أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد الحسين شعبان - العروبة والدولة المنشودة!*















المزيد.....



العروبة والدولة المنشودة!*


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 3019 - 2010 / 5 / 30 - 00:04
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


* بحث قدّمه الكاتب الى ندوة دمشق بعنوان " العروبة والمستقبل" المنعقدة في 15-19 أيار (مايو) 2010 بدعوة من الدكتورة نجاح العطار.

العروبة والدولة المنشودة
السؤال الأول الذي قد يتبادر إلى الذهن بعد قراءة العنوان هو:
عن أية عروبة نتحدث؟ ثم ما هي العلاقة بين العروبة والهوية؟ وبالتالي ما هي العلاقة بين العروبة والمواطنة، وأخيراً ما هي علاقة العروبة بالدولة؟
إذا كان المدخل الأساس يشير وبطريقة غير مباشرة إلى وجود عروبة متقدمة وأخرى متعثرة أو متخلفة، فإن ذلك سيقودنا بالضرورة إلى البحث في مباني ومعاني التقدم والتخلف وما بينهما، فعلى الرغم من عوامل الضعف والهشاشة والتنافر في صورة العروبة الراهنة، إلاّ أن عناصر القوة والصلابة والوحدة ما تزال كامنة وغير منظورة، الأمر الذي بحاجة إلى تفعيل هذه العناصر، لاسيما بأبعادها الراهنة والمستقبلية ثقافياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً وتاريخياً ودينياً ولغوياً، في سبيل تحقيق بعض من الطموحات العربية المنشودة مثل التنمية والديمقراطية والعدالة.
وإذا كان الهدف من السؤال هو الرغبة في تلمّس الطريق الصحيحة، فإن مراجعة التجربة ونقدها سيكون السبيل الأمثل لتجاوز عناصر الضعف والهزال وتمكين وتعزيز القدرات بما ينسجم مع التطور الدولي، لاسيما في ميدان التنمية المستدامة، التي لا تعني سوى توسيع دائرة الحريات وتعزيز وتعميق التوجّه الديمقراطي وتحقيق المساواة بين النساء والرجال، وتمكين المرأة من أداء دورها المتكامل مع الرجل، والحرص على تعميق مفهوم التنوّع الثقافي والتعددية القومية والدينية والاعتراف بالحقوق في إطار المواطنة الكاملة، والاستفادة من التطور العلمي- التكنولوجي وولوج طريق المعرفة، ولعل في ذلك الاساس المتين للحديث عن عروبة متطورة وعن دور يعزز وينمّي الشعور بالانتماء إليها.
إن العروبة كرابطة اجتماعية وانسانية وجدانية وشعورية أمرٌ موضوعي، أي أن يكون شعور العربي عربياً ، والتركي تركياً والفارسي فارسياً والكردي كردياً والروسي روسياً والفرنسي فرنسياً وهكذا، ولكن هناك سجالاً حول الفكرة القومية، لاسيما إذا أردنا نقلها من حيّز الأفكار إلى حيّز الواقع، كما حصل في القرن العشرين من محاولات لتقليد الفكر القومي الأوروبي، ما حوّل العروبة إلى أيديولوجيا قومية، وأدّى الى إحداث نوع من الالتباس والتشوش بالنسبة لانتماء المواطن، وقاد إلى تعميق إحساسه بالتجزئة والانقسام على الذات، أضف إلى ذلك أن تحوّل الفكرة القومية بوصفها "إيديولوجيا" إلى نظام سياسي حمل معه الكثير من مظاهر وممارسات الاستبداد والديكتاتورية والتسلّط، ونجم عنه ردود فعل لا بخصوص تلك الممارسات حسب، بل إزاء الفكرة القومية العروبية الوجدانية.
كما أدّى التنافس والتناحر غير العقلاني بين أحزاب وأنظمة حملت العروبة عنواناً الى إضعاف الشعور العام بالانتماء، حتى أن بلدين عربيين يحكمهما حزب يحمل الاسم نفسه ظلّت العلاقات بينهما مقطوعة أكثر من عقدين من الزمان، يضاف الى ذلك بعض التطبيقات المشوّهة لوحدات قسرية، كما هي محاولة اجتياح النظام العراقي السابق للكويت، الأمر الذي ألحق أضراراً بالغة بالكويت والعراق والأمة العربية وبحلم الوحدة المنشودة، ذلك أن الوحدة لا يمكن أن تقوم دون رضا الشعوب العربية المعبّر عنها بصورة شرعية وديمقراطية ولأهداف اجتماعية تحررية.
كما أن الصراع غر الموضوعي بين التيار الاشتراكي الماركسي والتيار القومي العربي الاشتراكي واللذين يجمعهما أكثر من جامع، أوصل كلا التيارين الى النكوص والتراجع على نحو ملحوظ، وإنْ كان هناك أسباب أخرى لا مجال لذكرها، وهذا ما فتح الباب أمام تيارات أخرى ذات اتجاهات متطرفة ومتعصبة لتظهر وتطفو على السطح كالتيارات «الإسلاموية» التي تستخدم التعاليم الاسلامية بالضد منها وهو ما نطلق عليه «الإسلاملوجيا». وساد في أحيان كثيرة إسلام التعصب والغلو والتطرف والعنف والإرهاب مقابل إسلام التسامح والتعايش والحوار والسلم والقيم الانسانية.
علينا إذاً أن نتوقف عند هذا الامر لندرسه على نحو عميق يفرّق بين تعاليم الاسلام السمحاء وبين الاتجاهات المتطرفة والمتعصبة التي تتحدث باسمه أو تصدر الفتاوى نيابة عنه. وإذا كانت ثمت مراجعات أولية قد جرت على صعيد الفكرين الاشتراكي الماركسي والاشتراكي القومي العروبي، فإن الحاجة تزداد الى اعادة قراءة نقدية جوهرية عميقة وجريئة لمضمون وممارسات التيارين، مضافاً اليها التيار الاسلامي العروبي، فتقييم ونقد الفكر السائد أمرٌ لا غنى عنها لتقدّم العروبة وتطورها.
