرالية ديمقراطية لإقامة اشتراكيتها، حيث ان انتصار الاشتراكية غير ممكن ضمن حدود هذا البلد أو ذاك ومن خلال الديمقراطية التي تعارض الإدارة الذاتية للمجتمع أشد المعارضة. وإذا انطلقنا من تاريخ الثورة -اعتبارًا من ثورة الكومونة ومرورًا بالثورة المجالسية 1917 – 1923 وإلى يومنا هذا- بدل النظريات، فلا الفيدرالية ولا الديمقراطية ولا الدولة البروليتارية، تعتبر طريقة للخروج من عالم الطبقات والسيادة الطبقية. وكما يقول ماركس المشهور بالسلطوي لدى رفاقنا الأناركيين:

"ان الطبقة الثورية نفسها هي من بين جميع أدوات الإنتاج أقوى قوة منتجة. وان تنظيم العناصر الثورية في طبقة يفترض وجود جميع القوى المنتجة التي استطاعت ان تنشأ في احشاء المجتمع القديم.
فهل يعني هذا ان سيادة طبقة جديدة، تتجلى في سلطة سياسية جديدة، تحل بعد سقوط المجتمع القديم؟ كلا.
ان شرط تحرر الطبقة العاملة هو القضاء على جميع الطبقات، مثلما كان القضاء على جميع المراتب على اختلافها شرط تحرر المرتبة الثالثة، البرجوازية" (بؤس الفلسفة).

وأخيرًا، لا يقلل أخطاء ماركس أو باكونين من دورهم النضالي البارز ومساهماتهم المميزة في الحركة البروليتارية العالمية، مثلما لا يقلل أخطاء السير نيوتن من دوره المميز في علم الفيزياء، فوراء الكثير من الأخطاء، قلة المواد العلمية أو التاريخية المتوفرة، تؤدي أحيانًا إلى عقائد –دينية كانت أم السياسية- لا يمكن مناقشتها بل طاعتها فقط. لذلك فلا يمكن النظر إلى أطروحات ماركس وباكونين إلا بعين نقادة، فنحن نتحدث عن البشر والأفراد التاريخيين، ولا أحد معصوم من الأخطاء. وبخصوص حركة الكومونة في 18 آذار عام 1871، يمكننا أن نهتف مع ماركس وباكونين:

"يعتبر الحركة المجيدة التي افتتحت في 18 آذار، فجر الثورة الاجتماعية الكبرى التي تحرر الانسانية إلى الأبد من حكم الطبقات" (كارل ماركس).