ولسنوات غير قليلة استخدم كل ما نعنيه أو نقصده بالعروبة باعتباره قومياً، وهو أمرٌ بحاجة الى توضيح وفكّ اشتباك، فالفكرة القومية كأيديولوجيا شيء، والفكرة العروبية كرابطة انسانية – اجتماعية وجدانية شيء آخر. إن واقع تطور الفكرة العروبية وضع أمامنا طائفة من المتغيرات الجديرة بالدراسة والنقد، لاسيما وأنه لا يمكن الان الحديث عن "فكرة عروبية" أو "قومية عربية" من دون الحديث عن عملية انبعاث جديدة لتيار عروبي تقدمي، بجناحين أساسيين: الاول: الايمان بالديموقراطية السياسية دون لفٍ أو دوران، والثاني: الايمان بالعدالة الاجتماعية دون ذرائع أو مبررات. ولا يمكن للتيار العروبي التقدمي ان يحلّق من دون هذين الجناحين، إذ أن انكسار أحدهما يقود إمّا الى الدكتاتورية والاستبداد أو الى الاستتباع وقبول الهيمنة، وبالتالي فإن تعطّل أحد الجناحين سيضرّ بالعروبة وبفكرة الوحدة العربية.
إن فكرة الوحدة العربية مسألةٌ محوريةٌ ومفصليةٌ يشترك فيها على نحو وجداني أبناء العروبة من أقصى الخليج الى أقصى المحيط وفقاً لشعور تلقائي وعفوي بالانتماء الى المشترك العربي- الانساني. ولا يمكن للامة العربية أو حتى للفكرة الوحدوية العربية ان تتقدما من دون التنمية المستدامة المستقلة. كما لا يمكن الحديث عن العروبة دون أخذ مفهوم الحداثة بعين الاعتبار، ولا يمكن أن نتحدث عن دولة عربية منشودة دون الأخذ بفكرة الدولة الديمقراطية المؤسساتية، ولن يتحقق ذلك إلاّ في ظل سيادة القانون ودولة عصرية قائمة على المواطنة الكاملة وعلى مراعاة شروط المساواة والعدالة والمشاركة. ومثل هذه الحداثة تؤسَسْ على أربعة أركان هي: المدنية والعلمانية والعقلانية والديمقراطية، التي تشكل محتوى وجوهر أي تغيير اجتماعي، لاسيما في إطار دولة دستورية عصرية حداثية.
وبالعودة إلى بدايات فكرة نشوء الدولة - الأمة/ الوطن - الأمة تاريخياً، نرى أن فكرة الدولة في أوروبا انطلقت من فكرة الأمة وقامت على أساسها ضمن حدود سياسية معينة، بينما، دولنا العربية الطامحة لتحقيق دولتها العربية الموحدة ما زالت أجزاءً مبعثرةً ومتفرقةً، متفرّعة عن أمةٍ ممزقةٍ وموزعةٍ إلى كيانات وكانتونات ودوقيات ما قبل الدولة يتحكم فيها الانتماء الديني والطائفي والمذهبي والاثني والعشائري وغيرها.
وإذا كانت الرابطة العروبية قد نشأت وتعمّقت في ظل الشعور بالاستلاب أيام الدولة العثمانية، فإن التعبير عنها سار باتجاهين متباعدين في الخمسينات والستينات من القرن الماضي خصوصاً في خضم الصراع السياسي:
الأول؛ دعا الى ضرورة العمل على قيام وحدة عربية فورية شاملة بغض النظر عن سياسات ورغبات الأنظمة. فيما سعى الثاني، الى قيام اتحاد عربي على أساس التقارب السياسي والاجتماعي، لاسيما بين الأنظمة، أو إيجاد دولة المركز (القاعدة)، الأساس التي يمكن أن تلتف حولها دول وأقاليم أخرى، لتشكل دولة الوحدة السياسية والاجتماعية.
ولتحقيق ذلك ظهر فريقان طالب الأول منهما، بقيام وحدة اندماجية فورية دون الالتفات إلى تفاوت الظروف الاقتصادية والاجتماعية بين البلدان العربية. فيما دعا الثاني إلى تعزيز فكرة الدولة القطرية لتكون مركز الدولة الموحدة المقبلة، ولكنه لاحقاً استمرأ فكرة الدولة القطرية وأخذ يدافع عنها بأسنانه وأظافره بضراوة لا مثيل لها.
وصاحب ذلك، صراع آخر ظهر على أشدّه بين التيارين الاشتراكي الماركسي واليساري وبين الوحدوي «القومي» العروبي، لاسيما حركة القوميين العرب، وحزب البعث العربي الاشتراكي، والحركة الناصرية، الذين كانوا ميّالين إلى إتمام الوحدة العربية الفورية، لأن الوحدة حسب اعتقادهم بإمكانها أن تحقق بُعداً استراتيجياً وجغرافياً واقتصادياً هائلاً، يمكن أن يبدّل مجريات الأحداث في المنطقة، وفيما بعد يمكن أن تتحقق العدالة الاجتماعية المنشودة، بغض النظر عن طبيعة الأنظمة السائدة، لذلك كان مطلب الوحدة من أهم الشعارات المؤسسة لمنهجية العمل والحراك الوطني- العربي لدى القوميين العرب والبعثيين والناصريين، أما الحركة الشيوعية والماركسية فقد تبنّت شعار "الاتحاد الفيدرالي " لأنها كانت ترى أن البلاد العربية ليست مؤهلة في الوقت الحالي لإقامة اتحادات فورية، وإنما لا بد من تهيئة الظروف وتمهيد الطرق السياسية والاجتماعية والاقتصادية لإقامة شكل من أشكال الاتحاد الذي يمكن أن يتعزز فيما بعد ليصل إلى الوحدة.
وبغض النظر عن خطأ أو صواب الشعارات، فقد تراجعت مسألة الوحدة العربية على نحو مريع، الأمر الذي يتطلب دراسة جدية للأسباب والعوامل التي ساهمت في هذا التراجع، خصوصاً مسؤولية القوى التي حكمت في بعض البلدان العربية، والدور السلبي للتيارات الأخرى، مشاركة أو معارضة.
يمكنني القول أن كلا المفهومين تضمن جزءًا من الحقيقة، لكنهما كانا على خطأ رئيس أيضاً. فخطأ الحركة الشيوعية كان في التقليل من أهمية شعار الوحدة الجاذب للجماهير، لأن هذه الوحدة بغض النظر عن طبيعة الأنظمة الاجتماعية والسياسية هي وحدة شعوب ووحدة الطبقة العاملة في هذه البلدان، وكان على الشيوعيين أن يتبنّوا شعار الوحدة وأن يبذلوا كل الجهد في سبيل تحقيقه، لأنهم سيكونوا الأكثر مصلحة في إقامة الكيان العربي الكبير والموحّد، ولكن بحكم تأثيرات أممية وخارجية، وربما بحكم همينة بعض " الأقليات القومية" على قيادات الأحزاب الشيوعية في العالم العربي، فإن اختيارها دفعها للتقليل من أهمية الدعوة لشعار الوحدة وعدم استخدامه كشعار مركزي، علما بأن الحركة الشيوعية العربية تبنّت شعار الوحدة العربية منذ العام 1935، لكنها أهملته في حملة التثقيف الأساسية، مقدمة القضايا والمطالب الاجتماعية والطبقية عليه.
أما خطأ القوميين العرب ولا سيما الناصريين والبعثيين وهم أكثر الدعاة تمسكاً بوجوب قيام الوحدة، فقد عملوا بعد وصولهم إلى سدة السلطة بوعي منهم أو دونه على تعميق عوامل التباعد والتنافر بين الدول العربية مما أدى إلى المزيد من التشرذم والانقسام واتّساع هوة الخلاف بينهم، ما ساهم في ترسيخ فكرة قيام الكيانات القطرية المحلية والتمترس داخلها باعتبارها " مملكة الخلود"، الأمر الذي أضرّ بالعروبة وبالفكرة الوحدوية.
للاسف الشديد إن العروبة منذ انطلاقتها المبكّرة في أواخر الدولة العثمانية وعلى ما فيها من نزعة إنسانية ودعوة للحرية، وشعور وجداني لاحترام الآخر، والتي ساهم فيها ضباط قوميين عرب وشخصيات تنويرية وإصلاحية، تراجعت بشكل خطير، خصوصاً بعد احراز الاستقلال وبسبب التطبيقات المشوّهة التي ازدرت الآخر عبر الموقف المتزمت من الاقليات القومية والسلالية واللغوية والدينية، ومن التنوّع والتعددية الثقافية.
وقد ظلّت بعض المكوّنات والتنويعات الثقافية أو ما يمكن أن نطلق عليه "الهويات الفرعية" تنظر بعين الريبة وعدم الرضا، ناهيكم عن الشعور بالغبن والاضطهاد الذي لحق بها من طرف من كان يدّعي أنه يحكم باسم "العروبة". وقد دفعت بعض السياسات الخاطئة والممارسات السلبية، لاسيما ما اتسمت به من كراهية وتمييز واستعلاء، الى ردود فعل معاكسة صاحبها نزعات انغلاقية وانعزالية وقصر نظر، تلك التي استثمرتها القوى الخارجية أحسن استثمار، بحيث عمّقت الشعور بالقطيعة والاحتراب.
ورغم يقيني بأن ليس هنالك ما يجمع بين العروبة والاستبداد أو الممارسات التسلطية القمعية وانتهاك حقوق الإنسان، إلاّ أني أرى أنه من الضرورة بمكان تعزيز الأخوة وتعميقها بين الأديان والأعراق (الملل والنِحل) التي تعيش في دولنا وأوطاننا، والاعتراف بالتنوّع الثقافي والهويات الفرعية مما يساعد على إبراز الجانب الإنساني للعروبة، ويقلّص النزعات الانعزالية والانفصالية التي تظهر في صفوف ما نطلق عليه مصطلح " الأقليات"، حسب إعلان الأمم المتحدة حول حقوق الأقليات للعام 1992، وذلك تأكيداً على أهمية إتباع الأساليب والآليات الديمقراطية في بناء مؤسسات الدولة المنشودة ومشاركة كل الأطراف المكونة للنسيج الوطني فيها بكل تنويعاته الثقافية، وذلك لإيماني بأن الديمقراطية تقع في صلب المشروع النهضوي العروبي العقلاني العلماني الحداثي، العابر للطوائف والاثنيات، والمستند الى حق الاعتقاد وحق التعبير وحق التنظيم وحق المشاركة، أي قبول التنوّع والتعددية، وهذا ما سيمنح التيار العروبي أفقاً جديداً. وكلما اكتسب الفكر القومي العربي بُعداً ديمقراطياً، تعزز بُعده الاجتماعي، مكوناً هوية جامعة موحدة بعيدةً عن أساليب التسلط والاستعلاء أو عدم الاعتراف بالآخر .
• العروبة والهوية
هل الهوية جوهر قائم بذاته، لا يتغيّر أو يتحوّل؟ أم هي علاقة تجمعها مواصفات بحيث تكوّن معناها وشكلها؟ وهل العروبة هوية ثابتة ومحددة ؟
ثم هل الهوية بركة مغلقة ومياه راكدة أم أرخبيل مفتوح وشواطئ متصلة؟
يمكنني القول دون الخوف من الوقوع في الخطأ: الهوية ليست ثابتة، إنها متحوّلة ومتغيّرة، وهي ليست كاملة ودون تغيير باعتبارها مُعطىً سرمدياً، ساكناً ونهائياً وغير قابل للتغيير، لكن ذلك لا يعني انكار وجود بعض ثوابت الهوية مثل اللغة والدين، مع أن هذه تخضع أيضاً لنوع من التغيير من خلال فهمها وتفسيرها وتأويلها وقدرتها على قبول الجديد.

إن بعض عناصر الهوية تتغيّر، مثل العادات والفنون، حذفاً أو إضافة، لاسيما علاقاتها مع الثقافات والهويات الأخرى، تأصيلاً واستعارة. علماً بأن هذه التغييرات لا تأتي دفعة واحدة، بل تتم عملية التحوّل بصورة تدريجية، تراكمية، طويلة الأمد، الأمر الذي ينطبق على تفاعل وتداخل الهويات، لاسيما عناصر التأثير والتأثر، الواحدة بالأخرى.

بهذا المعنى لا يكون اختلاف الهويات أمراً مفتعلاً حتى داخل الوطن الواحد، إذا كان ثمت تكوينات مختلفة دينية أو اثنية أو قومية أو لغوية أو سلالية، ناهيكم عن اختلاف الهويات الخاصة للفرد عن غيره وعن الجماعة البشرية. ولعل هناك علاقة بين الشكل والمعنى الذي تتكون منها الهويات الفرعية – الخاصة وبين الهويات الجماعية العامة ذات المشتركات التي تتلاقى عندها الهويات الفرعية للجماعات والأفراد، حيث تكون الهوية العامة أشبه بإطار قابل للتنوّع والتعددية، جامعاً لخصوصيات في نسق عام موحد، ولكنه متعدد، وليس آحادياً، فمن جهة يمثّل هوية جامعة، ومن جهة أخرى يؤلّف هويات متعددة ذات طبيعة خاصة بتكوينات متميزة أما دينياً أو لغوياً أو اثنياً أو قومياً أو غير ذلك.
ولعل الحديث عن هويات فرعية، أو خصوصيات قومية أو دينية، لأقليات أو تكوينات، يستفز أحياناً بعض الاتجاهات الشمولية والمتعصبة دينياً أو قومياً أو آيديولوجياً فهي لا ترى في مجتمعاتنا سوى هوية واحدة إسلامية أو إسلاموية حسب تفسيراتها وقومية أو قوموية حسب أصولها العرقية ونمط تفكيرها واصطفافات طبقية كادحيّة حسب أيديولوجياتها الماركسية أو الماركسيوية، أما الحديث عن حقوق وواجبات ومواطنة كاملة ومساواة تامة وحق الجميع في المشاركة وتولي المناصب العليا دون تمييز بما فيها حقوق المرأة وحقوق متساوية للأديان والقوميات، فهي تصبح في الواقع العملي ليس أكثر من مؤامرة ضد الأمة والدين، تقف خلفها جهات امبريالية- استكبارية تضمر الشرور للمجتمعات العربية – الإسلامية.
وإذا كان جزء من هذا المنطق " كلام حق يُراد به باطل" فإنه من غير المبرر هضم الحقوق وعدم الاعتراف بالتنوّع الثقافي وازدراء الآخر. إن بعض الممارسات المتعصبة أو غير المتسامحة، لاسيما بحق الجماعات القومية أو الدينية دفعتها إلى الانغلاق وضيق الأفق القومي، وبخاصة إذا كانت قد تعرّضت للاضطهاد الطويل الأمد وشعرت بالتهديد لهويتها، وهو الأمر الذي كان أحد نقاط ضعف الدولة القطرية العربية تاريخياً، خصوصاً في مرحلة ما بعد الاستقلال.
ما زال الموقف من "الأقليات" القومية والدينية قاصراً في الكثير من الأحيان وحتى الاعتراف ببعض الحقوق يأتي كمنّة أو مكرمة أو هبة أو حسنة، حيث تسود مفاهيم مغلوطة عنها، بل أن الكثير من السائد الثقافي يعتبرها، خصماً أو "عدواً" محتملاً، أو قنبلة قد تنفجر في أية لحظة أو حتى طابوراً خامساً أو أن ولاءها هش وقلق وغير مضمون، وسرعان ما يتحول إلى الخارج، دون أن نعي أن هضم حقوقها، تارة باسم مصلحة الإسلام وأخرى مصلحة العروبة والوحدة وأحياناً بزعم الدفاع عن مصلحة الكادحين، والدولة العلمانية والمدنية وغير ذلك، هو السبب الأساس في مشكلة الهويات الفرعية وليس نقص ولائها أو خروجها على الهوية الوطنية العامة التي تصبح لا معنى لها بسبب معاناتها، وبسبب نقص المواطنة الفادح والنظر إلى أفرادها كرعايا لا مواطنين، وإنْ كان المواطنون ككل مهضومو الحقوق، فإن العبء الذي سيقع على كاهل المكوّنات الثقافية للهويات الفرعية سيكون مركباً ومزدوجاً ومعاناتها كذلك.
ولعل هذا الموقف من "الأقليات" ودلالاته الثقافية لا يقوّم الإنسان بوصفه إنساناً، له حقوق وواجبات معروفة في الدولة العصرية، بحقوق المواطنة، وإنما يقيّمه بوصفه "انتماءً"، أي هو يحوّل الإنسان إلى سياسي برأس اثني أو قومي أو ديني أو مذهبي، وهكذا يتحوّل الإنساني إلى سياسي، وهذا الأخير إلى حقل من الحروب تبعاً للمصالح السياسية والمادية، فتهيمن الأهواء والنزعات على العقول وتظهر الوحشية عند الممارسة، ويغيب كل ما هو إنساني، وأحياناً كثيرة تستخدم القوى الخارجية هذه الثغرات والعيوب والنظرة الاستعلائية القاصرة للنفاذ منها لتشتيت الهوية الجامعة، وبالتالي تفتيت الدولة واضعاف جميع مكوّناتها والعزف على الهويات الخاصة لدرجة التعارض والتصارع مع المشترك الإنساني.
ولنتأمل الحرب الأهلية اللبنانية، فبعد دماء غزيرة وخراب استمر 15 عاماً، غسل الجميع أيديهم وتعانقوا وكأن شيئاً لم يكن وظلّت الهويات الصغرى طاغية، والهوية الجامعة هشّة، قلقة، مقصاة. وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق، اندلع العنف والإرهاب على نحو لم يسبق له مثيل ليحصد أرواح عشرات ومئات الآلاف من العراقيين من جميع الأديان والطوائف والقوميات والاتجاهات، تحت شعارات طائفية واثنية، وإدّعاء الأفضليات أحياناً، وهو ما كانت له بعض الأسباب في التاريخ، لاسيما المعاصر، وبخاصة الاتجاهات التمييزية السائدة، رغم أن المحاصصة والتقاسم المذهبي والاثني كانتا تشكلان أساساً قام عليه مجلس الحكم الانتقالي وما بعده، وهو المجلس الذي أسسه بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي في العراق، وظل جميع الفرقاء والفاعلين السياسيين من جميع الاتجاهات، يعلنون أن لا علاقة لهم بالطائفية والمذهبية، بل هم يستنكرونها ويعلنون البراءة منها، لكنهم عند اقتسام المقاعد والوظائف والغنائم يتشبثون بها، ويحاولون الظهور بمظهر المعبّر وربما الوحيد عنها، دون تخويل من أحد.
ولعل ذلك هو الذي دفع الباحث لاقتراح مشروع لتحريم الطائفية وتعزيز المواطنة في العراق، وهو إذ يعرضه على جميع الفرقاء (وعلى المستوى العربي لما لهذه المسألة من انعكاسات عربية وإقليمية)، يأمل أن يثير نقاشاً وحواراً واسعين لدى الجميع، آملاً أن تتبناه القوى السياسية الوطنية وفاعليات المجتمع المدني على الصُعد العراقية والعربية والإسلامية، التي لا تؤمن بالطائفية وتدعو إلى تحريمها ومحاسبة كل من يمارسها أو يدعو ويروّج لها أو يتستر عليها، واعتماد مبادئ المساواة التامة والمواطنة الكاملة، فذلك هو السبيل لتعزيز الهوية الوطنية سواءً في العراق أو في الدول العربية والإسلامية، وتأمين حقوق الهويات الفرعية القومية والدينية وغيرها.
ولا بدّ من إقرار ذلك دستورياً، خصوصاً إذا تمكّنت البرلمانات العربية، -ورغم كل الملاحظات عليها- وبعد حوارات جادة ومسؤولة وفي ظروف سلمية وطبيعية من اعتماد مشروع القانون، حيث لن يكون بالإمكان التخلص من المحاصصات والتقسيمات الطائفية، دون إقرار ذلك قانونياً وعملياً، وهو ما يحتاج إلى توفير قناعات لدى الرأي العام في كل بلد عربي، وبخاصة من خلال التعامل مع المشكلة بالتحليل والبحث والتساؤل والصبر وطول النفس وانتقاد الذات وتقديم المصلحة العامة، التي تتطلب التعاون على أساس المشترك الإنساني والهوية الجامعة والتخلي عن نزعات الهيمنة وادعاء الأفضليات وإقصاء الآخر أو الانتقاص من دوره.
إن الحق في الهوية الثقافية للشعوب يعطي الأشخاص والجماعات الحق في التمتع بثقافاتهم الخاصة وبالثقافات الأخرى المحلية والعالمية، ذلك أن إقرار الحق في الثقافة يعني: حق كل ثقافة لكل أمة أو شعب أو جماعة في الوجود والتطور والتقدم في إطار ديناميتها وخصائصها الداخلية واستقلالها، ودون إهمال العوامل المشتركة ذات البعد الإنساني وقيم التعايش والتفاعل بين الأمم والشعوب والجماعات.
وقد شهد القانون الدولي في العقود الثلاثة الماضية تطوراً ايجابياً، حيث تناولت العديد من المعاهدات والاتفاقيات الدولية موضوع عدم التمييز، كما حظيت "الحقوق الخاصة" باهتمام كبير، خصوصاً بعد إبرام "إعلان حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو اثنية أو دينية أو لغوية" الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ 27 برقم 135 في 18 كانون الأول (ديسمبر) 1992، والذي عُرف باسم "إعلان حقوق الأقليات" Minority Rights، حيث أنشئ على أساسه فريق معني بحقوق الأقليات عام 1995 اعتماداً على الحقوق الثقافية.
والمقصود بالحقوق الخاصة هو الحفاظ على الهوية والخصائص الذاتية والتقاليد واللغة في إطار المساواة وعدم التمييز وهو ما نص عليه العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر عام 1966 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي دخل حيّز التنفيذ في آذار (مارس) العام 1976.
إن الإقرار بالتنوّع الثقافي والديني والإثني هو إقرار بواقع أليم، فقد كان ثمن التنكّر باهظاً وساهم في تفكيك الوحدة الوطنية وهدّد الأمن الوطني واستخدمته القوى الخارجية وسيلة للتدخل وفي هدر الأموال وفي الحروب والنزاعات الأهلية، بدلاً من توظيفه بالاتجاه الصحيح باعتباره مصدر غنى وتفاعل حضاري وتواصل إنساني، وقبل كل شيء باعتباره حقاً إنسانياً !!
ولعل الاقرار بالتنوّع الثقافي والتعددية القومية والدينية هو نقيض الفكر اليقيني المطلق، وهذا الأخير هو فكر إقصائي لا يؤمن بالآخر، ويريد إلغاء التمايزات داخل المجتمع بكياناته ومكوّناته وأفراده وتدجين التعددية واختزال الخصوصيات، والأكثر من ذلك يريد إلغاء تاريخ المكوّنات بحيث يلعب فيها مثل كرة عمياء تتدحرج في طريق أعمى وبأيد عمياء.
إن التعصب والعصبية هما اتجاهان الغائيان لمن لا يتعصّب لهما، ولعل جدل الهويات يكشف أن اختيار الصراع بدل التعايش، والصدام بدل الحلول الإنسانية، سيكون ضاراً وخطيراً على الهويات الكبرى مثل الهويات الصغرى، وهذه الأخيرة إن لم يتم احترامها وتأمين حقوقها المتساوية ستكون عنصر ضعف كبير ويتسع باستمرار على مستوى الهوية والدولة، إذ لا بدّ من إتباع الحوار وتبادل الرأي وتقليب الأمور بروح التفاعل الإنساني، فذلك هو طريق المعرفة وشراكة الناس في المسؤولية والبحث عن الحقيقة وعن المعنى، سواءً عبر الهويات الفرعية - الجزئية أو من خلال الهويات الأوسع والأكبر، ولكن بانسجام مع الهوية العامة التي لا تستقيم كينونتها وحقوقها إلاّ باحترام الهويات الفرعية وخصوصيتها على مستوى الجماعات أو الأفراد. وبهذا المعنى فإن العروبة بقدر انفتاحها وانسانيتها تستطيع ان تتعامل مع الهويات الفرعية على اساس الاعتراف بالغير وحقه في التعبير عن كينونته.

العروبة والمواطنة
إذا كان موضوع الهوية، ولاسيما العلاقة مع الآخر يوضّح جوهر العروبة الانساني وتجددها الحضاري، وموقفها التقدمي، أو نقيضه، فإن ذلك يقودنا الى الحديث عن جانب آخر يتعلق بعلاقة العروبة بالمواطنة، خصوصاً في إطارها القانوني، لاسيما في ظل الدولة المنشودة. وهناك أربع دلالات أساسية، يمكن التوقف عندها:
الدلالة الاولى أنه موضوع راهني وأصبح مطروحاً على بساط البحث، لاسيما وأن هناك تجاذبات كثيرة حوله، داخلياً وخارجياً.
والدلالة الثانية هناك التباساً نظرياً وعملياً بشأنه، وبخاصة في مواقف الجماعات والتيارات الفكرية والسياسية والقومية المختلفة.
والدلالة الثالثة إن اشكالية المواطنة بدأت تحفر في أساسات الدولة والهوية، وبالتالي لا يمكن ابعادها عن التأثيرات العميقة للعروبة، الأمر الذي يجعل من الواجب إدارة حوار فكري ومعرفي حولها، طالما وأنه يدخل في صلب الاشكاليات والمشكلات التي تواجه المصير العربي.
والدلالة الرابعة علاقتها بحقوق الانسان، خصوصاً بمبدأ المساواة والحقوق الاساسية وبالأخص حق المشاركة، وإدارة الشؤون العامة دون تمييز، وهو ما يضع تحديات جديدة لمسألة العروبة.
ومثل هذه الاشكالية هي التي تؤلف جوهر فكرة المواطنة في الدولة العصرية، خصوصاً إذا ما أقرناها بالعدل وهو ما نطلق عليه "المواطنة العضوية"، حيث ما نزال نعاني من نقص فادح فيما يتعلق بثقافة المواطنة، وتستمر النظرة الخاطئة أو القاصرة الى مبدأ المساواة قائمة، إضافة الى الموقف السلبي من التنوّع الثقافي الديني والاثني واللغوي، فضلاً عن حقوق المرأة، وهو الأمر الذي يحتاج الى معالجات ودراسات، وبيئة تشريعية وتربوية مناسبة، إضافة الى ما يمكن أن يلعبه الاعلام ومنظمات المجتمع المدني من دور إيجابي في نشر ثقافة المواطنة، لاسيما إذا تمكنت من إيجاد رصيد لها لدى القوى والأحزاب والجماعات السياسية والدينية بذلك.
أعتقد أن نقل هذا الحوار والجدل من هذا المنبر الى منابر اخرى، لاسيما الجامعات ومراكز الابحاث وإقامة منتديات فكرية وثقافية واشراك أوساط من النخب والمختصين، إضافة الى مؤسسات المجتمع المدني والبرلمانات والحكومات في الآن ذاته، ناهيكم عن قطاعات شعبية، وخصوصاً من النساء ومن الانشطة الثقافية المتنوّعة والمتعددة، وبمساهمة حيوية من جانب الاعلام، لاسيما الفضائيات في ظل ثورة الاتصالات والمعلومات وبفضل الانترنت والكومبيوتر، يمكن أن يلعب دوراً كبيراً في زيادة الاهتمام بفكرة المواطنة ويعزز أركانها وصولاً الى "المواطنة العضوية".
وإذا كان الحديث عن فكرة المواطنة الاوروبية قبل نحو ستة عقود من الزمان يعتبر ضرباً من الخيال، لاسيما بعد حربين عالميتين مدمرتين، سبقتهما حروب وعداوات وكراهية وكيد، ذهب ضحيتها عشرات الملايين من البشر في أوروبا، فإن الحديث اليوم عن مواطنة أوروبية واتحاد أوروبي وبرلمان أوروبي وهوية أوروبية ومحكمة أوروبية لحقوق الانسان وعدالة أوروبية واقتصاد أوروبي وعملة أوروبية وثقافة أوروبية أمر ممكن، بل واقعي، رغم التنوّع والاختلاف والتمايز، لكن في إطار وحدة المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة وفي إطار المشترك الانساني. فهل سيصبح الحديث عن مواطنة عربية أو مواطنة مغربية أو خليجية ممكناً، وبأي اتجاه يمكن ادراجه في اطار مواطنة فاعلة، خصوصاً في ظل هوية تمثل العروبة في إطار دولة عصرية؟
ولكن أين العرب من هذا التطور؟ يمكن التوقف عند تجربتين جنينيتين، الاولى : خليجية والثانية مغاربية، لكن ما زال الطريق طويلاً أمامهما. (الاتحاد المغاربي ومجلس التعاون الخليجي). إذْ لا يمكن التكهن حتى الآن بما ستؤول اليه هاتين التجربتين، فالنواتين يمكن أن تكونا أساساً مشتركاً لمواطنة موسّعة تنطلق من المواطنة المحلية الى المواطنة العربية، في ظل الاتحادات والتجمّعات والكتل السياسية والاقتصادية الكبيرة على النطاق العالمي، بما يؤدي الى تفعيل المواطنة "القطرية" وتعميقها من خلال مواطنة عربية أوسع وأشمل وأكثر فائدة وجدوى على المستوى الرسمي أو الشعبي، خصوصاً وأن استهدافات حالية تقصد لا إضعاف النزعات الوطنية حسب، بل تشطير وتفتيت المواطنة المحلية، الأمر الذي يجعل توسيع دائرة المواطنة الموسعة، يوفّر منافع أكبر ومصالح أكثر، بحيث يكون لكل مواطن من أي بلد عربي وبغض النظر عن النظام السياسي، حرية التنقل والإقامة والعمل.
ولعل في ذلك طموح جد متواضع (رغم عظمة شأنه في الوقت الحاضر) إذا ما ذهبنا الى الحق في التصويت والترشيح للانتخابات المحلية والبلدية بعد حق الاقامة الدائم، حتى وإن لم يحمل جنسية الدولة العربية المقيم فيها، وأن يكون الاتحاد البرلماني العربي (البرلمان الموحد) منتخباً من جانب المواطن العربي بغض النظر عن جنسيته لاختيار الهيئة التشريعية العربية، تمهيداً للمواطنة العربية. ويكون من حق كل عربي أو يحمل جنسية أي بلد عربي، حتى وإن كان من "الاقليات" القومية أو الدينية، التمتع بالحقوق التي يمكن الاتفاق عليها على غرار معاهدة ماستريخت لعام 1992 للاتحاد الاوروبي، وإنْ كان الأمر يحتاج الى تدرّج وتراكم وصولاً الى ذلك.
إن المشهد السائد على الصعيد الفكري والعملي ما زال يعكس أشكالاً من المواطنة المفقودة أو المنقوصة أو المكبّلة، في حين ان العالم يسير باتجاه مواطنة عضوية واسعة وموعودة، لاسيما باتساع دائرة الحريات والمشاركة والمساواة والعدل.

لم تترسخ في الدولة العربية الحديثة بعد، فكرة المواطنة على الصعيدين النظري والعملي، فهي تحتاج الى جهدٍ كبيرٍ على صعيد الدولة والحكم (السلطة والمعارضة) إضافة الى مؤسسات المجتمع المدني على حدٍ سواء، نظراً لغياب ثقافة المواطنة وضعف الهياكل والتراكيب والمؤسسات الناظمة للاجتماع السياسي الحكومي وغير الحكومي، بما فيه فكرة الدولة المدنية وسياقاتها!
وإذا كان بالإمكان اعتبار فكرة الدولة كأعظم منجز بشري، لاسيما في إطار المنتظم الاجتماعي لحماية أرواح وممتلكات المواطنين وحفظ النظام والأمن العام، فإن فكرة المواطنة ارتبطت بالدولة الحديثة أو أخذت أبعادها الفكرية والحقوقية منها، ناهيكم عن أساسها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي الراهن.
اعتمدت فكرة المواطنة في القرن الثامن عشر بالدرجة الأساس على بناء الدولة، لاسيما بأفقها الليبرالي الذي بشّر بإعلاء قيمة الفرد والحرية والسوق في إطار سيادة القانون، وشهد القرن التاسع عشر تطوراً في فكرة المواطنة بتعزيز الحقوق السياسية بعد إقرار الحد الأدنى من الحقوق المدنية، وبشكل خاص عند تطور مفهوم الديمقراطية الناشيء وقبول مبدأ الاقتراع العام.
أما في القرن العشرين فقد توسّعت فكرة المواطنة لتشمل مبادئ حقوق الانسان الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بعد التطور الذي حصل بإقرار الاعلان العالمي لحقوق الانسان عام 1948 ، خصوصاً بتطور الحقوق المدنية والسياسية ولهذا حظيت فكرة المواطنة باهتمام أكبر، لاسيما بانتقالها من فكرة تأسيس دولة الحماية الى تعزيز دولة الرعاية.
وقد خطت بعض البلدان خطواتٍ مهمةٍ في طريق تأمين الحقوق والحريات المدنية والسياسية وسارت شوطاً بعيداً في تعزيز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لتأكيد حيوية وديناميكية فكرة المواطنة بمزاوجة الحقوق والحريات بالعدالة، أي المواطنة التي تقوم على قاعدة المساواة أولاً في الحقوق والواجبات، وأمام القانون ودون تمييز بسبب الدين أو اللون أو اللغة أو الجنس أو العرق أو المنشأ الاجتماعي أو لأي سبب آخر.
وثانياً ، قاعدة الحرية كقيمة عليا لا يمكن تحقيق الحقوق الانسانية الاخرى بدونها، فهي المدخل والبوابة الضرورية للحقوق الديمقراطية السياسية، بما فيها حق التعبير وحق تأسيس الجمعيات والأحزاب وحق الاعتقاد وحق المشاركة السياسية في إدارة الشؤون العامة وتولّي المناصب العليا، وإجراء انتخابات دورية، الى حق التملك والتنقل وعدم التعرض الى التعذيب ... الخ .
والثالثة قاعدة الهوية الوطنية العامة التي يمكن أن تتعايش فيها هويات خاصة وفرعية في إطار من المساواة والحرية واحترام حقوق الأغلبية من جهة ، وتأمين حقوق "الأقلية" من جهة أخرى، أي التنوع في إطار الوحدة، وليس التنافر والاحتراب، فقد ظلّ الإتجاه السائد في الثقافة المهيمنة يميل الى عدم الاعتراف بالخصوصيات أو التقليل من شأنها ومن حقوقها، سواءً كانت قومية أو دينية أو لغوية أو سلالية أو غير ذلك .
أما القاعدة الرابعة فهي تستند الى فكرة العدالة التي يمكن أن تتحقق من خلال التنمية، وهو ما أطلق عليه التنمية المستدامة: الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المستندة الى قاعدة الحريات والحقوق المدنية والسياسية، التي تغتني بالمعرفة وتنمية القدرات لاسيما التعليمية وتأمين حقوق المرأة و"الأقليات" وتقليص الفوارق الطبقية وتحقيق العدالة الاجتماعية.
القاعدة الخامسة هي قاعدة المشاركة والحق في تولّي الوظائف العامة دون تمييز.
مثل هذا الأمر يطرح فكرة العلاقة الجدلية بين العروبة والمواطنة وحقوق الانسان، وبالتالي بين العروبة والهوية وبين العروبة والدولة، وبقدر تحقيق هذه المقاربة، تكون فكرة العروبة المعبّر عنها بالهوية وفكرة المواطنة ببعدها الانساني وأساسها الحقوقي القانوني، قد اقتربت من المشترك الانساني، مع مراعاة الخصوصيات الدينية والأثنية واللغوية، أي بتفاعل وتداخل الحضارات والثقافات، لاسيما باحتفاظها بكينونتها الخاصة في إطار علاقتها العضوية بالأبعاد الكونية الانسانية .
المواطنة تقوم وتستند الى قاعدة المواطن – الفرد الذي ينبغي مراعاة فردانيته من جهة، ومن جهة أخرى حريته الأساس في مساواته مع الآخر تساوقاً في البحث عن العدالة، وتتعزز مبادئ المساواة والحرية في إطار المنتظم الاجتماعي الوطني والائتلاف والانسجام من جهة، وتغتنيان بالتنوع والتعددية من جهة أخرى ، وذلك من خلال الوحدة والاشتراك الانساني والحقوق والواجبات وليس الانقسام أو التشظي أو التمييز.
وإذا كانت فكرة المواطنة تتعزز من خلال الدولة ، فإنها تغتني وتتعمق بوجود مجتمع مدني حيوي وناشط، بحيث يكون قوة رصد من جهة للإنتهاكات المتعلقة بالحرية والمساواة والحقوق، ومن جهة أخرى قوة اقتراح وليس احتجاج حسب، بحيث يصبح شريكاً فعالاً للدولة في توسيع وتعزيز دائرة المواطنة العضوية وتأمين شروط استمرارها، لاسيما إذا تحولّت الدولة من حامية الى راعية، مرتقية لتعزيز السلم المجتمعي والأمن الانساني، لاسيما بوجود مؤسسات ترعى المواطنة كإطار والمواطن كإنسان في ظل الحق والعدل.
مثلما هي فكرة الدولة حديثة جداً في المنطقة العربية، فإن فكرة المواطنة تعتبر أكثر حداثة منها وجاءت انبثاقاً عنها. ورغم وجود تجارب " دولتية " أو ما يشابهها في العهد الراشدي الأول وما بعده أو عند تأسيس الدولة الأموية بدواوينها ومراتبيتها التي توسعت وتطورت في ظل الدولة العباسية وفيما بعد الدولة العثمانية، خصوصاً في الفترة الأخيرة من تاريخها، حيث تأثرت بمفهوم الدولة المعاصرة في أوروبا وبالأفكار الدستورية والقانونية الحديثة، لاسيما فكرة المواطنة التي اغتنت في القرن العشرين، باعتبارها "حقاً" من الحقوق الأساسية للانسان.
وإذا كان مفهوم المواطنة جنينياً في الدولة العربية -الاسلامية، لاسيما فيما يتعلق بتحديد مسألة الهوية ناهيكم عن الحقوق الانسانية، فإن هذا الحق، تساوقاً مع التطور الفقهي الدستوري على المستوى الدولي، اكتسب بعداً جديداً في الدولة العصرية ومنها الدولة العربية، رغم النواقص والثغرات التي ما تزال تعاني منها قياساً للتطور الدولي. وقد تكرّس مبدأ الحق في المواطنة في أواسط القرن العشرين خصوصاً بصدور الاعلان العالمي لحقوق الانسان لعام 1948 والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية العام 1966 والعديد من الوثائق الدولية، التي أكدت: أن لكل فرد في أي مكان من العالم الحق في أن تكون له صلة قانونية بدولة من الدول .
وإذا كان الحق في المواطنة قد ضمنه القانون الدولي ، الذي حظر حرمان أي شخصٍ من مواطنته أو جنسيته التي اكدتها المادة 15من الإعلان العالمي لحقوق الانسان والتي نصت على أن: لكل إنسان الحق في الحصول على جنسية ولا يجوز حرمان إنسان بصورةٍ تعسفيةٍ من جنسيته ولا من حقه في تغييرها، الاّ أن ذلك لم يمنع من بقاء ملايين البشر في جميع أنحاء العالم بدون جنسية، الأمر الذي ينتقص من مبدأ الحق في المواطنة ، بغض النظر عن أن حالات إنعدام الجنسية قد تنشأ من التعارض في القوانين ونقل تبعية الإقليم أو حالات الزواج أو وجود تمييز أو عدم تسجيل المواليد أو إسقاط الجنسية.
ولعل المثل الأكثر سفوراً في العالم العربي، هو تهجير الفلسطينيين منذ العام 1948 وإسقاط حقهم في وطنهم وبالتالي جعلهم عرضةً لحالات إنعدام الجنسية. ولا شك أن اتساع وانتشار حالات اللاجئين وأوضاعهم هي التي دفعت الأمم المتحدة الى إنشاء مكتب للمفوضية السامية للاجئين كإحدى وكالات الأمم المتحدة المسؤولة عنهم وللحد من ظاهرة إنعدام الجنسية.
وقد عرفت الدول العربية حالات كثيرة من المواطنة المنقوصة المهضومة الحقوق سواءً من أفراد أو مجموعات بشرية أو انتزاع أو عدم حصولها على الحق في الجنسية، فما يزال الكثيرون يعيشون بدون جنسية وبدون مواطنة، أما الذين اضطروا قسراً الى الهجرة فقد حصلوا على "مواطنة" أخرى، لكنهم أصبحوا بدون وطن أحياناً، وربما ذلك يعاظم شعورهم بالاغتراب.
وقد أدركت العديد من الحكومات أنه لم يعد بإمكانها اليوم التملّص من حالات المساءلة بموجب القانون الدولي بإلغاء أو سحب أو حجب حق المواطنة أو الجنسية عن الافراد والجماعات الذين يمكنهم إثبات وجود علاقة حقيقية وفعالة بينهم وبين بلدهمالأمر الذي يتطلب اتخاذ اجراء تعديلات دستورية وقانونية تنسجم مع القواعد الدولية بهذا الخصوص.
أخيراً لا يمكن الحديث عن عروبة متطورة دون التعبير وجدانياً عن هوية مقترنة بمواطنة، وهذه الأخيرة بدولة عصرية تحترم الحقوق والحريات، مثلما تقرّ بالتنوّع الثقافي والتعددية القومية والدينية في دول متعددة الهويات في إطار الهوية العامة.



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حوار الذات وجدل الآخر
- ضوء على تدريس حقوق الانسان في العراق*
- إسلام واحد وقراءات مختلفة
- العروبة والمواطنة
- المعرفة عنصر أساسي في التعبير عن الهوية
- العروبة والأيديولوجيا
- المفكر عامر عبد الله في ذكراه العاشرة:الجوهر وجدلية الأمل وا ...
- التسامح: مثل الريح الخفيفة التي تسبق المطر!
- الإعلام وحق الحصول على المعرفة
- العراق ومعركة المياه -مصححة-
- حقيقة السجون السرية في العراق
- حلم وردي مرعب!
- الثقافة والشرعية: الوعي الموروث
- ثقافة التغيير وتغيير الثقافة
- الجواهري وسعد صالح: صديقان وثالثهما الشعر!
- العراق بعد لبنان: تجربة الحكم التوافقي-
- الوصل والفصل بين العالمية والخصوصية
- أرمينيا وسيمفونية المبارز!
- كاظم حبيب: النقد الشجاع والاختلاف الجميل*
- العالم الثالث وسلة المهملات


المزيد.....




- بعد موافقة حماس على مقترح الهدنة.. أهالي المحتجزين يخيرون نت ...
- تعرف على أبرز النقاط في المقترح المصري_القطري الذي وافقت علي ...
- صافرات الإنذار تدوي في إسرائيل في ذكرى ضحايا الهولوكوست
- -كتائب القسام-: اخترتم اقتحام رفح.. لن تمروا
- عباس يرحب بنجاح الجهود المصرية والقطرية في التوصل لاتفاق لو ...
- وزير إسرائيلي ينشر تعليقا بذيئا عقب موافقة حماس على مقترح وق ...
- حماس توافق على وقف النار بغزة.. ما مصير اجتياح إسرائيل لرفح؟ ...
- تفاصيل النص الكامل لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة الذي وافقت ...
- خبير فرنسي يعتبر تدريبات الأسلحة النووية غير الاستراتيجية ال ...
- تعيين سويني رئيسا للحزب الوطني الاسكتلندي خلفا لحمزة يوسف


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد الحسين شعبان - العروبة والدولة المنشودة!*